أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الحسين شعبان - العراق بين إشكاليتين - دويلات داخل الدولة وأزمات داخل الأزمة















المزيد.....



العراق بين إشكاليتين - دويلات داخل الدولة وأزمات داخل الأزمة


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 6219 - 2019 / 5 / 3 - 17:59
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



توطئة
أنهى البرلمان العراقي فصله التشريعي الأول ولم يتمكّن من التوصل إلى اتفاق أو التصويت على قرار لاستكمال تشكيل الوزارة التي ألّفها عادل عبد المهدي في 24 تشرين الأول/أكتوبر العام 2018 وظلّت التشكيلة الحكومية ناقصة ومبتورة، وكان البرلمان قد وافق على 14 وزيراً، ولم يتم التوصل إلى حلّ للعقدة المستعصية بشأن وزارتين سياديتين هما وزارة الداخلية التي كانت كتلة "الفتح" برئاسة هادي العامري تصرّ على تسمية فالح الفياض رئيس هيئة الحشد الشعبي وزيراً لها، في حين ترفض كتلة "سائرون" بقيادة السيد مقتدى الصدر تسميته. أما الوزارة الثانية فهي وزارة الدفاع التي تقع ضمن حصة "السنّية السياسية" وفقاً لنظام المحاصصة الطائفي - الإثني السائد منذ احتلال العراق العام 2003.
وكان رئيس الكتلة الوطنية إياد علاوي قد رشّح الطيّار فيصل الفنر الجربا وزيراً للدفاع، لكن اعتراضات عديدة واجهها لشموله بإجراءات هيئة المساءلة والعدالة، الوريث لهيئة " اجتثاث البعث" التي تأسست في عهد الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر رغم أن محكمة التمييز برأته، ومع ذلك قرّر البرلمان للمرّة الثانية تأجيل البتّ بالأمر وعُلّق اختيار وزيري الدفاع والداخلية ووزارات أخرى، وإنْ تم لاحقاً تسمية بعضها بالأقساط، كما فشل البرلمان في إقرار ترشيح لوزارتي التربية (سفانه الحمداني) والعدل (قادر ولي) قدّمهما رئيس الوزراء، بسبب عدم اكتمال النصاب، ولم يتمكن من إقناع الكتل المختلفة بشأن ترشيحاته التي قال أنه اختاره بواسطة البريد الالكتروني.
الإنجاز الوحيد الذي تحقق خلال هذه الفترة هو تشريع قانون الموازنة المالية لعام 2019 بعد تصويت امتدّ لساعات حيث أنهى جموداً استمر لعدّة أسابيع وإن كان هذا الأخير تعرّض إلى جذب وشدّ وتنديد وتأييد، لكنه في نهاية المطاف تم إقراره. وبلغت إيرادات الموازنة 106 تريليون دينار (88.5 بليون دولار). أما النفقات فقدرت بـ 133 تريليون دينار (111.5 بليون دولار) حيث بلغ العجز 27.5 تريليون دينار (23 بليون دولار) وتتوقع الموازنة تصدير 3.88 مليون برميل نفط يومياً وبسعر مقدّر 56 دولار للبرميل الواحد، وشملت الموازنة رواتب قوات البيشمركة الكردية وهو قرار رحّب به النواب الأكراد.
وقال رئيس اللجنة المالية أحمد الصفار " إن أهم فقرة في الموازنة هي وقف الاقتراض الخارجي"، لكن اعتراضات كثيرة على الموازنة جاءت من أطراف عديدة ووصفها أحد أعضاء اللجنة المالية بأنها " الأسوأ في تاريخ العراق، فهي غير منصفة ولا تتضمن باباً للاستثمار ولا رعاية للقطاع العام" وطالب أعضاء آخرون بمزيد من الأموال للمناطق المحررة التي عانت من تنظيم داعش، ولاسيّما لمحافظات الموصل وصلاح الدين والأنبار، إضافة إلى احتجاجات نواب محافظة البصرة على قانون الموازنة.
وما زال قانون الموازنة بحاجة إلى مصادقة رئيس الجمهورية برهم صالح وفقاً للدستور، علماً بأن العراق يعاني من البطالة المزمنة التي تطال الشباب وهي ضعف نسبتها من الفئات الأخرى، فضلاً عن استمرار تدهور الخدمات العامة، مثل الصحة والتعليم، الأمر الذي فجّر خلال السنوات المنصرمة حركة احتجاج واسعة، وبشكل خاص منذ العام 2011 كان آخرها في البصرة بسبب نقص المياه وتلوّثها وانقطاع الكهرباء وسوء الخدمات.
يبدو أن سوء الحظ صادف عبد المهدي، فقد واجهت حكومته لحظة تشكيلها أزمة حادة، إثر ارتفاع ملوحة مياه الشرب في البصرة والمحافظات الجنوبية، ورافقها أزمة بيئية وصحية خطيرة بسبب نفوق كميات ضخمة من أسماك الأنهار والبحيرات في محافظات بابل وواسط والديوانية، لأسباب مجهولة ، ناهيك عن التحدّيات التي ورثتها من الحكومات السابقة.
تحديات قديمة - جديدة
يبقى تحدّي "السيادة العراقية" التي كثر الحديث عن استعادتها تحدياً قديماً - جديداً منذ انتهاء عهد بول بريمر (حزيران/ يونيو/2004) وارتفعت النبرة عشية انسحاب القوات الأمريكية من العراق بقرار من الرئيس الأمريكي باراك أوباما نهاية العام 2011، واليوم يزداد الحديث عن جدولة الانسحاب الأمريكي من العراق وذلك بالترافق مع حدثين مهمين:
الحدث الأول- إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب المفاجئ من سوريا واستخدام العراق "قاعدة" لاستهداف تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".
