أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم مطر - سوسن ابيض للكاتب المبدع محيي الأشيقر -البحث عن زمن جديد-















المزيد.....

سوسن ابيض للكاتب المبدع محيي الأشيقر -البحث عن زمن جديد-


هاشم مطر

الحوار المتمدن-العدد: 3581 - 2011 / 12 / 19 - 08:48
المحور: الادب والفن
    


يندرج الأدب الذي يقدمه محيي الأشيقر ضمن سياق التجارب الحداثية الكتابية العربية المهمة، وكلمة (مهمة) هنا لا علاقة لها بالأدب الذي قدمه ويقدمه أدباء مهمون في السياق الإبداعي والجمالي، وإنما من حيث التجربة الخاصة في تقديم نمط حداثي بكل تفصيلاته. وعندما نقول تفصيلاته نكون قد عنينا كل الإحداثيات التي تجعل النص متفوقاً على نفسه من حيث شكل الحكاية، الشخوص، الزمان، المكان، العقد، ثم طريقة تصدي الكاتب إلى حلها. إضافة الى لغة السرد والإبتكار.

نرى ذلك بشكل جلي في مجموعة محيي الأشيقر القصصية الأولى (أصوات محذوفة) وروايتة "كان هناك" الصادرتين عن دار (فكرة ودار قوس) في كوبنهاكن، واللتين وضعتا الكاتب على أعتاب الريادة الحداثية إضافة إلى توريطه في استكمال مشروعه الكتابي الجريء. ثم يفاجئنا بمجموعته القصصية الأخيرة "سوسن ابيض" الصادرة عن دار شرقيات في القاهرة.

هذه المجموعة الانيقة تقدم أول تفسير لقلة مايكتبه محيي الأشيقر، ذلك لمخزون الجرعة الأدبية المشتغلة بعناية تضاهي تفاصيل أو مراحل شجرة، تتفتح، تزهر، تذوي، تموت، ثم يعالجها بجرعات إضافية للحياة. تلك أمانة الكاتب لمنجزه، الذي يكون ربما مثار جدل حاله حال الطعنات الإبداعية التي تقدمها الفنون الأخرى، والتي تكون حبيسة نفسها ردحاً من الزمن حتى يتم تأملها في وقت آخر فتكون عنصراً ريادياً مهما.

ولكي أكون قد قدمت مادة ذات فائدة، أبدأ بدلالة اولية لـ (التقبل النفسي) للنص، وهي صفة ملازمة للنصوص كما عند كامي، كونديرا، صادق هدايت... يعطي في البداية جرعة ثقيلة للقارئ بعدد الشخصوص، غير المحصية عندما ينوه إلى تشظي أسماء الأبطال ومحاور بقائهم الجغرافي والمعنوي، فيبدأ بعددهم الكبير؛ تسبق أسماءهم كلمة (واحد) مثال: "واحد اسمه فهر"، واحدة اسمها "يتا" واحد اسمه مزاحم"، يستخدمها كأداة تنكير، وهنا أول دلالة على صفة الملازمة للأشخاص مع اختلاف المصائر التي ستؤول لها. كذلك التقارب الكبير بين صفتي المذكر والمؤنث التي يبدأها بحكايته الأولى (نار لائذة بالخزف) فيقول، «وواحدة تعرف باسم "پيا" واخر يدعى "بجير"... إضافة إلى من هم في مقام أقرانهم وأترابهم أو أسلافهم حتى، من الذين أدركوا النجاة لحظة نزولهم من الفلكْ». فهو يعنى بالحالة الإنسانية لحد التماهي وكأن داء العضال الإغترابي يتوزع ليس على الاشخاص ذوي الأسماء –أو من دونها- وإنما أيضاً على مفردات الحياة المحيطة، فيكون محركها قانون واحد هو (الشقاء). فيكون الكاتب بأمكانه تحريك القطع غير الحسية كـ (العَلَم) و(الشرشف) و(القحف) و(الملجأ)، وغيرها الكثير كأدوات نابضة متألمة وكسيرة وكأنها تدرك عزلة أبطالها. تلك الإشارات يرشدنا اليها الكاتب بتوقفات حصرية على وجودها ومادتها، كأن يكون العلم فكرة للمواطنة المفقودة، والشرشف للمائدة، والقحف صفة لتكسر الأشياء النبيلة، والملجأ هو الهروب الى الذات التي تحاول الإنفكاك من أسر ماضيها، تلك الإشارات تكون بمعنويتها عظيمة الدلالة من حيث اسقاطها الحاضر. وهنا يظهر زمن الماضي ليكشف الحاضر مع زمن الشخصيات الذاتي الذي يكون في الغالب خارج زمني الحدث وهو زمن الشخصيات الحاضر.

