أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم الوراق - قرية المجانين















المزيد.....



قرية المجانين


ابراهيم الوراق

الحوار المتمدن-العدد: 1432 - 2006 / 1 / 16 - 07:34
المحور: الادب والفن
    


أرى وجوها مزدحمة في هذا المكان ، أرمقها ذهابا وجيئة إلى سوق العطارين .

طاولات بيضاء من البلاستيك ، مكتنزة بهذه الأشباح التي لا تتخلف في ميعادها مع هذا المكان ، تخترق بنظراتها المريبة هذا الممر الذي يجتازه كثير من ذوي الهموم ، وكأنها تطرح أسئلة جوهرية عن الحياة التي تمزقت أوصالها بين مواقع البأساء التي يعيشونها ، كثير من هؤلاء ، لا يعرفون من القوت ، إلا ما يجود به أبناءهم المسخرين ببيع كرامتهم في سوق العمل ، وقليل منهم ، من يعيش على مرتب يتقاضاه على تقاعده من العمل الذي كبس به كل طموح لأبناء قريته ، وعلى مدرجة من يمين هذه الرحبة كما تسمى عند أهالي القرية ، أناس آخرون ، لا يجلسون على الكراسي المبثوثة من أبواب المقاهي المتهدلة في هذا المكان .

إنهم لا يعرفون إلا نعومة الأرض ، ولا يعشقون من الناس إلا الكرماء ، وبين أيديهم ملاءة من الصوف ، تناثرت عليها قروش قليلة ، وغاية قصتهم في هذا المطرح الذي لا أعتبره إلا سوقا تعرض فيه ألوان الحياة ببؤسها ، وسعادتها ، أنهم يبحثون عن بصيص نور يحتالون به على رزء اليوم والغد ، إنني لا أكاد أدخل إلى هنا ، إلا وأجد لهم كلمات استجداء واتضاع ، وهم لا يطلبون إلا إعانة على ضوضاء وهرج الحياة ، ومن وراء هؤلاء ، أشباح تعيش هنا فترات ، ثم تفتقد أعيانهم بحضور مماثليهم في الجنسية ، ومشاكليهم في التبعة ، هؤلاء لايبرحون مكانهم الذي جعلوه دار ندوتهم التي لا يحضرها إلا من إستوثق من نفسه أنه لا يرتبط بعلاقة مع عالم العقلاء .

أقواس تحيط بالمكان ، يرتفع فيها الضجيج ليلا ونهارا ، وحديقة تمتلأ كراسيها بأحلام العشاق ، والمترنحين ، والأشقياء ، وممرات ، تختبط في منعرجاتها ، تبلغ الرائي إلى وكر المومسات ، أو إلى الحي اللاتيني الذي تنقسم فيه الإرادات ، ما بين الإقطاعيين ، وذوي الرأي ، أو إلى هذه الأحياء الشعبية التي تترنح فيها أعيان كثيرة بوهجة الحياة المنتفخة ببثور الأعوام والسنين .
قرية صغيرة لا يعدو تعداد سكانها عشرة آلاف ، يعيش غالبهم أياما تعيسة لا يرون فيها للحياة إلا طعما وبيئا .

وحين تمر بهذا المكان الآمن من كل اعتداء ، لاتجد إلا هذه الحركة العارمة التي ترتفع أصواتها قبيل الغروب بشكل فظيع ، وقد تصلك من هؤلاء الباعة وهم ينادون على الزبناء ، أومن هؤلاء الزمنى الذين يتصارخون فيما بينهم ، إما قهقهة ، أو تشفيا من خسارة لاعبهم المفضل في لعبة الورق (الكوتشية) ، وينفض السابقون على أمل اللقاء غدا في نفس المكان مع اللاحقين ممن يريدون تزجية الوقت ، وقتل الفراغ .

أحلام صغيرة ، وآمال محدودة ، وهذه هي التضحية التي ضحى من أجلها هذا المقيم العام الذي خشي أن يكون له ثوار من هذه القرية .!!

في كل يوم أمر على المكان بتضاريسه ، فلا تعجبني فيه إلا هذه الحديقة التي تثاقلت بهمي ، أو هذه الأصوات التي أجهد نفسي في تمييزها ، فلا أطيق ، أصوات تصل إلي رغم جهارتها بحوحة ، وكأنها تعيد صياغتها في أذني ، فتستنبت عندي شعورا بوجود خانات مخبوءة في هذه الحياة ، ويستبد بي أمل الظفر بنصيب من معرفة خبيئة هذه الأنفاق ، ثم تطيش مني نظرات إلى هؤلاء المبعدين من زوايا الحياة ، إلى هذه الأقواس التي تسمح لهم بالمقام فيها بدون عوض ، واسترجع على نفسي لم يبق هؤلاء بدون نبش في ذاكرتهم التي قد تكسبنا معارف لم نجد إليها سبيلا ، عند هؤلاء الذين ضربت على عقولهم أسيجة فولاذية من التكتم ، والسرية ، والخوف .

