|
ما زالت ذاكرتي في حقيبتي
شوقية عروق منصور
الحوار المتمدن-العدد: 5272 - 2016 / 9 / 1 - 17:43
المحور:
الادب والفن
الألوان والأشكال والصور على الرفوف ، حقائب مدرسية مرتبة بطريقة مغرية ، كطائر قادم من سماء متلبدة ، وقفت وأخذت أتأمل هذا المحيط من تناسل الأشكال من الحقائب ، والتي جميعها كانت تهطل من سماء التجارة على ظهر الطالب الذي سينبت فوقه سنابل الأبجدية لتعطي خبز التعلم . للحقائب رائحة ، ليس رائحة الجلد المخلوط بعبق الدهان والألوان وأنامل مصممي الحقائب ، لكن رائحة الماضي الذي ركع على ركبتيه ، وقدم الولاء للعمر الذي ما زال ينحني على وقع السنوات ، ها هي حقيبتي المدرسية تطل من بين ركام الحقائب ، ليست ملونة ، وليست محاطة بخيوط واقفال واسلاك ودبابيس وأشرطة ، بل هي حقيبة مصابة بمرض الوراثة ، لقد اشتراها جدي لخالي الطالب المتفوق من سوق حيفا ، عندما كان جدي يعمل جندياً في الجيش البريطاني ، وبعد عام 48 فقدت الحقيبة ، ولكن وجدتها جدتي فوق السدة بعد سنوات طويلة ، فقامت بمسحها بزيت الزيتون ، حتى أصبح لمعانها يلفت النظر . بعد سنوات طويلة من استعمالها ، قام خالي بالتخلي عنها ، فأخذها خالي الأصغر وبعد أن انتهي خالي من دراسته حتى الصف الثامن ، قامت جدتي بلفها بقطعة قماش ودستها مع الأغراض على السدة - التي هدمت بعد ذلك بحجة أن السدة موضة البيوت القديمة - . دخلت المدرسة وفي الصف الثالث ، كانت الحقيبة قد نزلت عن السدة ، بعض أن تذكرت أمي وشهقت جدتي فرحة لأن ذاكرة أمي قد ركضت في سباق مع الإهمال، وها هي أمامي ، جوانبها مفتوحة ، علينا بالخياطة .. وضعتها أمي في كيس ورق وقالت اذهبي الى الكندرجي عمك " أبو ناصر" في سوق الناصرة القديم ، حيث يقع محله على تلة ، وعلي أن أصعد عدة درجات حتى أصل الى غرفته الضيقة المليئة بالأحذية القديمة والحقائب الممزقة التي تنتظر الخياطة والترقيع والتصليح . صعدت الدرجات وإذ بالعشرات ينتظرون " أبو ناصر " صاحب الوجه المبتسم ، حيث يستقبلك بقوله " أهلاً عمي " . عدة رجال يجلسون داخل المحل على مقاعد صغيرة مصنوعة من القش ، يتناولون الحديث والنكات ، ونحن ننتظر ،" أبو ناصر " الذي يصر دائماً على أن يصلح للنساء أولاً ثم للصغار وبعد ذلك للرجال ، هذا هو دستوره " عيب المرا تستنا " و "حرام الصغير يستنا " ، يجلس " أبو ناصر " على كرسيه وأمامه السندان ، حيث يدخل الحذاء في لسان السندان الحديد ، ثم يضع عشرات المسامير الصغيرة في فمه ، ويبدأ في عملية سريعة ومتقنه بإخراج المسامير من فمه ودقها في نعل الحذاء ، وبسرعة قصوى يزنر النعل بالمسامير ، ويناول الحذاء للزبون ، وأنا أنظر الى فمه متسائلة : كيف يدخل المسامير ولا يقوم ببلعها ؟ رغم أنه يتكلم ويضحك ويمازح ، والمسامير صامدة فوق لسانه ، لا تنزل الى جوفه . جاء دوري ، " بسلم عليك أبوي وبقلك خيطلي الشنطة " قلتها وأنا اناوله الشنطة ، نظر الي وقال " هاي الشنطة من زمن سيدنا نوح " لم أعرف من هو نوح لكن عندما رأيت بريق الضحك في عينيه ، ابتسمت ولم أتكلم .. !! وضع الحقيبة في فم ماكنة الخياطة ، ورأس الإبرة في منتصف الجانب الجلدي ، وأضرم نيران الخيوط البيضاء فوق الجلد الأسود ، وعندما انتهى ناولني إياها .. رفضت ، لأن الخيوط البيضاء ظهرت كأن أصابع ملوثة عبثت في بقعة نظيفة . رفضي لأخذ الحقيبة لم يعجب "أبو ناصر" الذي قال " انت يا مقصوفة العمر بدك تعلميني شغلي " .. أذكر أنني رفضت التحرك حتى يصلحها من جديد ، وأخذ الرجال الذين ينتظرون ، يقولون له " شغلك غلط .. لازم تصلحه " ابتسم وقال " طيب " ثم قام ودهن الخيوط البيضاء بالبويا السوداء ، فاختفت الخيوط وعانقت جلد الحقيبة . بقيت معي الحقيبة حتى الصف الثامن ، في وقت لم تحمل الرفوف في المكتبات الضيقة