أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم مطر - عادل مراد/ موقف انساني باسل «شيء يشبه الحكايات»















المزيد.....


عادل مراد/ موقف انساني باسل «شيء يشبه الحكايات»


هاشم مطر

الحوار المتمدن-العدد: 5879 - 2018 / 5 / 21 - 20:32
المحور: الادب والفن
    


لم أكن أعرفه من قبل.. قادتني المصادفات، أو بالأحرى الظروف، أن التقيه في طهران، واصبحنا اصدقاء منذ ذلك الحين. تكررت لقاءاتنا في طهران وبعدها في الشام.

أما الحكاية فقد بدأت هكذا:
كنت ابحث مع رفيقتي وزوجتي منيرة عن مخرج للهروب من ايران بعد ان وصلناها قادمين من كردستان في العام ١٩٨٥، ولم نستطع الرجوع اليها آنذاك.. كانت الحرب العراقية الإيرانية مشتعلة في ذلك الوقت، تعرضت طهران للغارات العراقية وسُدت منافذ الخروج، بالإضافة الى أن جوازي سفرينا كانا منتهيا الصلاحية منذ زمن بعيد..
مكثنا في طهران ستة اشهر استطيع كتابة رواية عنها، بالمقارنة مع حياتنا في الدنمارك التي تجاوزت الثلاثين عاماً ولم استطع كتابة اسطر عنها سوى بعض الأحداث.. وهذا ليس بيت القصيد.. وبعيداً عن الاستدراكات اختصر الحكاية التي بطلها عادل مراد.

التقيت بصديق طفولتي ودراستي عصام القصاب الذي هُجّر أهله اسوة ببقية الفيليين، صدقوني لم اكن اعرف انه كردي فيلي حتى تهجيرهم من بعقوبة الى ايران في الثمانينات، ولاوضح ذلك باختصار شديد، كنت طالبا آنذاك في بلغاريا/صوفيا، وفي فجر أحد الأيام طُرق بابي فكان عصام الذي يدرس هو الآخر في مدينة أخرى. دخل حتى من دون سلام أو تحية. إتجه الى ركن يعرفه وملأ له كأساً وجلس يشرب، وانا في دهشة وقلق من أمره. مابك يا عصام، سألته فلم يجب. وبعد لحظات اعدت نفس السؤال ولكن بقلق اكبر. افرغ الكأس بجوفه، لحظات وقال: طلعنه فيلية. هتفتُ: شنو؟ اجاب: (هجّروا اهلي كلهم وعماد اخوية معتقل!). هذا كان اول مرة، وهو صديق طفولتي، اعرف فيها انهم كرد فيليون.
أب مقعد وأم كبيرة السن، واربع بنات من بينهم بنت صغيرة معاقة، اضافة الى ابنين صغيرين معاقين أما كبيرهم عصام فكان يواصل دراسته خارج العراق، واخوه الأصغر احتجزته السلطات العراقية، ابان تهجيرهم، بحجة انه شاب، لكنهم افرجوا عنه (بقدرة قادر). ادعى وأصرّ انه دون سن الثامنة عشر، فالتحق بهم فيما بعد، فما أجمل المصادفات عندما يفرج فم القدر عن ابتسامة قصيرة. سكنت العائلة كرمان شاه، وهذه قصة اخرى، وها أنا قد عدت الى الاستدراك الذي وعدتُ ان اتحاشاه قبل قليل، لكن الحكاية لا تنتظم من دونه فسامحوني.

