أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الحسين شعبان - العراق: تفاعلات القوة ومعادلات التوازن















المزيد.....



العراق: تفاعلات القوة ومعادلات التوازن


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 6224 - 2019 / 5 / 9 - 21:40
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



مقدمة
أعطت الجغرافيا للعراق موقعاً متميّزاً، وهو الأمر الذي منحه دوراً مؤثراً على صعيد محيطه الإقليمي، سواء بتماسكه كقوة وسطى بين محورين أساسيين أم بانحيازه إلى أحد أطراف الصراع ، كما أن الموقع والدور ألقيا على كاهله عبئاً لا يقل أهمية عن جغرافيته والدور المناط به تاريخياً؛ ولعلّ ذلك خلق له تحدّياً كبيراً ومستمراً استنزف طاقاته حين تفاعلت فيه مسؤوليات داخلية مع مهمات خارجية.
ويمكن القول أنّ " تحدّياً تاريخياً" وقع على العراق لدرجة التصق بكيانيته ، سواء أراد ذلك أم لم يرد، لأن الأمر يتعلّق بموقعه الجغرافي من جهة وبدوره من جهة أخرى، ناهيك عن وقوعه في منطقة توتر تكاد تكون دائمة من جهة أخرى، خصوصاً في ظل الصراع الإقليمي المستحكم، بل والمستديم.
وهكذا فإن الموقع والدور والعبء بقدر ما منحوا العراق تميّزاً، فقد وضعوه في مأزق يكاد يكون مستمراً. وفي تاريخه عاش حالة تحدٍّ دائم وتوتّر متراكم، ويعود ذلك أولاً إلى الإغراء الذي وفّره الموقع الجغرافي والموارد والمزايا التي يحصل عليها والمكانة السياسية التي يحقّقها، وهو ما يسيل له اللعاب الخارجي، وثانياً فإن مثل هذا الدور كان ثمنه باهظاً وكلفته غالية، سواء على الصعيد العربي أم على الصعيد الإقليمي وبالطبع على صعيد أوضاعه الداخلية: سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، خصوصاً أنه يقع في منطقة تنافس كبير بين امبراطوريتين متجاورتين تطمحان للتمدّد على حسابه، وقد ألقى الواقع المذهبي والقومي والسلالي واللغوي بظلاله الثقيلة على علاقته بجيرانه من غير العرب سلباً وإيجاباً، خصوصاً بالتقاطع مع هوّيته العربية، مثلما كانت علاقته بالعرب تتراوح بين هذين القطبين.
في ضوء هذه الوقائع يمكن الحديث عن واقع الدور الإقليمي للعراق، ارتباطاً بمتغيّراته الداخلية والحراك الوطني واهتزاز مفهوم الشرعية السياسية بكل ما يعنيه هذا من تعارضات وتناقضات والتباسات، وخصوصاً في ظل الحروب العديدة التي دخلها والانقلابات السريعة التي حصلت فيه وانهيار الدولة بفعل عامل خارجي وتمزّق النسيج الاجتماعي بحكم حصار دولي استمر لنحو 12 عام واحتلال وقع عليه ولا تزال آثاره ظاهرة للعيان، لاسيّما التصدّع القيمي والأخلاقي الذي أصاب العراقيين بالصميم وغيّر من مجرى حياتهم.
وإذا كان العراق خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي (القرن العشرون) لعب دوراً كبيراً في المحيط الإقليمي بفعل "فائض القوة" الذي تمتّع به، فإن مثل هذا الدور أخذ بالتراجع، لاسيّما بعد مغامرة غزو الكويت في 2 أغسطس (آب) 1990 وما تبعها من حرب "تحرير الكويت" العام 1991 وما أعقبها من فرض حصار دولي شامل عليه ونظام عقوبات شديدة استمر حتى احتلاله العام 2003.
"جيوبوليتيك التاريخ": العراق في الزمكان
انفصل العراق عن الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، بعد احتلاله من بريطانيا 1914-1918، وتأسّست المملكة العراقية من ثلاث ولايات هي: بغداد والموصل والبصرة في 21 أغسطس (آب) 1921 بتنصيب الأمير فيصل ملكاً على العراق، وبعد حكم بريطاني مباشر رفضه العراقيون وواجهوه بسلسلة من الانتفاضات والتمرّدات، أبرزها انتفاضتَي النجف العام 1918 والسليمانية العام 1919، التجأت بريطانيا إلى عصبة الأمم لمنحها "حق" الانتداب على العراق، وذلك في 25 أبريل (نيسان) العام 1920.
لكن العراقيين المطالبون بالاستقلال واصلوا رفضهم واحتجاجهم، فاندلعت ثورة العشرين في 30 يونيو(حزيران) 1920، التي غطّت العراق من أقصاه إلى أقصاه واستمرّت بضعة شهور، إلاّ أنها لم تتمكّن من تحقيق أهدافها بسبب الوحشية التي استخدمتها بريطانيا في قمعها من جهة، وبالمكر ومحاولات استمالة بعض الأطراف من جهة ثانية، وهكذا نجحت في إجهاض الثورة، ومارست بعدها سياسة انتقامية إزاء زعمائها لتتمكّن من ربط العراق بطائفة من المعاهدات المجحفة والمذلّة، وخصوصاً معاهدة العام 1922 ، ومعاهدة العام 1930 واستمرّت صيغة الانتداب لغاية العام 1932، وبعدها حصل العراق على استقلاله، وانضم إلى عصبة الأمم، وإنْ ظلّ هناك الكثير من القيود التي تثلم سيادته الوطنية.
ثلاث عُقد مزمنة
منذ أن تشكّلت الدولة العراقية سنة 1921 وإلى اليوم عانت من ثلاث إشكاليات جوهرية كادت أن تكون عُقداً مزمنة، وهذه العُقد ذات الطبيعة الموضوعية والمنهاجية تتعلّق بطبيعة النظام السياسي وفلسفة الحكم والمواطنة والهويّة والحداثة، وهي من نتائج اتفاقية سايكس بيكو التي مضى عليها أكثر مئة عام ، وتراوحت هذه القضايا في حدّتها، واختلفت في تأثيراتها تبعاً للظروف والتداخلات الخارجية والعوامل الداخلية ، فقد كانت محدودة في فترة العهد الملكي، بل كاد بعضها أن يختفي في فترة العهد الجمهوري الأول، لكنها عادت وبالتدرّج والتراكم أصبحت بؤرة شديدة السلبية والخطورة في أواسط الستينات والسبعينات، وتضخّمت بعد قيام الثورة الإيرانية في العام 1979 وخلال فترة الحرب العراقية - الإيرانية 1980 - 1988 وفيما بعد في فترة الحصار الدولي المفروض على العراق 1990 - 2003 تمهيداً للاحتلال.
القضية الأولى: عدم الاعتراف بحقوق الأكراد، وكانت اتفاقية لوزان لعام 1923 قد التفّت على معاهدة سيفر لعام 1920 التي اعترفت جزئياً بحقوق الكرد، الأمر الذي دفعهم لعدم المشاركة في الاستفتاء الأول عند تأسيس الدولة العراقية، ولا سيّما بعد ثورة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية العام 1919.
وكانت الإشارة إلى المسألة الكردية قد وردت في قرار لمجلس وزراء الحكومة العراقية المؤقتة، التي نادت بالأمير فيصل الأول ملكاً على العراق، حين جرى التأكيد على مشاركة الأكراد في انتخابات المجلس التأسيسي وفقاً لما نصت عليه معاهدة سيفر. ويُذكر أن معاهدة سيفر بين دول الحلفاء والحكومة التركية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، نصّت على حق الأكراد بالتمتع بشكل من أشكال الحكم الذاتي يمكن أن يتحّول إلى نوع من الاستقلال مع السماح لأكراد كردستان الجنوبية (أكراد العراق) بالانضمام إليهم إذا رغبوا بذلك.
ولم يكن الانتداب البريطاني الذي فرض على العراق في 25 نيسان (أبريل) 1920 ليتجاهل وجود الأكراد وحقوقهم، فقد نصّت المادة 16 على أن "لا شيء ممّا في هذا الانتداب يمنع المُنتدِب من تأسيس حكومة مستقلّة إدارياً في المقاطعات الكردية..."، وكانت الحكومة البريطانية قد أوعزت إلى المندوب السامي البريطاني بيرسي كوكس، الإسراع في وضع لائحة القانون الأساسي (الدستور الدائم الذي صدر في العام 1925)، استناداً إلى صك الانتداب والمعاهدة العراقية البريطانية .
وقد تراجعت القضية الكردية وحقوق الأكراد في المحافل الدولية منذ معاهدة لوزان التي أسدلت ستاراً كاد أن يكون كثيفاً عليها، استمرّ سبعة عقود من الزمان . ولذلك ظلّت القضية الكردية دون حلّ ومصدر قلقٍ وتوتر للعديد من دول المنطقة. وكانت على النطاق العراقي تزداد تعقيداً مع مرور الأيام، لا سيّما شعور الأكراد بالتمييز وعدم المساواة، الأمر الذي أدى إلى إضعاف الهويّة الموحّدة، وبالقدر الذي كانت القضية الكردية تكتسب أهمية متزايدة، سواءً على صعيد الحكم أم الحركة الوطنية العربية والكردية، فإنها تركت تأثيرات إنسانية خطيرة على وضع الأكراد، ناهيك عن تأثيراتها السلبية على دول المنطقة وعلى قضية التنمية والديمقراطية بشكل عام. وقد التهبت هذه القضية خلال العام 2017 حين قررت رئاسة إقليم كردستان إجراء استفتاء بالاستقلال والانفصال عن الدولة العراقية وهو ما سنأتي على ذكره، إضافة إلى الملابسات التي اكتنفته.
