أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم مطر - زهرة















المزيد.....


زهرة


هاشم مطر

الحوار المتمدن-العدد: 3700 - 2012 / 4 / 16 - 12:43
المحور: الادب والفن
    


«حكاية امرأة لم تغادر»
فيلم للمخرج محمد بكري

مساء رائع جمع العراقيين الديمقراطيين من المهتمين بالفن والثقافة، لبوا دعوة تيار الديمقراطيين العراقيين في الدنمارك لحضور الامسية الاحتفالية بالفنان محمد بكري.
في الثاني من نيسان لبى الاستاذ بكري مشكورا دعوة العراقيين الديمقراطيين لأستضافته وتكريمه وعرض فلمه الموسوم «زهرة» الذي يحكي قصة أمرأة لم تغادر ارض فلسطين، زهرة، المرأة الطيبة-المشاكسة كثيرة العناد والصبر، فكان نتيجة رفضها البقاء في مخيمات اللاجئين في لبنان اجيالا من الزهور ملأوا حياتها واصبحت بنكهة السلام الذي ينشده الفلسطينيون في كل مكان. منهم من تعلم في الداخل والخارج ومنهم من عمل في مناحي الحياة حاملا هويته الفلسطينية اينما حل.

وفي اللقطات التي تظهر فيها زهرة في الفيلم -وهي كثيرة- بوجهها المنير الطافح بالارادة والعينين الرائيتين، تبدو اشد تمسكا بأرضها وهي تستفيض بالحكايات عن تاريخها ومجد آبائها. تستخدم اللهجة الدارجة بسرد الحكاية، ولا تنسى أن تُذكر الجميع بالحق والواجب وتزرع في نفوسهم جذوة المحبة والعطاء. فتجد الاخرين ممن قابلهم مخرج الفلم وممثله محمد البكري بذات العزيمة-اللوثة التي ارادت لها الحاجة ان تحيا في نفوسهم وضمائرهم.
المحبة هي ثيمة الفلم الرئيسة التي عولت عليها زهرة لتكون رابطهم الأبدي، وهي الكلمة السحرية التي سيتجلل رضاؤهم بضيائها. بسلسلة من الوصايا والاحداث المرافقة لأناس لم يغادروا (البيوت) ومزارع الزيتون والهضاب المطلة على أجمل أرض، أوصلت زهرة رسالتها من دون ورقة وقلم ففاقت أعتى المحللين والادباء بوضع البدايات والنهايات باحداثياتها الفطرية، محولة الوهم الى حقيقة والحلم الى واقع.