وعن طريق عائلة عصام التقينا بامرأة رائعة من أقاربهم أسمها خيرية لغرض مساعدتنا بشأن سنأتي عليه بعد قليل. حددنا موعداً للّقاء معها في بيت فريد رضا الفيلي، المعارض الشريف، توفاه الأجل قبل سنوات، وهي من معارفه أيضا، ولي معه حكاية اخرى، ربما يأتي محلها في وقت آخر. كنا في كرمنشاه وقتها في بيت عصام، فسافرنا الى طهران أنا ومنيرة بصحبة زوجته صديقتنا غنية ابنة خاله، وهي من اقارب خيرية. كان فريد قريباً لمنيرة من جهة أمها، فاسقبلنا الرجل باحتفاء كبير لن أنساه، واستضافنا في بيته في مدينة كرج وسط عائلة رائعة، وأوصى ابن أخيه زكي رضا بمساعدتنا وتوفير ما نحتاجه، فكان خير صديق وله مواقف لن أنساها. ومما وطّد علاقتنا أكثر بفريد وعائلته، بعد التعارف والاستذكارات، هو أنه كان صديق ورفيق اولاد عمتي خليل وإبراهيم حسون غائب، الأول كان ضابطاً وهو من مجموعة حادثة (قطار الموت) الشهيرة عام 1963، نجا منها بإعجوبة، لكن اثارها رافقته حتى مماته لاحقاً، والثاني إبراهيم زميله في الدراسة ورفيقه في النضال ونزيل معه في سجون البعث سنوات طويلة.
عندما سمعت المرأة بقصتنا أنا ومنيرة قالت: أنا أعرف عادل مراد، ربما يستطيع المساعدة!!.. عندها ضرب فريد بيده على جبينه وقال: إنه من اعز أصدقائي زميل دراستي في الجامعة قسم الكيمياء، ورفيقي في اتحاد الطلبة وفي المظاهرات، واستطرد... كان فريد إنسانا ذو قلب يسع العالم بحق، وله ذاكرة عجيبة وطريقة مدهشة بروي الحكايات، وغيرها من الخصال النادرة.
بعد مساعي في نفس الليلة حصلت المرأة على تلفونه الخاص.
فرح ورحب عادل بها فهي من أقاربه ولم يلتقيها منذ سنين. طال الحديث بينهما عبر التلفون، ونحن نمسك انفاسنا: متى سيأتي دورنا في حديثهم الذي انتقل الى لغة أخرى، ربما الكردية أو الفارسية، لا اعلم!، سيما أنني اجهل اللغتين عدا بعض المفردات التي اصرّف بها يومي مثل: سؤال سائق السيارة عن وجهته (توب خونه) أي البريد القريب من (كوجه مروي ) زقاق العراقيين المهجرين المعروف، أو (بيادة مشين) يعني نازل. عذرا فأنا استدرك رغماً عني ولم افي بوعدي لكم، فآمل أن تتقبلوها.
ناولت المرأة الطيبة، بعد قليل، التلفون إلى مضيفنا فريد ونحن يائسون، فلم تأت على ذكرنا مع عادل مراد.. غير أن ابتسامة كانت تلوح على فمها وفم كل من كان يسمع حديثها بالكردية. لكن فريد هتف قبلها، بعد أن تحدث مع زميل دراسته بالعربية، عدا بعض الجمل الكردية، ولم يأت على ذكر الموضوع أيضا!!. هتف فريد بعد أن وضع سماعة التلفون: انحلت!! فقالت المرأة باسترخاء «طبعا انحلت».. كيف انحلت؟ تفاجئنا انا ومنيرة. والطريف ان الجميع استمر بالاستذكارات وكأنهم نسوا موضوعنا. قصّوا وقصقصوا القصص، الأموات والأحياء، الطفولة والشباب، الصغار والشقاوة والمقالب، البيوت والأحياء التي سكنوها والجيران، وغيرها الكثير. كانت ليلة حتى الفجر. عرفت بعد اختلاطي بمجتمع الفيليين على نطاق اوسع، بأن هذه عادتهم وقت اجتماعهم، كثير من الألفة والكثير من الحكايات والطرائف، وكأنهم يغرفون من معين لا ينضب. لغة بغدادية جميلة بمفردات كادت تغيب عنا، حضرت بوجدان سخي وعاطفة نادرة. والغريب انهم كانوا يضحكون حتى في استذكاراتهم المؤلمة، فلا ترى الحزن عليهم سوى في عيونهم التي تلتمع بشدة، وتشي بحزن شفيف، سرعان ما يختفي ويبتسمون. ومن الطريف، وكأن اتفاقا ما بينهم، ما أن يكمل احدهم حكاية مؤلمة أو حزينة، حتى يفاجئك جليس آخر بحكاية أخرى مضحكة أو سعيدة. وأستطيع القول أن أحاديثهم لا تنطبق عليها قاعدة المثل (الحديث ذو شجون). فالحكايات لا تقال حسب تصنيفها ابداً. تلك هي عادتهم لمواجهة المصاعب واقدارهم التعيسة، التي يعرفها الجميع، ويفتعل رثاءها،السياسيون ثم يستغفلونها. وعلى كل حال لن استدرك مرة أخرى؛ اوعدكم. لأكمل الحكاية.