أقواس ، وأنفاق ، وزوايا ، مفردات أسافر بها إلى عالم اندغمت في ضبابه للنظرة الأولى ، ليس حبا ، ولاولاءا ، ولا شيئا من هذا القبيل الذي يحرك هؤلاء الجالسين على كراسي الحديقة ، وهم يستمتعون بهذه الورود المهذبة التي تركتها يد المستعمر النازح من هذا المكان ، وبين أيديهم خريدة يصبون في صاع فراغها كلمات الحب المخجل في زمان دفاع الإنسن عن إنسانيته وكرامته ، فلا أدري أهل يحسون بي وأنا أتحرك ؟؟أم يتتبعون غفلاتنا ، كما نتجاهل غفلاتهم ؟؟ ولا أدري أهل الأرض التي نرتكز عليها ، تشعر بكونهم كائنات حية ، وتحس بهم حين يودعونها للخلود إلى النوم المتغير بدايته ونهايته ، أو حين يتوسودنها بخدودهم ، او بمقعداتهم ، في حر الشمس ، وقر البرد ، وهم لا يتمتعون فيها برؤية التلفاز ، ولا بقراءة جريدة ، ولا بسماع المذياع ، بل لا يعرفون لها من قانونها إلا ماتجود به عليهم من غير كلفة ولا تعب .
إنني حين أجتار من هذا المكان ، أنتظر منهم أن يسمعوني كلمة تشفع لي بالمطالبة بحقهم ، لكنهم يصدون عني بكلامهم الذي لا يعتبره كثير من بني جلدتنا ، كمال عقل ، وحصافة رأي ، فهل أستسيغ أن أنقله، فيقال لي ، مثل ما قيل في غيري من فضلاء التاريخ ،؟؟ أم أسكت عن هذا البوح الذي أدركته بحدسي ؟؟

كلام حر لا يشعر برقابة ، وتعبير طليق لايؤمن بضغطة ، وهذا هو مبحث الكثيرين ممن ينعقون بالحرية ، كلام يسمعه المارة صباحا ومساء ، وربما قد يكون جارحا لهم ، إما شتما، أو تشهيرا، لكنهم لا يقابلونه إلا بقهقهة ، أو بدون مبالاة ، وكأن المجانين إذا نطقت ، لا يسمع إلى كلامها ، ولا يعبؤا بمقولها ، أوربما قد يعلنون هذا التمرد على المجتمع ، وهم يرونه غولا متنكرا لهم ، فيرسلون تعبيرهم بهذا الشكل الذي لا يفقد التوازن في نظام الحياة .

أربعة أشخاص ، وجدتها في هذا المكان ، منذ أن تعرفت على هذه القرية ، يعيشون كما تراءى لي أحوالا مختلفة ، شعر كثيف منسدل على الكاهل في ضفائر تلبدت بمادة الأوساخ ، وألبسة مقطوعة مكشوفة لا يجمع سداها ولحمتها إلا خيوط تنحسر ، فتنكشف السوأتان ، و ألوان تباهتت بسواد ماانصبغت به من أوضار .

فهل هذه الملابس ، تستر كل ما لا ينكشف ؟؟ وهل فيها من البهرجة ما في لباس عقلائنا ؟؟ وهل هذا هو الفرق الذي توسع في غلوه عقلاؤنا ؟؟ وهل العقلاء يعيشون من وراء الملابس ، أم من بعدها ؟؟

وحين تحج إلى هذا المكان ليلا ، لتسمتع بهذا الهواء الرطيب ، وتتمتع بهذا الخيال البليل الذي ترسله هذه الأشجار، التي من بينها مسك اليل ، لا ترى من وراء هذه السواري ، إلا هؤلاء الأشخاص الذين يعرفهم أهالي القرية ، ببعض طعامهم وشرابهم ، وقد تقترب إلى مملكتهم ، فتسمع دندنات تحمل سعيرا على أشخاص لا نعرفهم إلا محالا من المحالات ، وقد تنضاف هذه الأصوات إلى صعقات السكارى ، والمتصابين ، وهم يرسلون كلاما مفتوحا متخما بروائح معاناتهم التي لا يقدرون على البوح بها ، إلا عندما يشاكلون هؤلاء القابعين تحت ظلال هذه الاقواس الجوادة على أحدهم بلحظات السكر الغير اللإرادي ، وهو يعزف على أوتار ، ترسل صداها المهتز إلى قلوب حزينة كقلبي ، فتحركها في عمق حزنها ، وكأنها تطير في دورة لا شعورية تتماهى فيها عن عقلانية الحياة .

قصص حياة مختلفة ، تحتقنها هذه الذوات ، وتكتبها هذه الأيدي ، وشما على وجه الحياة ، قصص تغدو وتروح مع أيام هذه القرية التي تركت مجالا محررا لهؤلاء الظرفاء المتروك لهم حالهم الذي لا تخشى فتنته ، ولا تخاف غائلته ، ولا تنتظر مغبته .

