|
قراءة في العلمانية – 3 – المنظومة الأخلاقية.
نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 5518 - 2017 / 5 / 12 - 20:21
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
قراءة في العلمانية – 3 – المنظومة الأخلاقية.
في التحول من النظام الفكري الديني إلى النظام العلماني، ستمرُّ المجتمعات بفترات وسيطة تربط بين الشكلين، و تُنتج في النهاية الشكل الثاني بكامل شبكة علاقاته و استتباعاتها في كل المجالات. أحد أهم ما يجب أن تخوض فيه المجتمعات المُنتقلة نحو العلمانية هو المنظومة الأخلاقية من جهات تحديد: - ماهيتها. - أهدافها. - أدواتها و أماكن ظهورها.
في ماهية الأخلاق و تجلياتها ----------------------------- دعنا قارئ العزيز قبل الخوض في الحديث عن "المنظومة الأخلاقية" نبداُ بتعريف كلمة "الأخلاق"، و ليكن هذا التعريف بسيطاً سهل الفهم و التوظيف، و عليه فلنقل أن الأخلاق هي صفات (إما اعتقادية أو سلوكية، أو كليهما) لفرد أو مجموعة تنتجُ عن أحكام ثابتة عنده، هذه الأحكام نسميها قِــَيم، و مفردها: قيمة.
إذا ً لو أردنا أن نُعرِّف ماهية الأخلاق نستطيع أن نقول أنها ترجمة لما يعتقده الفرد أو تعتقده الجماعة بأنه السلوك الصحيح تجاه أمر ٍ ما، أو الفهم الصحيح لموضوع ٍ ما، في العالم الخارجي، أو بعبارة ٍ أخرى: الأخلاق هي شكل تفاعُل الفرد مع محيطه. لاحظ عزيزي القارئ أنني أقدِّم توصيفا ً لماهية الأخلاق بشكل عام، و أترك ُ البحث َ في أخلاق ٍ محددة كموضوع ٍ مُستقلٍّ، أي أنني أهدف أن أكشف َ أمامك َ الأخلاق كبناء و هيكل من الخارج.
أما هدف الأخلاق فهو عندي أن تستديم الفرد َ و الجماعة، بتزويدهم بأدوات: تفكير و فعل، يتمكنون بواسطتها من التفاعل مع محيطهم الخارجي من جهة، و مع ذواتهم الداخلية من جهة أخرى، ليتحقق التوازن الذي يضمن سلامة َ الفرد، و متانة الكيان الجماعي، مما يعني استكمال الفرد و الجماعة سيرورَتهم للوصول إلى أعلى ممكنات التَّحقُّق بدون عوائق.
أدوات ُ الأخلاق تعمل من خلال: عقل الفرد، و التقاء الجماعة، و تظهر نتائجها في المؤسسات المجتمعية المختلفة: أسرة، مدرسة، جامعة، كيانات اقتصادية (في العمل، أماكن الترفيه، أماكن الخدمات)، كيانات سياسية (أحزاب، وزارات، مؤتمرات).
يمكننا من السابق أن نُعطي تعريفاً أخيراً للأخلاق فنقول أنها باختصار: نتائج تفاعلات الفرد مع محيطه.
في أهمية التميز بين منظومات الأخلاق المختلفة ------------------------------------------------- بما أن الأخلاق ستحدِّد أشكال التفاعلات داخل المجتمع و نواتجها لا بدَّ إذا ً من النظر إلى تلك النتائج و تقيمها لتحديد مدى المنفعة المُتحصِّلة عنها (*) ، و بالتالي الحكم عليها من خلال: ما تمنحه للأفراد من إمكانيات للارتقاء، و ما تحقِّقُه لهم من ارتقاء فعلي، و ما تمنعه عنهم من انحدار من شأنه الهبوط بمستويات الوعي الفردي و الجماعي لديهم و بالتالي التأثير السلبي على منتجهم الحضاري و مشاركتهم في المنتج الحضاري العام. فإذا قبلنا أن يكون معيارُنا لما هو أخلاقي حسن: الإنتاج َ النافع، لا بدَّ إذا ً أن ننظر َ نحو الغرب و حضارته بقبول ٍ و استحسان لمنظومتهم، بحكمِ:
1- أن كل َّ ما نستخدمه في حياتنا مما هو ضروري أو كمالي يجد أصولَه عندهم: من اختراعات تكنولوجية، و ما سبقها من معارف علمية قادت إليها.