مع الفجر آوينا لفراشنا، فقلت لمنيرة: ماذا قالوا بالكردية فأجابت: قال الأثنان «لنا رجاء عندك» وعلى الأغلب أجابهم عادل «خليها عليّ» وأسدل الموضوع.
بعدها عرفنا اللغة المشفرة بينهم حينما التقيناه في اليوم التالي، فلا كلام مباشر بالتلفون، تلك هي عادته، وما ان يخطأ احدهم، حتى يسارع عادل منبهاً فيقول «كاااااكه» فيتوقف الآخر.
التقيناه؛ رجلاً قوياً فارع الطول، جميلاً ذا شخصية مهيبة. ذكي عرف بإحراجنا بعد تعارف لنصف دقيقة، فقال: يلّه نروح نتغدة بالأول. ضحك مربتاً على كتفي، ودخل مباشرة بحديث جامع عن ذكريات العراق الجميلة، خصوصا مع منيرة التي عرف ذيول عائلتها من أمها الفيلية وابيها الكوراني الأصل. وفي جلسة الغذاء، تحرى أمري بعد أن عرف انني من بعقوبة، فأكتشف، كمحقق شاطر، بعض المعارف والأصدقاء القدامى، ولا أعرف ان كان ذلك تكرماً منه أم انه حقيقة. فهذا الأنسان يعمل كل ما بوسعه، من أول لحظة، أن تكون قريباً منه كصديق وكأنك تعرفه منذ زمن بعيد.
تكررت لقاءاتنا، مرة عاندته على موقع مكان محدد في طهران، فأشرت بإتجاه الشمال، بينما اشار هو باتجاه الشرق، وعندما تراجعت عن تقديري قال لي: لالالا هيجي ما ينفع، فقلت كيف ابا جين؟ قال: هيا نذهب معاً فكانت (نزهة) مدة ساعتين، لم يتعب حتى استدلني على المكان! فأطلق ضحكة مقهقا: هااا شلونك هسه؟. وتابع: شوف هاشم عندما أدخل أي مدينة لا اعرفها انظر أولاً الى خرائطها، ثم اطبع تلك الخرائط في رأسي، عقبت «إنك مناضل محترف». عندها استذكرت مرة تهت فيها في جبال كردستان بعد ان سبقتني المفرزة نحو هدفها، تهتُ لمدة ساعتين حتى رأيتُ رفيقين مختبئين يضحكان عليّ وانا ادور برأسي محتاراً أي من الاتجاهات أسلك، اُرسلا لنجدتي بعد افتقادهم لي، لكنهما اكملا مقلبيهما بالإختفاء وانا تحت نظرهما. ضحك عادك وقال: مو كتلك! واكمل: بس خارطة كردستان معقدة كلش ما تشبه بقية الخرائط!. وكان يشير إلى شيء آخر تداولناه كثيراً في طهران والشام وفي مراسلاتنا فيما بعد.
وبخصوص قضيتنا طلب منا في أول لقاء على مائدة الغذاء أن نحضر جوازي سفرنا المنتهيين. سلمته اياهما. وفي اليوم التالي التقيته بمفردي فقال: هذا جواز منيرة ما يفيد لانه نسخة قديمة جداً وهي ملغاة، أظن انها كانت من فئة B. ثم اردف: إحضر لي صورة لها سأضعها معك كزوجة في جوازك، هذا هو الحل. وبطبيعة الحال فرحت لهذا الحل السهل. في اليوم التالي التقيناه فأخرجت له منيرة من حقيبتها صورة لها كانت معها مع اشياء شخصية، كان الانصار يصطحبونها معهم أينما ذهبوا كحاجات ثمينة، كالجوازت والجنسيات وبعض الصور والكاسيتات الشخصية والرسائل والذكريات. بالمناسبة كان معي كاسيت صوتي نادر بصوت أمي المرحومة حجية زكية، له حكاية طريفة اخرى عن محتواه وظروف تسجيله، صادره الحرس الثوري في مطار طهران وقت مغادرتنا. نعود لحكايتنا، سلمته الصورة، اخذها وتأملها لحظة فأطلق ضحكته على مائدة المطعم الذي أبى الا ان يصطحبنا اليه، فأنتبه من حولنا الجالسون، فقال: تريدين تحبسينه منيرة؟. تفاجأنا أنا وهي بانتظار التوضيح، فأكمل: ليش انتي وين بأوربا؟ انتي بـ إيران. روحي اخذي صورة جديدة بالربطة والجُبّة معودة، جايبتلي صورة رايحة للحفلة عبالك!. ضحكنا كثيرا وأشدْنا بحسه الأمني الذي سيتكرر بحادثة اخرى.
ولكي لا اطيل عليكم حكايتي مع الكبير عادل مراد، استلمت الجواز المزور احسن من الأصلي مختوما وموقعاً، وما علينا سوى الحجز والسفر الى سوريا. ودعنا عادل بعد بضعة أيام لأنه سيغادر الى سوريا قبلنا واتفقنا على اللقاء هناك. سافر عادل، ونحن في طهران يتوجب علينا تدبير مبلغ السفر الذي لا نملك منه شيئا كما الآخرين.
الفترة في طهران كما تعلمون كل له قصته فلا مجال هنا لاستعراضها. دبرنا المبلغ المطلوب وكان اكثره بالشيك الذي حرره لنا المناضل والإنسان الشهم فريد فيلي أقارب منيرة، وكان بمبلغ يعادل٥٠٠ دولارا، ولا اخفي هنا مساعدات أهلها الآخرين في إيران وبعض الأصدقاء من الخارج، تلك المساعدات التي مكنتنا من تدبير اقامتنا في ايران فترة طويلة نسبيا. وحال استلامنا المبلغ حجزنا الى سوريا بعد اسبوع. ولكن الأقدار شاءت ان يغلق مطار طهران بسبب قصف الطائرات العراقية. امتد اغلاقه لخمسة أشهر تقريباً، فسافرنا بعدها.