القضية الثانية: تتعلّق بقوانين الجنسية؛ لا سيّما قانون الجنسية الأول رقم (42) لعام 1924، الذي بذر بذرة الطائفية في العراق ، إضافة إلى حزمة من قوانين الجنسية التي عزّزت من الشعور بالتمييز، خصوصاً حين اقترنت بعمليات تهجير ونزع للجنسية بزعم التبعية غير العثمانية تحت عنوان الأجانب وكان المقصود بذلك من هم من "أصول إيرانية"، وقد شملت حملة التهجير في الثمانينات نحو نصف مليون مواطن عراقي بحجة "التبعية الإيرانية" وعدم الولاء السياسي، والتي اتّسمت بموجة عداء وكراهية عشية وخلال الحرب العراقية - الإيرانية، وقد كانت الثورة الإيرانية والمشروع السياسي الذي رافقها، لا سيّما ما عُرف بـ"تصدير الثورة" والتمدّد إلى الخارج عاملاً من عوامل زيادة الشحن الطائفي الذي استخدم لأغراض سياسية من الأطراف المختلفة .
والقضية الثالثة: عدم اكتمال وتبلور هويّة عراقية جامعة على أساس المواطنة الفاعلة، والتي يمكن أن تتعايش تحت سقفها هويّات فرعية وذات خصوصية وتنوّع وتعدّدية، والسبب يعود إلى ضعف وهشاشة البُنى والتراكيب الدولتية "الحكومية" التي أقيمت تحت عناوين "الديمقراطية" أو غير ذلك في العهد الملكي وفي العهود الجمهورية التي أعقبته، وممّا ضاعف الأمر وأضفى عليه خطورة هو انحسار موجة الحداثة والثقافة المدنية والحقوقية وإضعاف دور الطبقة الوسطى وهيمنة الفكر والثقافة التقليديين بالتدرّج أو العودة إليهما على نحو متطرّف وظهر ذلك بصورة فاقعة خلال حكم حزب الدعوة الإسلامية في العراق بعد الاحتلال العام 2003 وارتبط بشكل خاص بالموجة الطائفية، خصوصاً احتدامها في عامي 2006 و2007 قُبيل وبُعيد تفجير مرقدي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء.
وارتبط ذلك بتراجعات على مستوى المنطقة بشكل خاص ودول العالم الثالث بشكل عام، بصعود بعض التيارات الدينية وارتفاع رصيد الهويّات الفرعية، علماً بأن العديد من البلدان النامية شهدت موجة من الانقلابات العسكرية التي لعب فيها الجيش دوراً أساسياً في الخمسينيات من القرن الماضي، سواء بمشاركة حركات وأحزاب شمولية أو انفراد قيادات عسكرية تسلطية بالحكم، الأمر الذي ساهم في إضعاف التوجّهات الديمقراطية من جهة والهويّة الجامعة من جهة أخرى، خصوصاً بالتداخل مع موجة الشحن الطائفي والاصطفافات المذهبية وصعود الهويّات الفرعية .
وقد كان للمركزية الشديدة في السلطة والرأسية في العلاقات دوراً كبيراً في ذلك، خصوصاً بضعف ثقافة الحداثة وعدم تغلغلها في المفاصل الاجتماعية المختلفة، حيث بقت محصورة لدى بعض النخب وأحياناً في قشرتها الفوقية، في حين أن جذور الثقافة التقليدية والموروث الديني كانت عميقة الغور وتحفر في باطن المجتمع بينما ظلّت الثقافة الجديدة تنقر في السطح.
إن فشل المشروع الحداثي بتياراته المختلفة ساهم في صعود المشروع الديني، سواء بطبعته التقليدية أم بطبعته الإرهابية، علماً بأن ما يجمعهما هو إقصاء الآخر وعدم الاعتراف بالتنوّع والتعدّدية ومحاولة إملاء الإرادة، وقد حاولت الجماعات الدينية توظيف الدين بطريقة آيديولوجية مغلقة ولا تقبل الآخر. وكانت التضحية بالحرّية والكينونة الفردية لحساب ما سمّي الجماعة أو التضامن الاجتماعي امتداداً للماضي الفلاحي القروي أو البدوي على حساب الحداثة ومستلزماتها سبباً آخر في التراجع .
هكذا نشأت الدولة العراقية ضعيفة، ولم تستكمل بناء هويّتها الموحّدة والمتينة، خصوصاً بالقضايا العُقدية التي واجهتها وبالتدخّلات الإقليمية والدولية وبعدم الاستقرار الذي عاشته، حيث كانت دولة قلقة، وأقرب إلى الطوارىء أحياناً، فشهدت سلسلة انقلابات عسكرية، وتمرّدات، وثورات، حتى أُطيح بالنظام الملكي سنة 1958، لكن العهد الجمهوري كان أكثر اضطراباً وعنفاً واستبداداً وضاقت بالتدرّج قاعدة الدولة الاجتماعية، حتى جاء الاحتلال الأمريكي إلى العراق على أنقاض الاحتلال البريطاني الأول وأنظمة جمهورية متصارعة وحروب وحصار وتناحرات داخلية، فعمّق من هذه الوجهة وذلك بقرار الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر (13 مايو/أيار/ 2003 -28 يونيو/حزيران/2005) عند تشكيل مجلس الحكم الانتقالي وفقاً لنظام المحاصصة الطائفية - الإثنية، وقد كان ذلك يعني تعزيز الانتماءات الضيقة الطائفية والإثنية، ولا سيّما بعد إضعاف مرجعية الدولة وهو ما سنأتي على ذكره.
من دولة بسيطة إلى دولة مركّبة
استمرّت الدولة العراقية منذ 1921 وحتى 2003، دولة بسيطة، أي دولة مركزية هرمية الصلاحيات، ولكن مع مرور الأيام أخذت السلطة تتمركز شيئاً فشيئاً وبالتدرّج بيد واحدة شديدة الصرامة، لكن تلك المركزية بدأت بالتحلّل وإن كانت ببطء شديد، بل إن عوامل التفكّك ازدادت من داخلها، لا سيّما في المراحل الأخيرة من فرض الحصار الدولي على العراق 1990-2003 ، لكن انهيارها المدوي كان بفعل العامل الخارجي، حيث لعب الاحتلال دوراً حاسماً في انحلالها، فبدأ بحلّ الجيش العراقي وقوى الأمن الداخلي، الأمر الذي ساهم في إحلال الفوضى التي عمّت البلاد وحملت معها فيروس الطائفية التي هبّت رياحها مترافقة مع مظاهر التسلّح، حيث بدأت تتشكّل ميليشيات بعضها كان قد نشأ في الخارج (إيران) خلال الحرب العراقية - الإيرانية، إضافة إلى هدر المال العام والفساد المالي والإداري الذي ترافق مع حكومات الاحتلال وما بعده .
ويمكن القول إنه منذ أواخر العام 1991، وبفعل "انفصال" المنطقة الكردية عملياً تحوّلت الدولة العراقية إلى دولة مركّبة دون قرار منها، ولكن بحكم الأمر الواقع، لا سيّما عندما أعلن برلمان إقليم كردستان المنتخب لأول مرّة العام 1992، "الاتحاد الفيدرالي" من طرف واحد ، أي أن الدولة أصبحت دولة اتحادية حتى دون إرادتها، وهو الأمر الذي أدى إلى اختلاف في المسارات بين الإقليم "غير المعترف به" من جهة، وبين الحكومة التي خضعت لعقوبات دولية وضغوط وتحدّيات تمّ تبريرها حينها بعدم التزامها بقواعد القانون الدولي وتهديد جيرانها وانتهاكاتها لحقوق الإنسان، إضافة إلى تدخلات خارجية، وهو ما واجه "دولة" ما بعد الاحتلال، التي أقرّت ضمن مسارها الجديد "النظام الفيدرالي" أساساً، حيث ورد النص عليه في "قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية" ، وفي نص الدستور الدائم .
الدولة في طور "مختلف": المواطنة والطائفية
ثمة خلاصات واستنتاجات أولية يمكن وضعها بعد عرض مسار الدولة العراقية ومسألتَي المواطنة والطائفية على مدى نحو قرن من الزمان، من خلال بعض العلامات الفارقة وهي:
العلامة الأولى - انتقال العراق من حالة الحكم الشمولي المركزي الشديد الصرامة إلى حالة من الفوضى أقرب إلى اللاّدولة التي تبلورت على نحو لاحق بصيغ دستورية وقانونية أساسها مركز ضعيف وإقليم قوي، الأمر الذي سيعني مع مرور الأيام تناقض وتعارض في صلاحيات الدولة "الاتحادية" وصلاحيات "الإقليم"، خصوصاً فيما يتعلّق بالتمثيل الخارجي ووضع البيشمركة وعلاقته بالجيش وباتفاقيات النفط واستخراجه وتصديره والتصرّف بوارداته، وكل ما يتعلّق بالخلافات الجوهرية بين الدستور الاتحادي ودستور الإقليم. ولعلّ من مخرجات هذه الوضعية هي استمرار التآكل وربما الانحلال بعد محاولة إعادة بناء الدولة بتركيب جديد بعد تفكيكها، لكن مظاهر التآكل ظلت قويّة واستمرّت تفعل فعلها، حتى غدا المشهد أقرب إلى التشظّي، في حين ظلّت الوحدة الشكلانية والخارجية هي الصفة التي يتعامل بها العالم مع العراق.
