أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أكرم إبراهيم - سقوط حر















المزيد.....


سقوط حر


أكرم إبراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 1490 - 2006 / 3 / 15 - 10:36
المحور: الادب والفن
    


أنت ـ لا شـك ـ تذكر تلك القضية . لقد قادتنـي إليك كغيرها ؛ أنت مثل رومـا ؛ كل الطرق
تؤدي إليك على نحـو مـا .
هل سبق لك أن اكتشفت أن المكان أو الزمان غالباً ما يكون عنصراً أساسياً في الحدث ؟ هذا ما حدث لي في هذه القضية ، فلولا خصوصية المكان لما كانت مشكلة على الأغلب . تصور معي ، ماذا يمكن أن يحدث لو أن الموظف كان صريحاً معك ، أو طلب منك أن تعود بعد ساعة أو غداً ؟ نحـن هنا أمام احتمالات لما سيكون عليه تصرفك . أمـا أن يمد كاتب محكمة يده ، وأمـام قاضٍ مشهـود لـه ، ويقول لك : هات خمسين ، فماذا ستفعل ؟ أما أنـا ـ والله ـ فلقـد كتفنـي كتفـاً لم أستطع معـه حـراكاً ، كل مـا فـي الأمـر أني وزعـت نظـراتي بينـه وبيـن القاضـي للحظـة ثـم دفعـت . "أنـت في الهيكل المقـدس فلا تمل إلى الظن الأثيم ، ولا تخدش الصمت الحيي " . كان الجو مشبعاً بالرهبـة والصمـت حتى ليكـادان يلمسان ، حتى ليكاد يصعب عليك التنفس من كثافتهما، أكـاد أشـم رائحة الشمع والبخـور والخشـب ، تلك التي ألفتها في الكنيسة صغيراً ، والتي كانت تبعث فيّ الخشوع والـرهبة ، رهبة من ذلك النـوع الـذي يبعـث الخـدر في كيانـك ويغريـك دومـاً بمعـاودتـه .
بعد قليل وقفت مرتعداً أمام القاضي في محكمتي الداخلية ـ المتجهم أبداً ـ وهو يخبط على الطاولة ويصرخ في وجهي : " لكنه وضعها في جيبه ، فأي الشاهدين تكذب ، بصرك أم بصيرتك ؟! فما عذرك وأنـت هنا لتطلب حقك ؟! كيف بذلته طواعية وأنت منذ أيام فقط كتبت إلى شبح منهم : ما الذي يتبقى لي إذا ما سدت في وجهي منافذ القانون ؟! إما أن أكون مواطناً بكل الحقوق والواجبات أو لا أكون أبداً . رد لي مواطنتي ... ثلاثون مراجعة بما فيها ما زادتـك إلا استفـزازاً . يا هذا المسخ ! هذه الخمسـون التي دفعتها أهم من ربحك الدعوى وأخطر ؛ هنا تتنازل ، وهنـاك لا حـول لك ولا قـوة ..." . لكنـي بعد قليل أيضاً وجدت نفسي أعطي المحضر ودون طلب منه ، بل وأعتـذر لأن ما أعطيته له قليل ، فأي هبـل هذا ؟! الكاتب أعطيتـه لأنـه طلب وأخـذت على حيـن غرة ، أمـا هنـا فمـا عـذري ؟!.
أنت تدرك أية حساسية لدي تجاه هذه المسألة ؛ فلقد أحسست أنني قوضت ماضي ودست قناعتي في لحظة واحدة ، أي أنني فرطت باعتزازي وفخري بخساراتي كلها ولم يبق لي من تلك المعارك إلا الخيبة والأسى . لذا مرت أيام من اليقظة والنوم وأنا أفكر وأتخيل وأعاني الأرق بانتظار الفرصة اللاحقة ؛ كنت أصحو وأنام على تنويعات لهذا التصور: إذ طلب الخمسين سألته : هل معك خمسون لأعطيك مئة ؟ وافتعلت حركة كما لو أني أخرجها ، وبعدما وضعت خمسينه ـ خمسيني السليبة في جيبي سألته : لمَ تطلب هذه الخمسين ؟! وإذ هم أن يقول شيئاً قلت : لا تتحامق وإلا قذفت بك من النافذة ، تلك الخمسون التي أخذتها سابقاً أهم لدي مما تخيفني به . وتوجهت إلى القاضي : سيدي القاضي!. قل لهذا الشاطر لمَ أنا هنا . وإذ لم يهدأ ، أغلقت الباب ، ثم عدلت عن ذلك وعدت إليه فسحبته من ياقته بل من أذنه خارج القاعة ... أما المحضر فليفهم أني لن أدفع له وليستمهل ما طاب له الاستمهال ، شهراً ، سنةً ، عشر سنوات .