والحدث الثاني زيارة الرئيس الأمريكي السرّية والمفاجئة للعراق واللقاء بالجنود الأمريكان في قاعدة عين الأسد (غرب بغداد) دون أن يلتقي خلال تلك الزيارة بأي مسؤول عراقي، فقد جاء على نحو مباغت وبلا دعوة رسمية ودون إذن، كما تقتضي القوانين الدبلوماسية والأعراف الدولية.
ولعلّ هذين التطورين عاظما من حدّة الصراع الإيراني - الأمريكي داخل العراق، بل جعلاه عالقاً أكثر من ذي قبل بين قوتين أو حليفين متصارعين، كل منهما عدو للآخر، ونعني بهما واشنطن وطهران . مثلما أثار هذان التطوران بعض قوى الشيعية السياسية وأداتها "الحشد الشعبي" المقرّبة من إيران، فطلب بعض النواب من عبد المهدي تفسيراً لتحرّكات عسكرية تقوم بها القوات الأجنبية والأمريكية تحديداً لإعادة الانتشار في العراق، وهو ما أكده المتحدث باسم التحالف الدولي شون رايان.
جدير بالذكر أن القوات الأمريكية التي بلغت نحو 170ألف والتي انسحبت منذ نهاية العام 2011 عادت إلى العراق في العام 2014 بعد احتلال داعش للموصل في 10 يونيو (حزيران) في إطار التحالف الدولي المناهض لداعش، وإن كانت بأعداد محدودة، إضافة إلى استمرار بعضها بصفة خبراء ومدربين وفنيين. وبخصوص استمرار هذه القوات علّق ترامب بُعيد زيارته إلى العراق، أنه لا ينوي سحب القوات الأمريكية منه، بل العكس من ذلك يرى إمكانية استخدام هذا البلد "قاعدة في حال اضطررنا للتدخل في سوريا"، في حين جاءت التبريرات الرسمية العراقية لتلك الزيارة والتصريحات الأمريكية التي أعقبتها باهتة ونبرتها خافتة.
وحسب رئيس الوزراء العراقي يوجد 11 ألف جندي أجنبي في العراق، 70% منهم أمريكيين وقد انخفض العدد إلى ثمانية آلاف، بينهم 6 آلاف أمريكي. وقد كان لزيارة ترامب وتصريحاته ردود فعل سلبية، لاسيّما إزاء ما يقال عن السيادة العراقية، علماً بأن ما أعقب الزيارة هو ظهور لجنود أمريكان في شارع الثقافة في بغداد (المتنبّي) وتجوّلهم في مناطق أخرى من العاصمة وبعض المحافظات الغربية، ولاسيّما بالقرب من بعض مقرّات الحشد الشعبي والأحزاب الشيعية، وكانت واشنطن قد أعلنت عن نيّتها في تحجيم إيران وتقليص نفوذها في الشرق الأوسط، وهي الطامحة إلى مدّ نفوذها من العراق وسوريا ولبنان إلى البحر المتوسط.
التحدّي التركي
التحدي الآخر للسيادة هو استمرار وجود قوات تركية في الأراضي العراقية ترفض الانسحاب منها على الرغم من مناشدة الحكومة العراقية، وإذا كان هناك من مبرّر للسكوت على وجودها بسبب موافقة إقليم كردستان، حيث توجد قاعدة لها قرب إربيل، فإن انتهاء العمليات العسكرية ضد داعش وتحرير الأراضي العراقية لا يعطيها أي "مبرر" للبقاء، لكنها تتذرّع بتعرضها للهجوم من قواعد للجماعات الكردية المسلحة من تنظيم PKK (حزب العمال الكردستاني الثوري) من داخل الأراضي العراقية .
وهاجمت جماهير غاضبة قاعدة تركية أخرى في محافظة دهوك وأحرقت إحدى مقرّاتها، وردّت القوات التركية بفتح النار على المحتجّين على وجودها، فسقط عدد من القتلى والجرحى العراقيين الأكراد، واكتفت الحكومة العراقية باستدعاء السفير التركي وتسليمه مذكرة احتجاج لمنع تكرار الاستهداف التركي للمدنيين.
وثمة تدخلات إيرانية وأمريكية وهي مثار تندّر الشارع العراقي ، خصوصاً عند تشكيل الوزارة والعقد والعقبات التي واجهتها، إضافة إلى التصعيد الأمريكي ضد إيران بفرض عقوبات عليها. وتحاول واشنطن استخدام الورقة العراقية كوسيلة للضغط على إيران، في حين تحاول إيران استخدام نفوذها في العراق بالتعاون مع قوى حليفة لها للتحلل من العقوبات من جهة ولسحب البساط من أمريكا لصالحها.
ولا تقتصر التحدّيات على الجوانب السياسية الداخلية والخارجية، بل هناك تحدّيات اقتصادية دولية بسبب شروط التبادل التجاري واستيراد الغذاء وانخفاض أسعار النفط واستيراد السلاح والمديونية، الأمر الذي يجعل البلاد أكثر خضوعاً للهيمنة الخارجية، وخصوصاً في ظل وجود النفط، وذلك يطرح تحدّيات جيوسياسية من خلال روابط التبعية، ولا تأتي هذه فقط من الغرب الإمبريالي، بل من إيران وتركيا و"إسرائيل"، التي تسعى لفرض شروط استسلامية على العرب وتصفية القضية الفلسطينية وفتح أسواق البلدان العربية للصناعات والتكنولوجيا "الإسرائيلية"، وكذلك لإحداث المزيد من التصدّع داخل المجتمعات العربية.