وإذا كانت صورة الدولة العراقية "قوية" و"واعدة" كما هو ظاهر في الماضي، إلّا أنها في الوقت نفسه كانت تخفي الكثير من عناصر الضعف والحوار في داخلها، حتى كشفت عن نفسها بأنها كانت ممسوكة وليست متماسكة، بفعل عوامل أخذت تقضم في كيانيتها بفعل شحّ الحرّيات ونقص جرعة المواطنة وانعدام أو ضعف المساواة والشراكة والمشاركة، لا سيّما إزاء المجاميع الثقافية: الإثنية والدينية، وقد ترافق ذلك مع انفراد بالسلطة ومغامرات داخلية وخارجية ونزاعات وحروب وحصار دولي أوصلت الدولة إلى ما وصلت إليه عشية الاحتلال، ولم تكن تلك المتغيّرات بمعزل عن مصالح ورغبات دولية لقوى كبرى ولحلفائها في المنطقة ولاسيّما "إسرائيل" كان يهمّها إضعاف العراق تمهيداً لتفتيته وتقسيمه.
ويمكننا لغرض الدراسة والتشخيص تأشير ورصد بعض الظواهر السلبية التي عانت منها الدولة العراقية في السابق والحاضر، المتعلّقة بالمواطنة والطائفية من خلال ما يلي:
أ - من الناحية النظرية يمكن القول: إن أية وحدة دون المواطنة والمساواة والحرّيات والعدالة الاجتماعية والمشاركة بحدّها الأدنى، ستتحوّل مع مرور الأيام إلى وحدة قسرية أو إكراهية، أو هكذا سيشعر جزء من المواطنين. (والأمر لا يتعلّق بالعراق فحسب، بل يمكن متابعته مع العديد من البلدان ذات الثقافات المتعدّدة)، خصوصاً للذين يشعرون من المجموعات الثقافية المختلفة أنهم ليسوا على قدم المساواة مع الآخرين، أو أنهم "مواطنون من الدرجة الثانية"، سواء كان ذلك بنصوص دستورية كما هي الدساتير العراقية وقوانين الجنسية، أم من الناحية الفعلية وفي التطبيقات والممارسات اليومية، فما بالك حين تفرض صيغة "أغلبية" طائفية على أخرى.
ب - إن الوحدة السائدة إذا كانت مفروضة أو غير مرغوب فيها، ستكون مثل "السمنة" الزائدة، لأنها تخفي خلفها العديد من الأمراض الكامنة أو التي لا تظهر أحياناً، وبالتالي فالسمنة ليست دليل صحة وعافية، بل هي دليل مرض واعتلال حتى وإن لم تظهر علائمه بصورة سريعة.
ج - انبعاث الهويّات الفرعية الذي وصل إلى ذروته، بل كاد أن ينفجر بُعيد الاحتلال الأمريكي للعراق والذي كانت مقدّماته أسبق من ذلك. ويعود مثل رد الفعل هذا إلى جانب موضوعي يتعلّق بالوضع الجديد الذي فرضه الاحتلال وإلى غياب السلطة المركزية الصارمة، فضلاً عن الشعور المزمن بالإقصاء والتهميش الطويل الأمد، وبعضه إلى جانب ذاتي يتعلّق بتبلور الهويّات الفرعية ذاتها بعد كبت وحرمان، لكن ما هو سلبي في هذه الظاهرة هو المبالغة في ردود الفعل، لا سيّما التي اتّسمت بعداء وكراهية ونزعة انعزالية، ولا يخلو الأمر من تداخلات واختراقات خارجية.
ولم يقتصر الأمر في ذلك على العراق وحده، فقد كان انهيار الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينات سبباً في اندلاع نزاعات وحروب أهلية يعود قسمها الأكبر إلى انبعاث الهويّات الخاصة والفرعية وإلى عدم الإقرار بالتنوّع والتعدّدية ومبادىء المساواة، ناهيك عن ضعف أساسات المواطنة. وبقدر ما يكون الأمر مشروعاً فإن إدارته إذا كانت سليمة سيتم وفقاً لها تلبية الحقوق والحريّات والاعتراف على قدم المساواة بالآخر، كما حصل حين قرّرت تشيكوسلوفاكيا الانقسام إلى دولتين بصورة سلمية، وهو ما أطلق عليه "الانفصال المخملي" حيث تأسس كيانان أحدهما سمّي جمهورية الشيك "تشيكيا" والثاني جمهورية سلوفاكيا، والعكس صحيح فقد قاد الأداء السيىء إلى نزاعات وحروب أهلية، كما حصل في يوغسلافيا السابقة التي انشطرت إلى 6 دول، والاتحاد السوفييتي السابق الذي انقسم إلى 15 دولة.
د - إن عوامل التفكّك التي عانت منها الدولة العراقية، والتي برزت في فترة الحصار الدولي سارت بالتدرّج والتراكم لتصبح ظاهرة متميزة، خصوصاً حين ترافقت مع صعود الموجة الطائفية وحالة الفوضى وانفلات العنف وهضم الحقوق، وقد شكّلت تلك أرضية صالحة وتربة خصبة لتفقيس بيض الطائفية عبر الشحن الطائفي، وبالطبع جاء ذلك على حساب الهويّة والمشترك الجامع، بل استخدمت الفوارق والمختلفات للمزيد من التباعد تارة باسم "المظلومية" وأخرى باسم "الأغلبية" وثالثة الزعم بـ"احتكار الحقيقة" و"ادّعاء الأفضليات".
العلامة الثانية - انتقال العراق من الدكتاتورية الواحدية الإطلاقية وتخوين الآخر وإنكار وجود معارضة، إلى دولة المحاصصة الطائفية - الإثنية الغنائمية، ذات المراكز المتعدّدة، وهكذا نشأت دكتاتوريات مصغّرة على نطاق الطوائف والإثنيات ومرجعيات أخرى غير مرجعية الدولة مثل المرجعيات المذهبية والإثنية والعشائرية والمناطقية وغيرها، حيث تحوّلت الدولة بفعل النظام الجديد وتقسيماته لما يُعرف بالمكوّنات إلى دولة غنائمية للحصول على المكاسب والامتيازات.
وقد سعى بول بريمر حين شكّل مجلس الحكم الانتقالي إلى منح الشيعة والمقصود بذلك " الشيعية السياسية" ممثلة بأحزاب وتجمعات دينية طائفية 13 مقعداً من أصل 25 مقعد باعتبارهم " أغلبية" كما قرّر منح السنّة 5 مقاعد والمقصود بذلك " السنّية السياسية" و5 مقاعد للأكراد بصفتهم " القومية" وزعها بين الحزبين الرئيسيين (الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني) ومقعد واحد للتركمان وآخر للكلدوآشوريين وبذلك حوّل إدارة الدولة إلى مجال للمنافسة الطائفية - الإثنية .
العلامة الثالثة - انتقال العراق من نظام الحزب الواحد إلى فوضى الأحزاب، وهذه الأحزاب ظلّت تعمل دون ترخيص قانوني طيلة نحو 15 عاماً، لأنه لم يتم الاتفاق على سن قانون للأحزاب السياسية في البرلمان، إلى أن تم التوصل إلى صيغة دستورية لذلك في العام 2017، علماً بأن العراق لم يعرف الحياة الحزبية الشرعية والقانونية إلاّ فترتين وجيزتين هما: الأولى في العام 1946 حين أجاز وزير الداخلية سعد صالح خمسة أحزاب سياسية استمرت في العمل الشرعي والقانوني لبضعة أشهر حتى جرى حلّها أو تعطيلها. والثانية في العام 1960 حين أجاز وزير الداخلية أحمد محمد يحيى عدداً من الأحزاب السياسية، استمرت في العمل لنحو سنتين، وعلى نحو محدود وشكلاني ، ثم جرى تحريمها بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963.
العلامة الرابعة - انتقال العراق من بلد مستقل إلى تآكل الاستقلال الوطني: وضعف السيادة ما بعد مغامرة غزو الكويت العام 1990 من خلال:
( أ ) الحصار الدولي ونظام العقوبات المفروضة عليه والتي تجلّت بعدد من القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن طبقاً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، واستمرت أكثر من 12 عاماً، ولا زالت تبعاتها حتى الآن.
(ب) وقوع العراق تحت الاحتلال لاحقاً العام 2003 وهو ما نص عليه قرار دولي 1483 الصادر في 22 مايو (أيار) 2003 عن مجلس الأمن الدولي، واضطراره إلى التوقيع على معاهدات مجحفة وغير متكافئة، منها " اتفاقية الإطار الاستراتيجي" مع الولايات المتحدة الأمريكية (العام 2008) وقبلها ما عُرف بالاتفاقية العراقية- الأمنية التي انتهت صلاحياتها في نهاية العام 2011 وإثرها انسحبت القوات الأمريكية من العراق بقرار من الرئيس باراك أوباما .
(ج) احتلال داعش للموصل ونحو ثلث الأراضي العراقية، وهكذا ظلّت سيادة العراق معوّمة ومجروحة منذ العام 1991 وقد تمكن الجيش العراقي مؤخراً بدعم من التحالف الدولي إلحاق هزيمة عسكرية منكرة بداعش وتحرير الموصل وبقية الأراضي العراقية من هيمنته، ولكي يتم اجتثاث الإرهاب من جذوره وتجفيف منابعه فإن ذلك يحتاج إلى خطة طويلة الأمد ومتدرجة وشاملة: فكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وقانونياً وتربوياً ودينياً.
العلامة الخامسة - انتقال العراق من وجود جيش وطني بغضّ النّظر عن القيادات الآيديولوجية والانتماءات الضيّقة على مستوى القيادات والمغامرات العسكرية، التي قام بها على صعيد الداخل والخارج إلى جيش يفتقد إلى عقيدة عسكرية متينة بسبب انضمام مليشيات تابعة لأحزاب وقوى معارضة وفقاً للتقاسم الوظيفي الإثني والمذهبي، فحتى وإن اعتبرت "البيشمركة" و"الحشد الشعبي" جزء من القوات المسلّحة، إلّا أنهما يحتفظان بقيادات تكاد تكون مستقلّة ولهما مرجعيات خاصة بهما، وخصوصاً بالنسبة للبيشمركة الكردية التي تتقاضى رواتبها من الحكومة العراقية، لكنها تأتمر بأوامر رئاسة إقليم كردستان في إطار فيدرالية رخوة، فلم يتشكّل بعد مجلس الأقاليم ولا وجود لإقليم سوى إقليم كردستان .
