أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - في ضيافة الوحش - لطارق صالح الربيعي: سيرة ذاتية بإمتيار يتطابق فيها أنا المؤلف والسارد والكائن السيري















المزيد.....


في ضيافة الوحش - لطارق صالح الربيعي: سيرة ذاتية بإمتيار يتطابق فيها أنا المؤلف والسارد والكائن السيري


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 1393 - 2005 / 12 / 8 - 11:16
المحور: الادب والفن
    


ما يزال مصطلح " السيرة الذاتية " مُشوَشاً، يكتنفه الَلبِس والغموض، ليس بسبب صعوبة تأويله، بل لكونه جنساً أدبياً زئبقياً، غير متعيّن، ولا يميل إلى السكونية والإستقرار. وهذا الحراك الإجناسي متأتٍ من كونه الفن الأدبي الأكثر مرونة، وقدرة على التراسل مع بقية الفنون القولية، والإفادة منها وذلك لقربها من أنواع أدبية محايثة لها
" كرواية السيرة الذاتية، والمذكرات، واليوميات، والرسائل، والشهادات، والمحاورات، وقصيدة السيرة الذاتية." كما يذهب الناقد حاتم الصكر. وإذا سلّمنا جدلاً بأن السيرة الذاتية هي نوع أدبي غربي خالص كما يدّعي بعض النقاد والمنظرّين الغربيين، وأن العرب لم يعرفوا هذا الجنس الأدبي بمواصفاته ومعاييره الأوروبية فإن كتاب " الأيام " لطه حسين هو الأنموذج الأقرب إلى " السيرة الذاتية " الأوروبية على رغم إنطوائه على خلل سردي كبير وهو أن الراوي لا يروي بضمير المتكلم، وإنما بضمير الغائب، بينما تقتضي شروط السيرة الذاتية التطابق بين " أنا المؤلف، والسارد، والكائن السيري "، وإذا تجاوزنا " كتاب العِبَر " لابن منقذ، و" نصوص ابن سينا " بحجة أنها لا تتوفر على عناصر السيرة الذاتية المعاصرة فإن الأدب العربي الحديث قد عرف هذا النوع الأدبي منذ ثلاثينات القرن العشرين، ويمكننا الإشارة إلى " قصة حياة " للمازني، و " طفل من القرية " لسيد قطب، و " حياتي " لأحمد أمين، و " أيام الطفولة " لعبد المجيد بن جلون، و " سبعون " لميخائيل نعمية، و " سجن العمر " لتوفيق الحكيم، و " مذكرات " لجورجي زيدان، و " بقايا صور " و " المستنقع " لحنا مينا،، و " معي " لشوقي ضيف، و " عينان على الطريق " لعبد الله الطوخي، و " الخبز الحافي " لمحمد شكري، و " أوراق العمر " للويس عوض، و " البئر الأولى " و " شارع الأميرات " لجبرا إبراهيم جبرا، و " أوراقي. . حياتي " لنوال السعداوي، و " رحلة جبلية، رحلة صعبة " و " الرحلة الأصعب " لفدوى طوقان، و " مرايا ساحلية: سيرة مبكرة " لأمير تاج السر، و " غربة الراعي " لإحسان عباس، و " لمحات من حياتي " لنجيب الكيلاني، و " سطور في حياتي " لمحمد قرة علي، و " صور من الماضي " لهاشم شرابي، و " مجرد ذكريات " لرفعت السعيد، و " سيرة حياتي " لعبد الرحمن بدوي، و " ذكريات الأدب والحب " لسهيل إدريس، و " استعادة الزمن المفقود " لعبد الله سالم باوزير. وفي العراق هناك نماذج من السيّر الذاتية لعل أبرزها هو كتاب الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي الموسوم بـ" أية حياة هي؟