في دمشق التقيت عادل مراد مرة أخرى، وكان لنا عدد من اللقاءات تخللتها مواقف وطرائف وأحداث كثيرة، لكن ما أود استذكاره هنا هو أمر انساني رائع، فكان الآتي:
التقيت في أيران ببعض الأصدقاء، وتعرفت فيها على عدد من الشباب الرائعين ممن انقطعت بهم السبل، وهم من دون جوازات سفر أو أي مال. والذي فعلته أمران، الأول: كان من الممكن انذاك الحصول على فيزة المانيا الشرقية منفصلة عن الجواز العراقي، فتكون بمثابة ورقة اليانصيب، حيث يكون بإمكانك الحجز الى المانيا عبر ترانسيت لدولة لجوء تستقبل اللاجئين كالدول الإسكندنافية وبعض دول اوربا. كنت احصل على بعض الفيز المنفصلة التي يأخذها لي بعض الأصدقاء المقيمين في سوريا وابعثها بريديا للأصدقاء في طهران، حيث يبيعونها لمن له جواز سفر نافذ فيستخدمها في رحلته عبر الترانزيت إلى احدى بلدان اللجوء، فيدبر صديقي حياته بالمبلغ البسيط منها، او يوفره لحاجة سفره لاحقاً حسب أمله وحلمه.