المتواجدة في مدينة الناصرة ، أشكالاً والواناً من الحقائب ، بل كانت تبيع الأدوات المدرسية البسيطة ، القليلة ، أذكر منها الدفاتر بأشكالها الكالحة ، النائمة فوق الأسطر التي تحمل ( اسم الطالب والموضوع والمدرسة ) لكن أعترف في ذات الوقت كانت تحمل دف الحرص والتمسك بشيء نفيس ، أما أقلام الرصاص ، فكانت هي الأشجار التي نتسلق حدة بريها ، نبقى نبري رأسها بشفرة الحلاقة ، حتى يصبح الرصاص كسن الرمح ، لكي تأتي الحروف واضحة ، شامخة ، تنبض بقوة فوق السطور، ولكي تبهر المعلم ونحصل على نتيجة ممتاز مع نجمة ، عندما كان للخط قيمته الرفيعة، ومنزلته الهامة ، أما أقلام الحبر فكانت حكراً على الكبار، خاصة الرجال الذين كانوا يضعون قلم الحبر في جيب القميص على الجانب الأيمن ، دلالة على العلم والمعرفة والقيمة الاجتماعية ، أما الأقلام ذات الحبر الأحمر ، فكانت الحلم والسحر ، ننظر الى الحبر بقدسية ، نرى فيه حياتنا المستقبلية ، لأن العلامات تنزل من رحمه ، وغالباً ما كان الحبر لا يرحمنا . أول قلم حبر حملته ، كان هدية من جدتي ، التي سافرت سراً الى مدينة جنين بعد حرب 67 ، حيث كانت الطرق مغلقة ، لكن عبر تصريح وواسطات عدة ، زارت جدتي " جنين " حيث حلت ضيفة على أخوالها ، ومن هناك جاءت بالهدايا - اليست كانت في سفر خارج الناصرة - من بين الهدايا التي حملتها في شبكتها البلاستيكية قلم حبر اشترته خصيصاً لي كان ملفوفاً بصفحة من جريدة ، حيث قالت جدتي " خفت يشوفو في التفتيش " ، أذكر أنه في رأس القلم كان هناك زئبق يميل كلما مال القلم ، كأنه ماء وفي داخله صورة لجمال عبد لناصر ، لم أعرف من هو عبد الناصر ، فقد كنت في الصف الثالث ، لكن أمي أخذته مني وقامت بإخفائه بين مصاغها الذهبي ، وكانت تقول " هذا قلم من ريحة أخوال أمي وفوقه صورة أبو خالد " . نشف حبر القلم ، لم استعمله يوماً لأنه من الممنوعات ،و بقي بين مصاغ أمي حتى اختفى ، لا أذكر أين ذهب ، لكن ما زالت صورة جمال عبد الناصر وهي تتحرك أمامي حتى الآن .
#شوقية_عروق_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفن يزدهر في تربة السياسة
-
صورة سيلفي مع ثور وكوز صبر
-
نساء -داعش - بين فتنة السلاح والنكاح
-
الموت غرقاً ورائحة الخبز أبعدت زكية شموط
-
غزة انتصرت لكن ما زال دلو الركام في عملية خنق الرقاب
-
عن غزة وجيش المفاجيع بقيادة نانسي واحلام ووائل كفوري
-
في غزه الوقت من دم
-
التنسيق الأمني وبنطلون الفيزون
-
ابو مازن في غرفة مغلقة والستائر سوداء مسدلة
-
الجريمة والعقاب
-
يهوشوع بن نون يجلس في حضن المهندس الفلسطيني..!
-
امريكا الأمير ونحن حذاء السندريلا
-
تعالوا نسافر بلا عودة..!!
-
-غندرة مشي الفدائي غندرة-..!!
-
حملة -اخبر ابنك- امام حملة -أنجب ابنك- رغم القضبان
-
سلوى + سعاد = الرجاء اصمتا..!
-
أنا ارتعب وأخاف اذن أنا موجود..!!
-
رمضان بأي حال عدت يا رمضان..؟
-
سعود وفضل نجوم -أمريكا أيدل-..!!
-
بلدياتنا ومجالسنا المحلية العربية سلاحف انقلبت على ظهورها
المزيد.....
-
هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية
...
-
بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن
...
-
العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
-
-من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
-
فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
-
باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح
...
-
مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل
...
-
لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش
...
-
مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
-
مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|