أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أكرم إبراهيم - المطهر















المزيد.....



المطهر


أكرم إبراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 1495 - 2006 / 3 / 20 - 07:49
المحور: الادب والفن
    


نظراً لتعبي الشديد ، كان من المفترض أن أرتمي على المقعد في الحديقة . لكن كثيراً ما تحكم الغريزة سلوكنا ، حتى عندما لا تكون حاجة . فأنت تنظر تحتك عندما تهم بالجلوس ، حتى على مقعد في بيتك قمت عنه قبل لحظة لأداء حاجة ما .
هل هو الخوف الغريزي من عدم التوازن ؟!. هل هو الخوف الغريزي من السقوط في الفراغ ؟!. هكذا إذاً ، قبل أن تصل مؤخرتي إلى المقعد ، لمحت محفظة على الأرض خلفه . هي محفظة من تلك التي يصنعها المساجين . والتي يبدو أن الغرض من شغلها قتل الوقت ، ذلك لأن جمالها لا يتناسب والجهد المبذول في صنعها . والتي كثيراً ما نبهتني إلى أن الجهد الشاق خير من السكون الشاق ، وإلا ما الذي يدفع المرء إلى بذل الجهد المجاني عن كامل الوعي والإرادة والتصميم ؟!.
منذ دخولي من بوابة الحديقة بدأت عيناي تبحثان عن المقعد المناسب . لذا أستطيع أن أجزم أن رجلاً كان يجلس على هذا المقعد خرج اللحظة . لابد أنه وقف وانصرف بين التفاتتين ، أو في الزمن الذي يستغرقه سير بضعة أمتار .
أعتقد أنني أستطيع تحديد ملامحه ؛ رأس بدأ الشيب يغزوه ، وجه لفحته الشمس ، خدان غائران قليلاً ، شعر طويل مردود إلى الخلف ليكشف عن جبهة عريضة ، وعينان مكحلتان بالإرهاق تشعان بشيء ما .
في البرهة التي استغرقها اختيار المقعد والتقاط المحفظة ، والسؤال عما إذا كانت لذلك الشخص الذي كان يجلس هنا ، أصبح من المتعذر علي العثور عليه .
تلفت قليلاً حولي ، وقررت بسرعة البحث عنه في الاتجاه خلفي ، لأني استبعدت أن يكون قد انصرف من الجهة المقابلة ؛ فلو فعل لرأيته .
الثواني التي استغرقها البـحث كانت كافية ليضيع هذا الرجل في زحام المدينة ، لذا قـررت أن مـن الأجدى الانتظار على المقعد ، فلربما اكتشف فقدانه لها وعاد .
أسرعت في الجلوس وعيني تستقبل الآتين من الجهات الأربع ، لكنه لم يعد . تذكرت أننا نتوهم وجود الشيء فترة بعد فقدانه ؛ فأنت لو نزعت قبعتك أو ساعتك ، ستبقى تحس بها كما لو أنها موجودة بالفعل وقتاً ليس بالقليل . لذا عندما سينتبه هذا الشخص لفقده المحفظة ، سيكون قد ابتعد بحيث لا يستطيع تحديد المكان الذي فقدها فيه .
اللقية ليست من النوع الذي يقلق الضمير عادة ، لأن محتويات المحفظة اقتصرت على مفكرة وخمس وعشرين ليرة ، لكن هذا هو بالضبط مصدر قلقي ؛ فأنت يمكنـك إذا ما وجـدت مئـة ألف ليرة في "سامسونايت" أن تحتفظ بها إذا ما ضعف الوازع عندك ، لأنك تستطيع أن تتصور أن هذا المبلغ ليس إلا جزءاً صغيراً من رصيد صاحبه ، أما أن تجد خمساً وعشرين ليرة ومفكرة في محفظة من هذا النوع ، فهذا يعني أن كل مكون من مكونات اللقية ذو أهمية بالغة بالنسبة لصاحبها ، وأنك بحاجة لقدر كبير من الوضاعة لتحتفظ بها لنفسك . إذاً سأحتفظ بها في جيبي ، فلربما جمعتني به الصدفة. لكن لم يبقى هذا سببي الوحيد بل جدت أسباب أخرى أكثر أهمية ستعرفونها عاجلاً .
* * *
أنا من الذين عملوا في السياسة منذ حداثتهم ، قراءة ، توزيع بيانات ، حضور اجتماعات ، ندوات فكرية ، استقبال أناس من مختلف الأعمار ومن الجنسين ؛ ما خرجت يوماً في وداع ضيف إلا ودخلت مع آخر ، حتى إن جاري كان يصفر ويضرب كفاً بكفٍ ويقول : ارحم نفسك يا أخي !.. أنت عامل بيتك مقهى ؟!. شيء فوق التصور ؛ تقرحت معدتي من القهوة والشاي والمتة ؛ أنهكت أعصابي حتى الجنون من السهر الطويل الذي لا يقابله نوم ؛ اكتسبت عادة المشي هرولة والأكل في الطريق على عجل .
كانت قضايانا كبيرة ، والأربع وعشرون ساعة في اليوم لا تكفي . وفجأة وجدنا أنفسنا وإحدى يدينا تحت إبطنا والأخرى على خدنا . شبعنا خيبة ؛ كان حلمنا الاشتراكي في خطر وهم ينفخون فيه ، أصبح المطلوب " انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة " ، الوحدة أصبحت وحدة الوطن القطري وهيهات ... فجأة لا قضايا ، لا حماس ولا حركة ؛ شبعنا نوماً ؛ من البيت إلى العمل وبالعكس ؛ لا إقبال ولا استقبال ؛ نتحرك في البيت دون هدف ولا معنى ؛ نبحث عن شيء نقتل به الوقت فلا نجد سوى النوم من جديد ، باختصار ، لقد تبلدنا .
لكنني شخصياً كنت على موعد مع التوهج من جديد عبر مواجهات مع الفساد كنت منذوراً لها على نحو ما ، دون أن أدرك أنني بذلك أعود إلى السياسة على نحو عملي ، ودون أن أدرك أن في رفضي دفع الخوة اختزالاً لجميع الشعارات التي بح صوتنا بها وبالجدل حولها وحول أولويتها .

أول مرة أدفع فيها تعود إلى زمن بعيد . ليس من المهم حيثياتها ، إلا أنني لم أملك يوماً موجباً للدفع ؛ فأنا من الفقر بحيث لا أذهب إلى دائرة حكومية ما لم أكن ملزماً تحت طائلة المساءلة . وقد نشأت على الخوف من ابن الحكومة ـ خاصة الدرك ـ بحيث لا أخالف أبداً . ولقد رضعت هذا الخوف وتعلمته يافعاً ممن هم أكبر مني . ولا أزال أذكر كيف كنا نحن الصغار نترك دحلنا ونفر هاربين إلى الحقول ما إن نلمح الدرك على خيولهم . ومن الصور التي لا تنسى تلك اللهجة الجريئة التي خاطب بها أحد الشباب شرطياً وسط حشد جماهيري لم أعد أذكر مناسبته . إذاً لأي سبب يمكن أن أدفع رشوة ؟!لا بد أنها خوة صريحة .
