أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عدنان حسين أحمد - استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية/ الروائي جاسم المطير: الهجرة بديل الحرية المؤقت 10-15















المزيد.....


استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية/ الروائي جاسم المطير: الهجرة بديل الحرية المؤقت 10-15


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 1397 - 2005 / 12 / 12 - 11:06
المحور: مقابلات و حوارات
    


لم يشهد الوسط الثقافي العراقي على مر السنين هجرات جماعية، ونفياً قسرياً للأدباء والفنانين والمفكرين، كما حدث للمثقفين العراقيين خلال حقبة الحكم الدكتاتوري البائد الذي جثم على صدور العراقيين طوال خمس وثلاثين عاماً، مسَّ فيها الضر كل العراقيين الذين لم ينسجموا مع سلطة البعث القمعية، ولم يتماهوا مع نظامها الفاشستي، والذي حاول بالترغيب والترهيب أن يروّض الذاكرة الجمعية للناس ويدمجها في مشروعه القمعي القائم على مُصادرة " المُعارِض "، وتهميش " المُختلِف " وإقصاء " الكائن غير المُدَجّن " والعصي على الذوبان والانصهار في الفكر الاستعلائي " الشوفيني " الذي كان يراهن على خلخلة الثوابت الأخلاقية، والإجهاز عليها، ومحوها من الوجود، ليؤسس لتقاليد " قومية " عدوانية، متعصبة، ضيقة الأفق، لا تقبل بالتنوع، ولا تستسيغ الاختلاف، الأمر الذي أفضى إلى شيوع ظواهر قمعية متعددة في آنٍ معاً، منها النفي، والاقتلاع القسري، والتهجير العرقي وما إلى ذلك. ولم تقتصر الهجرة أو اللجوء على المثقفين العراقيين حسب، وإنما امتدت لتشمل قرابة أربعة ملايين مواطن عراقي لم يستطيعوا " التكيّف " مع أطروحات النظام الشمولي الذي سرق الوطن في رابعة النهار، وزجّ العراق في سلسلة من الحروب العبثية، وأثث الفواصل الزمنية بين حرب وأخرى، بالمقابر الجماعية، والاغتيالات، والتصفيات الجسدية، فلم يكن أمام المثقفين العراقيين سوى الهجرة واللجوء إلى المنافي الأوروبية والأمريكية والكندية والأسترالية. إن نظرة عجلى إلى ضحايا الأنظمة النازية والفاشية والشمولية تكشف لنا عدداً قليلاً من الكتاب والأدباء المنفيين الذين اضطروا لمغادرة أوطانهم أمثال برتولد بريشت، وتوماس مان، وهاينرش مان، وأينشتاين، وأنا سيغرز الذين فروا من نازية هتلر، ورافائييل ألبرتي، وبابلو بيكاسو، وفرناندو أربال الذين هربوا من فاشية فرانكو، وسولجنستين، ونابكوف الذين تملصوا من النظام الشيوعي الشمولي، وهناك أسماء أُخر لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة غادروا أوطانهم بسبب القمع والمصادرة الفكرية أمثال الصيني غاو سينغ جيان، والتشيكي ميلان كونديرا وسواهما. أما المثقفون العراقيون من قصاصين وروائيين وشعراء وفنانين ومفكرين وإعلاميين فقد بلغ عددهم بضعة آلاف غادروا العراق مضطرين إلى المنافي البعيدة تحت مسميات عديدة من بينها، لاجئٌ، و مُهاجِرٌ، ومهجَّرٌ،، ومُغتربٌ، ومنفيٌّ، وهاربٌ. وللوقوف عند هذه الظاهرة ارتأت " الصباح الجديد " أن تقوم باستفتاء عدد من الكتاب والأدباء العراقيين الذين يعيشون في مختلف المنافي العالمية لاستجلاء أبعاد تجاربهم الأدبية، وما تمخض عن التلاقح بين الثقافة العراقية والثقافات الأخر الآوية للمثقفين العراقيين.