وحين تأوي الى هذا المكان مستمتعا بما فيه ، ترى هؤلاء المتفقرة من صوفية الزمن الغابر، ينقلون إليهم أكياسا مترعة بالطعام ، وقد يقف أحدهم ساعة ، يناولهم ذلك بيده ، لعله ينال منهم دعوة ، يراها من جود الزمان ، ويوقفني حالهم المثير ، وهم في غفلة عما نحن فيه من أماني وأحلام ، وبعد عما نتخمنه من مؤامرات ودسائس ، أخافت حياتنا ، وجعلتها بركانا للصراع النفسي .
وإنني إذ أتأمل حالي ، أحسدهم على ما هم فيه من سعادة وراحة ، وأتمنى لو انتقلت هذه السعادة إلى كل الكائنات المتقاذفة كالزبد إلى بحر الحياة .
ففي الليل ، تبتدأ مراسيم حياة المجانين ، كما تبتدأ معها رحلات أخرى في عوالم شتى ، فالرياح تصطك بالصواري ، والقوارب الراسية على شط البحر ، أو تتجاذب الأيدي في الهزيع الأخير من اليل مجاديف القوارب التي ستبحر في غياهب هذا البحر المبتلع لأفئدة كثير من أبناء القرية الناسية لأبنائها الممزعين في بطون الحيثان التي نلتهمها صباح مساء ، وهم لا يحسبونها قد إغتنت من أكباد أبنائهم الذين أرسلوهم للصيد ، فإذابهم قرابين للحيثان العظيمة التي تتقن قانون اللعبة فيما بيننا وبينها ، وتتعامل بما جعلناه حكما شاملا لعلاقاتنا معها ، قانون لا يرى سيادة لأحد ، فإن ظفرنا بها ، نلنا منها جزاءنا ، وإن ظفرت بنا ، أكلت منا العيون ، وقضمت منا الأظافر ، وتركتنا للشعب المرجانية تمزقنا إربا إربا ، فإن نجونا منها ، كانت البر مقبرة لانفع لنا فيها ، وليتني كنت مسؤولا في مجلس القرية ، حتى ابتني في عراءها تماثيل تذكر بالمفقودين في أعماق اليم ، والمغيبين في أحشاء المحيط ، تذكيراللأجيال المتلاحقة بأنهم حاضرون في شعورنا ووعينا ، لكنني لست واحدا من هؤلاء الذين تعج بهم هذه القرية البئيسة التي لا يعرف أكابرها إلا التحية والملق والخداع .
في الليل تسكت الأصوات المتهيجة بالنهار ، وهي خليط من أصوات الباعة والمارة والمتقاعدين ، ومن أصوات النوارس والطيور التي تفد على المكان من أماكن بعيدة ، لتستمتع بنهاق الحمير الجار للعربات التي تضيق بها طرقات القرية ، وهي مثقلة بأجساد تعبر عبر الجسر إلى الأحياء الشعبية التي تضم أوكارا‍‍َ منبثة على ضفاف النهر الكريم بصبيه على هذا البحر المتغطرس ، وكأنه يستعطفه ليرحم هذه الأجساد التي ترمى فيه قهرا ، أو يستزيده من العناد الذي يضيف إليه شراسة ليشتعل حرقة إلى الجسد البشري المهدى إليه دائما بقدر الحاجة والفقر ، وحين يختلي منهم هذا المكان الذي يودعونه بتوديع الشمس إياه ، ولا يؤوبون إليه إلا بظهورها ، تجد أصوات اليل منفسحا، لتملأه بعويلها وصراخها ، فهل هم عباد الليل ، كما الآخرون عباد النهار ؟؟ أم تجود الحياة على كل منهما في لحظات بما لا تجود به في لحظات أخرى ؟؟ أم النهار بضيائه يهتك الأستار ، ويكشف الأسرار ؟؟ أم الليل سويعة للراحة المفروضة للجسد المضنى بضريبة الحياة ؟؟
فالليل بعتمته المبددة ، يبتلع أشباح النهار، فلا تجد لها وجودا إلا في الغلس ، وهي تنشق عنها الأرض مرة أخرى ، لتدخل إلى عالم الصراع والنفاق ، والنهار لن يكون أبدا مسرحا لحياة كثيرين ممن يرون أنفسهم خارج دائرة المجتمع ، فمؤامرات النهار ودسائسه ، لن تقف أمام خدع الليل ومكره ، فلكل منهما أهلون وبنون .
لكن الغريب في هذه القرية انها تتنفس صعداءها حين يكتسحها الظلام ، فتسرسل في جنونها مع مجنونيها ، مجانين بالمجان ، يتهامسون فيما بينهم ، وأصوات الحراس الليليون ، ومساومات لبائعات الهوى ، وشطارات اللصوص المندسين في شرايين النهار ، وغناء يندفع من إحدى السطوح ، وقرير الضفادع المركب مع صراخ السفن ، رحلة في اتجاه معاكس لضوء النهار ، تنتهي باتجاه الليل إلى الإنتهاء ، فيخبو أوار عشاق الليل إلى عالم السر والإختباء .
فياترى كيف نفرق بين الليل والنهار في حياة من سكونه خمود ، وحركته جمود .