لكن الخيال قد يخذلك أيضاً ، ومن الخطأ وضع تصورات مسبقة . فبدلاً من أن يطلب الخمسين سألني إن كانت الطوابع معي أم يلصقها مما عنده فأفاجأ ؛ إذ في المرة السابقة لم يكن ثمة طوابع . لم أسأله عن قيمتها ونوعها لأحضرها من المحلات الملاصقة - ولست ممن تخفى عليهم هذه الحركات ـ بل قلت : ألصقها مما عندك . وحان الوقت لأسأله عن قيمتها فقال : هي بعشر لكن لك بخمس وعشرين ، باين عليك درويش . كان من الممكن أن أعتبرها نكتة مثلك الآن ، لكن بعد كل تلك الفترة من الانتظار فلا ، عليّ الآن أن أفكر بسرعة : " الآن لا خوة صريحة ، وأما الزيادة في قيمة الطوابع فله كل الحق بها ، إنها تجارته ، لقد وفر علي عناء إحضارها ، ثم إنه نظر إلي بعين اللطف ". ماذا أقول ؟! لقد همدت سورتي ، فقط قلت : انتبه جيداً ... المحامي يستسهل الدفع لأنه لا يدفع من جيبه ، وأنا لست محامياً ، فقال : أعرف ، والله لو كان محامياً لا يأخذها بأقل من خمسين ولو نفخ روحه . لم يقل لو كنت ... بل لو كان ..." إنه يتحاشى استفزازي إذاً، لو استعمل تلك الصيغة لهيأ لي فرصة انتظرتها طويلاً ، كنت سأقول له : إنك تهدد برذالتك ، وهذا الكبرياء لا يعجبني ، والصراخ بمثل هذا الكلام يعني أنك مشوه بحاجة لتهذيب ، بل أنت ديك على مزبلته والرجل بقوة ذراعه ...". لكنني بعد قليل أيضاً كنت أساوم المحضر . إذًا أنا أموه لنفسي هوانها بعد عناء جولة بالكاد احتملته ، إني لم أجرؤ حتى على إحضار الطوابع خوف ابتداء جولة جديدة ؛ فلقد عشت سابقاً مشدود الأعصاب على شفا هاوية الجريمة ، وما إن انتهت القضية حتى أصبت بردة فعل ، أي إنني كنت في قرارة نفسي أتجنب الصدام خوفاً من العودة إلى تلك الحالة . فهل استنفدت طاقتي وعلي منذ الآن أن أترك مؤخرتي ملطماً لكل راغب ؟!.