* أتصنِّف نفسك أديباً مُهاجِراً، أم مُهجَّراً، أم مُغترباً، أم منفيّاً، أم لاجئاً، وهل أن ما تُنجزهُ من نصوص إبداعية، مُستوحىً من الوطن أو" عش الطفولة، ومستودع الذكريات " بحسب غاستون باشلار، أم ناتج عن المخيّال الإبداعي للمكان الجديد بوصفة مَهجراً، أو مُغترَباً، أو منفىً لا يعتمد على صياغة المفهوم القائل " هذه بضاعتكم رُدّت إليكم "؟ وكيف تتعاطى مع مخزون ذاكرتك الفردية الماضوية " القبْلية " المُهدَدة بالتلاشي والانطمار نتيجة لتراكم الذاكرة البعْدية التي تتأسس في المنافي أو المُغترّبات الجديدة؟
-هل أكتب جواباً على سؤال صعب قدمه لي الصحفي الصديق عدنان حسين أحمد يتعلق بموروث من العزلة .. أم أخترع أسئلة جديدة على ضوء سؤاله تتعلق بإنتاج ٍ ذاتي ٍ عن نوع جديد من العزلة لا يماثل الموروث ..! ليس شيئاً محيراً أن أجد نفسي بين الماضي " الوطن " وبين الحاضر الذي هو " الغربة " في وطن آخر ..؟ لكنني اكتشفت خلال ثمان ٍ من سنوات الغربة إنّ جوهر العشق المحسن للوطن يظهر بعمق ووضوح مؤلمين عندما يتمرغ الأديب في آلام الغربة وأدرانها الكثيرة. أنْ يترك الأديب وطنه مهما كانت الأسباب ومهما كانت المسميات هي تجربة صعبة للغاية ، هي تجربة انفعالية مشوبة بحواس وإحساسات مختلفة. حين كنت في الأردن قبل أن تجتذبني فكرة الهجرة إلى أوربا كنت اشعر أنني منقسم إلى عالمين عالم المكان الأرضي بصرة – بغداد – أربيل ، وعالم القوة الروحية الذي كان يدفعني للبحث عن أمان في لاهاي .حين قررتُ مغادرة العراق تركت فيه أوراقي ، بمعنى تركتُ ذاكرتي المدونة لكنني جبت مدينة البصرة ومقبرة الحسن البصري في مدينة الزبير وأزقة بغداد الشعبية ، وجبتُ مع الصديق مرتضى محمد علي الفنان الفوتوغرافي بعض جبال كردستان ، ومدينة المقابر في النجف ، وضفاف الفرات في الحلة . ودعتها جميعا بقناعة أنني سوف لن ألامس أرض الوطن إلا بعد زوال الخوف ، زوال الدكتاتورية . كان هذا الزوال من أشباه المستحيلات ..!غادرتُ الوطن بخوف وجبن ، مستقبلا وطناً آخر، متناوحا ، بخوف وجبن اشد .من هنا تبلورت عندي ماهية الوطنية الإنسانية كونها أولا وقبل كل شيء شكل من طاقة التنوع الداخلي الإنساني في الخوف والحب والافتراق ، هي البيت والعشق ، لا تفريق ولا تمييز بين الوطنية والإنسانية . الكتابة فعل إنتاجي وهو شهيق وزفير يتمان في مكان ما ، والوطنية هي شهيق وزفير في المكان الـ" الما " . السجن السياسي مفردة خاطئة خلقها الإنسان للإنسان لكنها مكان ووطنية مثلما المنفى هو المغفرة الملائمة لسر من أسرار الحياة والحب وهي سر من أسرار حركة قطبية قد تكون شعاعا غنيا يشفي الكاتب والأديب والفنان من داء خطير هو من أعظم عطاء المنفى .. فالمنفى بمعنى الافتراق عن الوطن يمنحك وطنا فيه قوة .. يمنحك تجربة ليست مبكرة .. يمنحك وعيا يتغلب على كل صعوبة . الحق يقال هنا أن علاقة " المنفى " بــ" الوطن " هي نوع من عملية معقدة ومشوشة . المقارنة بينهما صعبة ومعقدة ومشوشة أيضا . بكلمات قليلة يمكن القول : لا تماثل بين الوطن الأم ووطن الإقامة . إلا في الموت فقط . حتى مراسيم الدفن في الغربة غير متماثلة مع أساليب الدفن في الوطن .