ذكرتنا الحاجة زهرة نحن العراقيين بأمهاتنا من الباسلات اللواتي كن يوصين أبناءهن بالعودة إلى أرض العراق فهي خير البلاد وأولى بهم من أية ارض. هذا النسغ المتصاعد من ذاكرة الحاجة زهرة فاض بمعناه الدرامي فكان بكري خير من تصدى له وجعله في خابية من النور الفياض كخوابي زيتون بلدته، وهو يعارك سبعين دقيقة من انتاج رائع باهر، لم يترك الواقعة تفلت منه تحت مغريات اللون والصورة والمنظر ولا حتى العبارة الانيقة وفداحة الألم الذي فجرته الحكايات. تلك التداعيات التي ذهب القائلون لتفكيكها وفق وقائع تاريخية بعضها موثق بعمر الزمن الذي عاشوه، كما في تشكيلهم أول جمعية مشاعية للشيوعيين في فلسطين بعد التهجير. ورصدوا عالما من المرارة رافق سيرتهم وبأسهم ومقارعتهم لمظالم الاحتلال.
التقط المخرج أول ليلهم بفاتح فلمه عن عودة الحاجة الى قريتها في ليلة مرعدة-ماطرة ثم نغم حزين (يطولوك ياليل ويقصروك ياليل). انه الليل الذي يطول ولم يستطع أن يلغي وجودهم على أرضهم، فكانت ثمرته صورة الأجيال التي تناصت وتكررت على وقع الروي (التاريخ يعيد نفسه) إنما بصورة أعمار تفاوتت وثقافة تجذرت وإرادة تصدرت جميع همومهم. ولتلك الأجيال أهدى المخرج فلمه (الى أولادي وأولادكم).
بتقديم موصول بالنهاية ينطلق صوت الراوي مع صورة بيت الخالة زهرة متبوعاً بأخرى لوجهها المنير وصورة الأجيال الجماعية التي لم تكتمل -رغم محاولة المخرج مرتين لجمعهم- كتعبير عن انشغالاتهم وانخراطهم بالحياة، «هون خلقت خالتي قبل ثمانين سنة وربتنه». يبدأ أولى مشاهده بالأرض المعطاء، وبداية الحياة في القرية وبساطة اهلها بفاتح تزويج زهرة من إبن عمها حسن الذي سمع كلام ابوه «بدك تتجوز زهره مافيش غيرها» الفتاة البسيطة التي كانت تخاف الزواج. واصل الراوي بعدها عباراته الانيقة البسيطة بتزامن مع روح المغامرة بالبقاء مع نتف الحكايات فكانت الروعة بتكامل المشهد الحسي السينمائي الذي أسر المشاهد وقدم الحكاية على طبق الذهب الذي جعله محمد البكري من مقتنيات الحاضر.

تعرض الفيلم لإشكالية الارض والوجود والانتماء مرفق بالحب وفق حس درامي-مغامر لا يعبأ بالقصاص الذي ناله المخرج نفسه قبل الفيلم ذاته. كانت طريقة كفاح مبتكرة جعلته في سلم الريادة وهو يفكك الوقائع ببساطة مذهلة، يمتلك حسا فنيا راقيا وقضية لم تغب عن ذهنه، فيعود للمفصل-المشكل وقت الحاجة. كان ذلك بسلسلة اللقاءات مع اناس عايشوا الفترة واجيال ولدوا بعدها وكأنهم من بيئة سطوة الرحيل ذاته.

ذاكرة المكان لـ زهرة عثورها على دارة الحاج ابو حميد ولم تعثر على بيت سيدي محمد بكري الذي تحول الى مصنع مهجور. واصرار المخرج ان يتتبع أثر رحيلها الأول لتتلمس عدسته سطور الحياة على وجه الحاجة زهرة مع استرجاعها الذكرى التي طحنتها الوقائع، لكن مهما تغيرت الملامح فالانسان باق في ارضه يورثها الأجيال. بدا من العودة في مخيم في لبنان مصحوبا بعبارات التندر على اللاجئين «ينعلك هل الوجه مثل وجه اللاجئ» والاصرار على امتلاك هوية تثبت وجوده في أرضه. ذلك التتابع المثير والاسقاطات المفاجئة من قبل المخرج لمشاهد جديدة في غزة وقنابل فسفورية -من دون ادانة عربية- واضحة لجرائم القتل، نشطت الذاكرة كما اليهود انفسهم بسوقهم الى عنابر الموت -انه التاريخ الذي يعيد انتاج نفسه- على نحو غبي. ذكرنا المشهد نحن العراقيين بجريمة مماثلة للكتلة البشرية من (الاكراد الفيليين) في عهد صدام وابعادهم عن ارضهم الى ايران ومصادرة ما يملكون واعتقال شبابهم وقتلهم، كما يظهره الفلم بتقسيم المهجرين وفق الأعمار يعتقل الرجال منهم كما (عمي محمد) ويقتل شباب اخرون، «اخذوهم صفوهن ورشوهن» اربعة شباب حفظتهم الحاجة زهرة بالأسماء والانتماء -من بينهم مسيحي- واحد. الكرد الفيليون كما الفلسطينيون شعب مستباح بلا ارض وان تغيرت (حكمة الزمن) تبقى ذيول الجريمة بوقعها واثرها اشد مرارة من الجريمة ذاتها على الاجيال.