- سيرة البدايات " وهناك نماذج أخرى للسيرة الذاتية كتبها سياسيون ومفكرون وفنانون عراقيون نذكر منها " ليلة الهرير في قصر النهاية " لأحمد الحبوبي، و " الهروب إلى الحرية " للدكتور حسين الشهرستاني، و " جدار بين ظلمتين " لبلقيس شرارة ورفعة الجادرجي، و " في ضيافة الوحش " لطارق صالح الربيعي، مناط بحثنا ودراستنا. وقد إخترنا هذه " السيرة الذاتية " على وجه التحديد لأن مؤلفها طارق الربيعي مُدرك تماماً لطبيعة هذا الجنس الأدبي، وشروطه، وقوانينه، ومواصفاته، ونظمه الفنية. فالسيرة الذاتية بوصفها جنساً أدبياً بحسب فيليب لوجون " Philippe le jeune " هي " حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفه خاصة " (1) ولو تأملنا هذه النص الأدبي الذي كتبه طارق الربيعي والذي جاء تحت عنوان " في ضيافة الوحش " لوجدناه سيرة ذاتية بإمتياز، فالبطل واقعي، وهو المؤلف، والسارد، والكائن السيري في الوقت ذاته، وقد سرد لنا حكاية إستعادية نثرية، مليئة بالعذابات والمواقف المفجعة، كانت قد وقعت له في الزمن الماضي، وليس مهماً أن يكون الماضي بعيداً أو قريباً، وقد رواها لنا بضمير المتكلم، وهو أنجح أنواع الضمائر في السرد السيري، وقد تركَّز النص في مجمله على الحياة الشخصية لمؤلف النص وسارده مع إشارات طفيفة حيناً، وواسعة حيناً آخر لأقرانه في السجن، وشركائه في المحنة، ومعذبيه وجلاديه، والذين لولاهم لما إكتمل النص، وبلغ ذروته، ليصل إلى اللحظة التنويرية التي تتكشف فيها الحقيقة الناصعة، ونعرف اسم الجاني الحقيقي الذي إرتكب جريمة لا إنسانية راح ضحيتها ثلاثة أشخاص وعوائلهم دفعوا ثمناً باهضاً نتيجة زلّة لسان، وثقة وضعوها في غير محلّها، وما هذا بمستغرب، فالواشي، ووكيل الأمن المأجور لم يكن أكثر من " حثالة " كما وصفه المحقق، و" مأفون، وسافل، ومنحّط، وناكر للجميل" كما وصفه مؤلف النص وسارده، وهو " ع.ج.ح " من سكنة الكرادة الشرقية. إن السيرة الذاتية التي كتبها طارق الربيعي لا تعوِّل في بنيتها الداخلية على الوقائع، والأحداث، والمذكرات، والإستعادات الذهنية حسب، بل أن هناك قصة محبوكة، ووحدات ثلاث "زمان ومكان وحدث " كما أن هناك بداية ونهاية، وعلاقة سببية قائمة على المفهوم الأرسطي حيث يفضي السبب إلى نتيجة محددة. فالشخص الإمّعة " ع. ج. ح " كانت يتربص بسيده، وولي نعمته طارق صالح الربيعي، وينتظر الفرصة المناسبة للإيقاع به، والإجهاز عليه إرضاءً لطوّيته السوداء، وتحقيقاً لنوازعه السادية التي لا تُريح ولا تستريح، إلا عندما ترى الضحية مُحاصرة، مُعذَبة وهي تقف على شفير الهاوية أو حافة الموت. فهذا النص السيري محبوك بقوة، وقائم على عناصر الشدّ والتشويق والترّقب، لأن المؤلف لا يزجّ قرّاءه في قلب الحدث مباشرة، بل هو يحفزّنا على البحث عن الأسباب التي دفعت به إلى السجن، وكأنه وهو السارد والراوي العليم لا يعرف أيضاً الأسباب الحقيقية التي دفعت به إلى " سجن حاكمية المخابرات " أو بتوصيفٍ عراقيٍ معروف " الداخل إليه مفقود، والخارج منه