غادرتُ الوطن وفي داخلي سؤال جديد : هل تسمح لي الغربة أن أعيد تشكيل ذاتي بعيدا عن البتاويين وأبي الخصيب ومحلة العشار وريف كردلان الذي ولدت فيه .. هل أنسى ذكريات نقرة السلمان وسجن البصرة والحلة والعمارة وسجن المخابرات وسراديب الأمن العامة .. هل تتأسس علاقة مغايرة بيني وبين " المكان " الجديد ..؟هل هي علاقة مستندة إلى أدلة وشهادات وتجارب سياسية ..؟ لمن ينتمي الأديب أو الفنان في غربته .. هل لعائلته .. هل للبيئة الجديدة .. هل لأرض ولد فيها ومارس ألعاب طفولته عليها .. كيف يحس انتماءه الجديد .. ؟ هل يمكن أن يتراجع الوعي الفكري أو يتقدم لدى المثقف العراقي العائش في الغربة .. هل تنشطر أساساته الفكرية .. هل تحول ظروف حياته الجديدة دون تطوره الإبداعي .. هل يمكن أن يحصل في موقفه من قضية وطنه تراجع أخلاقي ما ..؟ هذه الأسئلة بمجموعها تكوّن مشكلة يعسر حسمها بمقالة أو من خلال مقابلة صحفية . ربما الإجابة السريعة تشوشنا أكثر . ربما المقارنة بين هذه أو تلك من الحالات الداعية أو المسببة للغربة غير قادرة أيضا على المساهمة في بحث هذه الإشكالية .. فقد مات المغترب العراقي الشاعر بلند الحيدري من دون أن يرى تربة وطنه ، لكن سولجنستين عاد إلى وطنه بعد 17 عاما من الغربة .
* كونك لاجئاً أو منفياً أو مُقتلعاً من الجذور، كيف تقيّم علاقتك بالوطن أو المعادل الموضوعي للمكان القديم، هل هي " علاقة ثأرية قائمة على التشفّي، وتصفية الحسابات " كما يذهب الدكتور سليمان الأزرعي، أم هي علاقة تفاعلية قادرة على تحويل التجارب السابقة واللاحقة إلى وعي حاد يتخلل تضاعيف النص الإبداعي المكتوب في الأمكنة الجديدة؟
-أنا، كسائر المغتربين، لي الآن وطنان عظيمان: وطن فيه آلامي، ووطن أتكتل فيه بالحرية والإبداع. الوطن الأول نبيل وجليل وباسمه يتربعُ الغريب على عرش الإبداع .. وطن كله رنين لا ينقطع وهو معبد الطفولة ومكمن الذاكرة والصورة المتحركة بحياة لا محدودة .الوطن الثاني ومن يومه الأول قادر على تحويل آلام الغربة إلى قبة دائمة في سرادق نهار من الحرية يشعرك بأنك موهبة نفيسة لم تتماوج في وطن الموت والقتل والاضطهاد والسجن والعذاب حين حاول الدكتاتور خلال 35 عاما أن ينشر روث الماشية في ميادين مشروعه الثقافي المنفرد بعزلته المقيتة ، ولم يستطع الباغي أن يوقف دوران المثقفين العراقيين الحقيقيين في مدار العطاء والإبداع بل هو الذي مات إلى الأبد تاركا عليه ديونا كثيرة ومدانا أمام الناس كلهم حتى النهاية بلا مغفرة . هكذا أنا الآن أتنفس بوطنين. حالي مثل حال الآلاف من الذين رحلوا عن وطن الذاكرة والطفولة بسبب العلاقة المتصدعة دائما بين ( المثقف والسلطة ) .. المثقف يريد الحرية التي لا تمنحها السلطة .. والسلطة تريد المثقف تابعا لها وهو يرفض التبعية . عاش غائب طعمة فرمان في وطنه الثاني موسكو بينما كتب كل أعماله عن معاناة بطله في بغداد وطنه الأول ، بادئا برواية " النخلة والجيران " 1965 مؤكدا في رواية " المؤجل والمرتجى " 1986 أن عينيه لا تغيبان عن موطن الذاكرة والعائلة والحب والغضب والقلق الأول .