حكايات الاصرار يوجزها المخرج بارادة المرأة التي ولدت لوحدها، قطعت حبل المشيمة بالحجارة «لفته وحملته ومشت» تقول الحاجة زهرة، حتى انها تجاوزت بخطاها الاصحاء الذاهبين الى المجهول، «فاتتنا وضلت ماشية» ترى بماذا كانت تفكر تلك الشابة في تلك اللحظة وهي تغادر وحدها؟!.. يرفق المخرج مشهده باسقاط مفاجئ بمشهد الخنزير الذي يقتل وتنهشه الكلاب سوى انه يقيم في جبله؟!. انه مشهد درامي محمول بسطوة تعبيرية هائلة وضخ تساؤلي غير مسبوق. انه ادانة مزدوجة لأحقاد تاريخية-دينية التجأت الحاجة زهرة الى تفسيرها وناهضتها بكرم ضيافة العائلة المسيحية في «كفر سمير» العائلة التي آوتهم واطعمتهم، كذلك في وقت آخر كانت عائلات من نفس الطراز تخفي الفلسطينيين المطلوبين والمهددين بالقتل. ومن نتف الحكايات التي تأصلت بالارض والتي ولدت من رحم قرية صغيرة اختار المخرج سيرتها لتكون مادة فلمه، اكدت وقائعها الغريبة بالحصول على الهويات للكل. قرار واحد يرغم السلطات ويضمن الحقوق، حتى تخلص جميع النصوص الى عبارة اثيرة «ان قرية البعنة انقذت الجليل»، ويختم المخرج مشهده بأثارة شاعرية-عاطفية لقصيدة محمود درويش (.... واطفالي ثمانية وتاسعهم...)، ويمهد من بيئة القصيدة والشعر الى مشهد آخر في عصب الفيلم يُظهر مدى تعلق اهل القرية بأرضهم والعمل على حد سواء. انه التعبير الموجز لإرادة البقاء ولي عنق المستحيل. حيث يتابع المخرج تفاصيل مهمة تتعلق بالعمل والشقاء والبقاء. ويخلص الى ايجاز تأملي للحاجة زهرة بزيارتها محجر زوجها ووقوفها على اطلاله «بين مدة ومدة خالتي زهرة تجي لهون يمكن عشان تستعيد احلى الذكريات». ايام كان زوجها يمتلكها سبعين محجرا على نفس الأرض، «عاشوا منها اهالي البعنه والدير ونحف»، لحين مصادرتها بكل السبل التي كان يجانب فيها الاحتلال الحقيقة وسبل سرقته الأرض وإن كانت بإثارة الفتن بين الاهالي.