أول ما تبادر إلى ذهني أثناء تلك المراجعة هو اللجوء إلى موظف كان جاراً لنا في فترة طفولتي . شجعني على ذلك علاقته الطيبة مع أهلي وملاطفته لي صغيراً . قال لي : يا رجل !. هذا واحد واطئ ...سد فمه ... لكني لم أجرؤ فعدت إليه وقلت : هل تعطيه أنت نيابة عني ؟ أنا لم أجرؤ . فشجعني فأصررت فنبر بي : هات
ـ كم ؟
ـ هات خمساً وعشرين لنرى .
تبعته تخامرني مشاعر مختلفة من الخوف والزهو وحس المغامرة لأراه يرمي المبلغ في درج زميله ويوصي بي .
فيما بعد عرفت أنه هو نفسه يأكل . ومع الأيام زاد اعتقادي أنه لم يشأ مساعدتي حتى لا تكون لزميله عليه واحدة . لكنني وقتها ، بعد اللحظات الأولى من خروجي ، تبدلت مشاعري ، أو أنها خالطها إحساس بالغبن لم يرق إلى مستوى الوعي ، وبقي مجرد إحساس لا أستطيع شرحه وتفسيره . وفي المرات اللاحقة فقدت الشعور بالزهو ، إلا أن حس المغامرة بقي حتى في الحالات التي كان الموظف يطلب فيها صراحة . وفي إحدى المرات قررت أن أركب رأسي ، في البداية تمسكاً بحقي ثم ما لبثت الدوافع أن توالدت . بدأت دون تقدير كافٍ لأبعاد المسألة ، وما إن خضت قليلاً حتى اكتشفت أن الأمر ليس بهذه السهولة التي قد نعتقدها للوهلة الأولى . إنه أصعب من خوض الحرب ؛ كثر ٌهم الذين قاتلوا وهم من مستويات مختلفة على الصعد كافة ، بل يقولون أنك في الحرب لا تلزمك الشجاعة بعد اللحظات الأولى ؛ لأنك تعتاد وتبدأ التصرف آلياً وفق مقتضيات الموقف ، بينما هنا عليك أن تكون في مواجهة مع نفسك في كل لحظة ؛ هروبك غير مرئي ولا مذموم ؛ إنك بعد اللحظة الأولى بحاجة لكثير من الكفاءة والصبر والإرادة .
في لحظة ما زينت لي نفسي التراجع ؛ فهذا الحق الصغير لا يتطلب كل هذه المعاناة التي يمكن تجاوزها بمبلغ صغير . ولكنني قررت بشعور غامض أن أتابع لأختبر مدى ما يمكن أن يبلغه الإنسان في صلفه ، فما لبث هذا الصلف أن أمدني بطاقة إضافية بحيث بدا وكأني محكوم بالسير إلى أمام . ثم في مجرى الأمور كنت أتأمل ، فأصبحت القضية قضية وطن . لكن الناس هنا كصيصان المداجن ؛ لا أثر فيهم لانتماءاتهم المذهبية والحزبية . وإذا أردتم مثالاً أكثر واقعية فهم يتشابهون ذلك التشابه المربك لأسماء أحزابهم التي اختاروها ـ بخلاف عقائدهم الدينية ـ تعبيراً عن الحس بالخطر على حقهم وكرامتهم ومستقبل أولادهم وأوطانهم .وهكذا وجدت نفسي وحيداًغريباً في حزب غريب إزاء بقية الأحزاب لأن الموقف هنا هو الكشاف الحساس وحده لا غير.
لقد وضعت يدي على سر الاقتصاد في النشاط السياسي . اكتشفت أن كل تلك القراءات ، والندوات والاجتماعات ، والاستقبالات، والهرولة ، والأرق ، والسهر ، كل هذا ما كان له إلا أن يذهب هدراً ، وأنه كان من الأجدى أن أوجه كل طاقتي إلى محاربة الفساد ؛ فما قيمة كل هذه الشعارات والتنظيرات إذا كان الشعب المعني يخضع للترويض والتفريغ المديد ، والهادئ ، واليومي ، على يد جيش من الموظفين ؟!. أليس القضاء على الفساد هو الخطوة اللازمة الواجبة لتحقيق أي شعار؟!. أليس الخلاص منه يعني شوطاً كبيراً على طريق تحقيقها جميعاً ؟!. أليست الجدية في الموقف منه مقياساً لصدق المواقف الأخرى ؟!. فعلام الغفلة عنه إذاً ؟!. ولماذا يجب أن نؤخذ بموسيقى الكلمات ؟!.
يمكن القول إنني أعدت اكتشاف القضية من جديد إنما على نحو أفضل ؛ فلا أنقى ولا أكمل من فكرة تأتيك في خضم العمل . ومن رحم المعاناة كتبت أول مقالة عن الفساد . قلت فيها : في زمن لم يعد فيه للمثقف والسياسي بريق ، في زمن فقدان القضايا ، في زمن تشابه فيه المثقفون والسياسيون تشابه صيصان المداجن ، يصبح لغرس شجرة قيمة أكبر من مجلد ، ويصبح شرطي سائب أكثر تأثيراً من جميع الجامعات والكتاب والسياسيين ؛ لأنه في مثل هذه الحال لابد من إعادة اكتشاف معنى الوطن .
إذا كان أثر شرطي سائب يتعملق أمام أثر اتحاد الكتاب والأحزاب فلم كتبت هذه المقالة إذاً ، وفي جريدة يقرؤها مئات فقط ؟!. لقد فعلت ما يفعله إنسان دهمه حريق في الطابق الخامس عشر؛ قفزت دون أي حظ في السلامة . أي إني فعلت ، ليس لأني أردت ، بل لأني لا يمكن إلا أن أفعل ؛ إنه الفعل الوحيد الممكن أمام هول الكارثة . والإنسان يفعل شيئاً ما دام حياً ؛ قد يعض نفسه أو ينطح الحائط ، أو يرمي نفسه من علٍ ، أو يجلس على عامود ، أو يصطنع الهبل . في الواقع لا أعرف كيف أشرح الأمر . لنقل أنها أنة ، أو آهة ، أو صرخة .