الغربة في الوطن الثاني ليست قطيعة عن الوطن الأول ، كما برهن محمد مهدي الجواهري والبياتي وسعدي يوسف وآلاف من الشعراء والكتاب والفنانين العراقيين المنتشرة غربتهم في كل القارات الخمس بفعل الفاشية التي سيطرت على " السلطة " في وطنهم لعقود طويلة من الزمن . تماما مثلما هو حال المغتربين من كل الجنسيات والأجناس ( عراقيون .. فيتناميون .. أتراك .. لبنانيون .. جزائريون .. كمبوديون .. روس .. سنغاليون وغيرهم ) في مختلف بلدان العالم . لم يستطع أي شرع في العالم كله أن يوجد قطيعة بين وطنيْ المنفيين والمهاجرين والمغتربين . يمكن تذكر جويس ونابكوف وناظم حكمت وغيرهم . ظلت باريس ولندن وموسكو ونيويورك وروتردام مكان الوحدة البائسة في الوطن الثاني بينما ظل الوطن الأول محوراً أساسيا في أمل العودة إليه والكتابة عنه وإليه .كان نظام الفاشية العراقية 1963 ومن ثم في خلال 35 سنة يأمل بما امتلك من قدرات عظيمة في القهر والاضطهاد أن يفرض طريقته الخاصة على المثقفين والمبدعين والأكاديميين بإبعادهم إلى خارج وطنهم لوضعهم جميعا في طريق ٍ معوجة ٍ لكنه لم يستطع ، لان مثل هذا التحويل غير قابل للتحقيق من الناحية التجريبية فقد كان المنفيون العراقيون ، في كل مكان ، يتفاعلون مع صمت الغربة من اجل أن لا يكون وطن الطفولة والذاكرة والعائلة سرا منسيا بل تشجعوا في غربتهم على إنضاج تجربتهم الإبداعية بطرق عقلية متبلورة في مشروع عظيم مرتبط عضويا بالوطن الأول .كان زجاج نوافذ بيوتهم في الغربة يرن بشدة بذكريات الجذور فبلغ عندهم صفاء الإبداع ذروة بعلو إبداعي ذي شأن كبير حتى تحققت المفاجأة العظمى بسقوط الفاشية ورموزها في التاسع من نيسان 2003 فأصبح كون الرافدين ، دجلة والفرات، متسعا مأمولا لما هو طبيعي في ثقافة ٍ بلا أوغاد، وفي إبداع ٍ بلا رقيب ٍ ، مما منحهم قدرا حسنا من المساهمة في تقصير طريق الاحتلال الأجنبي وفي تقصير عمر الإرهاب والقتل والسجون كي تتفتح عبقريات الأجيال القادمة من الشعراء والكتاب والفنانين. ما بين أدباء الداخل والخارج وطن واحد مفضل اسمه العراق . فالذين كتب عليهم أن يعيشوا زمنا في مدن الغربة والضباب يجدون أنفسهم مستيقظين مع فرسان الأدب والفن والثقافة داخل العراق تحت أشجار وخمائل الصراع المتواصل ضد كل أشكال الطغيان والسأم التي ما زالت بقاياها قائمة أو من تلك التي تتجدد أثوابها بروث جديد .اليراع الإبداعي هو وحده يضيء طريق مستقبل العراق بوحدة أرضه وبوحدة مبدعيه أن كانوا في الداخل أو في الخارج فإنهم جميعا يعملون بما يقصر الطريق العنيف والصعب لظهور عبقرية إبداع الأجيال الثقافية العراقية المقبلة . تبقى الثقافة كتلة حية ،ويبقى المثقفون العراقيون في الغربة يستشعرون دائما أن " قلوبهم " تعيش مع كل حي في الوطن وأنهم يشعرون أن حياة جديدة قد أشاعتها الحرية فيه رغم أن " أقدامهم " باقية على ارض الوطن الثاني . أقول أخيرا ليس عارا للمثقف العراقي أن يجد نفسه في غير وطنه ، فالحوار بينه وبين عنقاء تاريخه وتاريخ عائلته وتاريخ وطنه الأم كله لن يستطيب إلا بالعودة لتسلية فنه وأدبه مع عشتار وجلجامش وصويحب وقيس الآلوسي وغزل الريل وحمد ويوميات الناقد الساخر عبد الجبار وهبي وغناء حضيري أبو عزيز وأمل خضير وتمثيليات فخرية عبد الكريم وأنغام عبد الله كَوران ونكات سليم البصري وحمودي الحارثي ومع صورة موت الناس في حلبجة، ومع عودة المياه إلى هور الحمّار، ومع صوت آزادوهي صاموئيل وكوميديا يوسف العاني وهدوء دجلة والفرات وارض سومر ومع ناي تومان العبد على ضفاف شط العرب . تبقى انصع مسراتنا تحت سماء حرية