ويلاحظ أن ظاهرة العنف العشائري والاعتداء على الآخرين والاستقواء على بعض الضعفاء أصبح سائداً وهو ما أثار ردود فعل مختلفة في ظل أزمة سياسية حادة وضعف الدولة وتآكل هيبتها، علماً بأن خطورتها قد تنتقل من البرلمان والفاعلين السياسيين إلى الشارع، خصوصاً على مستوى التظاهرات وأعمال الاحتجاجات، تلك التي ما تزال مستمرة منذ أسابيع في محافظة البصرة، مع احتمال انتقالها إلى محافظات أخرى، أو حتى اللجوء إلى لغة السلاح، لاسيّما بين جماعات مسلحة وفصائل شبه عسكرية بعضها يرتبط بالحشد الشعبي وله صلات وثيقة بإيران، وبعضها منفلت من عقاله في إطار ردود الأفعال وحالات الغضب الشعبي. وقد ترافق ذلك ارتفاع حوادث العنف السياسي كوسيلة لتصفية الخصوم، سواء عبر القتل أم التهديد أم محاولة الاغتيال السياسي والطعن بسِيَر الوزراء الذين تم اختيارهم بأساليب شتى .
الدولة العميقة
واجهت حكومة عادل عبد المهدي ما أسماه في برنامجه الحكومي " الدولة العميقة" والمقصود بذلك " الدولة داخل الدولة"، تلك التي تلقي بظلالها على المشهد السياسي العراقي منذ الاحتلال الأمريكي للعراق، ولعلّ البعض يقصد بالدولة العميقة حزب الدعوة الذي حكم بالتحديد منذ العام 2005 ولغاية العام 2018، وتتّهم بعض الأطراف السياسية نوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق لدورتين (2006-2014) بمحاولة عرقلة جهود عادل عبد المهدي من خلال زرعه عناصر خفيّة في أحشاء الدولة بحيث تمثل مراكز قوى، ولاسيّما داخل أجهزة الأمن والمخابرات والجيش وغيرها.
لكن "الدولة العميقة" حسب وجهة نظري هي أبعد من ذلك، فهناك تداخلات خارجية وأخرى داخلية فيها بعضها قديم ويعود إلى النظام السابق، أما المظاهر الجديدة للدولة العميقة، فهي تتعلق بانقسام الولاء بين طهران وواشنطن، فالذي يدفع باتجاه إضعاف الدور الإيراني يقترب من واشنطن، سواء عن قناعة باعتبارها الحليف القوي أو لمواجهة النفوذ الإيراني، بالاحتماء بالمظلّة الأمريكية، والذين يرون في إيران عمقاً استراتيجياً لهم، لاعتبارات مذهبية أو سياسية أو لمصالح مشتركة، بعضها تاريخي منذ فترة المعارضة، يجدون فيها حليفاً لتقليص نفوذ واشنطن، ولعلّ هذه الاصطفافات هي التي عطّلت تشكيل الحكومة العراقية منذ انتهاء الانتخابات التي جرت في 12 أيار/مايو 2018.
وهكذا تبقى "الدولة داخل الدولة" والمقصود بذلك المنظمات السرّية ذات السطوة داخل الدولة أو المؤثرة في عملها، سواء أكانت دينية أم عشائرية أم حزبية، بعيدة عن الأنظار وخارج دائرة المساءلة، لأن سلطتها سرّية وأذرعها طويلة، ومثل هذا الأمر ساهم في خلق طبقة سياسية جديدة تعتاش على الانقسام الطائفي - الإثني وتستغل غياب وحدانية القرار السياسي وهشاشة الوحدة الوطنية وضعف الهويّة الجامعة، بحيث تُدار الحكومة غير المرئية بواسطة الأبناء والأصهار والأقارب والنافذين الحزبيين بصورة خفية، وتمارس سياسة عميقة ولها ميزانيتها غير الخاضعة للمراقبة.
وإذا كانت الدول ذات الأنظمة الشمولية (التوتاليتارية) تمارس دوراً سرّياً بواسطة تنظيمات غير منظورة وبزعم حماية الأمن الوطني، فإن انهيار الدولة وحلّ بعض مؤسساتها العسكرية والأمنية واستشراء الفوضى، في ظل الانقسامات السياسية والمذهبية والإثنية، سيكون أكثر خطورة، وهذا ما فعله بول بريمر الذي عوّم الدولة عملياً من خلال تفكيك مؤسساتها، ولاسيّما الجيش وقوى الأمن تبعاً لنظرية " الصدمة والترويع" بحيث يتم إعادة التركيب وفقاً للمقتضيات الجديدة، ولهذه الأسباب واجهت عملية إعادة البناء عقبات وعراقيل وتحديات قاسية، خصوصاً باستشراء الفساد ونهب المال العام، لاسيّما في ظلّ تعدّد المرجعيات التي تعلو على الدولة ذاتها أحياناً، وغياب الحد الأدنى من الوحدة الوطنية وحكم القانون واستقلال القضاء، وتفشي ظواهر العنف والإرهاب والتغوّل على الدولة.
و"الدولة داخل الدولة" التي وردت في البرنامج الحكومي لعادل عبد المهدي يمكن أن تكون له بالمرصاد لتعطيل أو تسويف أي قرار يتخذه إذا ما تعارض مع مصالحها، ناهيك عن أي اختلال في المعادلة الإيرانية- الأمريكية فإنه سيؤدي إلى خلخلة مواقعه، ولاشكّ فإنه والحالة هذه سيبقى محكوماً بمثل هذا التوازن وغير قادر على تجاوزه.
إن وجود مراكز قوى وغياب وحدانية اتخاذ القرار والألغام الكثيرة التي احتواها الدستور العراقي والتعارض بين صلاحيات الدولة الاتحادية وصلاحيات إقليم كردستان فيما يتعلّق بالبيشمركة والنفط وبعض التداخلات الخارجية ، جعل العراق دولة هشّة بفعل نظام الزبائنية الذي يقوم على تقسيم الغنائم وفقاً لمصالح طائفية أو إثنية أو حتى امتدادات دولية وإقليمية، ودولة من هذا النوع ليس بإمكانها تلبية طموحات النخب الفكرية والثقافية ومطالب الناس الحيوية، لاسيّما الخدمات الصحية والتعليمية والتصدي للبطالة، فضلاً عن ضعف هيبتها وعدم بسط سلطانها على جميع أراضيها وحماية سيادتها واستقلالها .