وفي عالم المتغيرات الجديدة وبانتقالات من بنية السياق نفسه، يبرز عالم التحدي العلمي باصرار (عمي حسن) على ارسال ولده الى موسكو ليصبح طبيبا، «كيف ما بعرف» يقول محمد الإبن، لكنه يسافر رغم تهديد السلطات بقتل والده، الذي يحصل فعلا على اثر تسمم مفاجئ. هنا الكثير من الكلام اوجزه بالانتباهات الدرامية للمخرج والتقاطاته الخادمة للفكرة، فمع وصول الرسالة رقم 44 الى الابن من والده الذي كان يرقم رسائله تحسباً لمصادرتها، يكون (عمي محمد) قد غادر الحياة فيحل ابنه العائد بصفة الجيل الجديد بصحبة زوجته الروسية جنيا وابن لهما، «واقف اطلع ادور عليه وسط الناس» يقول محمد، رغم معرفته المسبقة بموت ابيه!. وفكر بتهديد بن اسحق له «من ترجع متلاقيش ابوك». هنا لي كلمة عن التعامل مع الفقدان الذي يتلبس محمد وكأنه يرفض اية مغادرة حتى وان كانت واقعا، بطبيعة الحال مصحوبة بتأثيرات عاطفية استطاع المخرج توظيفها بمشهد رائع من خلال انفعالات عميقة تجدد الحدث، وتجعل الحكاية حية طليقة وليست كسلسلة ذكريات هائمة.
بمعنى اخر القدرة على المزج بين التوثيق والمعالجة السينمائية والنظرة الروائية. يتركها ثم يعود لها بصفة التوالد المستمر للأجيال ويختمها بمصائر ابطاله المختلفة مع الكثير من الإصرار، رفيقة التي اعتنت بالعائلة ورفضت عروض الزواج الكثيرة، «انا عندي اولاد اثنين» وآثرت تربية اولاد اخيها، بكري المحامي الناجح، وحسام الذي يتباهى بثمرة عمله في مطبعة الاتحاد ويكشف اضابير الجريدة التي طبعها بأصابعه وربما مايزال يوزعها، مازن العامل الإجتماعي، ورفيق الصحفي السياسي-الشيوعي الملتزم والمحرض الناجح، سميرة المتعلمة العاطلة عن العمل، محمد الذي تدمي قلبه الذكريات لكنه في قلب الاحداث والعمل والحياة فيتزوج من ابنة عمه ويخلفان جيفارا. وابنه حسن الذي يتعلم الطب في نفس جامعة ابيه ويتزوج من ابنة عمه فاطمة ايضا. هذه الوحدات الحياتية يضعها المخرج في صيغة «التاريخ يعيد نفسه»، انما بصفة مشرقة وعلى نحو لواحظ من الامل والتفاؤل. ولم ينس المخرج ان يضيف لمسات انسانية رائعة لـ جينا التي تعالج المرضى مجانا لارضاء ذاتها كونها روسية منتمية لقضية زوجها حتى رحيلها المبكر فتدفن بأرض (اهلها) الفلسطينيين حيثما انجبت إبنها الثاني. اعتقد هنا انه كان بإمكان المخرج ان يستفيض اكثر عن حياة جينا في فلسطين، ذلك لكونها تشكل عنصرا روائيا هاما من فكرة الهجرة ذاتها مع دلالات الانتماء الجديدة اضافة لانتاج جيل متلاقح من مجتمعين مختلفين.

تلك اللمحات الدرامية تشكل من حيث الواقع ثيمة راوائية بذاتها. تشارك الام، أي الحاجة زهرة، نفس احساس ابنها فتعكف على زيارة قبر زوجها يوميا، وفي الايام الماطرة تأخذ (البلاستك) تغطيه حتى سمعت زهرة في احدى المرات كلام ام علي أمينة «الميت زي الميات (الماء) اللي ينكبوا تعرفي تلميهن»؟!، فغيرت اسلوب حياتها، وجاء سردها للحكاية مفعما بالعاطفة واضح المعالم عظيم بتأثيره الواقعي،. فأستأذنت زوجها الميت على الغياب وباعدت زيارتها القبر حتى اصبحت مرة كل اسبوع وكل شهر وكل عيد، ثم الى وقت غير معلوم. اختارت الحياة: خوابي الزيت والزيتون والحقول واشترت عنزة تدر على العائلة بالحليب وتلد كل عام توأم!. انه مشهد اخر يذكرنا بالرواية الماركيزية العظيمة بتجدد الحياة والخير الذي يتدفق، والبحث عن مخارج لها تحت وقع الحيف والمظالم وتعاسة الاحداث. لم تتسع حياتها لغير ما ملكت يداها كما لم تمتد الام في رواية ماركيز الى الكنز العظيم رغم حاجتها فهو ليس لها حتى يذهب هباء.