العطاء والإبداع في أرض بعيدة عن الرافدين ، لكن من أجل أن يكون الوطن العراقي وحده مركز الكون في هذا العطاء والإبداع ، وقد أنتج الثقافيون في الخارج كنوزا عظيمة ستهيم أيضا في وادي الأفكار التي أنتجها مبدعون عراقيون في الداخل مما اسميه أنا بالعالم الأكبر للإبداع العراقي خلال 35 عاما من سيطرة الدكتاتورية ومن نهجها السخيف والمجنون لوضع باروكة الشعر المستعار على رأس الثقافة العراقية التي لم تفقد حواسها وسرور آمالها بما واجهته من أفراس القمع البربري. ما يشتاق إليه عراقيون بواسل من مثقفي الداخل والخارج، الآن،هو الإمساك، معا، بعصا مكنسة واحدة للتخلص من بقايا " ثقافات " همجية للدخول إلى وديان الرافدين ، بقوة أعظم ، كي تبقى ينابيعها متدفقة إلى الأبد .استديري أيتها الكرة الأرضية نحو شروق الشمس في بهائها على الوطن الأم كي أقول بصوت عال ٍ : أنا لا أتوقف .. خذني إليك أيها العراق .. هكذا يقول كل عراقي في غربته ، كل يوم .
* هل تعتقد أن اللاجئين والمهجرين والمغتربين في أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا قادرون على التماهي، ثقافياً، في المجتمعات الجديدة الآوية لهم، أو التكامل معهم من دون أن يتعرضوا إلى مسخ مدروس أو تشويه متعمد أو تذويب قسري أم أن المرء ينقلب إلى غيره، أو " يزدوج ويفقد وحدته النفسية" كما يعتقد المفكر عبد الله العروي؟ كيف تقي!م تجربتك الخاصة في هذا الصدد؟
-دائماً أسأل نفسي هذا السؤال : هل يوجد شيء خاص أسمه " ثقافة الهجرة " أو " ثقافة المنفى " ..؟ إذا كان لا بد من جواب عابر فأقول أن الكاتب العراقي في الغربة يواجه صعوبات كثيرة من الصعب تخصيصها أو تحديدها . ليس لها تعريف . هناك صعوبات تظهر تلقائيا من خلال عدم اندماج الكاتب بالمجتمع . ربما يندمج اجتماعيا بعد إتقان لغة البلد الذي يعيش لكنه لا يستطيع أن يندمج في أدب البلد أو في خوض ميادين إبداعه الثقافي إلا في أوضاع نادرة ولدى القليل . أبداع الآخر مشتبه فيه ـ بنظره ـ بينما إبداعه مشتبه به بنظر الآخرين . من هنا يكون لديه ملفان على الأقل . ملف عن وطنه الأم يمكن أن يطوى جزئيا بتأثير من " ثقافة الهجرة والمنفى " كما حصل لبعض الكتاب ولكثير من شعراء الحداثة . وملف ثان يمكن أن يفتح كليا أو جزئيا عن الوطن الجديد وهو نادر الحدوث لدى المبدعين العراقيين . ربما يكون الفنان التشكيلي العراقي أكثر المبدعين قدرة في العثور على كنوز الفن التشكيلي العالمي فقد قيض لهم حسن الطالع في أن يتبوأ كل واحد منهم مكانا مرموقا في بلد المنفى وقد زاول كل من فيصل لعيبي وناظم رمزي وضياء خضير وعفيفة لعيبي وفاضل نعمة وزياد حيدر وقاسم الساعدي ومئات غيرهم زاولوا مختلف حركات الألوان الفنية العجيبة بمستويات الفنانين الأوربيين المشهورين .هناك اختلافات كثيرة في ملفات المهاجر الذي عاش ويعيش في ظل نظام غربة شمولي كما هو حال من عاش في الدول الاشتراكية السابقة ، عن الذي عاش في ظل نظام ليبرالي. وهناك اختلاف عن الذي عاش منتقلا في منفاه بين النظامين . خذ مثلا ً واحداً عن الكاتب العراقي أحمد النعمان المقيم أولا في الاتحاد السوفيتي " شمولي " ثم انتقل للعيش في بريطانيا الديمقراطية ، فأنتج روايته فيها بعنوان " الانهيار " عن طبيعة العلاقات السوفيتية بين المواطن