والنخب ذاتها في مثل هذه الأوضاع تصاب بالتصدّع في ظل حالة الخوف والاحتقان السياسي، لاسيّما إذا كان هناك سلطات سرّية وقوى نافذة وغير خاضعة للقانون. ومقابل تراجع دور النخب الفكرية والثقافية، خصوصاً المستقلة ، نلاحظ تضخّم دور البيروقراطية الطفيلية الحزبية السياسية والدينية والطائفية والإثنية وتغلغلها في جميع مفاصل الدولة لدرجة إن رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي كان قد صرّح بوجود عسكريين فضائيين زاد عددهم عن 50 ألف يتقاضون رواتب تصل إلى 500-600 مليون دولار من خزينة الدولة، والأمر يشمل أعداداً كبيرة من المدنيين، فضلاً عن وسائل صرف عديدة في غير أوجه الصرف، تلك التي كلفت الميزانية مليارات الدولارات خلال السنوات الماضية والمثال الصارخ على ذلك استمرار أزمة الكهرباء منذ ما يزيد عن 16 عاماً، وهؤلاء إذا انضموا إلى القطط السمان المدعومة من مراكز القوى والاستقطابات الطائفية والمذهبية والإثنية، فسيكون لهم القدرة على تعطيل سير عمل الدولة والعبث بأمنها الوطني ونهب الأموال والثروات، بما فيها تهريب النفط، سواء من جنوب العراق (البصرة) التي تعاني من شظف العيش أو كردستان التي تعرضت إلى هزّة كبيرة إثر ردود الفعل إزاء الاستفتاء الذي دعت إليه حكومة الإقليم في 25 سبتمبر/أيلول/2017.
مآزق ما بعد الاحتلال
تبدو صورة الوضع العراقي ضبابية حتى الآن، فمنذ الاحتلال والعراق يغرق في مآزق متنوّعة :
أولها- الطائفية السياسية ونظام المحاصصة وليدها ، وقد قام هذا النظام على الزبائنية وفقاً لتبادل الغنائم أو التخادم المتبادل والتنافس في إطاره لتوسيع دائرة الامتيازات والنفوذ من جهة أخرى، وهو ما عمل الاحتلال عليه منذ اليوم الأول وهو ما يزال الحبل السري الذي يربط القوى المشاركة بالعملية السياسية، الأمر الذي أضعف الدولة وقوّض من عملية إعادة البناء بسبب التجاذبات المذهبية - الإثنية.
إن ذلك يمثّل جوهر الأزمة بجميع فروعها وأجنحتها، وخصوصاً في ما يتعلّق بفلسفة الدولة والقانون بوجه عام والدستور بوجه خاص. وإذا كان الاحتلال صائراً إلى زوال مثلما كان متوقّعاً، فإن خطر الطائفية ظلّ ينخر في جسم الدولة العراقية، ويحفر في كيانها بمعول مسموم، وإذا ما استمرّ على هذا المنوال، فإن عملية الهدم والتآكل ستصل إلى أساساتها، وبالتالي ستؤدي إلى انهيارها.
ومن نتائج الطائفية السياسية اندلاع مشاكل الأديان والطوائف والإثنيات التي ظهرت على نحو شديد بعد الاحتلال، إما بسبب كبت طويل الأمد واضطهاد وعدم مساواة، وإما بسبب رغبة في التعبير عن هوّية فرعية وخصوصية جرى طمسها أو تغييبها خلال مسار الدولة العراقية. والمسألة تتعلّق بالكرد والتركمان والآشوريين والكلدان والسريان كتعبيرات قومية وإثنية، وبالأديان مثل المسيحية والإيزيدية والصابئة وغيرها، وفي إطار الأديان بما فيه الإسلام والمسيحية وطوائفهما، وبالطبع فإن نهج الاستعلاء والإقصاء والتهميش الذي عانته هذه المجموعات الثقافية على مرور تاريخ الدولة العراقية دفعها إلى التعبير عن نفسها وهوّيتها الفرعية وفي بعض الأحيان بانغلاقها وضيق أفقها بسبب ما عانته، يضاف إلى كل ذلك أن هناك ردود فعل إزاء التسيّد الطائفي ومحاولة الاستحواذ على المواقع والقرارات بزعم الأغلبية الطائفية.
وتبقى المسألة الأساسية هي التحدّي الطائفي المحتدم والمصحوب بالكثير من عناصر الكراهية والحقد والبغضاء، ولا سيّما التي يقوم بها أمراء الطوائف والمستفيدون من الانشطار الطائفي بتغذيتها، وخصوصاً علاقة الشيعة بالسنّة، حيث أدى هذا الانقسام إلى احترابات وتكفير، إذْ أن دعاة الطائفية هم في الغالب الأعم "طائفيون بلا دين" على حد تعبير عالم الاجتماع علي الوردي واستخدموا الطوائف بما يسيء إلى الدين، بتقديم ذلك على مبادئ الوطنية والمواطنة، وليس ذلك بعيداً عن التداخل الخارجي الإقليمي والدولي.
إن التحدّي الديني وفروعه الطائفية قاد إلى موجات مختلفة من التعصّب والتطرّف والإرهاب والعنف، وانتشار ما سمي بالحركات الأصولية "الإرهابية"، سواء اتخذت اسم جماعات القاعدة أم داعش أم جماعات مسلحة خارج دائرة القانون شيعية كانت أم سنّية.
ثانيها- ألغام الدستور، تلك التي تم زرعها في الدستور المؤقت (قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية) الذي صدر في عهد الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر، تكريساً وانعكاساً للصيغة الجديدة لتوازن القوى، وقد قام نوح فيلدمان القانوني الأمريكي المناصر لإسرائيل، بإعداد مسوّدته الأولى، مثلما عمل الخبير الأمريكي بيتر غالبرايت في وقت لاحق على صياغة بعض المواد ذات الطبيعة الإشكالية، خصوصاً في ما يتعلق بعلاقة إقليم كردستان بالسلطة الاتحادية ، والتي اعتبرت ألغاماً قابلة للانفجار في أية لحظة، لأنها تشكّل مصدر خلاف واختلاف وتباعد وتناحر. وعلى أساس قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية صيغ الدستور الدائم، الذي تم الاستفتاء عليه في 15 تشرين الأول (أكتوبر) العام 2005 .