مولود! " وقد أصبحت هذه المخاوف المجهولة مصدراً للقلق الدائم، والخشية المتواصلة من مصادفة أية تهمة مفاجئة قد يكون سببها زلّة لسان، أو إساءة غير مُتعمَدة، أو فخ منصوب للمغفلين، أو حديث بريء عابر قيل على عواهنه، ولكنه ينطوي على تفسيرات عدّة بعضها لا يروق لسلطة. وخلال الفصول الثلاثة الأولى من السيرة الذاتية لا يقع القارئ على السبب الحقيقي الذي يقف وراء زج الضحية طارق الربيعي في سجن المخابرات، ففي " بداية الكابوس " نتعرّف على سوء المعاملة التي يلقاها المُتهم، واحتقاره، والحطّ من كرامته، ومسخ إنسانيته التي تبدأ أولى مراحلها من خلال تجريده من اسمه، وملابسه، وممتلكاته الشخصية، فقد تحوّل المهندس طارق الربيعي في لحظة غامضة إلى الرقم " 685 " وعليه أن ينسى إسمه السابق، ويتعاطى مع هذه التسمية الجديدة. وفي الفصل الثاني تُكال إليه سلسلة من التُهم اللامعقولة من بينها علاقته بالأمريكان، وإنتمائه لمنظمة ماسونية، ونيته لتأسيس حزب للبيئة، ونقده اللاذع لسياسة الحزب والدولة والقائد، الأمر الذي يوفر لهم امكانية إدانته بالتجسس والعمالة والخيانة العظمى، وما يترتب عليها من عقوبة معروفة سلفاً للعراقيين وهي الإعدام شنقاً حتى الموت أو رمياً بالرصاص، هذا إضافة إلى عقوبة قطع اللسان إذا ما ثبتت " جريمة سبّ الرئيس في مكان عام! ". وفي الفصل الثالث " عندما تتسلى الذئاب " يتعرض طارق الربيعي إلى " حفلة التعذيب " الأولى التي ستتبعها حفلات أخر بالمفهوم المخابراتي حيث يتناوشه الجلادون تباعاً، ففي المرة الأولى كسرّ " أبو زينب " عصا الخيزران على ظهره، ثم ألهبوا جسده بالكيبل الكهربائي حتى سقط مغشياً عليه، ولم يسترد أنفاسه إلا بعد مرور وقت طويل حيث أفاق على إرشادات الطبيب ونصائحه بضرورة الإعتراف حتى ولو كانت الجرائم وهمية ولا أساس لها من الصحة. فالبرئ مضطر في حاكمية المخابرات لإلصاق التُهم بنفسه!. وفي الفصل ذاته يؤخذ إلى التحقيق غير مرة حيث يجد نفسه في سرداب كبير تحت الأرض، وعلى جدران هذا السرداب صور دموية، سادية لا يحتمل الإنسان السوي النظر إليها مثل رجل مشنوق، وآخر مُصاب برصاصة في صدره الذي يتفجر دماً، وثالث يجلس على مدفأة نفطية بينما يمنعه إثنان من النهوض لإنقاذ مؤخرته المحترقة!. وعلى جدران هذه القاعة ثمة سياط، وكيبلات، وخراطيم مطاطية، وعصي كهربائية، ورافعة حديدية تتوسط السرداب، وأدوات تعذيب أخر ما أنزل الله بها من سلطان. وفي هذه الرافعة علّقوه من يدية المقيدتين إلى الخلف حتى وجد نفسه لصيقاً بسقف السرداب، فقرر أن يعترف على نفسه حينما أوشكت عظام كتفه أن تتقصف، غير أن إعترافاته الكاذبة وغير المترابطة لا تثبت تورطه فعلاً مع جهات خارجية، فكل الذي اعترف به يتعلق بالبيئة، وإتصاله برجل ألماني يعمل لمصلحة شركة أجنبية. وحينما لم تنفع معه الرافعة حشروه في " الصندق الإسطواني " وغلقوا فوهته عليه، وحينما عجزوا من انتزاع أي إعتراف خطير منه إتهموه بإفشاء أسرار البلد، أو بكلمة أخرى، وصموه بالخيانة الكبرى، وعقوبتها