والدولة التي أدت بالتالي إلى سقوط هذا النظام كما جاء في أحداث الرواية وحبكتها . خذ مثلا آخر عن الكاتبة العراقية عالية ممدوح المقيمة في فرنسا أنتجت فيها جل رواياتها في السيرة الذاتية ببغداد. الشاعر العراقي سعدي يوسف انتقل من العيش في ظل أنظمة عربية شمولية إلى العيش في بريطانيا فصارت " مقالاته " متركزة في أداء الحكومة العراقية وصارت " مضامين " قصائده لندنية أو أوربية . مظفر النواب العائش في ظل نظام سوريا الشمولي صار ينظم قصائد عربية في الغالب وعراقية في الجوهر . الشاعر سركون بولص لا يستطيع الهروب من الدنيا العراقية رغم هروبه من جغرافيتها منذ زمان بعيد . جمعة اللامي المقيم في دولة الإمارات العربية المتحدة ظل يبرهن في رواياته عن ارتباطه بالأسطورة والحكاية والمفردة العراقية . إبراهيم احمد قصاص مقيم في السويد لكن قوة إبداعه معتمدة على تصورٍ عراقي والى شخوص تنتسب إلى وطنه الأم . سعد جاسم الشاعر المقيم في كندا يعبر عن ذاته تعبيرا شاملا في قصائده باستشفاف واقعه الكندي بمعان مفهومة وعميقة عن واقع عراقي صعب . الشاعر والأكاديمي عبد الإله الصائغ المقيم في أمريكا لا يحدق في ضوء الشمس الأمريكية إلا ليرى الشمس العراقية على ضفاف الفرات .الشاعر عبد الكريم كاصد المقيم في لندن يتطلع ملء بصره الشعري إلى دماء تنبض في عروق أبناء العراق .هل يعني كل هذا وغيره أن حركة المبدع العراقي في الغربة تتجاوز حدود المنفى الكبيرة وتستمر قدما نحو الحدود الصغيرة للوطن الأم وانه لا يتكلم عن " ها هنا " بل الملائكة والأرواح تجعله يستشعر كل ما يحدث " هناك " . ربما صحيح هو القول أن الفن يعبر أحيانا عن حقيقة لكنه هو نفسه ليس الحقيقة غالبا إلا بما هو تعبير عن الوطن الأول عن " اللامنفى " . الموسيقيون طالب غالي وكوكب حمزة وحميد البصري وغيرهم المقيمون في قلب أوربا يديمون التطلع إلى قلب العراق .. حتى المسرحيون، حازم كمال الدين في بلجيكا ورسول الصغير في هولندا وعوني كرومي في ألمانيا ، لا يكفون في مسرحياتهم بلغة المنفى عن رؤية خاصة لكن بروح غلابة لرؤية العراق . الأمثلة كثيرة لدى المبدعين العراقيين في الغربة القوطية والرومانتيكية واللبرالية لكن المادة المولودة في نتاجهم لا تبتعد عن العصر العراقي ولا عن روحه الأصلية رغم أن الأساليب مختلفة عن الأصل متجددة في نزعتها الإنسانية بالأصل . في تجربتي الخاصة مشاهد قد تكون مشابهة لتجارب عراقيين كثر .. أول شيء أقوله هنا هذه المرة : شكرا للمنفى فقد انتزعني من يأس – في الوطن – كاد يدمر وعيي فقد كنت فيه اكتب ولا انشر .. اكتب وأمزق .. اكتب ويضيع ما اكتب حين تنال بعضه أيادي البوليس المداهم . لم أمتع نفسي أثناء وجودي داخل الوطن برواء ما اكتبه من قصص. أول قصة كتبتها نالت مديح قدوتيْ محمد علي إسماعيل ومرتضى الشيخ حسين صارت حبيسة إلى الأبد في أرشيف مديرية الشعبة الخاصة – الأمن – بالبصرة بعد إلقاء القبض عليّ وعليها عام 1952 . أول كتاب أردت طبعه في بغداد عام 1960 ضاع بمتاهة مطبعة بغدادية في سوق السراي بتأثير الخوف من أجهزة القمع والإرهاب. وصرت اشعر أنني صغير جدا أمام الكتابة والنشر فكل ما اكتبه ممنوع في وطني الأم .