ثنّيت تلك الآهة ثم ثلثت ... مع الوقت أصبحت مقالاتي عن الفساد سلسلة فاكتشفني المحيطون بي . قبل الآن لم ينتبه لي أحد منهم ، كنت كواحد منهم ، لي حسناتي وسيئاتي ، وفجأة أصبح لسيئاتي معنى آخر ، وأخذوا يحجزون لي في المجالس الأولى ، أو ينظرون إلي بحيث أحار فيما أفعله بيدي ورجلي وأين أذهب بنظراتي ، أصبحت مرغوباً فيه ومرهوباً ، أستشار في كل ما لا أعرف دون أن ينتبهوا لجهلي ، يحرصون علي : " انتبه ، بالتأكيد أصبح لك إضبارة " ،أو: " بالتأكيد أعادوا فتح إضبارتك " ، أو :" كتابات المرء من خير الأدلة " ... كل هذا وأنا هو أنا ، الآن كما كنت من قبل ، بكل عقدي ونوازعي الشخصية وكينونتي الأرضية ، فقط تحسن أدائي اللغوي فكتبت ما كنت أقوله في مجالسي .
وإذ أصبح لسيئاتي معنى آخر كدت أخسر نفسي ؛ أصبحت أكثر جرأة على ارتكاب الحماقات ، وأكثر امتلاء بما لست أدري . وفي مواجهة هذا الإفساد كنت دائماً أعود إلى امتلاك زمام نفسي عن طريق نزف عصبي في مواجهة موظف ما ، فلا شيء أقدر منه على تحطيم الغرور ولا أقدر من الشقاء على تهذيب النفس .
من ناحية أخرى أصبحت أكثر توازناً : كنت إذا ما سمعت كاتباً طار صيته في الآفاق يصرح أو يسلك بما يخالف الفطرة الإنسانية أشعر بالاختناق ؛ عقلي يقول لي : هذا كاتب قرأ كثيراً وخبر كثيراً وعليك أن تأخذ برأيه ، والفطرة التي خلق الله الناس عليها تنهاني ، فأقع في صراع وإحساس بقصوري عن الفهم . الآن بعد أن كتبت وقُرئت أصبحت أقول : وإن كان القائل فلان ؟! هو أيضاً له عقده ونوازعه الشخصية . قبل أن أكتب ما كنت أتصور الكاتب معقداً ومثقلاً بخطايا البشر العاديين . هذا شأن الناس جميعاً ، فهم يستشهدون بما قال الكاتب فلان ـ حتى لو كان إسرائيلياً ـ أو قالت الإذاعة أو بما قرؤوا في مقال أو كتاب ، بيقين ينقصهم عندما يستشهدون بكتبهم التي يدعون تقديسها ، بل ـ إذا كان على المرء أن يعوّل على الأمور العملية ـ إنهم يقدسون أصحاب الكلمة أكثر .
إذاً أدركت باعتباري كاتباً معقداً مليئاً بالجروح النفسية والرغبات الأرضية والعيوب التي أبذل قصارى جهدي لحجبها عن الأنظار ، أدركت بسبب كل هذا ، أن تقديس الكاتب والمفكر باطل كتقديس السياسيين والأوثان ؛ لقد تهاوت أمامي آخر حصون الشرك .
باختصار أصبحت أكثر ثقة بطبيعتي وبالله ، وأقل تهيباً تجاه الكتاب والمثقفين ـ بعد السياسيين ـ من أي نوع ، وأكثر حصانة ، وأسهل شفاء ، وأكثر استعمالا لعقلي مما مضى .
* * *
بعد هذه النبذة عن ملامحي الداخلية أصبح من اليسير عليكم فهم سيرتي مع المحفظة وما عنته لي ، وأي دافع يحدوني إلى الاحتفاظ بها .
ما أن تصفحت المفكرة حتى تذكرت والدي : كان قد رآني مرة أجرب مشي الأعمى . ويبدو أنه خاف علي السقوط تحت الطريق في الهاوية ، فروى لنا قصة ، مفادها أن مبلغاً كبيراً جداً كان في الطريق ، وعندما وصل إليه الفقير فكر أن يجرب كيف يستطيع الأعمى السير دون رؤية ، فأغمض عينيه إلى أن تجاوز المبلغ .
علمتني القصة أن لا أرفع نظري عن الأرض ، وليس فقط ألا أجرب العمى . لكنني الآن أجد نفسي ، والمحفظة في يدي ، أفكر في الزمان ، وكيف أن ثانية من هذه الثواني التي تتراكم لتشكل عمرنا قد تكون حاسمة ؛ ففي ثانية فقد المتعامي مبلغاً من المال ربما كان غير مجرى حياته ، وفي ثانية وجدت صاحب هذه المحفظة الذي خيّل إلي أني بحثت عنه طويلاً ، وفي ثانية فقدت أثره . إنني الآن أتأملها وأفكر فيه ؛ هل هو الذي اشتغلها؟ وكم من الوقت لزم لشغلها ؟ وكم من الفراغ حفزه على ذلك ؟ أعرف أن الزمن يختزن ويتراكم ، فماذا كان بالنسبة له هذا الزمن ؟ هل يحس به كما يحس المرء بعضو فقده؟ هل هو ضائع تماماً كزمن أهل الكهف ؟ لقد اعتدى جاري علي ، وهذا دفع بي إلى البلدية ، ثم خرجت منها ودخلت الحديقة فوجدت هذه المحفظة التي ارتبطت بالكثير من الأحداث في حياتي ، وهاأنا ذا أكتب عنها ، وسيقرأ ما أكتب أناس شكلتهم تجارب مختلفة فيتأثرون بدرجات وأشكال مختلفة ، وبدورهم سيؤثرون بمحيطهم وفق تأثر كل منهم ، وهكذا إلى ما لا نهاية آخذين في الاعتبار القفزات في العرض ؛ فأنا مثلاً لم أذكر الأحداث الصغيرة التي مررت عليها في طريقي إلى البلدية . باختصار ، إن كل حدث مهما صغر هو ذو تأثيرات لا منتهية على الشخص فالمجتمع فالإنسانية وربما الكون ، فأي نتيجة نحصل عليها من عزل هذا الإنسان بالمقارنة مع موظف يقابل عشرات المواطنين يومياً مثلاً ؟.

أول عبارة وقعت عليها عيني في المفكرة هي : دور المؤسسات في المجتمع كدور الخيط في العقد . بشعور غامض من النشوة والفرح والامتلاء انتصبت واقفاً ؛ فلقد سبق لي أن استخدمت هذا التعبير في إحدى مقالاتي . ورغم يقيني اندفعت إلى الإضبارة بحثاً عن تلك المقالة فوجدت أنه دوّنها حرفياً . كنت قد قلت أن فساد المؤسسات يعني غياب القانون ، وبالتالي فقدان الإحساس بالأمن ، الأمر الذي يدفع إلى البحث عنه في الانتماءات ما قبل الوطنية . وكثيراً ما حاولت نشر هذه القناعة ، ولكن كنت قد أسمعت لو ناديت حياً ، وهاأنا ذا دون توقع أجد من يأخذ بالفكرة . ولكن هل أخذ بها حقاً ؟! لست على يقين ، إذ ليست العبرة فيما يعجبنا من أقوال .