ليس أقل من الموت! وفي الفصل الرابع الذي عنوّنه بـ " الموت على نار هادئة " إذ تعرّض للتعذيب الجسدي غير مرّة لأنه مُتهم بالتهجّم على " السيد الرئيس " وإنتقاد " القيادة السياسية "، كما كان يتعرض بشكل متواصل للقهر والإذلال النفسيين. وكان يلوم نفسه كثيراً لأنه وافق على البقاء في جمهورية الرعب والخوف والعنف التي تقمع الإنسان، وتحتقره، ولا تعير له وزناً. وكالعادة فإن الأجهزة الأمنية لديها من " الوكلاء " ما يكفي لجمع الأدلة الثبوتية التي تُدين الضحايا أو تسبب لهم مثل هذه المواقف التي لا يُحسدون عليها. وفي هذا الفصل تحديداً نكتشف أول خيوط الحبكة التي تفضي بنا مباشرة إلى معرفة " المُخبِر السرّي " الذي داس على القيم المعروفة، وخرق التقاليد الأخلاقية التي يحترمها المجتمع العراقي، ووشى بزميله الذي كان مصدر رزقه الأساسي. ومن خلال دعوة كيدية على العشاء كانت عيون الكاميرات، وأجهزة التسجيل المُستنفرة تصور كل إلتفاتة وحركة، وتسجل كل همسة، وحرف شارد مراوغ، بحيث لم يستطع ثلاثهم رد التهمة المنسوبة إليهم، وربما كان إعتراضهم الوحيد على أن الأصوات المُسجلة هي ليست أصواتهم، وإنما هي أصوات مفبركة. وكانت هذه الحجة هي " الشمّاعة " التي يعلقون عليها أملهم الوحيد. لذلك أرسلوهم إلى " الشعبة الفنية " في مديرية الأمن العامة وكأنهم " حقل تجارب " لغرض التأكد من صحة إدعاءاتهم، وقتل الشك باليقين. وبالفعل كانت النتيجة لمصلحتهم، لكن أجسادهم لم تنجُ من عصي التعذيب التي إنهالت عليهم ما إن عادوا من " الشعبة الفنية " التي كشفت جريمة التزوير التقني في حشر أصوات مقاربة لأصوات الضحايا في أشرطة الفيديو. وكان الثمن الذي دفعه طارق غالياً، إذ تمزقت كليته اليمنى من الضرب المبرّح بعصا غليظة، وتشوش سمعه من جراء الصفعات الثقيلة المباغتة. وعلى الرغم من أن الزمن كان " مبتور الساقين " زاحفاً، ثقيلاً، مضمخاً برائحة الموت البطيء إلا أن " الكائن السيري " طارق الربيعي كان يجد عزاءه وسلواه في الحكمة التي أطلقها الإمام علي بن أبي طالب ذات يوم والتي تقول " الدهر يومان، يوم لك، ويوم عليك، فإن كان لك فلا تبطر، وإن كان عليك فلا تضجر. ". كانت وطأة العذاب اليومي الذي يلقاه على أيدي الإمعات الصغار تضطره لأن يقرّع نفسه، فحتى طبيب المعتقل متواطئ مع هذه الأنفار المسعورة، الضالة، المتخلفة على شاكلة العقيد عامر الذي كان يثق ثقة عمياء بكرامة النزيل الضرير الذي يستطيع أن يُخرج " الجنّي " الذي تلّبس في جسد الضحية طارق بحسب زعمهم لأن هذا الأخير كانت تنتابه كوابيس ليلية مؤرقة ناجمة عن حفلات التعذيب الوحشية التي يتعرض لها كلما سنحت الفرصة للجلادين. ونتيجة لتفاقم وضعه الصحي فقد نصح طبيب المعتقل أن ينقل " الرقم 685 " من الزنزانة المنفردة " 19 " إلى الزنزانة " 28 " والتي تضم ثلاثة أشخاص آخرين سيُعدم إثنان منهم بتهمة التعاون مع حركة الوفاق الوطني العراقي المعارضة للنظام الدكتاتوري، وهما العميد سعود خليل هندي، ورفيق له يُدعى صالح