سجل الفلم مقتناه الأثير بالحفاظ على الارث الثقافي والمعرفي الفلسطيني وفسر بقاء اللغة الأم رغم عتو الثقافة البديلة. تلك الازدواجية المريرة التي يعيشها الفلسطيني داخل ارضه ومغرياتها العطرية مجملة المظهر، وجدت مضونها الهادئ بحركة الاجيال الذاهبة للمدارس والجامعات فرسموا ملامح جيل الأمل وليس الهزيمة كما قيل عنهم.
ومن حيث الموازنة كان الفلم بارعا في قول الحقيقة احيانا بصمت الكامرا ووجوم الوجوه والتأمل، ومن جهة اخرى وازن بين الواقع والرغبات. فالجميع يحاول ان ينهل من منهلين: الفلسطيني وواقع الارض. الكل يتعلم الكل يعمل والكل يرفض طمس الهوية. ومن ناحية الموازنة الفنية جاء متكافئا بين الروي والرواية وصدق الواقعة، اضافة الى نجاح المخرج بجدلية الاحتراف والممثل اليومي لشخصياته التي تلبست الدور الذي اراده لها من حيث الحرفة والاتقان. هنا لابد من القول بأن جميع الشخصيات ادركت موقعها في الفلم كعناصر محركة فاعلة وليست طارئة. اتقنت الدور حتى بزيها ومظهرها البسيط من دون اقحام يثير البهرجة والتنافر.

المهنة الشاقة التي اختارها البكري كانت عصية على الاحتواء فجاءت رسالة الرفض تجلل صفحة الفلم حتى النهاية. لا أستطيع أن أخفي قلق المخرج وهو يستخدم عدته بجعل الفلم مقبولا عالميا، وبنفس الوقت من دون مأخذ عليه بالتحريض المباشر. اضافة الى ظروف الانتاج التي لا اعتقد انها من دون رخصة رسمية من السلطات، مع الأخذ بنظر الاعتبار التقنية المبسطة بكامرا واحدة كانت كافية لرصد المشهد من زوايا مختلفة، وهي إن قارناها بواقع الأمر نرى ان مداخل الانتاج رغم صعوبتها ممكنة. وهي القاعدة التي اعتمدها مبدعون فلسطينيون كـ أميل حبيبي ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم. هذا الأمر يربك سلطات الاحتلال اكثر من البندقية ذاتها. وهؤلاء سكان ارض الفلم الأثير يأخذ بأيديهم المخرج، يستخدمون المتاح بأثراء حكاية الحاجة زهرة عن الارض والوطن والاجيال ويوصلون رسالتهم الأثيرة من دون ضجيج.
اين نصنف الفلم: أينما نصنفه اكاديميا فهو يحمل الوجوه جميعها، وهذه الصفة هي صفة عصرية محدثة للانتاج السينمائي لا تخلو من المغامرة حيث المدارس الحديثة تتصدى للمشكل بارهاق الفكرة وليس العكس، وتعتمد على اخلاقيات السينما الجادة الحديثة بتقديم وجبة سهلة الهظم عظيمة الطاقة تعتمد الواقعة في ثناياها. ربما من المهم هنا ان نشير الى تجارب مذهلة للرواية الحديثة التي احدثت بجرأتها انتقالة رائعة بالسينما من خلال طريقة المزج بين المتخيل والواقع حصلت ثلاث منها على جائزة نوبل خلال عقد ونصف.
من هنا ادرك المخرج تلك المفاصل فعكف على صناعة جديدة لاتخلو من المغامرة -كما بعض الشعراء والقصاصين العراقيين المحدثين. فهو على شفى الفشل فيما لو افلتت من كامرته-عينه الرائية ومضة عين، او ان يكون قد اخذه واربكه مغرى وجوده المكاني وطيب الاحاديث، التي لا اشك انه شذبها وقطعها لسبب واحد هو ان تكون في مرأى الحقيقة من مشاهدي الفلم. بمعنى آخر جودة الصناعة وقوة الفكرة وتوظيف الحدث، حتى وان افتقد الى عدة تقنية متقدمة. ربما من المفيد هنا، التذكير بالفلم الكلاسيكي الرائد (المدرعة بوتمكين) للروسي سيرغي أيزنشتاين الذي اعتمد مشاهد تعبيرية مذهلة باخراجه الفيلم، حتى أن المنتج البريطاني «جون جيرسون» وهو من أشهر منتجي الأفلام التسجيلية يقول (إن حركة الأفلام التسجيلية البريطانية ولدت من آخر بكرة لبوتمكين). وما مازال الفلم يدرس في معاهد السينما العالمية المهمة.
هذا بمجمله اضفى على فيلم البكري صفة العالمية ذلك ليخرج عن الطوق الذي نحاصر فيه منتجنا محليا ويكون فقط مثارا للتداعي والحسرة. هنا لابد من القول ان محمد البكري يعرف بدقة مواصفات الانترفيو السينمائي فهو يعرف عما يبحث وما يريد، لذلك لم ترهق مشاهد الفلم بالضخ الاعلامي الممل، يقطع بأداته السينمائية الاحاديث ويلحقها بصورة الواقع ويكملها بومضات سريعة لأية فكرة تخدم المشهد.
مشاهد الروي جاءت في بنية السياق السينمائي، فلا تجد ذلك التعثر بالجوهر ونقل المشهد، وان ابتعد المشهد فهو يمهد له بتلقائية تبقي على الاسترخاء بانتظار الجديد القادم. وهذه الصفة هي صفة مهنية تمتاز بها الصنعة المتقنة كالنجارة والحدادة، بأضافة لمسات جمالية بحرفية متقنة تتصف بالابهار، خالية من التزويق والبهرجة، وهي معادلة صعبة بحد ذاتها تقع فيها غالبا افلامنا المحلية من ذات الطراز.