وحين أسأل أحدهم عن سر هذا ، لايحار جوابا في أن النهار كشاف فضاح ، والليل ستار كتام ، فالنهار مومسة تفضح الزوار ، وتكشف الأستار ، أو نمامة ، تحكي كالإذاعة الجهوية التي تهتم بأخبار مدار جهتها ، فلا تبقي في خزانة تذكرها ما عساها تحكيه غدا .
فكيف تصيح الأسراربالكشف والوضوح نهارا ؟؟ وكيف تتحول حقائق الليل إلى سر مختوم بالنهار ؟؟ فهل في ضياء النهار توضيح للحقائق ، وتجلية للمستور ؟؟ وهل في حركة البيوت ، والمقاهي ، والشوارع ، والمدارس ، والأسواق من وضوح وجلاء؟؟
فأين تحبك المؤامرات إذا ؟؟
قوادة ، شذوذ ، سرقة ، نهب ، اختطاف ، غش ، تدليس ، كذب ، نفاق ، كل هذا لا أراه في الليل إلا بمقدار ما يوضحه النهار .!!! وهل في سطوع هذه الغزالة على رءوسنا ، كسف لشهادة الزور التي تمليها علينا الظلمة في عالم حقيقتها ؟؟ أم اليل حقيقة مطلقة نناجي فيها الصفاء والود والحنان ، ونخلع فيها شارات النفاق التي ترفعها طحالب النفاق في توسلاتها لمصالحها التي تفترسها قصدا بالليل ، ونهبا بالنهار ؟؟
كنت أخرج في الصباح ، فأرى نساءا في لباس النوم يخرجن القمامة الى فراغات الزبل ، وأطفالا تقبلهن أمهاتهن قبلات حارة تودعهن الى رياض الأطفال ، ورجالا يتعثرن في أوحال الأزقة وهم يتأبطون حقائب ممجوجة يملأونها بالجرائد اليومية التي ترسلها المطابع الى الصندوق البريدي ، او بملفات الصفقات والمشاريع التي تموت بحياة أخرى .
أخرج متنسما أريج عبق النهار ، مستنفحا ريح الصبا ، وهي تهب علي بأسرارها ، وتمنحني من وحيها ، لكنني رأيت عندها وجوها غادرة تفرك عينيها على أبواب أوكارها ، وتتفوه بملء أشداقها ، وكأنها تستقبل الشمس بمكرها ، وجوه لا أحبذ أن أراها في ساعاتي الأولى ، ولا انتظر أن يسمح لي بلقياها ، لقد كرهتها منذ أن رأيتها في جامعة الحياة ، ونفضتها من قلبي منذ أن رأيت تقاطيع كلامها كالمنشار ، ولم أدر لم صارت سببا في إستبدال شعوري ؟؟ ولا كيف اخترمت مني نظروة شزرى إلى خيوط الشمس ،؟؟ فمنذ ذلك الوقت ، ودعتها بحنيني إلى جرما لقمر، وهو صغير ، فتحولت مادتي من زئبقية النهار ، إلى أقواس الليل المفتوحة ، فمن ألهم الجماد أن يحكي ؟؟ ومن أصاغ بقلوبنا حنينا متولها إلى فضاءات جامع الفناء ؟؟ السحر يحكي ، الدفوف تحكي ، الليل يحكي ، المنارات تحكي ، الساعات تحكي ، المقابر تحكي ، فضاء لا أعشقه إلا حين أرى هؤلاء المجانين يشعلون كومة من النار ، يدفئون بها أناملهم المتجمدة بشتاء دجنبر ، قطع من التوابيت والصناديق يحملونها من مسافة بعيدة ، من أبواب ، إلى أبواب ، ليجعلوها مدفئة يستطيبون بها عضات الليل البهيم ، القمر قد غاب لكونه ولد صغيرا ، والشمس غدرت بأحلامنا ، والليل هنا مطمح المجانين ، حكمة تتسلق عروش قلوبنا المندفعة في فقاعات الأيام المتنكرة لنا ، وكلام يغزو بطنينه عقولنا الساذجة ، وحياة لا ترى فيها إلا أصابعا تتسلل من بينها دفقات الدخان المتلبس بصور الأيام الأثيمة التي خاضتها هذه الذوات في قفص الجنون والتشرذم ، وحين يجدون لها حرارة يطوون أصابعهم ، فلا أدري أهل هم عباد النار ؟؟ أم يرونها دليلا على القوة ؟؟ أم على الحرية ؟؟ أم على الكرامة ؟؟ وهذا ما يجيبك به أحدهم لو سألته عن جلستهم المحدقة بالنار ، ثم تستوفقني علائم ، وإشارات المرور، لأتعرف على أحوال هؤلاء ، أحوال ، قصص ، حكايات ، أرقام سرية ، ومفاتيح مرموزة ، لشخصيات لأأنتقي منها إلا أربعة هم أقرب إلى نفسي من غيرهم ، أربعة عدد جميل ، ينام في منامة البؤس متجها إلى ضفات الكون الأربعة ، من عوائل مجهولة ، لقد ترعرعوا في لا مكان ، وعاشوا في لامكان ، ومآلهم لا مكان ، الأبيض آثر أن يبقى أسودا ، والفحم أقسم أن لا يترك مساحة للأولوان ، إنه نوع من الإستبداد الذي نحاربه في مجموعة قريتنا التي أمثل فيها الناطق الرسمي بإسم العقلاء ، بله المجانين .