أعود إلى الجرعة القوية الجريئة التي تضع القارئ أمام مهمة سبر النص النوعي من حيث الوظيفة والمكانة، وتدعوه في الوقت نفسه إلى امتلاك مبضع تشريح النص وضبط هويته، وتبقيه على بعد متغير من الانقلابات والمتغيرات وخصوصا البنيوية منها الخاصة باكتشاف العلاقات الداخلية للعناصر الأساسية. فالقارئ يدخل حيز المشاركة مرغماً بأرادته وإلا ترك الكتاب، وهنا يقع الأثبات الأول لفكرة (التقبل النفسي)، الذي كان محيي بارعا فيه منذ البداية. أما صفة المشاركة السطحية فهي لا تعنيه ذلك ان الكاتب معني بتقديم النص النوعي المركب الذي يحتاج الى الكثير من التروي لفك التباسه. فأدبه يختص بحركة الاشخاص والأشياء والتجارب و«يثري نفسه بأوسع ما يمكن منها» كما يأتي عليه د. علي جواد الطاهر (مقدمة في النقد الأدبي)، وإن لم يقدم حلولاً نهائية فهو يضع آفاقها على درجة من الكشف بحيث تعلن مشكلتها في زمنها الذاتي والعام. كأن يكتب (همام) -في النص الأول- رسائله لصديق حقيقي أو مفترض أو لنفسه. أو تدعي (يتا) حيازتها الرسائل في زمنها الذاتي فقط، أو خارج زمنها في "كآبة بيضاء" على لسان البطلة -التي لانعرف اسما لها- سوى أنها "سعيدة الى حد ما، لأن يوما آخر من التقويم قد انقضى". وكأن يحاول (بجير) في (الدور الأخير) ازاحة "ضغط المعلومات والتفاصيل، التجارب التي مرت به كمساهم فاعل أو شاهد محايد"، لكنه يفشل فيبقى دائرا في ساعته البيولوجية فقط حيث ينهي الكاتب قصته "لاصوت ولا حركة بتاتا....." الى آخر النص بمفرداة حياتية حانية غائبة.

نسيج النص المتوافق والمتواتر يجعل الفكرة حياتية وبسيطة من حيث الشكل، إنما في جوهرها تبقي على حالة عزلتها وانشطارها من دون تردد. رغم حيرة الكاتب مع بداية كل نص تقريباً بطريقة العرض والتقديم التي يعتمد فيها الإشيقر تقنية الفلاشات، كأن نرى في (حسب انغمار) التوزع بين رصيف القطارات وحالات التكدر وفكرة السفر ثم يدخل الحكاية مع السرد المتقن المركز لكنه يكون كافياً لأن يصطحب القارئ معه في رحلة تجوال مع النص الممتع- المحزن. مثال آخر في الحالات الخمس الأولى في (فاكهة الغرباء)، التي شكلت مداخل لحكايات بطل القصة بشخصيته المركبة البسيطة من حيث المظهر حتى الوصول بها الى داخلها الرافض المفعم بالانقسام على واقع الحرب والترحال حتى يصل به الى النتيجة ذاتها وهي أن يعيش البطل في زمنه الخاص.

هذه الخاصية تعود إلى البراعة في ادخال القارئ الى عالم قص الكاتب الذي اختار تقنيته بحرفية عالية تطولها جماليات الإبهار الكتابي كما السمعي والبصري. أي ان الكاتب يركز على الصفة الحسية وتبادل مواقع الإبهار الخمسة (الحواس)، فهنا كلها على درجة من الاستعداد العالي للتلقي. كتحسس اجزاء اليوم في (نار لائذة بالخزف) -التي أُعد شخصياً الصفحات الأولى من النص بمثابة توطئة لدخول عالم النص والحكايات الخمس- ومذاق حبة الهال وفص العقيق غريب الطعم في (كآبة بيضاء)، فكرة التمتع بالظلام في (الدور الأخير)، الانغماس في ماء البحر في (فاكهة الغرباء) والذي لم يكن هناك ما يماثله من حيث وفرته في اسكندنافيا، أو كأن يقول في (حسب انغمار).."أصوات هي مزيج من رائحة النارنج ومن شعل الأضواء التي بدأت تنبثق من كل الإتجاهات" ، وهو بنفس الوقت يُعد جرأة لغوية على نحو توليدي لمعنى جديد.