أما "الحشد الشعبي" فهناك اتهامات متكرّرة بخصوص انتهاكاته، على الرغم من الدور الإيجابي الذي قام به في التصدي لداعش، الأمر الذي اضطرّ رئيس الوزراء باعتباره القائد العام للقوات المسلحّة إلى إلحاقه به، ثم تنظيم علاقته بالقوات المسلحة العراقية في نوفمبر (تشرين الثاني) العام 2017 وذلك بعد قرار من البرلمان، لكن الاتهامات التي حدثت في الفلوجة والرمادي وتكرّرت في معارك الموصل وما بعدها جعلت هناك ريبة مستمرة من لدن أوساط غير قليلة، وخصوصاً في الوسط السنّي بشكل عام.
العلامة السادسة - انتقال احتكار السلاح الذي كان حصرياً بيد الدولة إلى انفلات السلاح واستخداماته وبوجود ميليشيات واتهامات متبادلة بينها. وهذا المظهر لوحده يعني أن هناك مراكز قوى، وهذه يمكن أن تحتكم للسلاح إذا اقتضى الأمر لأنها لا يمكن أن تسلّم سلاحها للدولة أو تمتثل لإرادتها إذا ما تعارضت مع مصالحها وإذا ما سلّم بعضها جزءًا من السلاح فإنه سيحتفظ بالجزء الأهم وهو ما انكشف أمره حين أفتى السيد علي السيستاني (الزعيم الديني الشيعي المؤثر والمتنفّذ في النجف) بما يسمّى بـ"الجهاد الكفائي" أُخرج السلاح من المخابئ ليتوجه به المقاتلون لمواجهة داعش. ومن يمتلك السلاح يوازي استخدامه، لذلك فإن ما ينتظر العراق من احتدامات وصراعات مسلّحة قد يكون خطيراً بحكم انتشار السلاح.
العلامة السابعة - انتقال العراق من الفساد الذي كان محدوداً وغير ظاهر، إلى فساد منفلت من عقاله، فمن بول بريمر إلى الآن بدّد الحكام الجدّد حوالي 1000 مليار دولار: أي تريليون دولار ضاعت هباءً منثوراً دون إنجازات تُذكر.
ظلت تقارير منظمة الشفافية العالمية، تدرج ترتيب العراق من ناحية الفساد في المرتبة الثانية في سلّم الدول الأكثر فساداً في العالم، وانتقل إلى المرتبة الثالثة في العالم (2014)، وهو ما ذهبت إليه المنظمة العربية لمكافحة الفساد، وامتدّ الفساد إلى المؤسسة العسكرية والمؤسسات الأمنية وجهات إنفاذ القانون، ولعلّ ذلك إجابة على السؤال الكبير: كيف تم هزيمة الجيش العراقي في الموصل على يد جماعات مسلّحة غير نظامية محدودة العدد في حين تم صرف مبالغ خيالية بعشرات المليارات من الدولارات سنوياً لإعادة بناء الجيش الذي حلّه بول بريمر؟
ومنذ أن وقع العراق تحت الاحتلال الأمريكي - البريطاني، فإن البلاد اندفعت باتجاه الصراع والتناحر الداخلي، حيث صعدت الطائفية السياسية والانقسام الإثني إلى أعلى مراتب الهوّية في الدولة وضاعت الهوّية الجامعة الموحّدة في ظل طوفان الهوّيات الفرعية، فكيف يمكن النظر إلى معادلات القوة وتفاعلاتها داخل العراق ومستقبل ذلك في علاقاته الإقليمية ارتباطاً بالإصلاح السياسي المنشود والتغيير الديمقراطي الذي ظلّ هدفاً معلناً للسياسات الخارجية، ولاسيّما الأمريكية التي زعمت الإطاحة بالنظام لإدخال العراق في المنظومة الديمقراطية، ثم ما هي التحدّيات التي تواجه العراق حالياً؟
التفكيك والتركيب
إذا كانت الدولة العراقية التي تأسست في 21 أغسطس (آب) العام 1921 قد سعت لتكون دولة حديثة بفعل عنصرين أساسيين: الأول- رغبة بريطانيا في قيام دولة عراقية بمواصفاتها، والثاني إن من تسلّم حكم العراق ونعني الأمير فيصل الأول وجرى الاستفتاء عليه ليكون ملكاً على العراق كان شديد الحرص على إعطاء الدولة هوّية عامة بحيث تكون لجميع المواطنين من المنتسبين والمتحدّرين من أديان أو إثنيات أو سلالات أو لغات مختلفة، لكنها ضمن الحدود القانونية للمملكة العراقية.
وبعد ممارسة للحكم زادت على 12 عاماً عاد الملك فيصل الأول وكتب مذكرة في العام 1933 تعتبر بمثابة اعتراف صريح وواضح بعدم التمكن من بناء هوّية وطنية عراقية جامعة بفعل عوامل تعصّب إثنية ومذهبية ووجود عنعنات وكوابح منعت من تجذّر الوطنية العراقية التي دعا إلى إعادة ترسيخها على أسس صحيحة.
وكما جاء في مذكرة الملك فيصل الأول:" إن البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية ، ذلك هو الوحدة الفكرية والمليّة (الوطنية) والدينية، فهي والحالة هذه مبعثرة القوى، مُنقسمة على بعضها ، يحتاج ساستها إلى أن يكونوا حُكماء مدبرين .وفي عين الوقت أقوياء مادةً ومعنًى غير مجلوبين لحسابات أو أغراض شخصية أو طائفية متطرّفة، يداومون على سياسة العدل والموازنة والقوة معاً، وعلى جانب كبير من الاحترام لتقاليد الأهالي، لا ينقادون إلى تأثيرات رجعية أو إلى أفكار متطرّفة تستوجب رد الفعل ".
ومع تلك الملاحظات المخلصة والحريصة والنقد المسؤول ومن أعلى الهرم الحكومي، سارت الدولة العراقية باتجاه عام للاقتراب أكثر فأكثر من مفهوم الدولة المدنية، على الصعيد الدستوري والقانوني، وبدستور متقدّم بقياسات تلك الأيام (دستور العام 1925 مقارنة بدستور العام 2005، وإذا كان الأول دستوراً توحيدياً فإن الثاني كان دستوراً تقسيمياً) وبفعل انخراط العديد من المواطنين في إطار نقابات وأحزاب وجمعيات، على شحّ الترخيص لها وشحّ فرص الحرّية، إلّا أنها حملت معها بذرة الوحدة الوطنية العابرة للمذاهب والطوائف والأديان والقوميات والسلالات واللغات والمناطق .
وقد سارت الدولة في العهدين الملكي والجمهوري بما فيهما من سلبيات ونقاط ضعف وتمايزات بفعل قوانين الجنسية وعدم الاعتراف بحقوق المجاميع الثقافية وشحّ فرص الحرّية على ذات المنوال حتى الحرب العراقية - الإيرانية 1980-1988 التي كانت قد أججّت نار الصراعات الطائفية والإثنية، يضاف إليها دور العامل الخارجي الذي لعب على الوتر الطائفي مستغلاً أوضاع الحرب وفيما بعد الحصار الدولي.
وكان العراقيون بعد سنوات من الحروب والحصار يطمئنوا أنفسهم بأن ما هو قادم سيكون أفضل مما هو موجود، حيث عانوا كثيراً، لكن ما حدث خيّب آمالهم وبدّد توقعاتهم، خصوصاً استشراء الفوضى ومعها الطائفية والفساد المالي والإداري حيث تشظّت الدولة، ولاسيّما بتفشي ظاهرة العنف واستشراء الإرهاب والاختراقات الإقليمية والدولية التي أخذت تلعب دوراً محورياً في السياسة العراقية منذ الاحتلال الأمريكي وتغلغل النفوذ الإيراني.
إن مفهوم القوة في الفكر الاستراتيجي الأمريكي يرتكز على ثلاث دعائم:
أولها - استخدام القوة العسكرية، وتحقق ذلك بإرسال قواعد عسكرية لاحتلال العراق بلغ تعدادها 170 الف جندي أمريكي بعد احتلاله.
وثانيها - سيطرة المصالح الاقتصادية وقد ذهبت اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة الموقعة في العام 2008 لتأمين ذلك، بحيث لا يمكن للعراق تحت أي مبرّر مخالفة المصالح الأمريكية، بما تضمّنته تلك الاتفاقية من قيود وكوابح.
وثالثها- تعميم قيم الاستهلاك، ولاسيّما في ظل الدعوات إلى الإقامة نظام ليبرالي، وانعكس ذلك في الدعوة الشكلانية للديمقراطية التوافقية والتي كرّست التقاسم الوظيفي الطائفي والإثني ، وبالطبع فإن ذلك جاء على حساب مبادئ المواطنة المتساوية والكاملة.
ولعلّ هندسة النظام العراقي ما بعد الاحتلال كانت قد اقتفت أثر النظام اللبناني الذي تكرّس عبر أعراف وعادات دلّ عليها تواتر الاستعمال لدرجة أصبح بمثابة قانون سائد حتى وإن لم يكن مكتوباً بتوزيع الرئاسات الثلاث فمجلس النواب للمسلمين الشيعة ورئاسة الوزراء للمسلمين السنّة ورئاسة الجمهورية للمسيحيين المارونيين، وهو النظام الذي ظلّ معمولاً به بحجة الديمقراطية التوافقية .