أشباح تطرر المكان ، وكانها لوحة تلاعبت فيها ريشة رسام بالإبداع الخلاب ، لوحة تبتدا في إحدى أقطارها الهندسية ، برأس منكوش ، وتنتهي بأخمص قدم متفطر بالأوساخ ، لوحة بلون الأرض ، تئن فيها رخامات ، تحت حفر مقشورة ، وكانها بؤر صغيرة ، تتمدد في ترتيب غير محكم ، لتصل إلى نقوش تنداح في سعتها الفائقة ، وكأنها قرص مستدير ، لكنها معقفوفة ، تتلوى عند آخر زاوية ، تعبير جميل، تدل عليه هذه الرسوم ، فسيفساء ، تتناغم فيها الألوان والأشكال .
رخام ، يشهد بفترات أمضاها المستعمر هنا ، وأسطوانات متهارية واقفة في ذهول ، تدل على القوم الذين كانوا أهل حزم ومثابرة ، تتنافس فيها الثقب ، والشقوق ، لتعلو نحو سمائها ، مسامير مغروسة فيها بفوضى ، وأعواد مغروزة فيها بإمعان ، وأكياس معلقة عليها مليئة بالأوراق ، أوراق تناهى العمل بها عند أهلها ، فصارت إلى دهاليز العطار ، أوراق قد امتحن الطلاب عليها ، ولا ندري ما النتيجة ؟؟ ، أوراق قد تحولت أرقامها إلى معادلات في جراب السراق الذين يمضون على الأوراق البيضاء !!! ، أوراق تحتضن مئات الحروف !! والكلمات !! والأرقام !! تبشر بضياع جيل لا يرى هذه الأرقام إلا في دفاتره التي ينوء بحملها ، أو عند باعة حبات نوار الشمس ، والحمص ، والفستق ، أو عند هؤلاء الفلاسفة الذين يعشقون الورق لبياضه ، لا لما يكتب عليه ، أو عند الشعراء والأدباء ، وهم ينفثون فيه جنونهم .
أقواس صبغتها أسلال من التاريخ الموضوع بين ذراتها الحاضرة شهود عيان على حياة كانت ، وحياة جف منها العود ، فصارت فروعا يابسة لا تحن إلى حياة ، ولا تحلم بروح .!!!
أترجل من مقعدي ، على هذه الحديقة التي تجود عليها شاحنة بدفقات من الماء تمتصها بشره ، وهي تطلب المزيد ، لأنتقل نحو هذه الأقواس التي تتراكم فيها الأشباح ، والأزبال ، والحمم ، أبواب مغلقة ، وأبواب مفتوحة ، وباب لا يبرح مكانه ، ولو ارتحلت الأبواب كلها ، باب الحمام التقليدي ، أتأمل المشهد في صفائه ، وكدورته ، فلا تعجبني إلا كلمات ، ينطق بها ذلك المجنون الذي يحكى عنه أنه أعقل هؤلاء ، هنا الحقيقة ، كلمة بحثت عنها في الفصل الدراسي ، بدروس التاريخ ، والفلسفة ، فلم أجدها ، وطرقت أبواب الصوامع ، والمآذن ، فلم أرلها إلا خيالها المتبدي على أجساد تظنها مالكة لزمامها ، تبيعها بالأجزاء، وأحيانا بالكل ، بحثت عنها في قلبي فوجدت لها نورا ، لكنه طفيف ، يشع فيخبو ، وحين أضفت إليه نورها في جلاءها في الحضرة الصوفية ، بتراكيب جسدها المعقد ، وجدت الحقيقة ، لكن نفسي ، تتوهم أنه مازال فيها حنين إلى مراحل من الشك المبلغ الى يقيني ، لم أخرج لأرى الأجرام ، بتركيبها البديع ، ولكنني أهرول نحو هذه القباب ، بمطروزتها الغريبة ، لعلني أجد فيها نفسي ، وهي حقيقتي ، وأسعى من وراء هؤلاء الأغراب ، لعلني أظفر بحقيقتها .
هذا تكلم لاعجي ، قبل أن يستتم النور عنده ، لكنني ، لم أواطأ نفسي على استسلامها ، تقدمت خطوات إلى الأمام ، لأرى بركا من البول ، غلفت هذه الأجواء برائحتها الكريهة ، وقمامات ترشح منها خيوط عمودية من الماء المنتن ، وحمما متجمعة على باب الحمام ، حمام رابض هنا منذ القديم ، لم يحك عنه في أقاصيص الأولين ، إلا أنه كان وكرا للشذوذ ، كل ما تحت هذه الأقواس مخالف لمقولة المدعي بوجدان الحقيقة هنا ، فأين الحقيقة ؟؟
واقع يشي بالمجهول ، ويصرخ بالمستحيل من عالم الحقائق ، ولا أدري كيف أستفتح هذا العالم الذي أحببت معرفة خزائنه ، وشهود حضوره ، وطريقة ترتيبه في الوجود .
أردت أن أعرفه بخلايا دماغي النحيف ، بأعصابي المخدرة بعقاقير السنين ، فتماوجت بين سرايا تفكيري أفكار كثيرة ، أفكار أوصلتني إلى مبلغ التوهان والسرحان ، فلم أدر أهل استمر في عملية الإستكشاف ؟؟؟أم أهيل التراب على مجانين الكون كلهم ؟؟؟ أم أبيع ملفاتهم للمنظمات المتاجرة بمأساتهم ؟؟؟