قصة الفلم: هي فكرة لدى المخرج تماما كما ظهر في ملحمة اميل حبيبي الخالدة التي تعد من عيون الأدب العربي. فهو يغامر بالنص من اجلها، لكنه ينجح ويكتمل بالمحمول الروائي. وبجنوح بسيط الى المسرحية التي قدمها (المتشائل) قبل يومين من عرض الفلم، نجد ان محمد بكري يقتفي الأثر نفسه الذي شغله على مدى اكثر من 500 عرض باللغتين العربية والعبرية. هذا المخرج المطبوع، ولا الغي عنه صفة الاكاديمي، انما اقول هو موهوب من حيث الحس الانساني وروعة الفائدة التي يجنيها من نتاجه ويهبها للمشاهد، وان لم يرسم الخطوط بفرشاة الكلاسيكي انما يظهرها ببراعة وروعة الانطباعي الباهرة.
ماحدث في العرض المسرحي من تلقائية مبهرة يظهر خلفية المخرج الاكاديمية، متنقلا بين المشاركة والتغريب والحد من الطرفة بالرجوع الى العقل والتبصر، للحد جعل المشاهد مشاركا ومعترضا في العرض، واداة في تكوين المشهد الدرامي. وهذه الصفة البارعة بالإدخال نجدها في الفيلم حيث يدخل التفصيلات بعفوية اعجازية مثيرة، وهي المكونات التي تعترض طريق الكامرة صدفة من حجارة او طبق او (بصل محروق) او تساؤل او حتى الحاجة زهرة نفسها التي اصبحت بعد لحظة ممثلة بارعة تفهم لغة الكامرة، واجزم ان محمد بكري لم يطلب منها القيام بأي دور، ولو فعل لفشل. حتى في احد المشاهد وهي تروي تنتبه الى اختلاجات المخرج وانفعالاته فتقول له «شو كانك تبكي عليه». تلك الحاسة المصحوبة بالمعرفة جعلت من الفلم كتلة لونية، ناطقة، وابداعية ملهمة، وظف المخرج من خلالها صغائر الاشياء لتخدم ثيمة الفلم وهي المرأة التي لم تغادر عشها المبلول المهدم، بل عكفت على بناءه بسعي نحلة بدافع الحب.