عدت إلى المفكرة أتفحصها وأبحث فيما بين ركام الإشارات والرموز والعبارات الموجزة علني أقطع الشك .
ما هو مقروء في المفكرة عبارات قصيرة بدت لي أشبه بنوى لقصائد أو قصصٍ وخواطر مثل :
"السياسة سلاح . ومع هذا يلعبون بها ويضرطون بنفس القدر من الجدية" .
" ما عاد في مقدورنا أن نعرف أين نهرب من وجه الله " .
" العجل المخصي دائم النط على العجول الأخرى " .
" هل يكفي منطاد واحد لكل هذه العلكة المؤنثة " .
كنت أقف مع كل عبارة محاولاً أن أحدس بالباعث على كتابتها ، محاولاً كسوتها لحماً من خيالي . وفيما أنا مستغرق في هذا قفزت واقفاً ؛ فلقد بدا لي أنني قلت هذا أيضاً : الموظف سائب فلم المجلدات ؟! فتحت الإضبارة فإذا بي كتبت عبارة مشابهة ، فتأكد لي أن الحياة جديرة بأن تعاش ، وأن أجمل الأيام ما لم يأت بعد وكذب من قال أنها من سيئ إلى أسوأ . عدت أفتش بحماس أكبر من السابق ، متجاوزاً التأمل بما لا يناسب الحال فلهذا وقت آخر ؛ الآن يجب أن ألملم أشتاتي أو أجد بعضي المفقود . وما هي إلا وريقات حتى صرخت : الله أكبر . فإذا بزوجتي تقطع علي خلوتي مستفسرة فأقول لها
ـ انظري ، وأمد إليها المفكرة بيد مشيراً بسبابة اليد الأخرى إلى عبارة " ضحك الموظف.. كم أنا عاجز وشقي! " فاقتربت باسمة وألقت نظرة على العبارة وقالت
ـ ومتى كان ضحك الموظف يثير فيك هذا الحماس ؟!.
ـ قلت : هذه المفكرة ، وجدتها اليوم .
قالت : وماذا يعني هذا ؟
قلت : لا شيء .. لا شيء .. اتركيني وحدي .
فاستدارت وهي تنادي : يا أولاد ! تعالوا لاعبوا أباكم أحسن من أن يبقى سارح الفكر !
قلت في نفسي : لقد مر هذا الرجل من هناك ... وحبذا لو تمر زوجتي أيضاً لتكون أكثر تفهماً . وضحكت من رغبتي هذه إذ تذكرت أن كل الناس يمرون من هناك ووحده هذا الرجل شحنه هذا العبور بهذا الغضب .

اليوم قبل دخولي إلى الحديقة خرجت من البلدية مثقلاً بالمرارة والغضب ، تعباً تتنازعني رغبات متضاربة ؛ فلقد كان آخر ما تزودت به للأيام الآتية ابتسامة خبيثة ولئيمة لموظف ستنضاف إلى أخواتها في الذاكرة لتبقى فيها إلى الأبد . وكان آخر ما سألت نفسي قبل أن أرى هذا الرجل ، رجل الحديقة ، صاحب المفكرة المفترض : إلى متى سأبقى أدور وأدور في حين يناكدونني على البارد المستريح ؟!. وهاأنا ذا أقرأ في مفكرته بعض نزيفي هذا ، فهل هي الحياة ابتدعها خيال القدر ؟!.
هذا رجل عنيد ويملك عزة أصبحت نادرة في زمن الفساد والاستهلاك . وقضيته قد تكون صغيرة لكنها بالنسبة له قضية حق . والحق لا يكون كبيراً أو صغيراً ؛ إنه حق وكفى . وإلا من أين استطاع أن يشحن عبارته بكل هذه المرارة ؟!. ومن أين لهذه الابتسامة كل هذه القدرة على إثارة الإحساس بالعجز والغضب ؟!.
إن لم يكن هذا الرجل كاتباً يسجل لمحات مستعجلة فهو على أي حال مثقف من ذلك النوع الفريد والعزيز ؛ عملي وغير منفصم ؛ لديه وضوح وقدرة على الغوص والتجريد ، ولا يخطف أنظاره بريق الأقوال الكبيرة ، أو أنها لا تستغرقه . ولابد أنه رأى في ابتزاز الموظف والاستجابة لهذا الابتزاز أمراً خطيراً وبعيداً .
لقد لامس هاجساً ما فتئ يؤرقني ؛ بعد يقيني أني زرعت جهدي السابق في أتون أكتشف من يشاركني الهم . لذا أصبح هذا الرجل بالنسبة لي ذلك الشيء العزيز الضائع والذي أنا متأكد أنني وضعته في مكان ما ، لكن أين ؟!. وبدا لي أنني أبحث عنه منذ بدء الخليقة ، وأنني فقدته في اللحظة التي وجدته فيها .

منذ الآن ستبقى هذه المفكرة في جيبي أستأنس بها وأتحاور معها . وفي خلواتي ، وفي حالات توتري بعد كل مراجعة لدائرة ما ، كنت أفتحها وأقف عند بعض عباراتها أتأمل فيها . وتتحول تأملاتي وقوداً يسعر رغبتي الجامحة في الاتصال به ، لتبقى هذه الرغبة هاجسي المقيم يشغلني عن أي تفكير آخر إلى أن خطرت لي فكرة محددة : ماذا لو أخذت مجموعة من العبارات المدونة في مفكرته وكسوتها لحماً وريشاً ثم طيرتها؟!. إنه كاتب على الأغلب ، وحظي كبير في قراءته لها ، وسيفهم حينها أني أسعى للاتصال به .
وقع اختياري على :
" ما عاد في مقدورنا أن نعرف أين نهرب من وجه الله "
" ضحك الموظف ...كم أنا عاجز وشقي "
" هل يكفي منطاد واحد لكل هذه العلكة المؤنثة ؟!. "
"العجل المخصي دائم النط على العجول الأخرى "
"أحس بالضيق فأطفأ التلفاز ووقف على النافذة فإذا الأفق يتشكل أمامه رجالاً يتلوّون بفقاشات وخلاخيل"
إذا كنت أكتب الآن بغرض محدد هو الاتصال بصاحب المفكر فهذا بحد ذاته باعث على الاجتهاد. ومن ناحية أخرى فإن اختياري لهذه الوسيلة يعني أن لدي حساً مضمراً بأني قادر على الكتابة القصصية ، وأن الله قاد إلي هذه اللقية ليلج بي هذا الباب من النشاط . لذا يجب منذ الآن أن أفكر بكتابة تحظى بالاحترام . وهكذا وجدت نفسي في مجال أعتقد أنهم يسمونه النقد الأدبي .