في البيت رحت أنفخ ، وزوجتي التي اعتادتني مقطباً عابساً ، واعتدت ـ عندما أشذ عن العادة ـ سؤالها : خير إن شاء الله ، اليوم مبسوط ؟! تكرر سؤالها عما بي . ولأول مرة أجد أني راغب في مشاركتها هماً من هذا النوع ـ إذ كنت أتجنب تعليقها : " من يدك ، أنت غير شكل وشاكلة عن العالم " ـ قلت لها : دائماً أجد نفسي أمام اختيارين ؛ فإما أن أفقد عقلي وإما أن أفقد كرامتي . ولأول مرة تقول لي : لعن الله أولاد الحرام ، ماذا فعلوا معك ؟. عندها تذكرت قصتك القصيرة جداً ، وكيف أن زوجة بطلك خاصرته من النافذة إلى السرير ، فأيقنت أن بعض القصص ليست من بنات الخيال ، بل هي بحد ذاتها زفرة . وتساء لت عما تراه كان يجول في خاطرك وأنت تقف على النافذة ليلاً ، وعما تراه كان خلف نفخاتك المدوّمة ـ نعم هي نفخاتك أنت وليست نفخات بطلك ـ هل قرضت إصبعك بمطرقة ؟ أم ابتليت يومها بضيف غبي نفّاج ؟ أم اندلق عليك سطل ماء وسخ من الشرفة ؟ أم أن جيرانك اقتلعوا شجيرات الورد ليزرعوا النعناع والبصل والبقدونس ، فعكروا بذلك متعتك بفنجان قهوتك الصباحي ؟ أم أنك كجاري شاهد برنامجاً تلفزيونياً بالأبيض فقال للمذيع : حنيها ... وطاااخ ـ كسره ـ . يا أخي والله لقد تقطعت نياط قلبي ، فحتى هتلر ، في عز هزيمته ، لم يثر هكذا زوابع بنفخاته . لماذا لم تخبرني ؟! شكوتك لله ... هل ينقصني أن أبقى حائراً في أمر نفخاتك ؟! عقاباً لك لن أدعوك بعد الآن للاستجمام عندنا . هكذا لن تعيدها أبداً .
أخيراً : قد تضحك في سرك ويدفعك كبرياؤك وخبثك إلى نكران عزوفك ـ وقد تنصحني بألا أكون بصاصاً كنقادنا الذين يدربون أنوفهم على شمشمة السيرة الذاتية في كل ما يكتب ـ ستقول لي : هذا ما حدث معك يا مسكين ؟! يعني قد تردها إلي . أنا يا صاحبي أقول لك مقدماً : إن ما حدث ليلتها كان مضحكاً ، تصرفت تصرفات مضحكة ؛ فلقد حاولت أن أكون كشجعان الروايات الفحول . باختصار ، لم أمارس وقتها بدافع الرغبة ، لقد بادرت بنفسي لكن ليس بدافع الرغبة ، بل كنت أريد التأكد من ذكورتي ، وفي اليوم التالي فقط فهمت تصرفي . بالله عليك لو كنت امرأة ماذا كنت سأفعل ؟! الآن أفهم لماذا تزغرد المرأة عندما ترزق ذكراً؛ فهذه نعمة لا يعرفها إلا نحن الذكور والنساء اللواتي افتقدنها. طوبى لنا به يا صاحبي .



في 5/ 8/ 1999 مع المودة
إني أهنئك على أحوالك الجيدة ؛ فأنت على ما يبدو تعيش المرارة دون أن تحطمك ، لأنك رغم كل شيء ما زلت قادراً على السخرية .
تسألني عن سر نفخاتي ؟! ما الذي لا يجعلك تنفخ رئتيك ؟! وإذا كنت تريد سبباً ، فماذا تقول يا سيدي في هذه السجادة التي كلفتنا حتى الآن العشرات انتحاراً في الضفة والقطاع ؟! منذ متى عرف شعب تحت الاحتلال ظاهرة كهذه ؟! جميع الهزائم والمؤامرات لم تؤد إلى هذا .
أحد أصحابي نجا بأعجوبة من مجزرة صبرا وشاتيلا ؛ فعندما أدرك ما يحدث لم يشأ أن يتوارى دون أن يترك لهم لغماً ، فكان عنيداً في إصراره رغم الخطر على أن يخلف وراءه هذه العبارة على الجدران : اقتلوا ... اقتلوا ... أولاد القحبة ! فما دامت أمهاتنا حبالات ولادات لن يهنأ لكم عيش . وكاد إصراره يودي به .
قال لي : أردت أن أعكّر عليهم نشوتهم بالقتل ، أن أفوّت عليهم اكتمال فرحتهم بالنصر . لقد كانت طريقته في المقاومة في لحظات اعتقدها الأخيرة في حياته . لم يشأ أن يضيّع لحظاته الأخيرة سدى .