2- و أن هذه الأخلاق إنما هي انعكاس ٌ لمنظومات فكرية متعدِّدة حُرَّة، ارتقت بالحس ِّ الفردي إلى: الانعتاق ِ من التفكير الخرافي و التحرُّر من الجهل، و طورت تفكيره باكتشافها و اعتناقها لمبدأ السببية القائم على وجود مقدِّمات موضوعية ننطلق منها لنتائج محسوسة يمكن قياسها و تقيمها و إنتاجها و إعادة إنتاجها و التنبُّؤ بها، أي باكتشاف و تثبيت المنهج العلمي.
و لا بدَّ هنا من السؤال: كيف انتقلنا من الحديث عن الأخلاق إلى الحديث عن المُنتجات الحضارية و الاختراعات، أو لنُعد صياغة السؤال فنقول: ما علاقة الأخلاق بالإنتاج أو التصنيع؟
الجواب على هذا السؤال سبق َ و قدَّمتُه في بداية هذا المقال تحت العنوان: في ماهية الأخلاق و تجلياتها، حين أوضحت ُ أن الأخلاق هي نتاجُ تفاعلات الفرد مع محيطه. إن بساطة َ هذا التعريف لا تُخفي على الإطلاق عظمتهُ و لا تحجب ُ استحقاقاتهِ الشاملة على صعيد الفرد و المُجتمع، فكل ما يصنعه مجتمع ٌ ما هو جزء ٌ من أخلاقِه، بل لنقل إنما هو انعكاس ٌ لأخلاقِه.
من هنا نقول ُ باطمئنان أن المجتمعات المُصنِّعة المُنتجة هي المجتمعات التي تتمتَّعُ بقبول ٍ صحِّي لثقافاتها المختلفة التي تعيش ُ بتناغُم، و بالتالي يستطيع ُ فردُها أن يوظِّف طاقاته ضمن المجموعة ليأتي بـ:نتيجة، لها قيمة مجتمعية و اقتصادية و سياسية تبني في النهاية: الدَّولة، ككيان له وزن محدَّد و معروف ضمن كيانات الدول الأخرى. أخلاق ذلك المُجتمع حدَّدت وزنه العالمي، بواسطة أداةِ: الإنتاج، و مظهرِها: المُنتَج.
و بنفس الطريقة فإن َّ انعدام المُنتج الحضاري لشعب ٍ ما دليل ٌ على إفلاسِه الأخلاقي، باعتبار أن فشل الإنتاج هو فشل ٌ في المؤسسات التي من المُستوجب عليها الدَّفع ُ باتجاهه و ضمان ِ تحقيقه. هذا الفشل ُ الذي لا يكون فقط انعكاسا ً لسوء ِ الإدارة إنَّما هو أيضا ً و بالضرورة انعكاس ٌ لغياب: ذهنية الإنتاج كضرورة مُلحَّة، بعبارة أخرى: إنما هو انعكاس ٌ لمنزلة الإنتاج الفردي و المجتمعي المتدنية، غير الحائزة على الأهمية، الفاقدة للأولوية، و الغائبة عن لائحة: الضرورة، في أذهان الفرد و الجماعة، لمصلحة:
- أخلاق أخرى بدائية تتمحور حول لذة الأنا الفردية و الرغبة الطفولية في الحصول عليها من خلال: الاستهلاك و الشراء،
- بالتزامن مع الانشغال بسلوك الآخر و الرغبة الشديدة في الحكم عليهما،
- مع سعي حثيث لفرض اللون الواحد على الجميع، و محاربة التنوع.