أول ما يخطر في بال كاتب مبتدئ هو الاعتماد على السيرة . لكن الناس لا يستمتعون بأبطال من لحم ودم ؛ فهم بحاجة لبطل وهمي لا يشدهم إلى الأرض ويثقل ضميرهم بمعاناة حقيقية ؛ فمن الخير للكاتب ، إذا كان يريد قراء حساسين ، أن يدعوهم إلى ترك الأرض التي يقفون عليها ليحلقوا عالياً عالياً لأن الأرض أجمل من بعيد . ولا بأس أن يقول منذ البداية : هذا الذي تقرؤونه كذب من بنات الخيال ، حتى لو كان هذا الواقع الذي يتحدث عنه مباشرة غرائبياً أو غير مرئي لهم ، فلربما خالط أحدهم الشك في حدوثه . وطالما عجبت من ذلك الصنف من الكتاب الذي يؤكد منذ أول سطر أن هذا ما حدث بالضبط .
لكن نفسي عادت وزينت لي الأمر ، إذ لا يمكن الجزم بما هو سيري في الأدب ؛ فالأدب ـ كما قالت إحداهن ـ " إما أن يكون كذباً قابلاً للتصديق أو أن يكون واقعاً يكذب " ، وليس في مقدور القارئ أن يحدد ما هو واقعي وما هو متخيل لأنه ليس من شهود الأحداث ، ومن أين له هذه الشهادة ؟!. أما صاحب الكار، فإذا ما حدس بما هو واقعي ، فسيجد بطلاً لرواياته من لحم ودم عاش في زماننا ، وسأفرح بأبوّته لي ـ أي بكوني بطلاً له ـ كفرحي بلقاء صاحب المفكرة . لكن سرعان ما عدلت لأسباب لا علاقة لها بالأدب والنقد ، فلربما كان المطلوب كتابة تبهر القارئ ولا تنفجر به وبالمجلة . ولكن كيف يمكن لكتابة كهذه أن تغري صاحبي هذا بالاتصال بي ؟!.
بعد ضربي أخماسي بأسداسي ، وتمزيقي لما هو سيري أحياناً ولما هو متخيل أحياناً أخرى ، لما هو فاقد النكهة خامد حيناً ولما هو لاذع متفجر حيناً آخر ، وعزوفي عن الكتابة مرة ثم عودتي إليها مرة أخرى ، وجدت نفسي وجهاً لوجه مع الأرق ؛ لأنني بعد أن استقر رأيي لم أغف طيلة تلك الليلة ؛ فلقد كنت أقوم من الفراش لأشطب كلمة أو لأزيد أخرى ، لأقدم فكرة أو لأؤخر أخرى ، لأزيد أفكاراً أو لأشطب أو لأغير في أخرى . ومع الصباح عييت تماماً فنمت على خاطر فحواه أن الرقيب غول يقتل أبناء الكتاب بلا رحمة .
استيقظت نشطاً على موعد مع ما كتبت . عملت حماماً وأنا أفكر بما أنجزت الليلة الماضية يملؤني الإحساس بالرضا . بعدها جلست إلى ما كتبت . قرأته وأعدت كتابته من جديد بهدوء وبخط جميل ، وبإحساس من يحضر نفسه للقاء حبيبته . وحتى إرسالها للنشر كنت أعود إليها فانتهت منقحة على الشكل التالي :
1ـ سألوا مروجاً ثقافة الجنس عن رأيه بمسابقة جارية لانتخاب ملكة جمال فقال : هذا الجمال يجب ألا يحجب ...أنت إذا ما رأيته قلت : يا سبحان الله !.
امتعض وتلوى وضرب بقبضته على المسند ونفخ : أف ف ف ما عاد في مقدورنا أن نعرف أين نهرب من وجه الله !. وبدا أنه هدأ للحظة وفجأة يركل طفله ويقف فيفتح الباب وينطلق ساباً الله وملائكته ورسله وأولياءه صارخاً : لن أصلي بهد الآن ، لن أصلي بعد الآن. وما هي إلا لحظات حتى كانت الجارات في بيته يغمزن عن زهده بالنساء .
2ـ تحدثوا في مجلة عن النائب بهية ، وفي ثانية عن الوزير أولبرايت ، فزهد عن القراءة . وعاد فأمسك بمجلة أخرى كي يخفف من توتره الناشئ إثر جدال مع زوجته . وما أن فتحها حتى وقع نظره على "الفنان" تحت صورة لأمه فغمغم : إي ي ي العمى ، يلعن ... ، أخصي وأدعياء ؟!. وقبل أن يكمل جملته كانت المجلة قد لطمتها على خلقتها فشتمته .
فوجئ . نظر إليها ملياً . ابتسم . ضحك . ابتسمت . قهقه . ضحكت . وتلاقيا في عناق حميم .
3ـ بين شوطي كرة قدم أخذوا يعلنون عن منتجاتنا . مع ثالث إعلان عن العلكة تململ ، مع الرابع سخن ونشف ريقه ، مع الخامس بدأ يرتجف ، مع السادس انتصب في جلسته واشرأب بعنقه كنمر جائع تشمم رائحة طريدة وقال : غير معقول ... لا يمكن ... وكما لو أن لغماً انفجر تحته طار مع السابع بفنجان القهوة صارخاً : إ ي ي ي
هو حط على طرف الأريكة ومنها إلى الأرض ، وفنجان القهوة استقر في حضن زوجته .
4ـ أحس بالضيق فأطفأ التلفاز ووقف على النافذة فإذا الأفق يتشكل رجالاً يتلوّون "بفقاشات" وخلاخيل.
وبعد قليل قالت زوجته : أين سرح خيال شاعرنا ، فلم يرد. وجذبته برفق من إذنه عقاباً له على ترفعه فوقع عليها فارتدت ضحكتها إلى حلقها قبل أن تبدأ لتشق صرختها عتمة الليل .
5 ـ ضحك الموظف فأنا عاجز وشقي . وهاأنذا أغادر مثقلاً بشجوني تلح علي القصيدة :
يا بنة القهر !
مدي شراييني فتيلا
دوّري الكأس علينا
نعبها حتى الثمالة
ناوليها ناوليها
وخذينا أخذ قادر
واعجنينا من جديد
" كلا ، ا صهرينا أفضل هنا ، إذاً "
اصهرينا من جديد
في أتون في لهيب
" أتون ، لهيب ! كلا ؛ تنكير لا مسوغ له. ماذا إذاً ؟!. "
واصهرينا في أتونك
" نعم ؛ هكذا أفضل ، وماذا بعد ؟!. "
واصهرينا في أتونك
واعجنينا من جديد
" اعجنينا؟!. ربما شكلينا أفضل هنا ، إذا "
شكلينا من ... وطاخ ...
ـ الأخ أعمى ؟!.
ـ بل لأني أرى أكثر من اللازم .