عنصر الإستكشاف؛ العلاقات الداخلية لعناصر النص التي يبدأها بالتناقض المخيف بالإحالة "بيا هي أنا، أي اسمي"، ثم اسمان لنفس الشخصيتين (هالة") و(فيئ)، والملاحظة أو الإشارة المحصورة بين علامات التنصيص وردت على لسان أبي، في باب (فائدة) يوم كان بمقدوره الإفادة والنصح"، هي تزامن شرطي أو مشروط بضبط تقلبات الشخصية بين ماضيها وحاضرها وبين زمن آخر غير معرّف هو زمن الشخصية ذاتها أو حتى ليس بالضرورة زمنها أو الزمن ذاته، وهذا ما نجد استدلالاً عليه على مساحة النص ولجميع الشخصيات. وهو بيان واضح للنصوص كونها نص واحد إنما بسياقات متعددة وليست مختلفة. حيث صفة التشابك غير مرئية في النصوص التي تبدو متفرقة، إنما هي واحدة بعد قليل من التأمل. تلك هي تقنية بارعة بالروي بل إكتشاف حداثي مثير. وهذا الأمر على نحو الخصوص يضعنا على مشارف البناء القصصي الخاص لمحيي.

البناء العمودي وصفة الإبتكار غير الملزمة تجعل مهمة الكاتب عسيرة ومرهقة فهو مجبر على أعادة الخيط الحريري إلى القارئ، كصفة النسيان، والإستذكارات، والإحالات، ذكر "الراية"، و"الحديقة" في قصة (كإبة بيضاء)، و(القحف) في قصة (فاكهة الغرباء). حتى طريقة الروي التي يقترب فيها الكاتب من حالة الشخصيات كأن يقطع القارئ فيحيله الى "فيما بعد"، كلها لبنات درامية مشغولة بأحتراس وضبط. ولا أخفي هنا صفة الارهاق الممتع الذي يجعل القارئ يتنهد ويقول كمشارك (لماذا لم ينته من الأمر دفعة واحدة)، لكنه يعود فينصف الابطال والكاتب بعد قليل. اي بعد حدوث الانقلابات والعودة. هنا يكون محيي قد قدم أنموذجا عموديا للكتابة، وتفكيكا محمياً من حيث الجوهر. يستخدم عناصر الفضاء الكتابي أو القصصي فيظهر بأكثر من مكان ويتصف بأكثر من حالة، ولا اجد هنا أميز من جملة نقدية تفي بهذا الغرض للناقد الأستاذ ياسين النصير هي: «ترى أن المكان ليس حقيقة مجردة، وإنما هو يظهر من خلال الأشياء التي تشغل الفراغ أو الحيز، وأسلوب تقديم الأشياء هو الوصف».

في نص (كآبة بيضاء) يكشف الكثير من هذه المتعة التقنية. كذلك في بقية الحكايات حيث يترك محيي النص معلقاً كما رسائل (فهر-همام) لاحظ الأسماء في (نار لائذة بالخزف)، التي سأتوقف قليلا عندها، يكتبها (فهر) لنفسه على الأغلب لأنه أضاع لجامها بل يشطح إلى أبعد من ذلك إلى بؤرة تتساوى فيها فكرة الحياة والموت، "سأضع بين يديك، طبلاً وبوقا وراية ومجرفة وشيئاً من الكافور، أتريد ما هو أكثر؟"، -الطبل والبوق والراية للحياة، المجرفة والكافور إشارات للموت- يضعها على سبيل الهدية مع اشياء اخرى (لبيا) صديقة (فهر)، يتركها محيي عن قصد من دون استنطاق كامل، ذلك لما لها من طاقة ومخزون مفعم بالمرارة. تعيش (بيا) انشطارها وأختها (يتا) على نحو أشد التي يكون فصامها أشد خطورة بسبب عدم التوازن النفسي أو فقدانه على الأرجح للحد الذي تتدعي فيه -وهو زمن مفتوح- حيازة النصوص التي تعبر عن شللها بالتعبير عن نفسها رغم سلسلة نجاحاتها في حقول أخرى. لذلك نجد التنقل العمودي، حاضراً من الكتابة والقول والصياغة، ثم (الأرباض) الموزعة والمفقودة، والانتقال الى (السهر) وعدد من مواد الحياة الضرورية كالملح والفاكهة لتكون نهايتها مقام اللامي الذي اختاره لشجاه وعلى وصل الترحال والغربة لصالح الكويتي. ذلك من خلال كثافة حوارية داعمة للبناء ومثبتة للإنهيار المعنوي للشخصية.