و نُحسن ُ صنعا ً حين َ نفحصُ هذه الفكرة الأخيرة المتعلقة بالسعي نحو فرض اللون الواحد، باعتبارها تمثيلا ً للخمول الفكري و الأخلاقي العام الذي يرفضُ التنوُّع َ و التجديد كأدوات لتغير ٍ غير ِ مُرحَّب ٍ به على الإطلاق. هذه الحالة من الجمود، و الرغبة في استدامته، و السعي الحثيث لمحاربة تحويل المجتمع من شكل: البِركة الراكدة، إلى شكل: النهر الجاري المتجدِّد، ترتبط بشكل ٍ مباشر بالمنظومة الأخلاقية غير المُنتجة لذلك المجتمع، و هي المنظومة التي تُنشئ المشاعر السلبية تجاه كل ما هو جديد، و تمنعُ فحص كل ما هو قديم، و تنظرُ بعين الشك و التخوين للمحاولات الصادقة و المُخلصة لمعالجة الفساد الموروث، و المُستدام، و المُشوِّه لوعي الطاقات الشبابية، و المانع عنها كل ارتقاء ٍ في الوعي، و كل َّ إمكانية نحو الانطلاق لتحقيق أقصى ممكِناتها، و التي بالضرورة ستقود لانعدام الكفاءة و غياب المهارات و استدامة أشكال الوعي البدائية النازحة نحو استحضار الهمجية بدرجات مختلفة كأشكال تفاعل تتمثَّلُ في كل مناحي الحياة بدرجات ٍ مُختلفة.
بمحاولة المقاربة بين المجتمعات المُعانقة للحياة و الفرح و القابلة للطبيعة البشرية كما هي، و المُتعاملة مع حاجاتها بانفتاح، و البانية عليها كل قيمها من جهة كون هذه القيم أحكاما ً على الحياة بشكل عام، و التي يظهر المُنتج الحضاري فيها كانعكاس ٍ للمنظومة الأخلاقية الصِّحِّية،،،
،،، و بين المجتمعات التي تتجهَّمُ في وجه الحياة، و تمنع الفرح، و تخافُ من الحبور، و تتعامل مع الحاجات الإنسانية و الغرائز باحتقار، و تُسئُ فهم تأثير كبتها، و بالتالي تُنتجُ أخلاقا ً مُفارقة للطبيعة البشرية، يشقى بها الأفراد و المُجتمع، و تخلق ُ بالضرورة حالات ٍ من التصادم مع النفس و المجتمعات الأخرى، مما يعيقُ الإنتاج و يصرفُ الطاقات ِ نحو التركيز على تلك المنظومة التي يؤدي الكبت ُ فيها لمضيعة ِ الطاقات في ذات الوقت الذي تدَّعي الحفاظ عليها،،،
،،، لا بدَّ أن نصل للنتيجة (أي لنتيجة المقاربة بين نمطي المجتمعين السابقين) بأن َّ تحديد منظومة الأخلاق المطلوبة للمجتمع، و تنشئة الأطفال و الشباب عليها منذ الصغر، يحتلَّان أهمية ً عظمى و يُعتبران المُهمَّة الأولى لأي مُجتمع ٍ يحمل ُ تقديراً كبيرا ً لإنسانية ِ أفراده و طموحا ً هادفا ً نحو الإنجازِ و الارتقاء، هذه المهمة ُ التي يؤدي النجاحُ فيها إلى بناء المجتمع القوي القادر المُتميِّز الذي يحتل مكانتهُ بين أمم ِ الأرض عن استحقاق ٍ و فرض، لا عن طلب ٍ أو مكرُمة ٍ أو منحة ٍ لم يعد العالم يعترفُ بهنَّ، في حين ِ يكون الفشلُ فيها كارثة ً للمجتمع و الدولة ينعدمُ فيها حضورُ تلك الدولة في موازين القوى العالمية، و يضيع ُ الفرد.