تبقى هناك مشكلة أثيرة تتعلق بنظرة العرب الى فلسطينيي الداخل. فقد احتارت هذه الكتلة البشرية من أمرها بين الاحتلال والواقع، بين خيار البقاء والنقد اللاذع، بين حملهم لجواز سفر اسرائيلي ومواطنة مزدوجة، بين بقاء شقي وبين هروب. فاختارت جانبا آخر للقضية والحقيقة، فالأرض ارضهم فلن يتركوها ليعودوا الى المطالبة بها كما اليهود انفسهم قبل اكثر من الفي عام.

النص لو كتب بصفة روائية اجزم بأنه سيكون سيرة فلسطينية-ملحمية ماركيزية على نحو مائة مام من العزلة». ولا اعتقد ان الأمر خافيا على واضع السيناريو. فبلاشك كانت بحيازته ثروة كتابية كبيرة تشكل مادة ليست اولية فحسب بل كافية لانتاج رواية رائعة. عدد كبير من الشخصيات الرئيسة والثانوية تتصدرهم الأم، هي الباقية من ارث الماضي وصلته بالحاضر، تجمعهم حكاية في مكان معلوم وامكنة ترتبط بالحدث ذاته وأزمان مختلفة-موصولة، سرد روائي وجزئيات جاهزة للتفعيل الفني، منافذ خيالية عظيمة. جميع تلك الاحداث والشخوص والامكنة تشتبك وتتوالد، وتنتج مصائر مختلفة. واذا ما اضفنا عوامل التأثير الاخرى- اقصد التفاعلات التاريخية كفعل بشري في الزمن مرفق بواقع السياسة والمصالح وانتاج بيئة معينة- فنكون قد وصلنا الى بنية رواية كبيرة.

ينهي المخرج الاشتباك بارساء ثيمة الفلم عن المحبة من خلال صور الاجيال وقصيدة جبران الأثيرة عن المحبة بصوت فيروز «اذا المحبة أومأت اليكم فاتبعوها»، التي اختارها بعناية فائقة ذلك لدلائلها المتنوعة والكبيرة ولما تحمله من معاني باهرة، ولعلاقتها الدقيقة بثيمة الفلم، مع اخر صورة لملامح جيل جديد حسن وزوجته أبنة عمه كتواصل رائع لاستمرار الحكاية مع مقاطع من الفرح تجمع الأجيال. ويغرق شاشة العرض بالسواد على مدى دقائق كرمزية تعبر عن طول الليل الذي بدأه بأغنية (يطولوك ياليل). وهذا حتما ما خطط له السناريست الذي كان يعرف نهاية الفيلم او كان قد وضعها فعلا قبل الشروع برسم مشاهده. الامر الذي جعل المخرج يلاحق الاحداث من دون ارتباك وعلى وفق معادلة صورية وموازنة تؤلف مادتها مشاهد متخيلة اولا قبل أن يبسطها على ارضية الانتاج. هذا الملمح الاكاديمي الصرف القادم من كلاسيكيات السيناريو يجهز المخرج بعدةٍ متاحة لتركيب البداية مع النهاية -وهي التفاتة اخراجية مهمة- بانضباط يختاره المخرج بحرية. ذلك انه يضمن حدوده فيتنقل بحرية. وعلى اساسه أسس لشخصياتة واطلاق مشكلاتها وازاد عليها، أكثره مخطط له وبعضه طارئ أنتجته بيئة العمل ذاته. هنا اعتقد ان السيناريو كان ينبسط امام مخيلة ترتكز الى الواقع والمعايشة وتستدل بمجسات خبير، بمعنى اخر ان واضع المشاهد خبر واقع التجربة معرفيا واثراها حسيا وهي من عناصر الإقناع الاساسية التي شكلت رؤيا المخرج باطلاق السيناريو للحياة. وعندما يرقى الامر ان يكون السينارست والمخرج مع ادخال شخصه (ذاته) بالصورة وصوت الروي يكون المخرج قد قبل التحدي والمجازفة التي تضعه على المحك وتسهل على (المتصيد-الناقد) امر التهامه بسهولة. هنا لابد من رفع القبعة لـ محمد بكري الذي افلت على متصيديه نشوة الصيد.