وبدلاً من أن يكون الدستور القاسم المشترك الأعظم الذي تلتقي عنده الإرادات المختلفة للقوى والأحزاب والمنظمات السياسية والجماعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ذات المصالح المتنوّعة، فإذا به يصبح هو بالذات تعبيراً عن المشكلات والصراعات التي عانتها الدولة العراقية ما بعد الاحتلال، وهذه كلّها تنطلق وتصبّ في صيغة المحاصصة التي اعتمدتها، حيث يدور النزاع حول تمثيل هذه الجماعة أو تلك لتتحدث نيابة عن هذه الطائفة أو تلك أو تمثل جزءًا منها، وذلك عبر الاستقواء بالمحتل والحصول على الامتيازات، وخصوصاً من جانب أمراء الطوائف، وليس بوسائل إقناع أو بنفوذ حقيقي سياسي أو فكري أو اجتماعي.
ولم يتورّع هؤلاء من استخدام العنف والحشود الجماهيرية الهائلة التي تذكّر بعصر المداخن في فترة الثورة الصناعية في أوروبا، بهدف كسر إرادة الآخر وفرض نمط ديني أو مذهبي على الحياة العامة وعلى المجتمع ككل. وبالطبع فإن مثل هذا الأمر لم ينشأ في فراغ، فقد كان له ردود فعل أقسى وأشدّ أحياناً، وهكذا أخذت دائرة العنف تتّسع لتشمل الجميع، وخصوصاً بانتعاش بؤر الإرهاب، التي تغذّت بتفاعلها مع جهات خارجية إقليمية ودولية ولأهداف مختلفة.
وإذا كان الدستور ملغوماً وفيه الكثير من العيوب والمثالب التي تستوجب تعديل نصوصه أو إلغائه لسنّ دستور أفضل، فإن ذلك لا يلغي وجوده القانوني وعلويته والاحتكام إليه وفقاً للنظام السائد، حتى تتوافر فرصة مناسبة، يتمكّن فيها الشعب العراقي من اختيار ممثليه الحقيقيين في أوضاع سلمية وطبيعية وآمنة، وخصوصاً بوضع حدٍّ لظواهر العنف والفساد والإرهاب.
ثالثها- الفساد الذي أصبح مؤسسة قائمة بذاتها وتستطيع تحريك الوضع السياسي سلباً أو إيجاباً ما دامت تتحكّم بالملايين من البشر الذين يعانون من البطالة وشظف العيش والأميّة والتخلّف، مع ضخّ الكثير من الأوهام الطائفية ضد الآخر.
ولم يستثنِ الفساد أحداً، بل حاول لفّ الجميع بشرنقته، خصوصاً أن "المال السائب يغري بالسرقة" كما يُقال، ولا سيّما في ظل اخترام مؤسسات الدولة وحلّ الجيش والأجهزة الأمنية وعدم وجود مساءلة أو محاسبة إزاء هدر المال العام أو التلاعب به.
ويعتبر الفساد الوجه الآخر للإرهاب، كما أنه ليس بعيداً من مخرجات الطائفية والتقاسم المذهبي- الإثني، وقد أغرى الفساد جميع الكتل والأحزاب والقوى على الانخراط فيه، والتستّر على منتسبيها وأتباعها، ولهذا فإن خطره امتدّ إلى أجهزة الدولة بكاملها والعديد من المنظمات والهيئات الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني ، التي هي الأخرى ضعفت يقظتها إزاء غول الفساد ومخالبه، وقد أصبح مجرد الاقتراب من مؤسسة الفساد يعني الدخول في منطقة الخطر، وإلاّ كيف نستطيع أن نفسّر أن وزير الدفاع الذي استجوب في البرلمان العراقي وسعى لكشف محاولات ابتزازه مؤشراً إلى شبهات بالفساد طالت رئيساً و3 من أعضاء البرلمان، هو من تمت إقالته، في حين كان الشارع يهتف ضد الفساد والمفسدين.
وما يزال أمام مفوضية النزاهة أكثر من 13 ألف حالة فساد كبرى، بينها أكثر من ألف حالة لوزراء ونوابهم ومدراء عامين وأصحاب الدرجات الخاصة وأعضاء في البرلمان وبعضهم من المتنفذين في الأحزاب القائمة، وغالباً ما يفلتون من العقاب، لأسباب تتعلّق بدور القضاء ومحاولات التأثير عليه وبتواطؤ مع بعض المتسيّدين في الدولة ومفاصلها.
وقد كشفت اللجنة المالية لمجلس النواب أن العراق تكبّد من العام 2006 ولغاية العام 2014 خسارة قيمتها 360 مليار دولار بسبب الفساد، وهو ما ذهبت إليه منظمة الشفافية الدولية، حيث استمرت في إدراج اسم العراق في المراتب الأولية للفساد في العالم.
رابعها- ضعف مرجعية الدولة والعودة في الكثير من الأحيان إلى صيغ ما قبل الدولة، سواءٌ للطائفة، أم للجماعة الإثنية، أم الدينية أم العشائرية أم الجهوية أم المناطقية، وذلك للاحتماء بها والاختباء خلفها، ما دامت الدولة غير قادرة على حماية مواطنيها وتأمين الحدّ الأدنى من وظيفتها في ضبط الأمن والنظام العام والحفاظ على أرواح وممتلكات المواطنين، وتلك هي الوظائف الأولى والأساسية للدولة، وأية دولة لا تستطيع القيام بذلك، فلماذا إذاً هي دولة!؟ .