ـ إذاً كان الله في عونك يا بني .
كان نظره ثابتاً ففهمت دور العكاز في يده ؛ فلقد كان أعمى .
قلت : شكراً لك يا عماه .
قال : شكرك أوجب ، فبدا أن كل كلمة أخرى ستكون زائدة وستخدش روعة الحوار واللقاء معاً فافترقنا .
أعدت قراءة ما كتبت فامتلأت بالنشوة ؛ " يبدو أنك ستصبح كاتب قصة أيضاً يا أبا الكرم ، بل وقصة قصيرة جداً ". وشطح خيالي بعيداً : غداً سأرفق صوري مع قصصي لتكون جواز مرور لي في الدوائر توفر علي الزنقات . وما كنت أدري أني أضفت خوفاً جديداً إلى قائمة مخاوفي ، وأني منذ الآن وإلى أن تنشر سأبدل مكان مخطوطتي من مكان سري إلى مكان أكثر سرية دون أن أطمئن ؛ فلقد كانت أهميتها استثنائية ، لأن دورها لا ينتهي بوصلي بصاحب المفكرة ، بل ربما أحدثت هزة في تفكير الناس ، أو شرخاً في عالم القصة ، عدا أنها كلفتني الكثير من الأرق والتفكير ماشياً وجالساً ونائماً .
فيما بعد استقر رأيي على أمرين . أولهما : أن ما كتبته ليس شيئاً ، لأني ألزمت نفسي بعبارات محددة لضرورة الاتصال بالرجل أولاً ، ولأنني لم أتبع سجيتي في اختيار الكسوة ثانياً . أما ثاني الأمرين فهو أني لن أنشر صورتي حتى لو كتبت غير هذه القصص ، لأن الموظف إذا ما عرفني وتهيب مني سيحرمني التجارب التي توفر مادة الكتابة ، وسيفلت غروري من عقاله فأثقب الأرض وأنطح السماء . لكنني الآن ـ بعد أن كتبت بعض القصص التي لم تنشر لأنني فقدت الحماس الكافي ـ عزفت نهائياً عن الكتابة ، وطرقت مسالك واكتسبت مهارات أخرى . ليس لأن كتابة المرء من خير الأدلة ، بل لأنني أصبحت بلا رأس . كيف ؟!. على امتداد زمن هذه الحكاية بقيت ملتزماً قضيتي التي عادت بي إلى الحياة . وعلى الدوام نظرت إلى الحق نظرتكم إلى شرف المرأة ؛ للكثير ، وللقليل ، نفس القدرة على تلطيخه ، فكنت كناطح صخرة ليوهنها إذ كسر رأسي نتيجة ذلك مرات ، آخرها عندما تراجع التفتيش والبلدية عن الإقرار بحقي بعد اعتراف به . لا لشيء إلا لأن خصمي هذه المرة قال منذ البداية : تعبك سيذهب سدًى لأن يدي طويلة وسأكسر رأسك . والخاتمة تغني عن التفاصيل : بعد سبعين مراجعة دخلت إلى رئيس البلدية وقلت له : سنة ونصف وأنا أدور في البلدية على رجل واحدة .الآن ، إما أن يكون لي حق آخذه ، أو يكون لي حق لا آخذه بقلع عيوني ، أولا يكون لي حق فأنصرف ولا أعود . قال : ليس لك حق وسأوجه بتسليمك جواباً خطياً بذلك . لكنني لم أحصل على الجواب إلا بعد إحدى عشرة مراجعة نفد بها صبري ، فسلمت أمري لله بعد أن كادت عزة نفسي تدفعني إلى جحوده . وأنا الآن سعيد بهذه النتيجة . ليس لأني أعدت اكتشاف الله من جديد على طريقة الناس الأسوياء ، بل لأنني اكتشفت أن الإنسان سيكون أفضل بدون رأس ، هذا أولاً ، وثانياً ، لأن رأسي كسر وانتهى الأمر وتحررت من مخاوفي على مخطوطتي ؛ ذلك لأنني استبعدت زيارة الفجر كاحتمال أوحى به تهديد خصمي القاهر الجبار العنيد .
أما المسالك التي طرقتها والمهارات التي اكتسبتها فإليكم مثالاً لها : لقد أصبحت أقذف السكين عالياً لألتقطها أثناء سقوطها في أوضاع مختلفة مثلما تفعل لاعبة جمباز بالكرة ، أو أرميها بقوة لتمر بين السبابة والوسطى لرجل يقف على بعد عدة أمتار مني .
أول رمية حدثت مثل انفجار في الوعي ؛ كنت أقشر البطاطا ، وفجأة ، دون سابق تفكير ، وقبل أن أنتهي ، رميت اللوح المستند على الحائط قبالتي بالسكين . مع الأيام تلف اللوح والأبواب ، حتى إذا ما اكتسبت المهارة الكافية ، تحول الرجل في لوحة غرفة الجلوس إلى خيوط متقطعة كوجه سجادة ، فبدت حركة حبيبته بلا معنى .
بالتزامن مع هذه العادة البشعة ـ التي جعلت جو البيت مشبعاً بروح العبث والفوضى والتوتر ـ نشأت في البيت عادة جيدة ؛ فلقد كانت زوجتي تصر على الخروج يومياً في نزهة أو زيارة ، كانت تقول : إلى أين ستأخذ حبيبة قلبك اليوم ؟ أو : آه كم هذا الجو مناسب لنزهة عاشقين مع أطفالهما !. أو : يحق لهؤلاء المساكين أن يشعروا بالحرية خارج هذا السجن !. ومع الوقت أصبح الخروج في نزهة عادة من عاداتنا .
* * *
مرة كنا في الحديقة فإذا به يجلس على المقعد قبالتنا . لم أجزم أنه هو؛ فعدا عكازة اعتمدها كان شبيهاً به إلى حد بعيد . " هل ألم به شيء ؟!." .
لم أستطع مقاومة إغراء التحرش به . لكنني تهيبت الأمر ، وخفت في الوقت نفسه أن ينكر لسبب ما . إذاً علي أولاً أن أبحث عن مؤشر يشجعني ، فعمدت إلى اللعب بالمحفظة مراقباً من طرف خفي رد فعله .
قلبتها بين يدي ، قذفتها عالياً والتقطها عدة مرات ، وعندما لم ألحظ رد فعل كاف لإثارة الشجاعة لدي ، أثبتها على جذع شجرة وصوبت عليها قاصداً أن يراها جيداً . وعندما لم يبد من الاهتمام ما يكفي ، صرخت وأنا أرميها : أيها الكاتب !. أنت مثل روما ، كل الطرق تؤدي إليك على نحو ما .
كانت زوجتي قد بدأت الإلحاح علي من أجل المغادرة . ولم يكن هذا وقتاً للشرح ، ولم تنتبه إلى ما أثارته بي من حنق بإلحاحها .