كم يشبه هذا الرجل الوطن بصموده وموته !. ما زلت أذكر وقفته وسط الحرائق والدمار ، فلقد انغرز كبيرقٍ غير عابئ بالموت لينشد كما لو على منبر : يا عبد الله !/ احفظ جيداً أسماءهم/ لا تهم أسماء المجازر/ المجزرة لا تحتاج اسماً / لا تحتاج أرقام الضحايا / لا تحتاج هوية / المجزرة هي ما تقول : سبايا هذا الزمان نحن / فوا بندقيتاه !.. / وكل اعتصام بعدُ خرافة / فاحمل سلاحك وامض / لا تلتفت / ولو كثر الضجيج / فكل مشروع مهزلة / كل عاصمة .../ أما أنا فلقد أصبت لثانية بالشلل الفكري والجسدي وصحوت لأصرخ : مجنووون! واندفعت إليه أرميه أرضاً لتمر رشقة من عدة طلقات في مكان وقوفه بالضبط .
هي لوحة سريالية حية ، فلقد كان الموت أقرب إلينا من الهدب إلى العين . لقد أدهشني تماماً ، وبعد أن شهقت شهقة الخوف عليه ، وارتخت إصبعي عن الزناد ، تذكرت وأنا أنسلت بطيئاً على المتراس ، أنه لم يكن يوماً مولعاً بالشعر أو النثر - ولا كان هكذا لاحقاً - يومها كانت لنا أحلامنا وبنادقنا ولا شيء آخر ، لكنها اللحظة يا صاحبي .
في حياتي كلها لم أر لحظة كثيفة إلى هذا الحد ، اجتمع فيها التعب والجنون بإرادة الصمود ، إرادة الحياة بإرادة الموت ، الثقة باليأس والإحساس بالهزيمة.
كم كان يحسن التفاؤل ! وجدته متفائلاً في عزِّ خيبتنا للخروج من بيروت ، فلقد حدس أنّ حصارنا أصبح مأزقاً إسرائيلياً أمريكيا ، وأن الخروج " ما كان ليحدث لو أننا كنا خميرةً جيدةً في الوقت المناسب ، فعسى أن يكون للثورة نقاؤها ، الطريق إلى فلسطين لا يمرّ بتسليم ناصر السعيد ، وهذا الفساد الذي ينخرنا لا يمكن الخلاص منه دون الخلاص من مكاتبنا ، فلا بأس أن نخسر الوهم بالثورة لنربحها " 0لم يدرك أننا يمكن أن نخسر كلّ شيء إلاّ المكاتب. طبعاً لم يكن هذا هو رأيي آنذاك ، يومها اشتبكت معه واحتدم الخلاف حتى كادت تكون قطيعةٌ بيننا ، قلت له ما معناه : إنك ترجم شعبنا وثورتنا ، فضحك طويلاً طويلاً حتى بدا لي منهكاً - أتذكر؟! مساكين بنضحك من البلوى زي الديوك والروح حلوة ، كم غنّيناها معاً ؟! - ثم نظر إليّ نظرةً فيها الكثير من معاني العتاب والشفقة واللوم والحزن وقال قبل أن ينصرف : سنتابع فيما بعد ، لكن عليك حتى ذلك الحين أن تنتبه إلى أنك بدأت تتحدث كالحكام ، هؤلاء يماهون بين أنفسهم وشعوبهم حتى يبدو كلّ نقد لهم لعنة لشعوبهم ، هم يلعبون على الغرائز بأي ثمن ، أما أنت فتتباله ، علينا أن ندرك أن الثورة التي يرفدها أكثر الناس انحطاطاً ليست بثورة ولو رفدها أكثرهم نبلاً ونقاءً 000 كان يشير إلى أمثال ابن قريتك الذين شكلوا ظاهرة في الواقع 0 كيف تعايشنا معها ؟! لا أدري 0 مفهوم أن تغفر الثورة للبعض تاريخهم إن توسمت فيهم الخير ورأت في نفسها القدرة على صهرهم وتشكيلهم من جديد ، لكن أن يتحولوا إلى ظاهرة ، فهذه خطيئة بحاجة لتأمل وفهم 0 إذاً لقد كان مصيباً 0 هذا ما توصلت إليه منذ مدة ، فلا تعتقدن أن لك سبقاً علي في هذا المضمار كما توحي رسالتك .