ثم يخلص بعد جرعة الموت الكافية التي تتشكل على نحو آخر الاستذكارت المركزة تنتهي باستخدامات مشاكسة للحالة، مثل الـ (رازقي)، وجرأة الاستخدام المبتكر لدجلة (النمر)، الذي أعتقد إن الكاتب أراد أن يعلن موته بصيغة من الصيغ -ربما النمر كناية عن صفة الوحوش الضارية- أو يُشيئ خارطة العراق على نحو أسد في (فاكهة الغرباء). حتى ينتهي بناؤه العالي التكوين الذي أسسه على عناصر مفعمة بالتوتر والانحياز للفقدان إلى آخر رثاء على نحو دعاء رائع: «..من ضحى يوم شتائي في "التنومة"، وعن برتقالة واحدة تشي بسبعة من بساتين "بعقوبة"، اللهم ضوئ لنا بطيخة صفراء من رحبة النجف، وغرفة من الدرجة الثلاثين بفندق في "السماوة"، عند ذلك الفجر الموحش تحت سماء موسكو». ثم ينتهي حيث المنفى الأكيد ليعلن التشابه المر رغم جغرافية الجسد لينوء الحلم «أمام نواويس الزجاج وتوابيت الثلج»، وهي احالة عمودية رائعة لما كان وما آل اليه مصير الشخوص، وما ستؤول اليه ذاتها.

ويمتد هذا البناء على كامل النص فنجده يشق فتنته في (الدور الأخير) بنفس التنقل بحرفة بديعة لا تجد ما يتعثر به عند قراءتها. حيث الصدمة الحادة للبطل بين -الفجور والتقوى- لينتهي بومضة إنسانية على كرسي وظلام أكيد لامناص منه. فلم يسعف (بجير) ترحاله والجغرافيا ولا ملجأه، فبقيت روحه عليلة محاصرة بالإنشطار -كما بقية اللابطال. وربما الانشطار الأوسع نجده في حكاية (حسب انغمار) سائق القطار، حيث الانتقالة البحرية-المائية بواقع الخشبة والبرتقالة وإسقاطها على نحو عمودي هائل ومرهق ومقلق بدخول النص الى حيز الوصف المشحون بالخيبة من خلال استذكرات -خضر الياس- المهرجان المائي العراقي. يكون فيها النص مأخوذا بـ «بالبسملات والوصايا والرجاءات وبالشموع المضاءة على كرب النخيل وصفاح الشجر...». ترك الكاتب نصه مفتوحا قابلاً للتأويل فيمكن الجمع فيه بين طقوس وعادات مختلفة غير مختصة بجماعة محددة. وهذه الخطورة أو المجازفة لو لم تكن مشغولة بأحتراف لأنهار بناء النص العمودي وسقط الحدث قبل أن يبدأ، كما يحدث بصفة اقحام شواهد المثلوجيا، التقليد والفلكلور في الكثير من نصوص الكتاب- شعرا ونثرا.