أما الثاني: وهو المفصل الذي يبكيني كلما ذكرته او تذكرته، ذلك الموقف الانساني النبيل للصديق عادل مراد. فبالنسبة للاجئين العراقيين الى إيران ممن لم يحملوا جواز سفر نافذ، فلا يحق لهم مغادرة البلاد تحت أية ظروف.. حتى بعضهم أقام هناك ولم يستطع المغادرة أبداً، وبعضهم كانوا نزلاء السجون الإيرانية سنوات عديدة بسبب عدم امتلاكهم اوراق ثبوتية. كان هناك منفذا واحداً وصعباً بنفس الوقت بالنسبة للطلقاء الذين لا يمتلكون جواز سفر، وهو ان يتكفل أمر احدهم حزب سياسي على علاقة جيدة بالطرف السوري اولاً، بأن يطلب له دعوة او استدعاء كونه رفيقاً في الحزب، وبذلك توافق السلطات الايرانية على طلبيته، ضمن اتفاق مع دمشق لهذا الغرض، ويتم منحه ورقة عبور أو سفر إلى دمشق من دون عودة.
وعلى ذلك اتصلت بالصديق عادل مراد تلفونيا في دمشق وقلت له احتاجك يا ابا جين بأمر مهم للغاية، حياة او موت!!. وانا اتكلم بمنتهى الجدية، فاجأني بضحكة طويلة وقال: شنو نسيت طهران؟ يلله جايك لا تكمل. تقابلنا وكعادته بتبسيط الأمور لم يتركني اشرح له طلبي، فقال: يلله خلي انروح نحلق بالأول، انت هم شعرك طويل! قلت لنفسي شكد خلگه طويل يااااالله. سحبني من يدي، قبل أن أجيبه، وهو يتحدث عن أشياء أخرى. أوقف سيارة تكسي، لم اكن أعرف دمشق جيداً آنذاك، قال للسائق أن يتجه الى مكان لا اتذكره الآن، ولكنه كان مكاناً راقيا، ربما ابو رمانة، او مكاناً آخر لا أعرف. سألته إلى أين؟ فقال: إلى حلاقي الشخصي. وصلنا فوجدناه مغلقاً بسبب الصلاة، وسيُفتح بعد ساعتين، حسب اليافطة الصغيرة المعلقة على الباب. فقال عادل ساخراً طالما وعدتك بالحلاقة قبل أن استمع لطلبك، (حياة او موت) فلنبحث عن حلاق آخر. فار الدم في رأسي، ولكني لم ارغب اغاضته فسايرته، وهو على سجيته هادئاً. وجدنا الحلاق فتنفست (الحمد لله) غير انه سأله: عندك مغسلة للشعر؟ فأجاب لا والله ما عندي أخي!. سحبني من يدي وقال: لنبحث عن واحد آخر. فقلت وماذا يعني ذلك؟ فأجاب: الم تقل لي انك تطلبني لشيء مهم (حياة او موت)؟ اجبته نعم، ولكن ما دخل هذا بحلاقة الرأس. ضحك كعادته وقال: معنى هذا اننا سنستغرق وقتا طويلاً، ونحن هنا في هذا الحر والجو المغبر سنتحسس وننزعج من بقايا الشعر على ظهورنا موو؟. غير اني كان لي تفسير اخر هو أنه تقصّد ذلك لتهدئتي عندما رآني مرتبكا بعض الشيء بسبب الطلب الكبير الذي سأطلبه منه!!. اعجبني بالطبع فكان محترفاً بكل شيء.