الحديثي، بينما تظل حكاية السجين الضرير مثار أسئلة مُحيرة على مدار النص. وفي " ميراث الريح " تنضاف تهمة جديدة للكائن السيري وهي وجود حساب مصرفي في أحد بنوك عمّان، وهذا الحساب يعني من وجهة نظر السلطة العراقية أن المتهم كان يتلقى أمولاً من جهات أجنبية أو معارضة للنظام العراقي. وبالرغم من أن هذا الفصل هو فصل " مؤسطر " أو مثقل بالإشارات الأسطورية التي غيّرت من مسار النص التقليدي، وأخرجته من سياقه الواقعي بحيث تشظى إلى أقانيم خيالية ومثيولوجية. فهذا الضرير لدية علاقة مُحيّرة مع الجلاد " أبو زينب " وبقية الضباط في حاكمية المخابرات، كما أن لديه علاقات وطيدة بمسؤولين كبار في الدولة، وقد إستطاع أن ينقل بعض السجناء من زنزانة إلى أخرى، وقد اقترح على طارق الربيعي أن يطلق سراحه مقابل مبلغ من المال يؤّمَن من قبل أحد أفراد عائلته خارج الحدود. وسواء أكانت هذه العلاقات صحيحة أم مشكوك فيها فإن هذه الشخصية الغريبة، والمُحيّرة، والمتعلّمة في الوقت ذاته كانت تبدد الوقت، وتقتل اليأس أحياناً، وتفتح نافذة للأمل والخلاص من جدران هذا السجن المقيت. يتركب بعض كُتّاب السيرة الذاتية " النموذجية " خطأً فادحاً حينما يخففون من إشتراطات السيرة وقوانينها الإبداعية، ولعل الصدق هو أبرز مقوماتها على الإطلاق، وربما يكون الحذف والإضافة والتعديل هو ما يقوّض كينونة السيرة الذاتية. فالدكتور حاتم الصكر يقول في مقاله المعنون " السيرة الذاتية النسوية: البوح والترميز القهري"، " رغم أن التطابق بين المؤلف والسارد هو المطلوب، والقائم فعلاً في معظم الأعمال السير ـ ذاتية إلا أن الصدق المطلوب غير مؤكد في كتابة السيرة الذاتية وذلك لما تتعرض له السيرة الذاتية من إمكان الخطأ أو التصحيف المتعمد كالنسيان أو التناسي، والحذف والإضافة، والتعديل والتكييف، وإكراهات الوعي القائم زمن الكتابة والاسترجاع اللاحق للأحداث (2) فحذف اسم البنك الكائن في عمّان، تمثيلاً لا حصراً، يشكل خطأً كبيراً في سياق النص السيري الذي يعوّل كثيراً على مصداقية المؤلف أو سارد النص، حتى ولو كنا نعرف مسبقاً أن الكاتب نفسه يخشى أن يتعرض للإحراج كونه يقيم في عمّان حالياً. كما أن عدم ذكر اسم الشخص الواشي أو كاتب التقرير بالكامل يشكّل خطأً مضافاً، فالأحرف المختصرة لإسمه الثلاثي لا تفي بالغرض المطلوب في جنس السيرة الذاتية التي ينبغي أن تكون صريحة، وواضحة، ولا يتعريها الخلل أو التضليل المتعمَد. أو تفاديه المتعمد لعدم ذكر الإسم الكامل للفتاة الحسناء التي تتعاون مع جهاز المخابرات بصالح الحديثي ربما لأنه لا يريد أن يسبب بعض الإشكالات للفتاة نفسها أو ربما لصالح الحديثي نفسه. كما أخشى أن يكون الكاتب قد أضفى بعض اللمسات الأسطورية أو الخيالية على شخصية الضرير الذي كان يحرر الشياطين من أجساد السجناء التي لا يسكنها سوى الخوف والألم والصراخ المتواصل من شدة القمع والتعذيب الذي لا يتوقف عند حد. كما أن النسيان أو عدم التذكر قد يحُرم القارئ من معلومات مهمة وجوهرية.