لم أقدر على نسيان جزء من ذاتي ، فتقدمت بعدما قطعت حبال التفكير ، واختلقت لأرادتي قوة وبطشا ، ثم تقدمت بخطوة طوت كل المراحل ، لأصل إلى بحبوحة المكان ، وحين وصلت كنت أنتظر زلزالا يعصف بي ، أو صاروخا يدمرني ، وحين جالستهم بوقار ، زال ما خشيته من أمرهم ، وما خفت أن ينالني من أذاهم ، وحين امتزجت برئتي روائح المكان ، استطبت المقام بين أيديهم ، وكأني بهم قد عرفوني منذ زمان ، وعرفتهم منذ أن ظهر لهم خيال بذهني ، قوم لطفاء ‍‍!!، لا يتكلمون بكلام ، عباراتهم إشارات ، حضارة لا تعرف النار إلا للدفء ، ولا التهاوش على المراتب والمقامات ، حضارة لا يعيش فيها أهلها هوس الحياة ، ولا عقدة الخوف ، ولا هستيريا النقص ، إحساس عميق ينتابني ، ويحتضني ، وأنا أتمنى ، أن أحس بما يحسون به من سكينة وهدوء ، حضارة ، تخالف ما تنقله لنا الجرذان من سموم مكتومة لا تتنفس إلا في جؤجو الإنسان المهزوم .
كلمات، لا يجدون غضاضة في البوح بها ،أ والتصريح بقيمها ، في عالم البراءة الأصلية ، والفطرة النقية ، و بين أقوام ينامون على فراش الخوف ، ويستيقطون معذبين في لوعة ، يخافون أن تدوسهم عجلات الخوف عند نعالهم ، خوف ، قلق ، فلسفة ، مستحيل ، وكأن نيتشه حين قال : إن العقل هو المستحيل الذي لا يمكن إدراكه، (يتحدث عن ماهيته ، وأنا عن أعراضه ) ، إذ ليس هناك ، سوى نفثة من عقل ، ومثقال من حكمة ، لم يعن إلا هؤلاء الذين يغلفون وجه الكون بنقائضهم المحولة لمصائرنا ، إلى جداول من الحزن القاتل ، وهم لا يعتقدون ذلك إلا تعقلا واتزانا .
وتساوى الحالتان في تناغم ينبئ عن وجود فواصل عندي ، العقل ، الجنون ، كلاهما صار محبوبا لي في لحظة الصحو، شفيفا عندي عندي في أول السير ، لكن العقل لا يكسبني من دعته حياة مريحة ، ولا سعادة أبدية ، فحين أحس بالإنتصار، يريبني الخوف من الهزيمة ، وحين أقبل من عاطفتي رخصها ، يكتسحني العقل بعزائمه ، فيقف في تناص مع اللذة ، فهو يريدها له ، وهي تريد إبعاده ، إنه يأتيني في لحظة نشوتي ، فيتكور على جليد عاطفتي بحرارته الطاغية ، فيحيل اللحظة إلى سعير تجد شرارتها كل النفوس التي سميت بالجنون ، ولو كانت من فضلاء وفضليات التاريخ ، !!! فالعقل سديم من الضباب ، وعالم لا أطبااق فيه ولا آفاق ، إنه مسالم ، مخادع ، موارب ، لا يتشكل إلا حيث تظهرأنانيته ، وتتضخم ذرات جوهره ، فهذا هوالعقل فلم أكون عاقلا ؟؟
إطمأن بي المقام ، ثم جلست القرفصاء ، وأنا ألبس جبة غزلتها جدتي من صوف خراف عيد الأضحى ، وأضع على نحري سبحة بحباتها الغليظة التي تذكرني بالتين المجفف الذي كان يشتريه أبي من السوق الأسبوعي ، وأنتعل في رجلي حذاء مدبوعا من جلد الماعز الذي يسود هذه الهضاب والوهاد ، وتمر بين عيني صور من يقفون ساعات أمام المرآة ، تحليقا ، تلميعا ، ترجيلا ، فأبكي لحالهم ، حال يقف صامدا كالصخرة الجاثمة على مدخل القرية ، تنتقش فيها أسماء كثيرة لا أعي من أمرها شيئا ، وحال يتبدد عند النوم ، فلا يرى النور إلا في ظهوره شبقا يمشي بين السكك ، والشوارع ، والأزقة الملتصقة بباب المسجد الموبوءة ساحاته الخارجية ، بوقفات العواهر المنتظرات لليل السخاء ، !!! صداع ينتشر من هذا المكان ، دكاكين الباعة ، وحوانيت صغيرة ، يجلس فيها شيوخ بوقار، قبعات حمراء ، وأحذية صفراء ، وجلاليب بيضاء ، والناس غرثى يبحثون في أكوام التفاح والبرتقال والإجاص ، فلا أدري كيف أقارن بين حالين في عتمة الحقائق ؟؟
أقوم من بين أيديهم ، في وهجة المتقد بمعنى السمو الروحي إلى دكان ، أبتضع منه خبرا ، وزبدة ، وانحرف في طريقي إلى هذه العربة لأشتري منها برتقالا ، وأعود إلى مكاني بعدما انتزعت من طينتي طينا مدسوسا فيها بغير إتقان ، مساحة من الزمن ، أكل بشره ، والرقم السري مازال خفيا ، ويستبد بي النور في انشطاره ، إلى أن أكتشف من عالمهم ذاتي أولا ، وذاتهم ثانيا ، وذات المجتمع ثالثا ، ذوات ثلاث ، تنصهر في فرن المجتمع ، تلهبها النار، فتكون أصفارا في معادلات الوجود ، فهل الصفر رقم ؟؟ أم لا ؟؟أو تلقحها بشرارتها الساطعة ، فتكون مجلى لتراكيب الوجود الحقيقي ، وجود الذات كنقطة تسري في ذات الحقيقة ، أنا إذا ، ذرة ، شظية ، لقاح ، نور ، تتجبر الأرض مرة أخرى ، فتدخل من تحت جبتي ، لتحيلني إلى صراعها الآفن ، أهل أبطل الزمن بمفعوله لحظات السكر في فضاءات الميتافيزيقيا ؟؟ أم جاذبية الأرض صارت أقوى في ذات لم تولد في مهدها الجديد ؟؟