ما عهدتها تثير بي هذا الغضب منذ زمن ليس بالقصير . فلقد أصبحت ـ دون أن أدري كيف ـ تعبر عن رغبتها بغنج ودلال كابنتي التي لم تتجاوز الخامسة . لكنني الآن لا أدري ماذا ألم بها. لذا فجأة غيرت العبارة وقلت : أنت مثل الدلف في ليلة الأرق ، وسددت خلفها فوق الرأس مباشرة ، على فتحة في جذع الشجرة فندت عنها شهقة وتجمدت من الرعب .
في هذه اللحظة صهل جواد خلفي ؛ كان الرجل قد ركب عكازه وانطلق . عندها أصبحت على يقين أنه هو ، وأسفت له ، إذ تبادر إلى ذهني أنه فقد عقله بسبب إحدى القضايا . لكن ما لبث أن أثار دهشتي عندما أقلع ؛ فما أن وصل عند طرف الحديقة حتى بدأ يرتفع رويداً رويداً وهو راكب عكازه.
صحوت من دهشتي وبدأت بالصراخ : إنه يطير! إنه يطير! . كنت ألتفت وأصرخ ، لكن أحداً ما لم يأبه .
أدركت الالتباس الحاصل فصرخت : رجل يطير! رجل يطير! لكن عدا الأطفال لم ينظر أحد إلى فوق . وفي لحظة كاد فيها أن يغيب عن الأنظار ، خلت أنه ينظر خلفه نحوي وكأنه يدعوني ، ففطنت إلى اللحاق به وانطلقت بأقصى سرعة .
كنت أصطدم بالمارة ، أقع أو يقعون فأنهض وأتابع دون توقف ، ولا أجد من كلمة أعتذر بها سوى قولي : يطير! ... يطير !.
إنني الآن كمن يسبح وسط موج من البشر ؛ أمد يديّ وأدفع الناس إلى الخلف من الجانبين شاقاً لنفسي طريقاً ، تاركاً خلفي شتى العبارات التي يطلقونها إثري ، وهاهي عبارة تستوقفني : العمى ... ألا ترى أمامك ؟! فأدرك المشكلة : " الرؤية ... هنا لب المشكلة ، حقاً إن الناس لا يرون ". فتوقفت وقلت : بل أنتم الذين لا ترون ، انظروا ، إنه يطير! رجل يطير!.
رفع نظره إلى حيث أشير وهز رأسه ثم تابع إلى غايته . عندها توقفت ، فلقد راودتني فكرة أنني ممسوس . وذهب تفكيري إلى زوجتي الجالسة الآن على مقعد في الحديقة ، تبكي وتبرر للأطفال سلوكي بما لست أدري . وهممت بالعودة ، لكن عبارات كانت تطرق مسمعي وتعيدني إلى صحوي :
ـ "امش ، امش يا بني ! هذا ليس عباس ابن فرناس "
ـ " حبيبتي ! لا تلتفتي ؛ يزعل منك المسيح "
ـ يا أمي! يا حبيبي !كرمى للنبي عجل ، لا تلتفت "
وفي لحظة بدأ ينظر باتجاهي وينخفض رويداً رويداً ، فعاودت الانطلاق للحاق به .
كانت المسافة بيني وبينه كالدودة في حركتها ، تقصر وتطول بحيث تجدد حماسي لمتابعة الركض ، إلى أن توقف أخيراً وسط بستان على طرف المدينة .
بدأت الاقتراب منه ودقات ساعة بيغ بن تأتيني لا أعرف لها مصدراً في هذا الخلاء ، وإذاعة استرايك تقطع بث أغنية من أغانينا الجميلة بعبارة " شو هيدا يا سامر " . وما أن اقتربت منه إلى حدٍ كافٍ حتى ترجل وبادرني بالعناق . وبعد بضعة أسئلة عن الحال والأولاد انطلقنا نتجول ، نقطف الأزهار ، نتبادل الحديث ونأكل حب العلّيق ، وخلال ذلك كله نضحك نشوانين كصديقين حميمين متوحدين .
تحدثنا عن ذكرياتنا المشتركة وأخبارنا القديمة والمستجدة ، وعاتبته على اختصاره ، قلت له
ـ ما ضرك لو شرحت لي القضية بالتفصيل ؟! أيكفي أن تقول : ضحك الموظف ، كم أنا عاجز وشقي ؟! ـ ونكزته بكوعي في خاصرته ـ أية قضية أوصلتك إلى هذا ؟
ـ كيف يمكن أن أكتب كل تلك التفاصيل ؟! تركتها لخيالك . قلت لك أن حقي بقي كلهاية الراعي ؛ ما أن أقترب منه حتى يطير ويحط قريبا مني ، مغرياً إياي بمحاولة الإمساك به من جديد . وهذا يكفي .
ـ وفي النهاية أمسكت به .
ـ لا...
ـ لكن كلامك يوحي بذلك ؟!.
ـ مر زمن اعتقدت فيه أني ممسك به لا محالة ، لكنه وهم ما لبث أن زال ؛ فلقد كنت أرفض اللجوء إلى الوساطة لأن الحق لا يستجدى ، ولأن المؤسسات إن لم تأخذ دورها المناط بها لا منعة ولا هيبة للوطن . لكني أكرهت عليها ؛ فلقد كان خصمي قد هددني ، وإذا لم يكن باستطاعتي أن أحمي نفسي بالقانون ، فلأحمها بالعلاقات من كل نوع ، ولتكسر رؤوسهم هم ؛ فلجأت في لحظة اليأس هذه إلى قريب لي في العاصمة كنت قد جفوته وأنكرته مراراً ، بيضه كبير وبوله يحفر في الأرض ويهرأ الحجر .
ـ لكنه لم يستعمل كل هذه المؤهلات على ما يبدو .
ـ استعملها وأعادوا فتح القضية ، لكن بيضاً أكبر يقف خلف خصمي على ما يبدو . وما أسفت على حقي كما أسفت على تجاوزي للقانون دون فائدة لي أو للوطن . لقد ساهمت بتكريس ما أنا بصدد محاربته دون فائدة تعزيني .
ـ فأرديت واحداً منهم كما في المرة الماضية .
ـ لا... لا ماضية، ولا لاحقة . لماذا تقول هذا ؟!.
ـ محفظتك هي التي تقول .
ـ كيف ؟!.
ـ ألم تعملها في السجن ؟!.
ـ بلى ... لكنه سجن اختياري ، عافت نفسي الناس فانعزلت في البيت .
ـ اعتقدت أنك تعملها ، ونكزته في خاصرته مرة ثانية .