إن ما نعترض عليه هو طمس الحقائق، أو إخفاؤها لأغراض مبيّتة ومحجوبة عن القارئ، فكاتب السيرة قد ينسى بعض الوقائع أو التفاصيل أو قد لا يتذكرها في أثناء الكتابة وهو يسترجع الأحداث الماضية، وربما يسلّط الضوء على نفسه أو يمجدها أو يعطيها أكثر مما تستحق إرضاءً للنزوة الإنسانية النرجسية التي يحلو لها أن ترى صورتها في أجمل إطلالة، وأثمن حُلة، ولذلك فإن مارتن ولاس يقول: إن كُتاب السيرة. . " يتعرضون للخطأ بقدر ما يتعرض له الناس الآخرون ... ويسلِّطون على أنفسهم أحسن ضوء ممكن طامسين بعض الحقائق، مخفقين في التعرف على أهمية حقائق أخرى، وناسين وقائع. .." ( 3 ) غير أن منظِّر السيرة الذاتية فيليب لوجون قد عاد بعد مدة، وطوّر تعريفه لجنس السيرة الذاتية مضيفاً البعد الاجتماعي، وفاسحاً المجال أمام الشخصيات الأخر المجال لأن تأخذ دوراً لا يقل شأناً عن دور البطل حيث قال: " إن الكتابة السير ـ ذاتية هي أولا ممارسة فردية واجتماعية لا تقتصر علي الكُتاب وحدهم (4). إن الممارسات الاجتماعية التي يتحدث عنها لوجون قد تتسع في هذه السيرة الذاتية " في ضيافة الوحش " لأن طارق الربيعي أراد أن يسلّط الضوء على الظواهر السلبية برمتها، فبقدر إنطواء النص على إدانة وتعرية واضحتين، إلا أن المؤلف أراد أن يكشف عن عمق الفساد الأخلاقي الضارب في هذه المؤسسات الأمنية. ففي داخل هذا السجن الرهيب الذي يمتد تأثيره إلى خارج حدود السجن ليشمل الوطن برمته، بل وحتى السفارات العراقية في الخارج، ثمة مساومات عديدة تحدث كل يوم، فالحارس يساوم السجين على مبلغ من المال مقابل أن يوصل رساله إلى أهله وذويه. وفي داخل السجن هناك محاجر ومعتقلات أسوأ من بعضها البعض، فحينما كتب طارق الربيعي رسالة لزوجته كشفتها الأجهزة الأمنية عن طريق الرقابة الهاتفية نقله " أبو زينب " من الزنزانة 28 إلى غرفة إنفرادية قذرة رقمها 48، مطلية باللون الأحمر، ومليئة بالحشرات والصراصير، وعاقبوه بالعصا الكهربائية، وحطموا له بعض أسنانه. وفي هذا السجن ثمة أناس بسطاء هم ضحايا تُهم غير معقولة كاالتجسس، والمتاجرة بالسلاح، والعمالة للأجنبي، والإتصال بالمعارضة العراقية خارج الحدود، وهم جلهم من الرعاة والفلاحين الأميين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة! يكشف هذا الفصل من " جمهورية الغدر والكذب " حياة السجناء الذين يتعرضون للتعذيب الوحشي بكل أشكاله، كما تعرّض طارق الربيعي للزرق بإبرة لم نعرف إن كانت مُخدرة أو سامة أو مُحرِضة على الإعتراف كما يدعي المحققون القتلة! يد المخابرات تطول العراقيين العاملين في السفارات العربية والعالمية، وكثير من رجال السلك الدبلوماسي زُج بهم إلى السجون والمعتقلات وأغلبهم بتُهم كيدية، كما نسجوا التهم الملفقة لبعض الوزراء والضباط الكبار بحيث عمَّ الصمت فعلاً داخل المنازل العراقية، فالناس باتت تخشى من بعضها البعض، ولا غرابة أن يخشى المرء من زوجته أو أولاده وأصدقائه، فكيف يتعامل مع الناس الأبعدين؟ وفي إحدى الزيارات التي قام بها أحد المسؤولين الكبار صحبة مدير المعتقل حامد عكال رقَّ قلب المسؤول فأمر بنقل الرقم " 685 " إلى قاعة رقم 52 الكائنة في الطابق العلوي من حاكمية المخابرات. وفي هذه القاعة يتخفف السجين من وطأة السجن ووحشته في الزنزانات المنفردة أو الثنائية أو الثلاثية، بينما تتحمل هذه القاعة عدداً كبيراً من الناس حيث يأنسون بأحاديث بعضهم البعض، فالإنسان كائن إجتماعي أولاً وأخيراً، وهو بحاجة لأن يبث الناس شكاواه. وفي هذه القاعة الكبيرة تعرّف على سجناء كثيرين بعضهم سيق إلى السجن بتهم مُضحكة مثل رشوة عماد محمد الدوهان لأحد موظفي وزارة الصحة، وبعضهم بتهم خطيرة مثل تهمة اغتيال أبو جبل العربستاني لمسعود رجوي. قد تكون النقطة الأبرز في هذا الفصل هو زيارة أهل طارق وذويه له في المعتقل شرط ألا يتحدث عن التُهم المُسندة إليه، وظروف المعتقل السرّية. وإستكمالاً لشرح المعضلات