وقد عمل الاحتلال حتى قبل الوصول إلى العراق على إضعاف الشعور بالمواطنة ، ليس فقط للتأثير على قوى سياسية محدّدة ودعمها بمختلف الوسائل، بل لاستدراج قوى أخرى، حتى إنه ورّط عشرات المثقفين العراقيين، وبعضهم من أصول شيوعية ويسارية وقومية عربية وإسلامية، بتوقيع عقود عمل مع البنتاغون ووزارة الخارجية الأمريكية، وكان الهدف من ذلك تحويل هؤلاء المتعاونين إلى أصحاب مصلحة معه، وقد اتّضح ذلك على نحو جليّ بعد الاحتلال وفي ظلّ العملية السياسية التي دعمها هو بنفسه، سواء لقوى تعاونت معه أم تواطأت أم نشأت لها مصالح مع المحتل في وقت لاحق، وارتبطت بوجوده وباستمرار العملية السياسية.
لقد ساهمت الطائفية السياسية في انهيار هيبة الدولة ومعنوياتها، ولا سيّما أن بعض الأطروحات والتوجّهات السياسية وضعت "المرجعية" الدينية المذهبية ، فوق الولاء للدولة، بما فيها تداخلاتها الخارجية، والأمر لم يقتصر على المؤيدين لهذه "المرجعية" وهي تمثّل مجموعة من رجال الدين المتنفذين في النجف وأتباعهم الذين يسائلون ولا يُسألون، بل شمل خصومهم أيضاً، الذين يتسابقون معهم أحياناً في الحصول على صكوك المباركة لوظائفهم أو مواقعهم أو امتيازاتهم.
إن ذلك يعني إخضاع مرجعية الدولة لمرجعية غير دستورية، في حين أن جميع المرجعيات سواءٌ كانت دينية أم سياسية أم حزبية أم اجتماعية أم عشائرية ينبغي أن تخضع للدولة التي لها صفة العلوية والسمو على غيرها من المرجعيات، بما فيها حق احتكار السلاح واستخدامه والفصل في الحكم بين الأفراد وبينهم وبين الدولة، ومن دون إخضاع المرجعيات الأخرى لها فلا تصبح والحالة هذه دولة.
خامسها- الميليشيات التي أخذت طابعاً " شرعياً أو شبه " شرعي" بعد إلحاق قوات الحشد الشعبي بالقوات المسلحة العراقية، واعتبارها جزءًا منه، والميليشيات بشكل عام تنتمي إلى القوى السياسية الشيعية التي شكّلت المشهد الأبرز في الوضع السياسي العراقي بعد الاحتلال، وقد اندلع العنف والإرهاب على نحو شديد في فترة احتدام الصراع الطائفي في العام 2006 إثر ملابسات تفجير مرقدي الإمام علي الهادي والإمام حسن العسكري في سامراء الأمر الذي ولّد موجة شرسة من العنف والانتقام والثأر والقتل على الهويّة.
وبشكل عام فقد استفحل العنف والإرهاب في العراق على نحو لا مثيل له ، لاسيّما بعد تمكّن داعش من احتلال محافظة الموصل ومحافظتي صلاح الدين والأنبار وسيطرته على أجزاء من محافظتي كركوك وديالى، ووصوله إلى مشارف العاصمة بغداد. وعلى الرغم من هزيمته واندحاره إلّا أن بيئته ما تزال صالحة وبيضه يمكن أن يفقّس ، باستمرار سوء أوضاع النازحين وعدم عودتهم إلى بيوتهم، ناهيك عن تردي الخدمات الصحية والتعليمية والبيئية ، والأكثر من ذلك هو عدم استعادة الوحدة الوطنية في إطار مصالحة وطنية حقيقية.
سادسها - هشاشة السيادة الوطنية، فالنفوذ الإيراني لا يزال قوياً ومؤثراً في العراق، سواء أكان بشكل مباشر أم غير مباشر، عبر القوى السياسية الحليفة لإيران أو عبر علاقات خاصة طائفية أو مصلحية أو أمنية، وكذلك فإن الولايات المتحدة لها نفوذ قوي سياسي واقتصادي وعسكري وأمني، وهو مكفول في "معاهدة الإطار الإستراتيجي" بين بغداد - واشنطن، الأمر الذي يجعل السيادة العراقية معوّمة، وهو ما يعطّل إمكانية الخروج من المأزق الراهن ما لم توفر إرادة سياسية موحدّة، تستطيع أن تنهض به لتتجاوز نقاط ضعفه الحالية وتضعه في إطار محيطه العربي، علماً بأنه يملك طاقات وكفاءات كبيرة ولديه موارد هائلة، ولكن ما يحتاجه هو اختيار الطريق السليم وبتعاون شامل عابر للطائفية والمحاصصة وحكم القانون، وعكس ذلك سيبقى العراق يدور في أزمته وكل أزمة ستلد أزمة أخرى أو أزمات متعددة.

الدولة والأزمة والسيناريوهات المحتملة
وضعت الأزمة العراقية الراهنة الدولة ومستقبلها على بساط البحث، فهل سيتعرّض العراق للتفتيت؟ ثم ما هي السيناريوهات؟ وإذا كان هذا السيناريو محتملاً بفعل استفحال الأزمة العراقية وعدم وجود حلول جذرية لإعادة لحمة الدولة باستمرار الطائفية السياسية التي تمثّل جوهر الأزمة، فالدراسات المستقبلية تضع سيناريوهين آخرين لأزمة الدولة، أولهما سيناريو استمرار الحال على ما هو عليه أو تفاقمه، الأمر الذي يمكن أن يقود إلى احتمالات أخرى، وثانيهما سيناريو التوحيد، وخصوصاً إذا ما توافرت إرادة سياسية موحدة وظرف موضوعي وذاتي مناسب. ما الذي يمكن أن يحصل؟ وأي السيناريوهات المستقبلية سيكون أقرب إلى الواقع؟
1 – سيناريو التفتّت
أ - التفتّت الواقعي (Defacto fragmentation)، وذلك بتحوّل الدولة إلى كانتونات أو فيدراليات أو دوقيات أو مناطقيات أو إقطاعيات لا يربطها رابط وثيق فيما بينها، سواءٌ كانت معلنة أم غير معلنة، معترف بها أم غير معترف بها رسمياً، داخلياً أو إقليمياً أو دولياً، لكنها قائمة بالفعل ويمثّل إقليم كردستان نموذجاً لها، من حيث السلطة والإدارة والموارد والخدمات، وهكذا تضمحل وتتقهقر الدولة تدريجياً .