في فترة المخاض ، لا أبرح هذا المكان ، أجلس فيه ليالي طوال ، ولا أخشى إلا من هذه الصخرة التي تسكبها الأقدار دويبة تتسلق رأسي ، وتدخل في مسام شعري ، وتستوطن عقلي ، وتقيم لها عرشا على قلبي ، صخرة صلداء تجثم على قلوب كثيرة ، بل رضت خلايا عقول موصوفة في عالم التباهي بالعقل والثبات ، غيبة ، نميمة ، ألم ، ضجر ، حزن ، ويدب قرص الشمس ، وأحلام ينسيها اليل ، والنوم لا يدع فرصة للأحلام الجميلة ، كوابيس مزعجة ، ورؤى مفزعة ، وينتهي اليل ، والخوف لم يبرح مكانه ، فالفلاسفة يخافون ، والتجار يخافون ، والأدباء يخافون ، وأنا لا أشعر بالنوم إلا في مملكة هؤلاء ، نوم على وجه البسيطة ، واستغراق في فراغ ، وراحة تنبعث من الأرجاء ، تيسرمن أمر الحياة ما نخاف ، قوم بلاهوية ، ولاوطن ، يعيشون على أرصفة الطريق ، يقطعونها شمالا وجنوبا ، ويستريحون حيثما عن لهم بلا عتاب ، فلا اللصوص تطاردهم ، ولادوريات الأمن تلاحقهم ، ولا الكلاب تلهثهم ، يشعرون بتصالح مع الهوام ، والسباع ، وينتظمون مع الطبيعة بمناخها ، فلا البرد ، ولا المطر ، ولا الجليد ، ولا الحرارة ، ولا الرياح ، ولا العواصف ، ولا الهزات ، تأكل مشاعرهم كالسرطان .
وتقف الحمامة على عمود الضوء لتغني بصوتها المترنم الحزين ، وكأنها تودعهم ، فأستيقظ من نومتي على نبرات صوتها ، فلا أرى لي إلا أن أنصرف عن أقواسي إلى وكري ، لأستجمع حقائبي لأسافر سفرة اللاعودة ، لكن الطرقات باكتظاظها لم تدع لي سبيلا أسلكه إلى هناك ، فلم أدر كيف ننظر إلى الجنون ؟؟ أهل أتوسل به إلى راحتي التي افتقدتها في طبقات النجباء ، ودركات البلداء ؟؟ أم أنظر إليه بنظرات صوفية ، تراه مقاما مبروكا للجذبة والمرادية ؟؟ أم أنظر إليه بنظرة طبيب القرية ، وهو لا يعتبره إلا جلطة مشوهة لجمال القرية ، لا معدى عن ارتحالها إلى سجن المشفى ، أو دورالأمراض العقلية ؟؟
وفي الأخير وقبل أن ينفذ قرار ريئس مجلس القرية بترحيلهم من هذا المكان ، تجمعت عيون تحدق بهذا الموكب ، لم يخرج من زنزانات السجن ، ولم يطلق سراحه من قطبان المشفى ، ولم يسبق بسابق إعلان ، بل قامت الفراسة محل الإنذار ، فتحلق الأربعة في القوس الرابع ، من هذه الأقواس في رقصة دكت كل ما أحدثه وجودهم في هذا المكان ، حال ، مقام ، من الغيبة ، أعقبتها لحظات الصحو والنشاط ، كلام لا تشتمل عليه معاجمنا ، ولا تعرفه معانينا ، حكمة ، شطح ، ويستوقف المنظر الهادي عيون القلب المتوثبة لتنتظر الأسرار المنقولة على جبين كل واحد من هؤلاء .
وتخرج عصا من عصيات رموز خاتم سليمان ، شاذة عن أخواتها ، منحرفة جهة الشرق ، وهي تتأبط لوحة كتبت عليها رموزسوداء ، نضدت فيها حروف مهموسة ، تشعر بطلاسم وألغاز، لا أخال أحدا في قريتي يعرف فكاكها ، رموز تخلبني ، لأتسكع في دروبها ، وأفعل ذلك مرات، ولا أعود من ورائها بطائل ، فالقاموس لا يعرفها ، والإعراب لا يفصح عن حركاتها ، والبيان فهيه أمامها ، ولا أدري أهل مياه المطر ستمسحها ؟؟أم طول الأيام سينسيها ؟؟ رسام ماهر يتقن الكتابة السريالية بمســـــــــامير من فحم موخز ، ‍‍‍!!!
ولما سألت اللوحة عن اللغز الذي أودعه فيها صاحبها ، لم تعدم جوابا ، قالت : هذا وشم على بطن الفتاة ‍