المهم أن صديقي هذا عاد مؤخراً إلى غزة 0 أنت الذي ترقب الأمور من بعيد - نسبياً- سيبدو لك في عودته تناقض وأي تناقض 0 بالنسبة لي أتفهمه وإن كنت لا أوافقه 0 وعبثاً حاولت أن أثنيه، فلقد كان يقول : كيفما كنا في الوطن فخير من هذه الغربة التي تطاردنا من منفى إلى منفى 0 أيام وليال وأنا أحاول دون جدوى ، ذكرته يوماً بوقفته السريالية تلك ، قلت له : لماذا تنساق مع هذا الهزل ؟! أليس هذا المشروع مهزلة أيضاً ؟!. ألن تكون عاصمتنا مزبلة أيضاً ؟! قال : وليكن ، أريد أرضاً أقف عليها ، وقتها لم يكن عربي ليجرؤ على القول في خامس سنة على الانتفاضة : باعوها وما عادوا يعرفون كيف يرتاحون ويريحون ـ وهنا تنهد تنهيدة موجعة وتابع بنبرة أعلى فأعلى ـ تصور !.. كل هذه التضحيات ، وكل تلك المجازر والحروب والتهجير ويقال مثل هذا الكلام !. قل لي ـ بربك ـ ما الذي يتعب عربياً في الانتفاضة ؟! ما هذا القلق على راحة الإسرائيليين ؟! اليوم اليوم سمعت واحداً يقول : الفلسطينيون كل عمرهم لا يحبوننا ، قبل سنة 48 كان الفلسطيني إذا ما انفرد بأحدنا يذبحه ، فأي باعث على إبداع هذه الكذبة ؟!... لقد انتظر تفهماً وتعاطفاً في العالم البعيد بفعل الانتفاضة فيصدم بأمثال هذا !!.
لقد ذهب مثقلاً بأوهامه وأوجاع المنافي . كان يقول : ما عادت الحدود جبهات يا صاحبي ، فماذا نفعل بهذا اللجوء ؟! . لقد ذهب ... وما هي إلا فترة وجيزة حتى انضم إلى القافلة، انتحر . فكيف يمكن للعنقاء التي خرجت بكل هذا البهاء من تلك الحرائق أن تموت على هذا النحو ؟! هل هاله ـ رغم سابق نظرته - أن يتمخض " الواي " إفراجاً عن مئة وخمسين جنائياً في الوقت الذي أصبح عدد " الإرهابيين " القتلى في سجون الشرطة يناهز العشرين ؟! هل هاله أن تطهر"السلطة" نفسها من ذوي الأيدي النظـيفة ؟! أم هي لحظة اليأس والقنوط التي نمر بها جميعاً فتنتهي على هذا النحو ما لم يقطعها أمـر ما ؟! لا أدري ، الله أعلم .
في داخلتي كنت ألومه لأنه لم يقدر هذا تقديراً كافياً . وأحياناً كنت أنكر على نفسي قبول قصة انتحاره وأقول لها : " لا بد أنهم قتلوه غيلة ، فمثله يمكن أن يستثمر موته ؛ هو ميت في الحالتين ، منتحراً ومستشهداً ، فلم يختار الانتحار ؟! " . لكنه ليس وحيداً في اختياره هذا ؛ فهل أرادوا أن يقولوا شيئاً باختيارهم ؟!. هل تعرف ؟!.منذ ذلك الوقت وأنا أفكر في مغزى هذه الظاهر . وأعتقد أنه لا يمكن فهم ما يجري جيداً دون فهمها وفهم ما خلف تلك الأقاويل بحقنا .
هذه محاولة لإصلاح ما فات أملاً بالعفو .




في 1 / 9 / 1999 مع المودة والتقدير
كم هي ملاحظتك دقيقة بخصوص الضحك ؛ تلك حالة عرفتها وتجاوزتها . حقاً هناك حالة لا يستطيع معها الإنسان الضحك من البلوى ، فهل أردت القول أنك تعيش حالة كهذه ؟ في رسالتك مؤشرات مقلقة ؛ مثلاً أنت تهنئني لأن المرارة لم تحطمني وتتساءل : هل هي لحظة اليأس والقنوط التي نمر بها جميعاً فتنتهي على هذا النحو ما لم يقطعها أمر ما ؟ هل حقاً تمر بحالة كهذه ؟ إذاً امنح نفسك إجازة يا أخي ، ساعة لك وساعة لربك ؛ في مثل حالنا يكون اللهو والمتعة أحياناً مهمة نضالية ، استعن على الجد باللعب . أرجو أن تكتب لي تفصيلاً عن وضعك .