التي يواجهها السجين هي زيارة بعض المسؤولين الكبار، وإستدراج الضحايا الذي برأتهم حتى المحاكم الخاصة نفسها، فقد حكمت إحدى هذه المحاكم بتبرئة طارق صالح الربيعي ورافع العريبي من تهمة قذف الرئيس وسبه لعدم كفاية الأدلة، وعدم تطابق الاصوات المسجلة مع أصواتهم الحقيقية، وهذا يعني أنهم نجوا من عقوبة قطع اللسان أولاً، وعقوبة الإعدام ثانياً، غير أن زيارة طاهر الحبوش، مدير رئاسة المخابرات قد أثارت في نفسه مخاوف جديدة خصوصاً وأن تهمة التهجم على شخص الرئيس والقيادة ما تزال عالقة في أذهان السجانين والمسؤولين الكبار. والغريب أن مسؤولاً كهذا قد جاء بنفسة لكي يطلب من سجين أن يدوّن انتقاداته لأداء القيادة السياسية، وحينما انتهى طارق من كتابة التقرير تبين أن ملاحظاته كلها كانت منصبّة على أمانة العاصمة، وليس عن سياسة البلد وتأثيرها المباشر على المواطن العراقي. وتأكيداً على أن السيرة الذاتية هي ممارسة اجتماعية أيضاً وأنها تخص أناساً آخرين لهم علاقة وطيدة بالكائن السيري فإن الفصل التاسع " عقارب الساعة لا تمشي " يخص الشخصيات الاجتماعية الأخرى التي علاقة قوية بنسيج النص السير-ذاتي، ولو تفادينا أسماء المسؤولين وضباط الحرس الجمهوري وممارستهم للسرقة العلنية فإن هناك شخصيات ذات نكهة خاصة مثل السجين عقيل الحلاوي الذي تم إعتقاله مع أمه بتهمة التهجم على زوجة الرئيس، وما لقياه من إهانة وعذاب لا حدود لهما جراء هذه التهمة المفبركة. وعودة للجو الأسطوري فإن عقيل الحلاوي الذي تبدو عليه سمات الجنون يحب هو الآخر جنية روسية تُدعى " ياربن " وقد ساهم هو الآخر في التخفيف من وطأة الجو المتوتر الذي يعاني منه السجناء. ولا بد لهذه السيرة ذاتية من نهاية، وهذه النهاية متوقفة على عدد التهم المسندة إليه، وبما أنه قد تخلص من التهمة الأشد التي سوف تفضي به إلى الموت وهي السب والشتم العلني لشخص الرئيس، فإن بقية التهم لا بد أن تفضي إلى السجن مهما طالت مدته أو قصرت. وتهمة طارق الربيعي كانت حيازة أموال في بنك عربي وهي تعني من وجهة نظر السلطة تخريباً إقتصادياً معتمداً لهذا فقد صدر القرار بالسجن لمدة خمس عشرة سنة، نقل على أثره إلى سجن " أبو غريب " ليخرج بعدها في العشرين من تشرين الأول عام 2002 قبل أن تندلع الحرب الأنكلو- أمريكية وتطيح بسلطة البعث ليدخل السجانون إلى السجن هذه المرة، أو ليتبادلوا الأدوار على الأصح. لم يتوانَ كاتب السيرة الذاتية عن الإشارة إلى أناس طيبيين صادفهم في سجون النظام ومعتقلاته وبينهم حارس لم يذكر اسمه أيضاً وقد وصفه بإنه إنسان يقع خارج خارطة هذه المسوخ البشرية، ولولاه لربما عاد طارق الربيعي إلى السجن لأن السلطة كانت تخشى مما يسمى بالطابور الخامس أو المطالبين بتأسيس أحزاب تدافع عن البيئة أو حقوق الإنسان، ولأن هذا الحارس كان قريباً من مصادر المعلومات فقد أخبره بالحرف الواحد أن طارق صالح الربيعي ضمن قائمة المشمولين بالقبض عليهم من جديد، فجهَّز طارق جواز سفره، وحقائب ذكرياته، وحشر الوطن في قلبه وغادر العراق إلى عمّان حيث كتب هذه السيرة الذاتية الناجحة التي ستشكل مصدراً من مصادر كشف الحقيقة وإذاعتها بين العراقيين الذين هم أحق الناس في الإطلاع عليها، ومعرفة تفاصيلها، ورؤية أنفسهم في مراياها المتعددة. وعلى ذكر الحبكة القوية التي أشرت إليها سابقاً فإن الفصل الأخير المعنون بـ " إيضاحات ومعلومات " يكشف لنا كاتب السيرة الذاتية قصة حصولة على إضبارته الشخصية لقاء مبلغ من المال ليقف مذهولاً أمام التقارير الكيدية التي دبجتها أصابع الواشي المنحط " ع.ج.ح " الذي لم يترك شاردة أو واردة إلا وضمّنها في سلسلة تقاريره المفبركة التي تؤكد على علاقة سيده، وولي نعمته طارق الربيعي، بالصهيونية والماسونية والموساد، وهو منها براء. لقد خرج الربيعي من السجن، وتحررمن كل التُهم المُسندة إليه، بينما لا يزال كاتب التقارير غارقاً في عوالم النميمة والوشاية والإفتراء.