ب - التفتّت الرسمي Dejure Fragmentation) ( وهو الشكل الفعلي للانقسام أو الانشطار وقد يتحقق بالقوة وبعد احترابات ونزاعات مسلحة، أو بالاتفاق سلمياً، وقد يحصل على اعتراف دولي وإقليمي، وقد تأخذ الأقاليم المنقسمة أسماء أخرى غير الدولة القائمة أو تضيف شيئاً إلى اسمها السابق، وسيكون لهذه الدولة نشيدها الخاص وعلمها ورموزها، إضافة إلى مؤسساتها وتمثيلها الخارجي، ومن المحتمل أن يكون هذا التفتت الفعلي هو نتيجة أو مرحلة أخيرة للأمر الواقع، خصوصاً إذا ما استمرّت سلطات محلية بصلاحيات موسّعة ونفوذ سياسي وعسكري واقتصادي، ناهيك بامتيازات، حينها سيكون من الصعب تخلّي النخب الحاكمة الإقليمية عنها.
ج - الانضمام والإلحاق (Joining and Annex)، وهو وسيلة أخرى للتفتّت، يضاف إلى التفتت الواقعي والتفتت الرسمي (الفعلي)، إذْ من المحتمل أن تسعى بعض دول الجوار إلى ضمّ ما تبقى من الدولة أو شطرها عند الانقسام، سواء باستخدام القوة لفرض واقع جديد أو بدعوة من أطراف سياسية أو جماعات مسلحة وتحت عناوين التحالف والمصالح المشتركة "القومية" أو "المذهبية" أو غير ذلك، وأعتقد أن الجارين الكبيرين والمحتربين تاريخياً على الأرض العراقية (بلاد ما بين النهرين) وهما تركيا وإيران يمكن أن يكونا جاهزين لاحتواء التفتت العراقي، وخصوصاً بالتمدّد الجيوبوليتيكي.
ومن العوامل التي تسهم في تزايد التحدّي وعدم الاستجابة الفعّالة لحلول ممكنة هو الإخفاق في مواجهة الأزمات والمشكلات الحادة وعدم التمكّن من تلبية المطالب الشعبية، بالقضاء على الفساد ومحاسبة المفسدين، وكذلك عدم التمكّن من تحسين الخدمات واستمرار الإرهاب وأعمال التفجير والمفخخات وتدهور الوضع الأمني، إضافة إلى استمرار التفاوت الشاسع بين الفئات الاجتماعية في الدخول والموارد، وعدم تحقيق المشاركة السياسية الحقيقية بما فيها المصالحة الوطنية والتخلّي عن مساعي الانتقام والثأر ومحاولة كسر شوكة الآخر، ناهيك عن شحّ موارد الدولة ووصول نموذجها التنموي إلى طريق مسدود، واقتراضها من البنوك الدولية وغير ذلك.
2 – سيناريو استمرار الحال
وهذا يعني بقاء الوضع على ما هو عليه من دون إحراز تقدّم يُذكر، وذلك سيعني فشل الخطط المعلنة للإصلاح، بسبب عوامل الكبح والمعارضة من جانب الجماعات المتضرّرة من الإصلاح، وخصوصاً أن هناك تحالفاً سرّياً بين مختلف الكتل والجماعات على عدم فتح ملفّات الفساد، وحين تجرأ وزير الدفاع خالد العبيدي الأسبق على كشف محاولات ابتزازه، وصفّق له الشارع طويلاً، بغض النظر عن شبهات الفساد التي تحيط وزارته، عاقبه مجلس النواب بسحب الثقة منه، فمن بعد ذلك سيغامر ويكشف ملفات الفساد أو التعرض للفاسدين.
وإذا توقّف مشروع الإصلاح وهو متعثّر فعلاً، فإن ذلك سيكون سبباً في الخيبات والمرارات التي سيعيشها العراقيون، وأن استمرار مثل هذا الأمر لفترة غير قصيرة سيؤدي إلى تعميق فشل الدولة الفاشلة والرخوة، ويساهم في تفتيتها وتشظيها. ومن احتمالاته عدم بقاء رئيس الوزراء في موقعه، (وكاد الأمر يحصل لولا ضغوط الولايات المتحدة المتوافقة مع إيران بهذا الخصوص). وانفتاح الأزمة على مصراعيها، فالأمر لا يتعلّق بالعبادي، بل بمستقبل الدولة العراقية ومسألة مكافحة الفساد وملاحقة الفاسدين؛ فهل يمكن استمرار الدولة وهي غارقة حتى رأسها بالأزمات والمشاكل، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وخصوصاً بفشل إدارتها وفشل إدارة حلّ الأزمة؟
هل سنذهب إلى انتخابات مبكرة؟ أم إن العبادي سيستخدم "صلاحياته" أو يتجاوزها بفعل الخطر الذي يتهدد الدولة العراقية بإعلان حالة الطوارئ وتعليق الدستور وحلّ البرلمان وتشكيل حكومة إنقاذ وطني جديدة انتقالية من كفاءات عراقية تحدّد بعد سنتين مثلاً، ثم الذهاب إلى انتخابات؟
3 – سيناريو التوحيد
إذا كان هناك سيناريو التفتيت وسيناريو بقاء الحال دون تغيير، فالدراسات المستقبلية لا تهمل سيناريوهات أخرى أيضاً، فهل هناك سيناريو توحيد؟ هذا السؤال هو مقدمة لحوار حول دور النخب في شأن مستقبل البلاد، فحتى موجة الاحتجاج هذه، هناك من يحاول ركوبها والاستفادة منها وتوظيفها بما فيها قوى تعاونت مع الاحتلال ومخرجاته، وكانت جزءًا من أسباب الخراب التي تعانيها البلاد.