في المقهى المتواضع شبه الخالي الذي اختاره بنفسه، وبزاوية محمية بالحائط جلسنا الى طاولة وطلبنا القهوة. ارتشف مرتين وقال شيئا عن مذاقها، ثم استرسل قليلا بالمنظر أمامنا، وقال يلله هاشم شعندك تره اني مسافر لطهران بعد كم يوم!. اتذكر جيداً كنت هادئا بما يكفي لأشرح له موضوع اصدقائي العالقين في طهران. كان مبتسما طوال الوقت وما اتذكره انه قال بما معناه «يا لمحنة العراقيين الشرفاء!». سألني: عندك اسماؤهم؟ اجبته نعم. تأمل الأسماء وقال هذا غير كافٍ للبعض منهم، اُريد الاسم الثلاثي، وأحبذ أن يكون لديهم أي ورقة رسمية عراقية، شهادة مدرسية، جنسية، شيئا من هذا القبيل. واردف إن لم يكن لهم ذلك، فيجب أن يكون لهم! هل فهمتني؟.. تعجبت من حسه الأمني فهو لم يقل عليهم تزويرها في (كوجه مروي)، لكنه قالها بوضوح من دون أن يقولها. في اليوم التالي، وبعد اتصالي بالاصدقاء هناك، في نفس الليلة، ليكملوا لي اسماءهم الثلاثية، اعطيته القائمة الكاملة، واخبرته انهم يمتلكون وثائق بسيطة، لكن الحقيقة انهم فهموا اشارتي التلفونية: أي وثيقة مهما كانت دبروها شلون ما كان. سرعان ما طوى الورقة وانتقل للحديث عن موضوع آخر وكأن الأمر أصبح بحكم المنتهي ولا يستحق الكلام أكثر. لكنني أعرف جيداً بأن الأمر كان يشتغل بذهنه طوال الوقت. صدق حدسي في لقائي به في اليوم التالي حيث عرض الأسماء عليّ وقال: لا اريد أن أحرج رفاقي في الحزب، يقصد الحزب الاشتراكي الكردستاني الذي كان عادل مراد عضوا في مكتبه السياسي آنذاك قبل تقارب الحزب مع الإتحاد الوطني الكردستاني والتوحد معه، ثم استطرد لا اريد أن اقطع خيط المعروف، أرجو أن تفهمني يا هاشم، أن بعض الأسماء تشي بأصحابها أنها عربية خالصة، وبهذا ربما نلفت نظر السوريين والايرانيين. تأسف على قوله وكأنه يرتكب جرماً.. وهو في هذا المخاض ظل يراجع الأسماء وينتقي منها على شاكلة ذلك البدوي الجائع الذي حصل على تمر بائر فأخذ ينتقي التمر (هذي خربانه وهذي مو خربانه) فيأكلها حتى أتى على جميعه. وفي نهاية الأمر استعصى على عادل اسماً واحداً فقط!! لكنه وعد بتدبر الأمر في وقت آخر بعد ارسال القائمة هذه، وقال: انخليه بقائمة كردية حتى ما ينتبهون بس خليه ينتظر شوية. لكن صاحبنا عندما أخبرته بأمر الانتظار خاصمني للأسف وقطع علاقته بي لحد الآن. لكنني للشهادة لم اتخل عنه فأرسلت له مبلغاً عن طريق احد الأصدقاء من دون ان يعلم بمصدره، وفرحت له انه تدبر أمر لجوئه الى احدى الدول الأوربية اسوة بالآخرين.