نجد نفس البناء بأحداثيات روائية يتكرر في (فاكهة الغرباء). لايمكن التقاط لبنات التوازن قبل معاينة النص كمادة بثيمة روائية طويلة، اختزلها الأشيقر ببناء يقرب من المغامرة، فهو يتخطى الخط الأحمر في أكثر الأحايين. حيث يتوزع النص على مساحة حكايات كثيرة، جميعها تشكل مداخل فصول روائية. يمسك محيي الأشيقر بتلك القطع (بملاط) مشترك من اللغة اليومية والدرامية فيكون قد أعطى هيئته المسندة الى وقائع صريحة ويعيد للحكايات هيبتها المنسية بلباس يقرب الى براءة طفل على لسان بطله. تأتي تنقلاته التي اصفها بـنقلات أيل الشمال، مطابقة ومتوازنة مع صفة إرتباك الشخصيات، وخصوصا بطل الحكاية الذي يركن كآباته ليسحل جوقة من الأبناء في عربة مع مهدأ ما تيسر له من كحول بنسب متفاوته بعربته. يعري هنا الكاتب صفة الخوف لدى العراقيين على لسان بطله، «انا لا أخاف أصلاً؛ والعراقي لايخاف عموماً! هذا (مو كح شيلمان)»، وهذا بتقديري ليس عامل شجاعة بقدر ماهو صفة للأكتآب. هنا ينتهي محيي الأشيقر، أي في حكايته الأخيرة، إلى الكشف المطلق لقاسم قصصه المشتركة المرهقة، الحرب، الدمار، الخراب، الإنكسار واليأس، وكأنه يضع النقاط في أماكنها بعدما كان يضعها بأكثر من مكان على مساحة النص، الذي افادنا بالخيبات والعقد. فتأتي خاتمته كطابع أخير يضعه على سلسلة جهده المميز لكل الشخوص فيكشف عن صفة الرثاء الحر ببطل دون قناع. بطل يومي بتحكم عالي لعناصر كآبته وتشظيه، يقفل عليها متى يشاء. ولعله البطل الوحيد لدى محيي المسكون بصفة المشاكسة على نحو أوسع. الأوسع هنا باب الخيارات، ربما تشاركه بطلة أخرى في نصه (كآبة بيضاء)، حيث تتركه البطلة مع احتقار ماضية بحركة «أتلعت شعرها القمحي الطويل والسبل من ياقة معطفها الأسود، نافضة اياه بقوة فرس خارجة للتو من الماء، وراحة كفها مرفوعة بثبات تومئ بضرورة أن أمضي مع...السلامة، وهي تثب الى الحافلة». وهو بهذا النص أي (فاكهة الغرباء) يصل الى اعادة انتاج الشخصيات أو النص كوحدة متكاملة على نحو قصص بطل الحكاية المسكون بأكثر من حالة وشخصية وينطوي على أكثر من مشكلة وعقدة، وكأن الكاتب يقدم ملخصا سخياً يعتذر به للقارئ على تيهانه في خصام الشخصيات، قلقها وإثارتها، تكسرها وتفتتها. وهو بذلك يقدم فتحاً وكشفا لحساب لم ينتظره القارئ. حتى آخر فقرة على لسان بطل الحكاية «يشعر السامع بوجود كائن ما معطوب بمرض خطير»، يصدر عن لعبة على «شكل افعى من نوع الكوبرا. لها مكوك يُشغل ببطارية»، ويدعو مرافقه-قارئه «اشرب نخبي وصلنا مالمو». لكن الحكاية تستمر.

ومن حيث اللغة؛ يستخدم الكاتب لغته الشعرية من غير اقحام أو إيغال بالإنشاء غير الداعم للنص. وكثيرا ما نرى إسترسالاته اللغوية تنقطع مع رغبة القارئ بالمزيد من الضخ الجمالي. والأميز هنا هو القدرة التوليدية للجملة الشعرية في الألسنيات، وهنا يفرض تشومسكي حضوره، فمن اي لفظ يمكن ان يصار الى انشاء منظومة لا حصر لها، حتى يكشف محيي عنها في بعض المواقع «اظن كلمة (مقبلة) في آخر الجملة الفائتة أجمل وأكثف من كلمة مستقبلية)، وهي مفردة محببة في اللغة...» او «نثيث مهج..» جهاز=كتاب، حديقة = شرشف، حتى خريف الكلمات أعاد له محيي رشاقته الجمالية من حيث الرسم واستخدام المعنى، كأن يستحظر عددا من الكلمات والأفعال التي يصر على تداولها لجمال رسمها. عموما تلك المعرفه تقوده إلى تفرد تتصف به جملته. يلجأ أحيانا إلى الصفة التدويرية حتى لا يقع بفخ الاسهاب وملاحقة جمالية النص فحسب. فيظهر الروي الشاعري مقطوعاً ومتداخلاً بالحدث للتقليل من عسلية اللغة، لكنه يبقي على سلامة الروي والإنسياب الجمالي الهادئ على جميع المستويات.