إن النخب الفكرية والثقافية والأكاديمية في مجتمعنا لا تزال ضعيفة ومستلبة وملحقة لحساب النخب السياسية التي بيدها القدح المعلّى ولها سطوة عليها، بل إن لها القابلية على الاستتباع حسب توصيف المفكر الجزائري مالك بن نبي "القابلية على الاستعمار"، ولا سيّما أن النخب السياسية تملك المال والسلطة أو جزءًا منها، والنفوذ وأحياناً معها ميليشيات وبعض دول الجوار أو القوى الدولية، لذلك فإن أي استعادة لدورها، يتطلّب استعادة الوعي أولاً واستعادة الإرادة. ويحتاج مثل هذا إلى التحدّي والاستجابة الخلاقة لمتطلبات التغيير ونتائجه.
كما أن إجراء إصلاحات واستجابة لمطالب المتظاهرين قد يفتح آفاقاً جديدة لنشوء كتل وجماعات سياسية تسهم في عملية التغيير. ويمكن القول إن القوى الدافعة للتوحيد والتغيير تمثل طيفاً واسعاً من القوى، ولكنها قد لا تكون منسجمة أو موحّدة مع أن الكثير من المشتركات تجمعها، ولا تزال القوى المهيمنة، ولا سيّما الدينية والطائفية والإثنية، تمنع وتعرقل أي لقاء بينها، بل تضع العصا في دولاب أي تحرّك باتجاه الحوار.
وهذه القوى هي: جماعات المصالح الاقتصادية والأحزاب والقوى السياسية المهمّشة من داخل العملية السياسية أو من خارجها، إضافة إلى المجموعات الثقافية المتنوّعة التي تشعر بالغبن بسبب الإقصاء أو العزل أو التهميش أو حتى احتساب بعضها على النظام السابق، فجرى اجتثاثها، وبعضها من أصحاب الكفاءات والخبرات التي لا يستهان بها. يضاف إلى ذلك مؤسسات المجتمع المدني من داخل وخارج العملية السياسية، وخارجها، ومراكز الأبحاث والدراسات والجامعات، فضلاً عن أن البيئة الدولية والإقليمية قد تكون مشجّعة للتوحيد لأسباب تتعلق بالخوف من انتقال عدوى التفتيت إليها، ناهيك بفايروس الإرهاب.
وسيكون على عاتق الطبقة الوسطى، وخصوصاً المثقفين والأكاديميين والمفكرين ومؤسسات المجتمع المدني، دور مهم على صعيد التوحيد والتغيير، ويحتاج الأمر إلى جهود فكرية وثقافية وسياسية لتشكيل قوة ضغط لإعادة النظر بالدستور واعتماد قواعد اللامركزية الإدارية على صعيد الأقاليم الفيدرالية أو المحافظات على نحو صحيح ومن دون صفقات سياسية بوصفها نظاماً لتوزيع الثروة والسلطة، كما لا بدّ من اعتماد آليات توحيد ديمقراطية الأسلوب واجتماعية المضمون.
يبقى هناك أسس للتوحيد ولقيام دولة عصرية دستورية لا يمكن تجاوزها، وأولها الحرية، وثانيها المساواة، وثالثها العدالة، ولا سيّما الاجتماعية ورابعها المشاركة، وكل هذه تصبّ في مبادئ المواطنة، التي تشكل جوهر الهويّة الجامعة، مع احترام الهويّات الفرعية والخصوصية الثقافية.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاجتهاد في الإسلام والوعي بالتاريخ
- الاستثمار في التربية على السلام واللّاعنف
- نخشى العسكر أم «نلوذ» بهم؟
- عبد الرحمن اليوسفي - -الإجماع- حين يكون استثناء
- أخلاقيات التضامن الإنساني
- النساء والتطرّف
- «إسرائيلية» الجولان
- من يقرأ الدين بطريقة خاطئة سيتوصل إلى حاضر ومستقبل خاطئ
- مأزق ال «بريكست»
- اليسار والسترات الصفراء
- الأكراد و«حوار العقلاء»
- أتحفظ على مصطلح -المكوّنات- فالدولة هي اتحاد مواطنين أحرار ل ...
- أمريكا اللاتينية.. من اليمين إلى اليسار والعكس
- جار الله عمر كبرياء التواضع
- انحسار الديمقراطية
- شعبان يحاضر في اتحاد الحقوقيين العراقيين
- كوبا «الثورة والدولة» في دستور جديد
- حين يكون القضاء «بخير»
- الإمارات و«دبابات» البابا
- كتاب سلام عادل - الدال والمدلول وما يمكث وما يزول


المزيد.....




- شاهد: تسليم شعلة دورة الألعاب الأولمبية رسميا إلى فرنسا
- مقتل عمّال يمنيين في قصف لأكبر حقل للغاز في كردستان العراق
- زيلينسكي: القوات الأوكرانية بصدد تشكيل ألوية جديدة
- هل أعلن عمدة ليفربول إسلامه؟ وما حقيقة الفيديو المتداول على ...
- رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية يتهرب من سؤال حول -عجز ...
- وسائل إعلام: الإدارة الأمريكية قررت عدم فرض عقوبات على وحدات ...
- مقتل -أربعة عمّال يمنيين- بقصف على حقل للغاز في كردستان العر ...
- البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة -باتريوت- متاحة الآن لتسليمها ...
- بايدن يعترف بأنه فكر في الانتحار بعد وفاة زوجته وابنته
- هل تنجح مصر بوقف الاجتياح الإسرائيلي المحتمل لرفح؟


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الحسين شعبان - العراق بين إشكاليتين - دويلات داخل الدولة وأزمات داخل الأزمة