أما بعد ، فأقاويلنا هي تعبير عن موت لا يرقى إلى انتحاركم ؛ نحن نموت على طريقتنا لأننا نفتقد مزاياكم في الداخل ، إننا نتعفن في الحياة ، إننا أحياء موتى أو موتى أحياء. حقاً لم تعد حدودنا جبهات ؛ لقد تأسّنا ، ما أكثر الفقاعات على سطح مستنقعنا !. ليتني ما سألتك ؛ أردت أن أعمل ناقداً فإذا بك تنكأ لي جرحاً غائراً . هل تعرف ؟!. أصبحت كنزار في " فلم أمريكي طويل" ؛ لم أعد أفهم شيئاً . تصور! طالما خفت وحذرت من مقولة القوة المطلقة للصهيونية لأنها تشل عزيمتنا فضلاً عن كونها خرافة ، وفجأة أجد نفسي موسوساً بها . لقد أصبحت موسوساً عظيماً ؛ فأنا أرى يهوداً معممين باستمرار ، بل وأتحدث عن مفاعيل قروش إسرائيل البيضاء في يومها الأسود . طبعاً لي أسبابي . وهي أكثر من مجرد أقاويل تقال بحقكم ؛ هنا قد تكون النزعة القطرية سبباً، وقد يكون جبننا وأنانيتنا من حيث يدفعاننا إلى رجمكم للخلاص من التزامنا، وقد تكون بطولات انتفاضتكم أثارت حفيظتنا لأنها كشفت جبننا ، أو أنها حفّزت واستفرت خصومكم بيننا ، لكن أسبابي أبعد من ذلك ، مثلا : يحدث أن تظهر أغنية وطنية ترد إلينا شيئاً من الروح وتلمنا حولها فيأتي من يقول : إن صاحبها تخرج من ملهى ، فإن كانت فتاة فهي خريجة بيت للدعارة . والفتاة غير معروفة بعد . وعندما تأخذ الأغنية حدها من الانتشار والتأثير ، وتعرف صاحبتها جيداً ، يتبين أنها عكس ذلك تماماً . شيء مثل هذا يتكرر فحاول أن تجد تفسيراً له ، لا يحق لنا حتى أن ننفعل بأغنية وطنية ، هل أقل من أغنية ؟!. ومع هذا دائماً يوجد من يخدشها بشكل ما : رجل لا يميز صوت وديع من صوت الحمار عمل ناقدًا ل" الحلم العربي " ، بالأحرى التقط رأياً نقدياً لأنه لا رأي نقدي له ـ وهذا ليس أقل دلالة فالمرء يردد ما يستجيب مع نوازعه ـ فهي في رأيه على جملة موسيقية واحدة ، بل وسأل في إشارة إلى الشريط المرافق وابتسامة شماتة وتشفٍ ترتسم على شفتيه : ما هذا الحلم ؟!. كله مآسٍ ودماء!. بمن يشمت هذا ؟!. ربما هي الوسوسة التي هيأت لي الاعتقاد أنه يهودي متستر رغم أني أعرفه جيداً ، فهو رجل وطنيات نقاد لا يدفأ لسانه ، لكن ما سر هذه الابتسامة ؟!. هي ليست مفهومة على أي وجه تريد . لقد بدا لي أن هذا الرجل لم يلتقط الرأي ليتفهمن أو ليجلد ذاته على طريقة المستدام عجزه . قل عني ما تريد ، فأنا كثيراً ما تحرمني النوم أشياء من هذا القبيل في حين يمر عليها الناس دون انتباه . وعلى كل حال هل لديك توصيف لحالي أو لحال هذا المصيبة ، أو لحال أولئك الذين يزعجهم نجاح أغنية وطنية ؟ إنني بانتظار رأيك .
لقد أرعبني هذا الرجل ، وفرض علي قلقاً مضنياً ما شفيت منه إلا على يد فلسطيني : إذ دخلت مجلساً مع خروجه قال أحدهم : هل سمعت ؟! قالها بنفسه ! فرد الآخر : يا أخي صحيح ! شوهالحكي ! هيدا هو الواقع . قلت : وما هو الصحيح؟ فشرحوا لي خلاصة رأيه : الفلسطينيون هم الذين بدؤوا العداوة مع اليهود ، وهؤلاء اتركهم وشأنهم يتركوك وشأنك .