ـ كدت أعملها ، لكن لا ... يكفي أنني الآن أحس بكرامتي المهدورة ؛ فإذا ما دخلت السجن سأفقد حتى هذا الإحساس . هنا وخزته شوكة علّيق فعصر إصبعه وتابع : لا أعرف بما كانوا يفكرون عندما اخترعوا السجن ، ربما بالسجن يمنحون الإنسان فرصة لموت معنوي ، أما الجسد فإنهم بحاجة إليه من أجل إنتاج سعادتهم .
ـ ما ظننتك تركع !؟.
ـ لم أركع ... الآن أفعل ما كان يجب أن أفعله منذ البداية ؛ قبل كل معركة أردد عدة مرات أمام المرآة : القضية أكبر منك ، وخسارتك محققة ، وسترى ما لا يخطر في بال . ادخل المعركة بهذه الشروط وإلا ...
ـ آه ، أصبحت فيلسوفاً . ونكزته مرة أخرى .
ـ إنك رجل مزوح خالي البال. لولا اعتقادي أنك مثلي لما أتيت بك إلى هنا. أما الآن فقد أرضيت فضولك ، عن إذنك . وركب عصاه وانطلق .
لم أبال . تابعت أكل حب العلّيق ، وقطف الورد ، وكأن ميعاد الذهاب إلى العمل لم يئن بعد . وفيما أنا لاهٍ هكذا ، أمسك بي من خاصرتي بكلتا يديه وهزني وقال : هل تعتقد أنني أفعلها وأتركك هنا ؟! بعد قليل سيعكر عليك الناس وحدتك ، سيدبون في الأرض منقادين بحبال لا مرئية تقودهم إلى أوهامهم . اركب .
ركبت خلفه وانطلقنا . حلّقنا في سماء المدينة ، نعلو وننخفض بتؤدة كأنما على بساط من الموج ، فعبرناها حتى الطرف الآخر حيث يقع بيتي ، مروراً فوق حي الفردوس ومركز المدينة . دخل بي من النافذة . انتظرني حتى انطرحت في فراشي وتكورت واضعاً راحتيّ بين ركبتيّ فغطاني جيداً وانطلق .

منذ ذلك اليوم اعتكفت في البيت لتنوب عن نزهاتنا وزياراتنا حفلات تفتعلها زوجتي ؛ فلقد اكتشفتْ بالتجربة ، أنها والكأس تعيد إلي بعض المرح والصفاء . وفي أحد الأيام تناولتُ سكيناً قصد مساعدتها في التحضير للاحتفال فطلبت مني أن أستريح لأن ما بقي لا يتطلب المساعدة ، فرميت السكين على إطار اللوح المركون على إطار النافذة قبالتي فانغرزت فيه .
كانت بي حاجة للتسلية فأحضرت طقم السكاكين كعادتي وبدأت ممارسة هوايتي . وبعد فترة جاءتني ابنتي تلميذة الصف الثاني مزقزقة : أبي ! أبي ! انظر ما رسمت . تأملت في الورقة فإذا هي قد رسمت حورية بحر وكتبت بجانبها : حورية البحر حلوة جداً ، تعصب أحياناً وتمرح أحياناً ، لكنها تحب الأطفال .
كانت السكين ما تزال في يدي فرميتها من فوق إطار النافذة ، على بعد مليمترات منه ، لتنغرز بين خفانتين في حائط المنور قبالتي . وحضنتها وأشبعتها تقبيلاً مغرقاً إياها بدمعي . وما إن أفلتها حتى قالت لها أمها بكثير من الحيوية والانشراح والثقة : آسيا ! خذي هذه السكاكين إلى المطبخ .
يومها اكتسبت زوجتي مزاج حورية بحر أو دلفين مرح . بداية رقصت لي منفردة ، ثم مع الأولاد ، ثم وجدت نفسي أشاركهم الرقص ؛ على استحياء في البداية ، ثم ما لبثت أن تحولت إلى راقص شركسي نشيطي .

منذ ذلك اليوم بدأ شيء ما بالتغير داخلي ، فأبديت الكثير من الاهتمام بتعليم أطفالي وشؤونهم الأخرى ، وبدأت تنتعش بي رغبة في الاحتكاك بالناس . لكني مطلقاً لم أخرج من البيت ، بل كنت أستعيض عن ذلك بمحاورة أشخاص القصص والروايات . ولكثرة ما قرأت في القصص عن أناس يكتبون إلى أنفسهم رسائل ، وجدت نفسي أنخرط في اللعبة ؛ فأخذت أكتب رسائل وأطيرها عبر النوافذ .
كان طبيعياً أن توحي زوجتي إلى أطفالي بأن تكون هداياهم لي بمناسبة أعيادي أقلاماً وورقاً . وفي المعمل أخذت أطير رسائلي من أعلى نقطة منه فاهتدى زملائي إلى فكرة زوجتي هذه فأخذوا يسقطون أوراقاً بيضاء وأقلاماً في خزانتي من بين مصراعي الباب ، أو يتركونها بحيث أصل إليها بسهولة . لكن هذه البادرة الطيبة ، هدتني إلى فكرة كتابة رسالة إلى هؤلاء الطيبين المجهولين مني حتى الآن ، فكان هذا الذي قرأتموه مناجاة لهم ، ودعوة في الوقت نفسه لمساعدتي في التعرف على صاحب المحفظة ، عسى الجرح يتكئ على الجرح ، وأن نرقص معاً رقصة الهلاك .



#أكرم_إبراهيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هواجس
- سقوط حر
- صخب
- سلة هواجس
- هل يمكن القضاء على الفساد بأدوات فاسدة ؟ 2من2
- هل يمكن القضاء على الفساد بأدوات فاسدة ؟ 1 من 2
- عكك*
- شكراً لحماس وحزب الله
- قصة
- الدولة والعودة : الجدل بين الشعار والممارسة والخطاب *
- نصر آخر لحزب الشعب وشركائه
- قمة هرم أم مركز مثلث ؟!!
- قراءة في إعلان دمشق
- ليس خوفاً على السلطة بل خوفاً من حزب الشعب


المزيد.....




- من هي ستورمي دانيلز ممثلة الأفلام الإباحية التي ستدلي بشهادت ...
- تابِع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 23 مترجمة على قناة الف ...
- قيامة عثمان 159 .. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 159 مترجمة تابع ...
- -روائع الموسيقى الروسية-.. حفل موسيقي روسي في مالي
- تكريم مكتب قناة RT العربية في الجزائر
- الحضارة المفقودة.. هل حقا بنيت الأهرامات والمعابد القديمة بت ...
- مصر.. القبض على مغني المهرجانات -مجدي شطة- وبحوزته مخدرات
- أجمل مغامرات القط والفار.. نزل تردد توم وجيري الجديد TOM and ...
- “سلي طفلك الان” نزل تردد طيور الجنة بيبي الجديد 2024 وشاهد أ ...
- فرانسوا بورغا للجزيرة نت: الصهيونية حاليا أيديولوجية طائفية ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أكرم إبراهيم - المطهر