قهقهت في حركات ، وأسهمت بسهام كلمات ، فقلت في دورة نفسي : إن المجانين يمارسون تقية ، يعيشون من ورائها شفافية ووضوحا ، و تعمية مقصودة على أعراف وتقاليد الحياة ، ‍‍!! هنا شككت ، فهل الجنون حالة طبيعية ، أم شاذة ؟؟ وهل الجنون نتيجة صراعات داخلية ، تدل على اضطرابات في الشخصية ؟؟ أم دليل على التنابد ، وعدم مواطئة المجتمع في نواميسه الشخصية ؟؟ أم الجنون ثقافة ، وفكر ، وحضـــــــارة ؟؟ وهل الجنون المقصود لذات ما يحيل عليه ، يسمى جنونا ، أم عقلا ؟؟ وهل الجنون ، فرار من زعانف الحياة ؟؟ أم من طحالب النفاق ؟؟ أم من شراسف الكذب ؟؟ أم من النفس ، إلى حضرة خالقها ؟؟
إنها أسئلة أغوص في بحرها ، وأعاني من لأوائها .
وتتشظى العصية الثانية جهة الغرب ، لأتبعها نظراتي الحائرة ، فأقلب عيني في عيني ، وكأنني في مرحلة متقدمة من الجنون ، فلا ألتقط إلا وجها شاحبا ، يرخي شراشره بولا يقذفه في عين الأرض ، ويقول : ملعونة ، ملعونة، لقد خدعتني بداية ، وأردتني نهاية ، ‍‍‍‍!!!! كلمة لم أفهمها ، أهل هي مجاز ؟؟ أم حقيقة ؟؟ وهل هؤلاء يقرءون بلاغتنا ، حتى يوروا عــــن معناهم ؟؟
إنها زوجته ‍!!! إنها حبيبته !!! إنها متسكعة !!! إنها زوجة أبيه !!! ، فمن هي ؟؟ إنها الدنيا !!! أنها السياسة !!! أنها شيء آخر لا أعرفه .!!!
فكرت في تحديدها فلم أفلح .
ثم إستدرت وجهي لأرى إنفلات عصية ثالثة جهة الشمال ، أختطف من صدى خشفها كلمات ، لا تزاد في عقدتها عن أخريات سمعتها من مجانين العالم ، يردد الصدى معي وأنا أتذكر ، ماتــــت ، ماتـــت ، وحين أعود إلى قبرها ، سأخرجها لتحيى حياتها ، ويتعلق ذهني بهذه العلقة ، أستفسر كل طائر ينوح ، وكل غصن يفوح ، فلا أجد لي مصدا عن سرحاني في عالم الباطن أستكنه ضمائره في نفسي ، فمن التي ماتت ؟؟ ما شخصها ؟؟ ما ملامحها ؟؟ إنها أمه ، إنها جدته ، إنها زوجته ، إنها ابنته ، إنها حبيبته ، إنها صديقته ، إنها من عالم المعاني ، فلربما كانت الميتة، الفضيلة ، ولربما كانت الكرامة ، ولربما كانت غير ذلك ، !!! كلام لا يخضع في تركيبه للعقل الإجتماعي ، ولا يقبل أن يعيش تحت لغة المصلحة والمنافع .
وأدور في زاوية عمودي جهة الجنوب ، لأرى عصية تفتت بها الرمز الثالث من الخاتم ، وحين هرولت من ورائه تبدى لي سقطا مكشوفا ، يتوكأ على عصا ، ويرتدي ملاءة سوداء ، أسبلها على جزئه ، فخضعت لها الأخمص ، والظهر ، وحين حاولت أن أضع يدي عليه، لئلا يتركني لوحدي ، في قرية العقلاء ، كان ضبابا رقيقا منفوشا يلتهمني في تياراته الهوائية ، فلم أسمع في وسط الضباب ، وأنا لمسة ضوء متوهج ، إلا ، أريد أن أصلي في الكنيسة ، قلت : وهل في القرية كنائس ؟؟ قال : كنائسنا ومساجدنا ومحلات عبادتنا ، هذه الجبانات ، والأضرحة ، قلــت : وهل تصلي فيها ؟؟ قال : سأصلي بدون وضوء ، لقد إغتسلت قديما ، فكفاني غسل واحد منها ، ثم انقشع الضباب عني ، وأنا أصك أسناني ، من هي التي اغتسل منها ؟؟ أهل هي الجنابة ؟؟ أم الدنيا ؟؟ أم شيء آخر ؟؟ ألغاز كبيرة ، لا أدري كيف تركتني في حياتي لوحدي ، أعيش انطواء وعزلة ، وإن عايشت الناس بباطني ، أحتار في جوابها بعدما ارتحل القوم الذين يستأنس بمقامهم ، وافتقدت الرجال الذين يستحسن كلامهم .
وأخيرا ، وصل رئيس مجلس القرية ، فحنت الطيور إلى أوكارها ، وارتحلت النوارس إلى شطآنها ، وسكتت أفواه الطرقات ، والسكك ، لإصدار قرار بهدم الأقواس ، وإعادة ترميمها



#ابراهيم_الوراق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين ولدتني أمي !!!
- خيال إنسانة
- خيال من خيالات انسانة
- لقاء على شاطئ سيدي بوزيد
- مسار عمرو خالد ، وخالد الجندي ، في الميزان
- صراع الوهم ، أم صراع الإرادات
- عمرو خالد بين الأسطورة والحقيقة
- شظايا في افق الكلمات
- اعباء الروح 1
- حوار بين العقل والعاطفة رقم 6
- 1-2-3-4-5-مرابع البؤس -الانسان ، الزمان ، المكان- رقم
- حوار بين العقل والعاطفة رقم 45
- حوار بين العقل والعاطفة -رقم 1-2-3-
- ثورة من أجل الحقوق أم على الظلم...؟
- مجالس سامرة ..محاورة بين التلميذ وشيخه


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم الوراق - قرية المجانين