ما الجديد في الفلم، سيما ان القضية الفلسطينية عمرها بعمر (موسى)!. هنا يتعقد الأمر فيصبح كمن يمتلك شبكة يصد بها العاصفة او الغربال الذي يمنع تسرب خيوط الشمس. وكلاهما حاضر أي العاصفة والشمس. ترى الى أي مدى استطاع المخرج من توظيف الحكاية وتسخير ادواته بتقديم الجديد؟!. ذلك ما عكف المخرج على بناء لوازمه من دون افصاح مفضوح وأوصل رسالته التي تتجلل واقعيتها بامتلاك مشروعيتها من خلال خالته زهرة والاجيال المتعاقبة جميعها، وهو أمر سيكون مثارا للجدل لعقود أخرى، وهو الجرأة بسبر الواقع وامتلاك ادوات (العدو) بما يضمن سلامة الأجيال وحقوقها. فما معنى العودة من دون أرض وما معنى الدولة او الدولتين بغير سلام، وما معنى الكثرة من دون علم، وان حصل فإلى أين سيتجه الفلسطينيون وفلسطين؟! هنا المشكل اكثر تعقيدا لموروثه السياسي، بين النكسة والهزيمة بين التهجير والبقاء بين الاحتلال والارض المشتركة. سيتدخل السياسيون حتما لافساد جهد المفكر ورؤية المبدع بسحب الواقع من السياق اليومي. آثر المخرج ان يبقي على تلك التساؤلات حية يقظة بذهن الجيل الحالي -الذي اهداهم الفلم «الى اولادي وأولادكم»- ومن دون اقحام خيالي او التعكز على العاطفة ومرارة تجتر في كل مرة. اتمنى ان يسعف الوقت محمد البكري ومبدعين آخرين بأكمال مشروعهم الفني-النهضوي الجريء الجديد.

فلم يشبه صاحبه. محمد البكري مبدع عميق التفكير بسيط التصرف، وتلقائي (مزعج). فهو يربك المقابل ببساطته. لكنه يتحول الى العناد في المفاصل المهمة انما بروية وهدوء وبطريقة تسمح لمداخله من اتمام فكرته واستيعابها من قبله شخصيا. من ثم تسبق حديثه ابتسامة وحركة يدين وجسد كما المسرح لزيادة الاطمئنان وسلامة المدخل، فتكون افكاره منظمة ومنسجمة وبصلب الموضوع، لا يستطرد ولا يأخذه المعنى وتقبل واصغاء الآخرين له، يتوقف وقت المقاطعة ويكمل من اينما انتهى. اعتقد انها صفة اوربية-متحضرة انتقاها واسس لها. كذلك يظهر بالحياة مبتسما بعينين تتحسس ما حولهما من دون اي مظهر للقلق، يرتدي اللباس البسيط ويترك الباقي من المغريات. رأيته ينطوي على احزان لم يعرب عنها بعد. انه فنان وشخص ملفت (غرت منه).



#هاشم_مطر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سوسن ابيض للكاتب المبدع محيي الأشيقر -البحث عن زمن جديد-
- أصدقائي والخريف
- «كيفك انت» :الرسالة التي تذكرها صاحبي
- مجزرة النرويج وفكرة المواطنة لجيلنا الثاني


المزيد.....




- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم مطر - زهرة