وعلى أساس مثل هذه التقسيمات تشكّلت الجمعية الوطنية (البرلمان المؤقت) ثم أجريت انتخابات لفترة محددة انتقالية وبعدها ثلاث انتخابات لبرلمان اعتيادي 2005 و2010 و2014 وانتخابات رابعة في 2018، ومع مضي هذه الفترة لم يبلور العراق نظاماً سياسياً مؤثراً بفعل آليات التغيير السياسي الخارجي الذي حدث في العام 2003 وما لحقه من إجراءات مشوّهة في إدارة البلاد، وبسبب الفراغ الإداري وعدم وجود بدائل كفوءة بعد تعطيل القوانين وحل الجيش والأجهزة الأمنية وقانون اجتثاث البعث الذي أقصى كفاءات مهمة من الكوادر العليا والوسطية، انتهت الشرعية القديمة، لكن الشرعية الجديدة المفروضة بقوة لم تستطع أن تكون بديلاً عنها، وترى اليوم عزوفاً أكبر عن الانتخابات بسبب استمرار سياسات الإقصاء وضعف المشاركة السياسية والفوضى الناجمة من وجود دستور ملتبس ودور كبير للعامل الإقليمي، ولاسيّما لإيران، ودولي، وخصوصاً الولايات المتحدة. ولعلّ الانتخابات الأخيرة جاءت بعد ثلاث محطات أساسية عاشها العراق في العام الذي سبقها والمقصود بذلك العام 2017 ولهذا العام مغزى خاص في إطار المؤشرات الجديدة:
المؤشر الأول- حيث تم فيه هزيمة داعش عسكرياً بعد أن كان قد سيطر على الموصل (10 يونيو/حزيران/2014) ومدن عراقية أخرى مثل أجزاء من ديالى ومن كركوك، إضافة إلى سيطرته على محافظاتي الأنبار وصلاح الدين وتمدّده لتهديد العاصمة بغداد، وتشهد معارك "جرف الصخر" على مشارف بغداد وجنوبها ومناطق أخرى في محيطها أن تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وزعيمه أبو بكر البغدادي الذي ألقى خطاباً في الجامع الكبير في الموصل عقب احتلالها، كان قاب قوسين أو أدنى من بغداد، وحتى وإنْ لم يتمكن من احتلالها فإنه خلق حالة من الرعب والتوتر لدى الفريق الحاكم، لاسيّما بكشف عجزهم وفضح الفساد المستشري في الأجهزة العسكرية والأمنية التي تم صرف المليارات من الدولارات عليها لحماية البلد من المخاطر الخارجية وتأمين وضمان أمنه الداخلي.
وكان تحرير واستعادة مدن العراق وفي مقدمتها مدينة الموصل العربية من قبضة داعش أحد أهم المؤشرات التي شهدها العام 2017.
أما المؤشر الثاني والمهم فهو إدراك أهمية المحيط العربي وضرورة الانفتاح على البلدان العربية، ولاسيّما المجاورة وتجاوز بعض الحساسيات القديمة، وتلك كانت واحدة من ملامح سياسة رئيس الوزراء حيدر العبادي منذ تولّيه منصبه خلفاً لزميله في حزب الدعوة نوري المالكي الذي أدار البلاد باتجاه متشدّد، سواء إزاء الداخل أم إزاء الخارج، ولاسيّما العربي، وخصوصاً مع دول الخليج، وقد قابلت الدول العربية والخليجية الرغبة العراقية بالانفتاح على نحو متبادل، وهي الأخرى أخذت تدرك أكثر فأكثر بأهمية احتضان العراق وذلك للتقليل من اندفاعه نحو المحيط الإقليمي غير العربي، ولاسيّما إيران التي لديها امتدادات سياسية ومذهبية واقتصادية وأمنية في العراق.
وكان الانفتاح على المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة حدثاً مهماً على صعيد العلاقات العراقية - العربية، وخصوصاً بفتح الحدود مع السعودية وإعادة فتحها مع الأردن بعد تطهير طريق الأنبار من تنظيم داعش الإرهابي، وقد كان للزيارات المتبادلة التي قام بها مسؤولون عرب أو مسؤولون عراقيون بعد تحرير المدن العراقية من هيمنة داعش، أثراً كبيراً في إعطاء نفحة من "التفاؤل" على الرغم من المشهد المتشائم بشكل عام، ولاسيّما بعد انخفاض أسعار النفط وتردّي الأوضاع المعيشية، إضافة إلى الأزمة التي ما تزال مستمرة بخصوص النازحين واللاجئين حيث عانى نحو أربعة ملايين إنسان من نزوح قسري وهؤلاء في غالبيتهم الساحقة من الموصل والمناطق الغربية التي وقعت تحت سيطرة داعش.
أما المؤشر الثالث وكان بمستوى تحدّي للكيانية العراقية، فهو استفتاء إقليم كردستان، حيث تمكّنت الحكومة العراقية وبإجراءات أقرب إلى "القوة الناعمة" من تجاوز ذلك. ومع إن المشاكل ما تزال قائمة وبعضها معتّق، إلّا أنه يمكن القول إن ثمة تطبيع لما هو قائم قد حصل، وذلك بعودة ما سمّي بالدستور " المناطق المتنازع عليها" وخصوصاً كركوك إلى الحكومة الاتحادية، وكذلك المطارات ومنافذ الحدود، على أن تدفع الرواتب إلى البيشمركة وموظفي الإقليم من خزينة الدولة الاتحادية وذلك بعد خصم مستحقات الموارد النفطية التي تقدر بـ 300 ألف برميل وهي تمثّل نحو 10% من صادرات النفط، والتي لم يقدّم بها الإقليم كشف حساب كما تطالب الحكومة العراقية.
والأكثر من ذلك فإن حكومة الإقليم وافقت على قرار "المحكمة الاتحادية العليا" القاضي بعدم قانونية إجراء الاستفتاء من جانب الإقليم كإجراء منفرد ودون موافقة الحكومة العراقية وبطلان نتائجه، فضلاً عن شموله مناطق أسماها الدستور " متنازع عليها"، وهو الأمر الذي أثار حفيظة قوى كثيرة ضد إجراء الاستفتاء بعضها مؤيد للكرد ولمبدأ حق تقرير المصير.
إن الأحداث والوقائع التي حصلت عشية الانتخابات، لا شكّ أنها كانت مؤثرة في النتائج وإنْ كان بعضها محدوداً وتكرّر إعادة مشاهد ما قبل المؤشرات الثلاث المهمة التي حصلت في العام 2017، لأن الدستور وما ترتّب وأطلق عليه "الديمقراطية التوافقية" صُمّم على هذه الفرضيات التي أدّت عملياً إلى تقاسم السلطة وفقاً لنظام محاصصاتي يقوم على الغنائمية السياسية والزبائنية المتبادلة، وهو ينطبق على الجميع دون استثناء بمن فيهم الذين يزعمون أنهم ضد نظام التقاسم الوظيفي الإثني والمذهبي.
قد يلتقي هنا هدف استعادة الاستقرار الداخلي والتخلّص من الفوضى مع هدف إقليمي يريد تجاوز ما هو قائم، لأن تأثير الانفلات الأمني والاحتراب الطائفي امتدّ إلى دول الجوار العربي ولعب دوراً سلبياً في تطوير علاقاتها من جهة ومن استقطابات طالت هذه الدول من جهة أخرى.
ولذلك فإن تفاعلات القوة وطنياً (عراقياً) وعربياً قد تمرّ من خلال :
1- إعادة بناء وترميم ما خرّبته داعش، ولاسيّما في المناطق التي احتلتها في العراق، وخصوصاً الموصل والمناطق الغربية، وقد يشمل الأمر سوريا أيضاً، وكذلك استعادة الأمن على طرفي الحدود بين سوريا والعراق، لأن ترك مدناً وأقاليماً وقرىً دون إعادة الإعمار يعني زرع بذرة أو فايروس الإرهاب إليها وإمكانية نشوء جماعات إرهابية جديدة، خصوصاً وإن السلاح منتشر بكثرة فيها.
وإذا كانت هناك وعود دولية بإعادة إعمار هذه المناطق، فإن "مؤتمر المانحين" الذي انعقد في الكويت في 11 فبراير (شباط ) 2018 يمكن أن يكون منطلقاً جديداً لإعادة بناء الثقة باتجاه تمويل مشاريع أو المساهمة في الاستثمار أو تقديم المزيد من القروض.
2- إعادة تأهيل المجتمع العراقي لمعالجة الشروخ الاجتماعية التي سبّبها داعش في النسيج العراقي، ولعلّ هذه المهمة مركزية وأساسية، لأن بناء مشاريع خدمية أو عمرانية أو تنموية سيكون أسهل كثيراً من إعادة بناء إنسان جديد وعلاقات جديدة تقوم على أساس التسامح واللّاعنف والاعتراف بالآخر والإقرار بحقوقه، فضلاً عن تعويضه عمّا لحق به من غبن وأضرار طيلة السنوات الماضية، ولاسيّما ما شعر به من تمييز واضطهاد واستعلاء وهو شعور نجم في هذه المناطق ومناطق أخرى بعد الاحتلال وتكرّس بعد تأسيس مجلس الحكم الانتقالي.
3- معالجة مشكلات السلاح، خصوصاً وإن "الحشد الشعبي" ككيان أصبح قوة موازية للجيش وإنْ كان قد أخضع له قانوناً، لكن تشكيلاته ومراتبه ظلّت من حيث الولاء للجهة السياسية التي أسسته، علماً بأن جدلاً واسعاً ما يزال يُثار حول دوره كميليشيا تتلقى تعليماتها من خارج المنظومة العسكرية والأمنية الرسمية، وبعضها يتهمها بأنها تتلقّى دعماً من إيران حصراً، لكن عمليات نزع السلاح لا تزال عسيرة وهي تحتاج إلى قرارات حاسمة وخططاً مدروسة وشاملة، أولها إرادة سياسية عليا لحصر السلاح بيد الدولة وحدها دون سواها. ولعلّ ذلك مطلباً للكثير من القوى التي تبدي تحفظاً من تدخلات إيران على الرغم من إقرارها بالدور الإيجابي للحشد الشعبي في مواجهة داعش، لكن هناك اتهامات بانتهاكات سافرة وصارخة لحقوق الإنسان لحقته وهو ما أقرّ به بعض قادته وإن اعتبروها خروقات فردية أو غير منهجية.