ذات يوم في بداية عام 1983 سرت في عقلي وبدني قوة كتابة خماسيتي المعروفة التي نشرت في أواخر التسعينات بـعنوان " خماسية الظلام " عن نظام الحكم البعثي في العراق .. كتبتُ صفحات كثيرة وأحرقتها ، سرا ،و بيدي ، خوفا من مداهمة أو اعتقال . ثم أعدتُ كتابتها ثانية فقد كانت أحداثها تسري في عروقي وترن رنين الرعد في دماغي وصار المكتوب صفحات كثيرة فاضطررت لتهريبها إلى عمان . حين وجدت نفسي " مهربا " لأوراقي ولما كتبته من قصص وروايات فيعني هذا أن صبر المطاولة على ارض الوطن قد نفد .. معنى ذلك أن الرغبة في الهجرة صارت عظيمة في أعماقي وان القدرة على احتمال العيش في الغربة صارت حتمية ولم اعد أجد في الوطن شيئا لامعا حقا . كمثال أقول أن روايتي التي كتبتها في سجن نقرة السلمان هربت مرتين الأولى قام بتهريبها من زنزانة السجن ، سامي احمد العامري ، مع باقي أوراقي في أعقاب هروبي من سجن الحلة ومن ثم جرى تهريبها ثانية بعد ثلاثين عاما إلى الأردن بوساطة ثري أردني وبسيارته المرسيدس الشبح التي لا تفتشها الكمارك . كلما أتذكر خطط تهريب " بعض " أوراقي وفق خطط متقنة لا تقل كفاءة عن عمليات مهربي المخدرات بمستوى مافيا أميركا اللاتينية ..! فأتذكر أيضا خوفي من البقاء في العراق كان يعادل خوفي على أوراقي ومسودات كتاباتي التي نشرتها خارج الوطن وليس في داخله. البقاء في الداخل يعني أن تتحكم بك " ملفات " المؤسسات القمعية . يحيط بك " الشك " بوطنيتك ، ومن المؤكد أن تموت من دون أن تجد طريقا نحو القضاء مثلما لا تجد أوراقك طريقها إلى المطبعة . وعلى الفور وجدت نفسي غريبا عن نفسي حين زين صدري بصليب الغربة .
*على مدى خمس وثلاثين سنة شهد العراق في حقبة الحكم الدكتاتوري البائد ثلاث هجرات ثقافية كبيرة، هل تعتقد أن المشهد الثقافي العراقي قد أثرى من خلال هذه الهجرات، وأفاد منها، أم أنه فقد بعض خصائصه، وسماته، ونكهته المحلية، وما الذي أضافه المبدع العراقي المنفي إلى المشهد الثقافي العراقي؟
من قال أن عدد الهجرات ثلاثة .. أنها هجرة واحدة متواصلة منذ نصف قرن . يهاجر المبدع العراقي حالما يحس بالبرغوث في بيته أو في فراشه ، حالما تنتزع منه الحرية ، حالما يكسرون كأس خمرته أو استكانة شايه ، حالما يتضايق أهله من مطاردات البوليس السياسي أو الثقافي ، حالما يجد قلمه مكسورا أو فمه مليئا بالدم .الهجرة مستمرة وربما لن تتوقف في عقد قادم أيضا .أن الوطن العراقي وهبنا أحسن عطاياه حين رمانا في الغربة وهو لن يتوقف عن تقديم المزيد من العطايا طالما له أعداء ..! رغم أن خمر الراين والتا يمس والدانوب والشانزلزيه ليس أحسن من خمر شارع أبي نواس الذي كتبت في إحدى زواياه روايتيّ " رسائل حب خليجية " و " رسائل حب يهودية " اللتين نشرتا في الخارج ..! الشيء الرائع والمهم أن شوارع الغربة ومقاهيها وحاناتها وشققها الضيقة لم تصنع للمبدعين العراقيين أية سدادات في مجرى سيل إبداعهم بل ظلوا أصواتا على هيئة كورس واحد يكتبون في متاع غربتهم ويغنون للعراق كما لو كان هو أبو الأوطان كلها يبسط عباءته على كل قصة وقصيدة وأغنية ولوحة زيتية وكلها مشتعلة بالحب للقرية والناس والأهل وذكريات الطفولة والشباب والغرام والنضال وأغنيات السجون .