و سيكون هذا مدخلنا لمناقشة الأخلاق في حوارات ٍ قادمة. أشكر ُ لكم وقتكم في القراءة و اهتمامكم.
------------------------------------------ (*) في تحديد فكرة "المنفعة" و ارتباطها بما هو "حسن" يُراجع كتاب: في التربية، المؤلف: برتراند راسل، الترجمة للعربية: سمير عبده، الناشر: دار التكوين للتأليف و الترجمة و النشر، الطبعة الأولى للعام 2017، الفصل الأول: المُثل الُعليا التربوية، الباب الأول: مُسلَّمات نظرية التربية الحديثة، الصفحات: 15 حتى 26.
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن فاطمة عفيف.
-
قراءة في العلمانية – 2- المنظومة الشاملة.
-
بوح في جدليات - 20 – دجاجاتٌ على عشاء.
-
لن يسكت هؤلاء – و ستبقى الحجارة تصرخ!
-
قراءة في الوجود – 9– عن الوعي، الإرادة و أصل الأفعال.
-
قراءة في الوجود – 8– عن الوعي، الإرادة و المسؤولية – 2
-
قراءة في الوجود – 7 – عن الوعي، الإرادة و المسؤولية – 1
-
للمرأة في يوم عيدها - تحية المحبة و الإنسانية.
-
شكرا ً أبا أفنان و لنا لقاء ٌ في موعد ٍ مناسب.
-
عن اللغة العربية و دورها في: بناء الهوية و التعبير عن الثقاف
...
-
اعتذار للأستاذ نعيم إيليا - دين ٌ قديم حان َ وقت ُ سداده.
-
قراءة في مشهد ذبح الأب جاك هامل.
-
قراءة في اللادينية – 9 – القتل بين: الحتمية بدافع الحاجة و ا
...
-
إلى إدارة موقع الحوار المتمدن.
-
عن هزاع ذنيبات
-
قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – 10 – ما قبل المسيحية – 5.
-
بوح في جدليات - 19 - خواطرُ في الإجازة.
-
لهؤلاء نكتب.
-
عن محمد علي كلاي – نعي ٌ و قراءة إنسانية.
-
قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – 9 – ما قبل المسيحية – 4.
المزيد.....
-
كيف يعمل مرحاض الطائرة على ارتفاع 40 ألف قدم؟
-
-اليونيفيل- تجدد الدعوة للالتزام بالقرار الأممي 1701
-
الحرس الثوري الإيراني يحذر الغرب: الزمن الأول تحول
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة في دونيتسك وإسقاط 38 صاروخا و
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل رقيب أول في صفوفه شمال غزة (صورة)
...
-
-بعد إقرار ماسك بتناوله-.. الحقيقة المظلمة للكيتامين
-
ما هي الرئة الحديدية؟ وكيف تعمل؟
-
هل يتمكن ترامب من دفع كفالة بقيمة 464 مليون دولار في قضية اح
...
-
الجيش الأميركي يدمّر صواريخ ومسيرات للحوثيين في غارات جديدة
...
-
الصين: عدة مستشفيات تغلق أقسام التوليد جراء تراجع قياسي في ا
...
المزيد.....
-
فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال
...
/ إدريس ولد القابلة
-
المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب
...
/ حسام الدين فياض
-
القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا
...
/ حسام الدين فياض
-
فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
يوميات على هامش الحلم
/ عماد زولي
-
نقض هيجل
/ هيبت بافي حلبجة
-
العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال
...
/ بلال عوض سلامة
-
المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس
...
/ حبطيش وعلي
-
الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل
...
/ سعيد العليمى
-
أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم
...
/ سعيد زيوش
المزيد.....
|