ولا بدّ لتفاعلات القوة والاستقرار معاً الانتقال في هذه المرحلة إلى مرحلة أخرى يتعزّز فيها دور الدولة وتبسط سيطرتها على السلاح في عموم البلاد، وهو الأمر الذي واجه الدولة الاتحادية في موضوع البيشمركة أيضاً، ولاسيّما خلال اندلاع أزمة الاستفتاء في 25 سبتمبر (أيلول) 2017 وما قبلها وما بعدها، ومستقبلاً ستكون هذه المسألة ملحّة إذا ما تمكنت الدولة من استعادة مكانتها أو أنها ستذهب إلى التفتت والتشظي إذا فشلت في تحقيق هذه المهمة.
4- إعادة بناء علاقات سليمة بين بغداد وإربيل، ولا بدّ من تجاوز الأزمة التي اندلعت بسبب الاستفتاء، فضلاً عن عدم الثقة، وذلك بإعادة بحث موضوع الفيدرالية على نحو صحيح وفقاً للتجربة بما لها وما عليها وطبقاً لقواعد عمل دستورية واضحة مع الأخذ بنظر الاعتبار التجارب الفيدرالية على الصعيد العالمي.
ويمكن القول دون مبالغة أو افتئات وبعد مراجعة لتجربة خمسة عشر عاماً من العملية السياسية أن الخلل الأساسي كان في الدستور، حيث منح الإقليم الوحيد " إقليم كردستان" صلاحيات واسعة اقتربت من الكونفدرالية، وهو ما دعاه إلى التصرّف كإقليم مستقل. وكان إقليم كردستان قد تشكّل فعلياً De Facto في ظل النظام السابق نهاية العام 1991 بعد أن سحبت الحكومة العراقية أدارتها من المنطقة الكردية، إثر إعلان "الملاذ الآمن" Safe Haven من جانب واشنطن ولندن وباريس.
وكانت تلك الصلاحيات الفائضة سبباً في محاولات التفلّت من هيمنة الحكومة الإتحادية، إضافة إلى كونها رتّبت حقوقاً مكتسبة، ومنها إن أي خلاف بين الدستور الاتحادي والدستور الإقليمي، فإن الغلبة للأخير، في حين تقضي جميع التجارب الدستورية العالمية عكس ذلك.
كما إن البيشمركة أخضعت لنظام خاص بحيث أصبحت شبه مستقلة عن الجيش في حين أنها من حيث الوصف القانوني "حرس حدود للإقليم" ومهمتها داخلية، أما رواتبها فهي من القوات المسلحة العراقية، ورغم ذلك فإن القائد العام للقوات المسلحة لا يستطيع تحريك جندي واحد منها إلّا بموافقة قيادة الإقليم، الأمر الذي يعني هناك ازدواجية وظيفية وإدارية وسياسية وعملية واجهت العلاقة المركبة وزادت من تعقيد الأوضاع.
وبخصوص العلاقات الخارجية، فقد منح الدستور الحق للإقليم في أن يكون له في الممثليات العراقية في الخارج "وحدات" أو شُعَباً لإدارة شؤونه الإنمائية والاجتماعية والثقافية، وليس ذلك سوى "دولة" أو دويلة مصغّرة داخل الدولة وهو نظام لا يوجد مثله حسب علمي في الفيدراليات الأخرى في العالم، وقد أقام الإقليم علاقات دولية أقرب إلى التمثيل الخارجي ولديه وزارة تتابع ذلك، الأمر الذي تم فيه نقل بعض الخلافات بين الإقليم والدولة الاتحادية إلى خارج البلاد.
وتبقى مسألة استثمار وتوقيع عقود خارجية للنفط أحد الأسباب الخلافية التي دون حلّها لا يمكن الحديث عن استعادة العلاقات الاتحادية - الإقليمية إلى سابق عهدها، والأمر يتعلّق بالمواد 111 و112 من الدستور التي تحتاج إلى مراجعة وتكييف واضح، بشأن الثروات الطبيعية واستثماراتها التي هي اختصاص حصري للدولة الاتحادية، ويمكن أن يتم بالتعاون مع الإقليم الحالي.
كما يتطلّب الأمر إعادة النظر في الدستور عموماً أو حتى إلغائه وسن دستور جديد، خصوصاً بإزالة الألغام التي فيه والتي تهدّد بالانفجار في كل لحظة وعند كل منعطف أو أزمة سياسية، ولا بدّ من تشكيل "مجلس الاتحاد" وفقاً للصيغة الواردة في الدستور والتي ظلّت معطّلة طيلة الخمسة عشر سنة الماضية، الأمر الذي ساهم في تشتيت الرؤية الوطنية العراقية الموحّدة وجعل الرؤية المحدودة للهوّيات الفرعية هي الطاغية.
5- إعادة تنظيم للعملية الانتخابية، وذلك بوضع قانون انتخابات جديد، لا يعمل لصالح الكتل الكبيرة ويعيد انتاج نفس الوجوه السابقة التي أثبتت فشلها وعدم أهليتها لإدارة البلاد، خصوصاً وإن معظمها كان غارقاً في الفساد المالي والإداري الذي استشرى في القطاعين العام والخاص، حتى إن الفاسدين تمكّنوا من الزوغان عن الكثير من الملاحقات القانونية بفعل تواطؤ من كتلهم وتأثيرات أخرى على القضاء والهيئات الخاصة بالشفافية والنزاهة التي قامت على " المحازبة" والتي ظلّت تعاني من ضغوط يعترف بها الجميع دون استثناء، ولكن كل طرف يرمي بحججه على الآخر ويعتبره هو المسؤول، وينزّه نفسه. ومن دون قطع دابر الفساد والمفسدين فإن سلاح التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب سيكون مستمراً لأنه الوجه الآخر لذلك، ولاسيّما تغذية ذلك بالسلاح وشراء الذمم.
وبعد استخلاص بعض الاستنتاجات من قراءة المشهد السياسي العراقي، فما الذي يمكن أن يتغيّر بعد القضاء على داعش عسكرياً وانحسار ظاهرة الإرهاب التي استفحلت على نحو شديد منذ الاحتلال الأمريكي؟ ثم أية مستجدات محتملة سواء أكانت راهنة أم بعيدة في المدى المنظور، ولكن في إطار القوة ومعادلات التوازن لا بدّ من وضعها في إطار البحث الاستراتيجي؟
سيناريوهات محتملة
حسب الدراسات المستقبلية هناك ثلاث سيناريوهات يمكن بحثها ولاسيّما بعد القضاء على داعش، علماً بأن الباحث كان قد كتب في العام 2015 أن خشيته هي ما بعد داعش ، لما للأمر من صلة بجدل الهويّات وصراعها من جهة، وبفكرة المواطنة التي يعتمد على تعزيزها أو اخترامها بقاء الدولة العراقية، سواء بوضعها الحالي أم بتفتتها تمهيداً لتقسيمها أم تأمين عناصر جديدة يمكن بواسطتها إعادة لحمة الدولة العراقية وتعزيز وحدتها الوطنية واستعادة مكانتها، ويتطلب ذلك أولاً وقبل كل شيء توفّر إرادة سياسية وثانياً توافق وطني وثالثاً مصالحة سياسية حقيقية.
أما السيناريوهات المحتملة فهي:
1 - سيناريو التفتّت
ويمكن أن ينقسم سيناريو التفتت إلى ثلاثة أقسام محتملة وهي:
أ - التفتّت الواقعي (Defacto fragmentation)، وذلك بتحوّل الدولة إلى "كانتونات" أو "فيدراليات" أو "دوقيات" أو "مناطقيات" لا يربطها رابط وثيق فيما بينها، سواءٌ كانت معلنة أو غير معلنة، معترف بها أو غير معترف بها رسمياً، داخلياً أو إقليمياً أو دولياً، لكنها قائمة بالفعل ويمثّل إقليم كردستان نموذجاً لها، من حيث السلطة والإدارة والموارد والخدمات، وهكذا تضمحل وتتقهقر الدولة تدريجياً.
ب - التفتّت الرسمي Dejure Fragmentation) ( وهو الشكل الفعلي للانقسام أو الانشطار وقد يتحقق بالقوة وبعد احترابات ونزاعات مسلحة، أو بالاتفاق سلمياً، وقد يحصل على اعتراف دولي وإقليمي، وقد تأخذ الأقاليم المنقسمة أسماء أخرى غير الدولة القائمة أو تضيف شيئاً إلى اسمها السابق، وسيكون لهذه الدولة نشيدها الخاص وعلمها ورموزها، إضافة إلى مؤسساتها وتمثيلها الخارجي، ومن المحتمل أن يكون هذا التفتت الفعلي هو نتيجة أو مرحلة أخيرة للأمر الواقع، خصوصاً إذا ما استمرّت سلطات محلية بصلاحيات موسّعة ونفوذ سياسي وعسكري واقتصادي، ناهيك بامتيازات، حينها سيكون من الصعب تخلّي النخب الحاكمة الإقليمية عنها.