كمٌ كبير من المشاعر دهمني في لحظة ، في طرفة عين . في البداية وجدت نفسي وقد تخففت من وطأة وساوسي ، ثم ما لبثت أن سألت نفسي عن أهون الشرين ـ شر الوسواس أو تحققه والشر الممثل بهذا الرجل ـ واحتقنت بكلام كثير تزاحم في رأسي ، ثم ما لبث أن تراجع الكلام أمام عبارة وحيدة : هنيئاً لكم مرجعكم هذا يا سادة يا متعلمون . لكني لم أقلها ؛ فلقد انتهيت إلى الموت المعنوي ، ما عدت راغباً في شيء : " ليكن ما يكون ، لا جدوى ولا معنى لأي عمل أو كلام ، لست أمام ما يحدث سوى ذرة غبار " .
الرجل معروف، واستشهاد أبيه معروف ، ولجوءه حافياً متعلقاً بأذيال أمه معروف أيضاً ، وكذلك عمله لسنوات في الثورة . كل هذا لا يترك لك مجالاً للوسوسة ، لكن ماذا تسمي هذا ؟!. قل لي - بربك - كيف يمكن أن تفهمه ؟!.
أما سجادتكم فيبدو أن لنا بها حصة . تصور !... إذ رأيته مرة يتبختر عليها قلت محدثاً نفسي : والله يحار المرء أين يخبئ رأسه من الخجل . فعلق أحدهم : ليه ؟! أحسن من غيره !. والرجل رجل وطنيات نقاد أيضاً ، لذا قلت حاسماً النقاش بنبرة تنم عن فقدان الصبر : كل إنسان حسب ما انطوت عليه نفسه وحسب ما يريد منه ومن هذه الحياة . عندها قال آخر: أحمد ياسين ! نعم ، هذا رجل يمكن احترامه . فرد عليه : لعنة الله على والديه ، ماذا فعل؟!. تصور!.. من كان يجرؤ على لعننا جهراً؟! كل عمرنا نلعن الحكومات والخونة دون أن يجرؤ أحد علينا . وكل خوفي أن الحكومات ستلعننا غداً ، ستحتاجنا فلا تجدنا . ما هذا ؟! ما الذي يختمر فينا ؟! ما على إسرائيل بعد الآن إلا أن تتعلم منا فن الدعاية لها . كل هذا يحدث وحكماؤنا يترنحون بأحمالهم من الشعارات الثقيلة . حقاً ما عادت الحدود جبهات يا صديقي .
قد لا يهمك أن تعرف أن ابن قريتي قتل منذ فترة في عمل شائن ؛ هو حثالة حقيقية بكل ما للكلمة من معنى . لكنك إذ ذكرته أثرت شجوني ؛ ففي مراهقتي عرفت معنى الفداء من خلاله . ولقد تلخص هذا المعنى في القدرة على المخاطرة ، لأن كل ما كنت أعرفه عنه قبل التحاقه بالثورة هو المغامرة وإتقان استعمال السلاح واللعب به . كأنما التخلف يتغلغل في مسام جميع الأشياء في حياتنا ، حتى أنقاها . دائماً الحدود بين الأشياء غير واضحة عندنا ؛ مرة قدمت صديقاً لي إلى إحدى الأجنبيات على أنه فدائي فنظرت إليه نظرة مستفهمة وسألت : ليه ؟ في مشكلة ؟. ألم تكن هذه نظرتنا إلى المتطوع في فترة ما ؟!. أنت تعرف كم أنا خجول ، لكني لم أعرف الخجل والارتباك كما في تلك اللحظة . كأنما كتب علينا ألا ندرك إلا متأخرين دائماً . تقول : كان يجب أن ندرك أن قيادة تصالحت مع هكذا وضع لا يمكن أن تقودنا إلى بر الأمان . فهل أدركنا هذا حقاً ؟!. وكل ما أخشاه أن السؤال حقيقة هو : هل بقي من يريد أن يدرك ؟ وإلا عما نتحدث إذاً ؟!.