سافر عادل إلى طهران وبقينا على اتصال حتى وصلت الطلبيات جميعها، فسافر الجميع إلا واحدا منهم. توفي للأسف في طهران وبيده طلبيته وتأشيرة خروجه مع بطاقة طائرته. حزن عادل عليه عندما أخبرته عنه، وقال: سيدّون ذلك في شهادته عن تلك الفترة. ولا أعلم هل كتب عادل شهادته أم أن الأقدار لم تسمح لهذا المناضل الكبير بتدوينها، سيما انه كان مقاتلاً باسلاً ووطنيا عراقيا صميمياً، مساهماً في الاعتصامات والمظاهرات منذ شبابه، وشاهداً على أحلك فترات العراق ظلامية، معارضاً ومساهماً بإسقاط النظام الصدامي المجرم. أحب شعبه ووطنه العراق وكردستان، كان عراقياً بامتياز قبل أن يكون كرديا او فيلياً، لكنه قدم للجميع عطاؤه. وكنا جميعاً على علم بما عمله لصالح العراق وكل فئاته، انتصر لقضية الكرد العادلة وحقهم بتقرير مصيرهم، ليس من باب اصوله الكردية ولكن من باب الإنسانية وحقوق الإنسان، مدافعاً عن الكرد الفيليين بإعادة الاعتبار لهم وتعويضهم واعادة ممتلكاتهم وأحقيتهم بالمواطنة العراقية كعراقيين اصلاء، وعن جميع العراقيين المغلوبين على أمرهم. يبقى أن نقول انه كان مثقفاً كبيراً مطلعاً على كل فروع المعرفة.
استمرت علاقتي بـ عادل مراد كصديق رائع حتى عندما اصبح سفيرا للعراق في رومانيا، ولابد من استذكار المرحوم فرهاد فيلي الذي أوصلني به بعد فترة انقطاع، لكنني لم التقيه بعد لقائي به في دمشق. ولكننا كنا نتواصل ولنا مشتركات أخرى ربما آتي عليها مستقبلاً، لا أعرف، لكنني أقول انه كان انسانا كبيراً، سياسياً بارعاً ومناضلاً ميدانياً، وشعبياً يحبه الناس، ومربياً كبيراً بقلب كبير نابض بالمحبة، ولن انسى أن احيي انا ورفيقتي منيرة عائلته الكريمة، زوجته أم جين التي استقبلتنا في بيتها في طهران ودمشق، وابنته الصغيرة الحبيبة جين.
لا اعرف ان كنت كتبت شهادة عن عادل، أم انني رثيته، لكنني اعلم جيداً أنه غادر وأمام ناظريه صورة عراق واحد، جميلٍ بقومياته وسعيدٍ بواقعه ومسقبل أجياله. فلا نقول له وداعاً لأن أمثال عادل مراد لا يغادرون.



#هاشم_مطر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عبد الحليم المدني، سيرة في سيرة السيد عبد الكريم المدني
- تحولات أسئلة النص في رواية -عشاق وفونوغراف وأزمنة- للكاتبة ل ...
- القلادة: حداثة النص بين الإسقاط والتناص والتأويل
- جنان جاسم حلاوي وغابة النخيل الإنسانية
- غروب الوليد - الى وليد جمعة
- سودوكي (رحيل صباح المرعي)
- الزمان والسرد في النظام القصصي لشاكر الأنباري في روايته أنا ...
- الخيال: التقديم والنهايات - دراسة نقدية في أدب برهان شاوي من ...
- المدني في رحلته الأثيرية الى نبتون
- فاطمة الفلاحي: الصورة ومنجم الضوء ورحلة الألم وحداثة النص
- محاولة في فك لوازم العشق
- في نقد المشروع الديمقراطي
- كنت جميلا بما يكفي ان تغادر بصمت
- حداد
- زهرة
- سوسن ابيض للكاتب المبدع محيي الأشيقر -البحث عن زمن جديد-
- أصدقائي والخريف
- «كيفك انت» :الرسالة التي تذكرها صاحبي
- مجزرة النرويج وفكرة المواطنة لجيلنا الثاني


المزيد.....




- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...
- -يونيسكو-ضيفة شرف المعرض  الدولي للنشر والكتاب بالرباط


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم مطر - عادل مراد/ موقف انساني باسل «شيء يشبه الحكايات»