المصادر والإحالات
1-فيليب لوجون: السيرة الذاتية، الميثاق والتاريخ الأدبي، ترجمة وتقديم عمر حلي، المركز الثقافي العربي، 1994، ص 22.
2- حاتم الصكر: السيرة الذاتية النسوية: البوح والترميز القهري. مجلة فصول، عدد 63 شتاء وربيع 2004. ص 211. "
3-ولاس مارتن: نظريات السرد الحديثة.ص 96.
4- فيليب لوجون: جريدة القدس العربي ، لندن ـ العدد 4118 في 13 آب 2002 ص 11.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفيلم التسجيلي - مندائيو العراق- لعامر علوان: فلسفة الحياة ...
- استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي/ الشاعر وديع العبيدي: - ...
- -استفتاء الأدباء العراقيين من المنافي العالمية /مهدي علي الر ...
- (استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية / الشاعر كريم ...
- رسام الكاريكاتير الجنوب أفريقي زابيرو جونثان شابيرو ينال الج ...
- استفتاء الأدباء العراقيين: زهير كاظم عبّود: إن العراق حاضر ف ...
- الإرهاب الأسود يغيّب المخرج العالمي مصطفى العقاد الذي روّج أ ...
- تقنية - الوسائط المتعددة - في مسرحية ( أين ال - هناك -؟ ) تم ...
- فلاديمير بوتين أول رئيس روسي يزور هولندا بعد ثلاثة قرون: هول ...
- عزلة البلَّور
- د. نصر حامد أبو زيد يفوز بجائزة - ابن رشد للفكر الحر - لسنة ...
- استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية / الشاعر باسم ...
- استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية: د. حسين الأنص ...
- الناقد عدنان حسين أحمد ل - الحوار المتمدن -: أنا أول من يخوّ ...
- المخرج المسرحي المغربي الزيتوني بو سرحان ل - الحوار المتمدن- ...
- استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية / الشاعر سنان ...
- استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية - الحلقة الثان ...
- الروائي العراقي محمود سعيد ل -الحوار المتمدن -:الرواية الجيد ...
- الروائي محمود سعيد ل - الحوار المتمدن -: المقلٍّد دون المقلّ ...
- اعتقال سبعة أشخاص بتهمة التخطيط لتنفيذ عمليات إرهابية في هول ...


المزيد.....




- وفاة الفنانة السورية القديرة خديجة العبد ونجلها الفنان قيس ا ...
- مطالبات متزايدة بانقاذ مغني الراب الإيراني توماج صالحي من ال ...
- -قناع بلون السماء- للأسير الفلسطيني باسم خندقجي تفوز بالجائز ...
- اشتُهر بدوره في -أبو الطيب المتنبي-.. رحيل الفنان العراقي عا ...
- عبد الرحمن بن معمر يرحل عن تاريخ غني بالصحافة والثقافة
- -كذب أبيض- المغربي يفوز بجائزة مالمو للسينما العربية
- الوثائقي المغربي -كذب أبيض- يتوج بجائزة مهرجان مالمو للسينما ...
- لا تشمل الآثار العربية.. المتاحف الفرنسية تبحث إعادة قطع أثر ...
- بوغدانوف للبرهان: -مجلس السيادة السوداني- هو السلطة الشرعية ...
- مارسيل خليفة في بيت الفلسفة.. أوبرا لـ-جدارية درويش-


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - في ضيافة الوحش - لطارق صالح الربيعي: سيرة ذاتية بإمتيار يتطابق فيها أنا المؤلف والسارد والكائن السيري