الآن ، وأنا أكتب إليك ، يخطر ببالي أن إسرائيل من خلف قبولها دخول هذا العدد ، إنما تهدف إلى نقل هذا الفساد . لأن الاتفاقات عنيت فقط بنقل الشرطة والمكاتب ، معاشش الفساد ، وعلى الأقل هذا ما بدأت نتائجه بالظهور . لن ينتحروا بعد الآن ، سيتعفنون يا صاحبي ، سيموتون أحياء .
أخيراً : لقد اعتقدتَ أنك ملصت من انتقادي بإثارتك لهذه الشجون ، وعليه سأخمن ما يمكن أن يكون عليه ردك على انتقادي لترفك الأدبي ، ستقول لي : " يمكنك أن تعتبر أن نفخات بطلي كانت بعد جولة كجولتك في المحكمة ، لكن إذا ما ذكرتُ هذا ودخلت في التفاصيل قد أنفّر بعض القراء ، لأن لكل قارئ هم يخصه ، وإذا ما تركت الأمر مضمراً سيتخيل كل قارئ سبباً لها ينسجم مع همومه ، والنتيجة أدب يلقى القبول وينتشر". فهل مهمة الأدب أن يجعل كل امرئ ينفخ على ليلاه ؟!إن النماذج التي ذكرتها في رسالتي تنفخ أيضاً ، وأنت بهذا الأدب تنفخ في نار كل الناس معاً!! وكان حري بك أن تجعلهم يشاركونك التفكير بما يجعلك تنفخ رئتيك . أن تطلب أوسع رضا أنانية وأن تطلب أوسع مشاركة لك من الآخرين فيما هو سبب نفخاتك أنانية ، لكن الثانية أدعى لراحتك وأسرع خلاصاً ، فكن أنانياً هنا ، دعنا نستفد من أنانيتك.
يجب أن تمر علي لنذهب معاً إلى القرية . أنا نفسي بحاجة لاستراحة من هذه المدينة التي تقرض الروح . هي قاسية في كل شيء . ناسها أكثر قسوة من غبارها وضجيجها ، وازدحامها . هل تصدق ؟! أصبحت ألعن المدنية التي لم نعرف منها إلا مساوئها ، فحتى وقت قريب كان الناس في قريتنا يتذابحون من أجل دجاجة أو لا شيء ، لكن كلمة طيبة تغسل كل شيء . أما ناس هذه المدينة فتلتصق بهم أحقادهم كالوشم ، حتى ولو كان الحقد بسبب كلمة قيلت خطأً أو في حالة غضب أو نزق . وإنك لتحار في أمر أحقادهم كحيرتك في أمر تسامحهم مع إسرائيل وأمريكا . أنت لا تعرف سبباً لها ، هم دوماً بحاجة لأن يحقدوا ، لكنهم لا يعرفون كيف يوجهون أحقادهم ، ولا تعرف متى تطل هذه برأسها ، وعليك أن تخاف دوماً ، هل تفهم ؟!. دوماً . هل يستطيع امرؤ أن يعيش خوفاً مستمراً ؟!. إذاً بالله عليك يا صاحبي لا تتأخر، دعنا نعش قليلاً ، لنغتنم الفرصة لأن الحضارة بدأت تزحف إلى هناك أيضاً وغداً لا ملاذ .
والله صحيح ! تذكرت ، هؤلاء الذي لا يريدوننا أن نحقد على أمريكا وإسرائيل ، أين يريدوننا أن نصرف أحقادنا ؟!..



#أكرم_إبراهيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صخب
- سلة هواجس
- هل يمكن القضاء على الفساد بأدوات فاسدة ؟ 2من2
- هل يمكن القضاء على الفساد بأدوات فاسدة ؟ 1 من 2
- عكك*
- شكراً لحماس وحزب الله
- قصة
- الدولة والعودة : الجدل بين الشعار والممارسة والخطاب *
- نصر آخر لحزب الشعب وشركائه
- قمة هرم أم مركز مثلث ؟!!
- قراءة في إعلان دمشق
- ليس خوفاً على السلطة بل خوفاً من حزب الشعب


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أكرم إبراهيم - سقوط حر