ج - الانضمام والإلحاق (Joining and Annex)، وهو وسيلة أخرى للتفتّت، يضاف إلى التفتت الواقعي والتفتت الرسمي (الفعلي)، إذْ من المحتمل أن تسعى بعض دول الجوار إلى ضمّ ما تبقى من الدولة أو شطرها عند الانقسام، سواء باستخدام القوة لفرض واقع جديد أم بدعوة من أطراف سياسية أم جماعات مسلحة وتحت عناوين التحالف والمصالح المشتركة "القومية" أو "المذهبية" أو غير ذلك، وأعتقد أن الجارين الكبيرين والمحتربين تاريخياً على الأرض العراقية (بلاد ما بين النهرين) وهما تركيا وإيران يمكن أن يكونا جاهزين لاحتواء التفتت العراقي، وخصوصاً بالتمدّد الجيوبوليتيكي.
د - التقسيم بعد التشظي وهناك عدد من المشاريع على هذا الصعيد، لعلّ أبرزها "مشروع جو بايدن" نائب الرئيس الأمريكي، الذي سبق أن وافق عليه الكونغرس الأمريكي العام 2007 والذي يفترض تقسيم العراق إلى: ثلاث أقاليم، شيعية وسنّية وكردية، وفعلياً تقام نقاط تفتيش بينها، ويكون لكل إقليم هويته الخاصة وحدوده وموارده وسلطاته وفعلياً سيتحوّل إلى "دويلة" أو "دوقية" أو "كانتون".
أما راهنياً فهناك أطروحات تدعو إلى إقامة "الإقليم السني"، أو أكثر من إقليم، خصوصاً وأن هناك دعوات لإقامة إقليم أو أكثر في الموصل، والأمر قد يشمل على إقليم للأنبار وآخر لصلاح الدين. وحتى كردستان فقد تكون مهيّأة لأكثر من إقليم بسبب النزاع السياسي، لا سيّما بين الحزب الديمقراطي الكردستاني من جهة وبين الاتحاد الوطني الكردستاني وكتلة كوران "التغيير" من جهة أخرى، وهكذا يمكن أن يكون إقليم خاص بإربيل يضم دهوك وآخر للسليمانية يضم حلبجة. ولكن فكرة الأقاليم تراجعت عموماً إثر رد الفعل العربي والدولي وبشكل خاص العراقي إزاء استفتاء كردستان الذي تمت الإشارة إليه ومعه ابتعدت فكرة الإقليم السنّي بعد أن لاقت رواجاً وإن كان محدوداً قبل تحرير الموصل.
وثمّة مشكلات بين الشيعية السياسية التي يمكن أن تقسم وسط وجنوب العراق إلى مناطق نفوذ وأقاليم في المناطق الشيعية والتي لن تتحقق بدون اندلاع صراعات بين مليشيات، شيعية – شيعية وهي كالآتي: مجموعة مقتدى الصدر، (حزب الاستقامة حالياً وجيش المهدي سابقاً) لواء بدر(هادي العامري رئيس الحشد الشعبي)، عصائب أهل الحق (قيس الخزعلي)، كتائب حزب الله (مجموعة إسلامية شيعية مناهضة للاحتلال)، حزب الدعوة الإسلامية بأجنحته المختلفة (نوري المالكي- حيدر العبادي وكتل أخرى)، المجلس الإسلامي الأعلى، تيار الحكمة (عمّار الحكيم) النجباء وحزب الفضيلة،وبقية الأحزاب والكتل الشيعية.
والانقسام سوف لا يستثني المناطق السنّية التي يمكن أن تنقسم إلى عدد من مراكز القوى وصراعات عشائرية ومناطقية، وخصوصاً بين "الحزب الإسلامي" وقوى أخرى منافسة لها ولا تريده الانفراد بتمثيل السنة، إضافة إلى قوى معارضة للعملية السياسية.
أما الاحترابات الأهلية، فقد تبدأ شيعية ـ سنية أو كردية - تركمانية أو كردية -عربية أو كردية - عربية + تركمانية، لكنها في نهاية المطاف قد تهدّد كيان العراق الموحّد، حتى وإنْ بقيت الوحدة شكلية، خصوصاً وأن سلطات الأقاليم إذا ما تكرّست وإذا ما شعرت أنها ليست بحاجة للامتثال لقرارات المركز، فإنها قد تتحوّل إلى دويلات متصارعة، لأنها لا تريد أن تخسر الامتيازات والمكاسب ومناطق النفوذ.
ومن العوامل التي تسهم في زيادة التحدّي وعدم الاستجابة الفعّالة لحلول ممكنة هو الإخفاق في مواجهة الأزمات والمشكلات الحادة وعدم التمكّن من تلبية المطالب الشعبية، بالقضاء على الفساد ومحاسبة المفسدين، وكذلك عدم التمكّن من تحسين الخدمات واستمرار الإرهاب وأعمال التفجير والمفخّخات وتدهور الوضع الأمني، إضافة إلى استمرار التفاوت الشاسع بين الفئات الاجتماعية في الدخول والموارد، وعدم تحقيق المشاركة السياسية الحقيقية، ناهيك عن شحّ موارد الدولة ووصول نموذجها التنموي إلى طريق مسدود، واقتراضها من البنوك الدولية وغير ذلك .
ويمكن أن يقود سيناريو التفتيت، بعد القضاء على داعش، وبعد تحرير الموصل إلى تنازعات على السّلطة، وقد يقود إلى حروب أهلية مصغّرة، محلية، وذلك للاستحواذ على مقاليد السّلطة والنفوذ والمال، وخصوصاً في ظل غياب جهد وطني عام لإعادة بناء الدولة وترسيخ كيانياتها القائمة على المواطنة وسيادة القانون، وإرساء قواعد اللعبة الديمقراطية على نحو صحيح.
2 - سيناريو استمرار الحال
وهذا يعني بقاء الوضع على ما هو عليه من دون إحراز تقدّم يُذكر، وذلك سيعني فشل الخطط المعلنة للإصلاح، بسبب عوامل الكبح والمعارضة من جانب الجماعات المتضرّرة من الإصلاح، وخصوصاً أن هناك تحالفاً سرّياً بين مختلف الكتل والجماعات على عدم فتح ملفّات الفساد، وحين تجرأ وزير الدفاع خالد العبيدي على كشف محاولات ابتزازه، وصفّق له الشارع طويلاً، بغض النظر عن شبهات الفساد التي تحيط بوزارته، عاقبه مجلس النواب بسحب الثقة منه، فمن بعد ذلك سيغامر ويكشف ملفات الفساد أو التعرض للفاسدين؟
وإذا توقّف مشروع الإصلاح وهو متعثّر فعلاً، فإن ذلك سيكون سبباً في الخيبات والمرارات التي سيعيشها العراقيون، وأن استمرار مثل هذا الأمر لفترة غير قصيرة سيؤدي إلى تعميق فشل الدولة الفاشلة والرخوة، ويساهم في تفتيتها وتشظيها، خصوصاً وأن عوامل الهدم ستكون فعّالة في ظل شعور بالتمييز ومواطنة غير متساوية، وتقديم الهويّات الخاصة أو حتى اختراع هويّات على الهويّة العامة. فهل يمكن استمرار الدولة وهي غارقة حتى رأسها بالأزمات والمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لاسيّما بفشل إدارتها وفشل إدارة حلّ الأزمة؟


3 - سيناريو التوحيد
إذا كان هناك سيناريو التفتيت وسيناريو بقاء الحال دون تغيير، فالدراسات المستقبلية لا تهمل سيناريوهات أخرى أيضاً، فهل هناك سيناريو توحيد؟ هذا السؤال هو مقدمة لحوار حول دور النخب في شأن مستقبل البلاد، فحتى موجة الاحتجاج هذه، هناك من يحاول ركوبها والاستفادة منها وتوظيفها بما فيها قوى تعاونت مع الاحتلال ومخرجاته، وكانت جزءًا من أسباب الخراب التي تعانيها البلاد.
إن النخب الفكرية والثقافية والأكاديمية في مجتمعنا لا تزال ضعيفة ومُستلبة ومُلحقة لحساب النخب السياسية التي بيدها القدح المعلّى ولها سطوة عليها، بل إن لها القابلية على الاستتباع حسب توصيف المفكر الجزائري مالك بن نبي "القابلية على الاستعمار"، ولا سيّما أن النخب السياسية تملك المال والسلطة أو جزءًا منها والنفوذ وأحياناً تقود ميليشيات مدعومة من بعض دول الجوار أو القوى الدولية، لذلك فإن أي استعادة لدورها، يتطلّب استعادة الوعي أولاً واستعادة الإرادة. ويحتاج مثل هذا إلى التحدّي والاستجابة الخلاقة لمتطلبات التغيير ونتائجه.
كما أن إجراء إصلاحات واستجابة لمطالب المتظاهرين قد يفتح آفاقاً جديدة لنشوء كتل وجماعات سياسية تسهم في عملية التغيير. ويمكن القول إن القوى الدافعة للتوحيد والتغيير تمثل طيفاً واسعاً من القوى، ولكنها قد لا تكون منسجمة أو موحّدة مع أن الكثير من المشتركات تجمعها، ولا تزال القوى المهيمنة، ولا سيّما الدينية والطائفية والإثنية، تمنع وتعرقل أي لقاء بينها، بل تضع العصا في دولاب أي تحرّك باتجاه الحوار.
وسيكون على عاتق الطبقة الوسطى، وخصوصاً المثقفين والأكاديميين والمفكرين ومؤسسات المجتمع المدني، دور مهم على صعيد التوحيد والتغيير، ويحتاج الأمر إلى جهود فكرية وثقافية وسياسية لتشكيل قوة ضغط لإعادة النظر بالدستور واعتماد قواعد اللاّمركزية الإدارية على صعيد الأقاليم الفيدرالية أو المحافظات على نحو صحيح ومن دون صفقات سياسية بوصفها نظاماً لتوزيع الثروة والسلطة، كما لا بدّ من اعتماد آليات توحيد ديمقراطية الأسلوب واجتماعية المضمون.