اعتقد بهذا المعنى إن محيي أنشأ نمطاً كتابياً من حيث تركيب الجملة بما يضمن لها سوية المعنى والجمال بوقت واحد، ويضيف اليها صفة الرشاقة والإناقة فتبدو عبارته ذابلة-عاشقة-شاحبة-وجريئة. انه بهذا المعنى يبدو في أدبه وكأنه يقتفي فروع الشجرة في مختلف فصولها بانسياب لوني مميز. انها طريقته الخاصة بعرض النص بين الواقعية والتصويرية والانطباعية بلمسات وضربات موجعة. أما نمط الإنشاء المستهلك فهو أبعد ما يكون عن نصوصه، فهو يحمّل جملته ضخاً مركباً بالتشكيل مع رسم الحدث الذي هو بصدده، أزعم إن أي قارئ سينصفني بل يلومني بأني لم أقل كل ما اعرف بهذا الخصوص -أتركه للتعبير عن نفسه- بجماله المؤلم حقا.

آن الحداثة والابتكار ميزتان تؤهلان جهده الإبداعي لأن يتربع مع كبار كتاب القصة وله حيزه الخاص غير المنافس لكنه يحتل مكانته بهدوء. فهو يقدم نموذجا قصصيا رائدا بحداثته من جوانب مختلفة، لا أشك إنه سيكون اثراً يقتفيه مبدعون شباب اخرون بأضافات جريئة اخرى.

تمتاز نصوص الاشيقر بطريقة عرض باهرة تتخطى المألوف في الكتابة من حيث كثافة النص وتركيز المعنى والنحت الرشيق. يكون الدخول الى عالمه صعباً بعض الشيء، لكنه يترك فسحة من المواربة على تفصيلات ذات علاقة لكنها تبقى خفية. وتتميز بقدرة فائقة على الإمساك بجوهر المشكلة، وهو بذلك -الكاتب- يترك الخيار للقارئ أن يتفحص النص كقطعة واحدة أو كل مستوىً على انفراد بشرط الدراية الحساسة بالنسيج الروائي الحريري- الخيطي. يمتاز النص كذلك بصفة التركيب والشخوص المعقدة وسمة تشكيلية متفردة، مترعة بشتى مكنونات الجوهر الأنساني الذاهبة الى مصائر مجهولة، بأغلبها مفتوحة على إحتمالات كثيرة في جهد المبدع محيي الأشيقر. مجموعة (سوسن أبيض) تعد رائدة باكتشاف زمن جديد بين الزمن الفعلي والأفتراضي.

كلمة أخيرة؛ هذه مساهمة متواضعة، فلم أكن ناقداً أدبياً سوى أني درست النقد منذ زمن الدراسة كمادة علمية من بين مواد الدرس. لذلك أستميحكم العذر فيما لو أخفقت بذلك. لكني بكل المقاسات أضع هذه المادة بمرتبة التحية للقاص القدير محيي الأشيقر.



#هاشم_مطر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أصدقائي والخريف
- «كيفك انت» :الرسالة التي تذكرها صاحبي
- مجزرة النرويج وفكرة المواطنة لجيلنا الثاني


المزيد.....




- مصر.. الفنان محمد عادل إمام يعلق على قرار إعادة عرض فيلم - ...
- أولاد رزق 3.. قائمة أفلام عيد الأضحى المبارك 2024 و نجاح فيل ...
- مصر.. ما حقيقة إصابة الفنان القدير لطفي لبيب بشلل نصفي؟
- دور السينما بمصر والخليج تُعيد عرض فيلم -زهايمر- احتفالا بمي ...
- بعد فوزه بالأوسكار عن -الكتاب الأخضر-.. فاريلي يعود للكوميدي ...
- رواية -أمي وأعرفها- لأحمد طملية.. صور بليغة من سرديات المخيم ...
- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم مطر - سوسن ابيض للكاتب المبدع محيي الأشيقر -البحث عن زمن جديد-