تسألني عما أضافه المبدعون العراقيون المنفيون إلى خزائن الإبداع العراقي . فأجيبك : انه غزير .. غير أنني لست باحثا هنا ، في هذه الإجابات المقتضبة . لكنني عرفت في الغربة كيف ولى العراقيون المنفيون بوجوههم نحو الوطن رغم بعدهم عنه ورغم أنهم يعيشون بوطن ٍ ثان ٍ أحسن . بل أنني أهنيء المئات منهم على نتاجاتهم الجديدة التي ظلت مكسوة بحرارة هواء العراق وسيأتي يوم يعرف العراقيون في الداخل أن ثمة ليل ونهار في كل مكان ، وحسبهم مثقفو الخارج أنهم كانوا يشعرون بليل وطنهم التعيس في نهار الغربة السعيد ، وظلوا مشبوبين بوطن اسمه العراق وقد ظل هو لا غيره عالمهم الأكبر من المهد إلى النعش ..



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في ضيافة الوحش - لطارق صالح الربيعي: سيرة ذاتية بإمتيار يتطا ...
- الفيلم التسجيلي - مندائيو العراق- لعامر علوان: فلسفة الحياة ...
- استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي/ الشاعر وديع العبيدي: - ...
- -استفتاء الأدباء العراقيين من المنافي العالمية /مهدي علي الر ...
- (استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية / الشاعر كريم ...
- رسام الكاريكاتير الجنوب أفريقي زابيرو جونثان شابيرو ينال الج ...
- استفتاء الأدباء العراقيين: زهير كاظم عبّود: إن العراق حاضر ف ...
- الإرهاب الأسود يغيّب المخرج العالمي مصطفى العقاد الذي روّج أ ...
- تقنية - الوسائط المتعددة - في مسرحية ( أين ال - هناك -؟ ) تم ...
- فلاديمير بوتين أول رئيس روسي يزور هولندا بعد ثلاثة قرون: هول ...
- عزلة البلَّور
- د. نصر حامد أبو زيد يفوز بجائزة - ابن رشد للفكر الحر - لسنة ...
- استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية / الشاعر باسم ...
- استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية: د. حسين الأنص ...
- الناقد عدنان حسين أحمد ل - الحوار المتمدن -: أنا أول من يخوّ ...
- المخرج المسرحي المغربي الزيتوني بو سرحان ل - الحوار المتمدن- ...
- استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية / الشاعر سنان ...
- استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية - الحلقة الثان ...
- الروائي العراقي محمود سعيد ل -الحوار المتمدن -:الرواية الجيد ...
- الروائي محمود سعيد ل - الحوار المتمدن -: المقلٍّد دون المقلّ ...


المزيد.....




- سموتريتش يهاجم نتنياهو ويصف المقترح المصري لهدنة في غزة بـ-ا ...
- اكتشاف آثار جانبية خطيرة لعلاجات يعتمدها مرضى الخرف
- الصين تدعو للتعاون النشط مع روسيا في قضية الهجوم الإرهابي عل ...
- البنتاغون يرفض التعليق على سحب دبابات -أبرامز- من ميدان القت ...
- الإفراج عن أشهر -قاتلة- في بريطانيا
- -وعدته بممارسة الجنس-.. معلمة تعترف بقتل عشيقها -الخائن- ودف ...
- مسؤول: الولايات المتحدة خسرت 3 طائرات مسيرة بالقرب من اليمن ...
- السعودية.. مقطع فيديو يوثق لحظة انفجار -قدر ضغط- في منزل وتس ...
- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة نفط بريطانية وإسقاط مسيرة أمير ...
- 4 شهداء و30 مصابا في غارة إسرائيلية على منزل بمخيم النصيرات ...


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عدنان حسين أحمد - استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية/ الروائي جاسم المطير: الهجرة بديل الحرية المؤقت 10-15