يبقى هناك أسس للتوحيد ولقيام دولة عصرية دستورية لا يمكن تجاوزها، وأولها الحرية، وثانيها المساواة، وثالثها العدالة، ولا سيّما الاجتماعية ورابعها المشاركة، وكل هذه تصبّ في مبادئ المواطنة، التي تشكّل جوهر الهويّة الجامعة، مع احترام الهويّات الفرعية والخصوصية الثقافية . وسيبقى ما يهدّد الدولة في ظل عدم الشعور بالأمان إزاء مواطنة متساوية وهويّة موحّدة عامة تعترف بالهويّات الفرعية، تحدّيات عديــدة تكمن بالأساس في عدم التوصل إلى حل لها منذ نشوء الدولة العراقيـة المعاصرة.
ثلاث إشكاليات وثلاث رافعات
ثلاث إشكاليات أساسية تغذّي فكرة التفتيت إذا ما استحكمت وهي ذاتها يمكن اعتبارها ثلاث رافعات ضد التفتيت لو جرى وضع حلول ومعالجات لها، لكن استمرارها يعني أن الدولة العراقية التي نعرفها ستكون "في خبر كان"، وإنْ تم تطويقها والتخلّص من آثارها السلبية فإن الدولة يمكن أن تستعيد مقوّمات وجودها واستمرارها، حتى وإن احتاجت إلى وقت ليس بالقصير، وهذه الإشكاليات والرافعات هي:
أوّلها: الطائفية ونظام المحاصصة أحد مخرجاته، إذْ أن استمراره سيعني دفع الدولة نحو المزيد من التفتيت والانقسام والتمذهب والتطييف والإثننة، وعكسه إذا ما تم التخلص منها فيمكن للدولة أن تسترد عافيتها وتوازنها. وكان الباحث قد اقتراح مشروعاً لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة في العراق، ويعتبر ذلك بمثابة حجر الزاوية في استعادة مقوّمات الدولة العراقية وتعزيز الهويّة الوطنية الجامعة .
وثانيها: الإرهاب والفساد وهما وجهان لعملة واحدة، فإن تم استعادة الدولة لمكانتها وهيبتها، فإنها يمكن أن تستعيد بالتالي وحدتها، والعكس صحيح أيضاً، ولا سيّما إذا استحكم أمراء الطوائف.
وثالثها: الهويّة التي أجهز عليها الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003، وهي وإن تعرّضت للعنف والهشاشة في السابق، لكنه يمكن تقويتها بإشاعة الحريات ومبادئ المساواة واحترام حقوق المواطنة وتلبية المطالب المشروعة وحلّ المشاكل العالقة مع إقليم كردستان وإعادة النظر بالدستور، سواء بتغييره أم بتعديله بما يؤدي إلى تعزيز احترام حقوق الإنسان وتعزيز الجوامع والمشتركات وتقليص الفوارق والمختلفات فيما يتعلق بالهويّات الفرعية واحترام خصوصياتها.
لقد تكرّست صيغة المحاصصة الطائفية - الإثنية منذ تأسيس مجلس الحكم الانتقالي الذي قسّم المجتمع العراقي إلى شيعة وسنّة وكرد، وخصّص نسباً لكل منهم، وباشر بتأسيس نظام الغنائمية الذي يقوم على الامتيازات والمكاسب، ففتح بذلك الباب على مصراعيه أمام الفساد بمختلف أنواعه وأشكاله، لدرجة أصبحت الزبائنية سمة تطبع التشكيلات الحكومية اللاّحقة وذيولها من أعلى مراتب الدولة وحتى أقلها شأناً .
وإذا كانت نظرية "الصدمة والترويع" وفي ما بعد "الفوضى الخلّاقة" قد استهدفتا التفكيك وإعادة التركيب، إلاّ أنهما أفضيا إلى تفشّي ظواهر التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب وتمذهب الدولة التي لا تزال مستمرّة منذ ما يزيد على 15 عاماً وتتّخذ أشكالاً مختلفة ولها رؤوساً عديدة. وحتى مع هزيمة "داعش" والقوى الإرهابية التي تعرّضت خلال العام 2017 وقبله في صلاح الدين والرمادي وخلال عمليات تحرير الموصل ، لكن تأثيرهما ما يزال قائماً والبيئة الحاضنة مستمرّة، خصوصاً باستمرار نظام المحاصصة الطائفي - الإثني المُنتج للفساد المالي والإداري والسياسي.
خـاتـمـــة
لقد اندفعت الكثير من المجاميع الإرهابية والتكفيرية وتشكيلاتها القديمة والجديدة، في ظل استنفار طائفي، باتجاه سفك دماء العراقيين من مختلف الانتماءات الدينية والإثنية، الأمر الذي أصاب التنوّع والتعدّدية الثقافية المجتمعية بالصميم ولحق الضرر الكبير بالنسيج الاجتماعي المتعايش، وخصوصاً لفئات المسيحيين والآشوريين والأرمن والكلدانيين والأيزيديين والصابئة المندائين والشبك والكاكائية وغيرهم، وإنْ كان الأمر يشمل الجميع دون استثناء، لكن هذه المجاميع الثقافية التي يُطلق عليها مجازاً بـ"الأقليات" تعرّضت بكيانياتها إلى عنف شديد، واضطرّت أعداداً واسعة منها إلى الهجرة بعد ما لحق بها من انتهاكات سافرة بالأرواح والمقدسات والممتلكات وغيرها. وقد تعرّضت النساء الإيزيديات إلى عمليات السبي، وهو شكل من أشكال العبودية، حيث تم بيعهنّ بسوق النخاسة، الأمر الذي يندى له جبين الإنسانية.
لقد استُزرِع التعصّب بالتربة العراقية فأنتج تطرّفاً، وهذا الأخير قاد إلى الإرهاب المنفلت من عقاله، وجرى كل ذلك في إطار حواضن طائفية ومذهبية وإثنية غذّاها نظام المحاصصة الذي أشعل الصراعات المذهبية والإثنية وأيقظ الفتن النائمة التي اتخذت طابعاً استئصالياً أو تهميشياً بعد الاحتلال، ولكن ذلك لا يعني أنه أمرٌ مستورد بقدر ما كانت هناك ظروفاً اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية ودينية وطائفية ونفسية ساعدت في انتشار فايروسه على نحو مريع، وذلك بالاستفادة من البيئة الصالحة لنموها وأساسها غياب المصالحة الوطنية والشعور بالتمييز والإقصاء. في ظل اختلالات معادلات التوازن وفائض القوة الذي حدث عقب انحلال مؤسسات الدولة والتمترس الطائفي- الإثني الذي شكّل أساساً لنظام ما بعد الاحتلال، الأمر الذي يحتاج إلى استعادة "مرجعية الدولة" وجعلها فوق جميع المرجعيات الدينية والطائفية والإثنية والحزبية والسياسية والعشائرية وغيرها،والتدرّج في خطط إصلاح داخلية للعلاقات العراقية- العراقية بين القوى والأحزاب والتيارات المختلفة باتجاه يصب في الوحدة الوطنية وجعل التنافس سلمياً ولمصلحة البلاد العليا، مثلما يتطلّب الأمر إصلاح بيئة العلاقات العراقية - العربية، فالمحيط العربي يؤثر في العراق، مثلما يؤثر العراق فيه، وبالطبع لن يتم ذلك دون إرادة سياسية بالتغيير وتطبيع العلاقات لمواجهة التحدّيات المشتركة، سواء على الصعيد العراقي أم على الصعيد العربي.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوار الكرد والعرب.. «القوة الناعمة»
- حرّية المعتقد:ضوء على وضعية المسيحيين في المشرق العربي
- الهوّية والتنوّع: الواقع والمستقبل
- العراق بين إشكاليتين - دويلات داخل الدولة وأزمات داخل الأزمة
- الاجتهاد في الإسلام والوعي بالتاريخ
- الاستثمار في التربية على السلام واللّاعنف
- نخشى العسكر أم «نلوذ» بهم؟
- عبد الرحمن اليوسفي - -الإجماع- حين يكون استثناء
- أخلاقيات التضامن الإنساني
- النساء والتطرّف
- «إسرائيلية» الجولان
- من يقرأ الدين بطريقة خاطئة سيتوصل إلى حاضر ومستقبل خاطئ
- مأزق ال «بريكست»
- اليسار والسترات الصفراء
- الأكراد و«حوار العقلاء»
- أتحفظ على مصطلح -المكوّنات- فالدولة هي اتحاد مواطنين أحرار ل ...
- أمريكا اللاتينية.. من اليمين إلى اليسار والعكس
- جار الله عمر كبرياء التواضع
- انحسار الديمقراطية
- شعبان يحاضر في اتحاد الحقوقيين العراقيين


المزيد.....




- وزيرة تجارة أمريكا لـCNN: نحن -أفضل شريك- لإفريقيا عن روسيا ...
- مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية
- استئناف محاكمة ترمب وسط جدل حول الحصانة الجزائية
- عقوبات أميركية وبريطانية جديدة على إيران
- بوتين يعتزم زيارة الصين الشهر المقبل
- الحوثي يعلن مهاجمة سفينة إسرائيلية وقصف أهداف في إيلات
- ترمب يقارن الاحتجاجات المؤيدة لغزة بالجامعات بمسيرة لليمين ا ...
- -بايت دانس- تفضل إغلاق -تيك توك- في أميركا إذا فشلت الخيارات ...
- الحوثيون يهاجمون سفينة بخليج عدن وأهدافا في إيلات
- سحب القوات الأميركية من تشاد والنيجر.. خشية من تمدد روسي صين ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الحسين شعبان - العراق: تفاعلات القوة ومعادلات التوازن