أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - تاريخ العلاقة بين فكرة الآلهة والبشر















المزيد.....


تاريخ العلاقة بين فكرة الآلهة والبشر


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 5120 - 2016 / 4 / 1 - 23:50
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



تفكيك العلاقة بين البدايات الأولى لفكرة خلق الآلهة لدى الشعوب القديمة ، وكيف نشأتْ ثـمّ استمرّتْ وانتقلتْ إلى الديانة العبرية (اليهودية/ المسيحية، الإسلام) شائكة من ناحية ويسيرة من جهة أخرى، فتلك العلاقة شائكة من وجهة نظر المؤمنين بالوجود الحقيقى لإلههم الذى يعبدونـه، بينما هى يسيرة لمن نظروا لفكرة الآلهة على أنها تدخل فى باب الميتافيزيقا من أوسع أبوابه، ولديهم حجة منطقية يصعب تكذيبها أو التشكيك فيها لمن يحترمون التفكير العقلانى ، هذه الحجة ببساطة : أنه إذا كان الواقع التاريخى (منذ البدايات الأولى للمجتمعات الإنسانية) أثبتتْ أنه لا يوجد (إله) بدون بشر يؤمنون به ويعبدونه ، بينما فى المقابل ، يوجد بشر لا يؤمنون بأى (إله) والنتيجة المنطقية لتلك المعادلة الرياضية ، أنّ فكرة (الآلهة) ارتبطتْ ببشر (أوجدوا) تلك الآلهـة ، وأنه يستحيل تصور وجود (إله) بدون بشر يؤمنون به ويعبدونه ، ومن هنا توصــّـل أغلب علماء الأنثروبولوجيا إلى صيغة أنّ ((البشر هم الذين خلقوا الآلهة وليس العكس)) وكان مدخل هؤلاء العلماء دراسة أساطير الشعوب (سواء عهود ما قبل الكتابة أو بعدها) ويضربون فى هذا الشأن بالعديد من الأمثلة التى أخذتْ شكل الأسئلة التالية :
هل القصص والخرافات التى تناولتْ (أورستيس) و(هيبوليتوس) لها أى وجود حقيقى ؟ وهل لها أية قيمة تاريخية ؟ وهل الإلهة (ديـّـانا) الطورية لها وجود حقيقى ؟ ورغم ذلك فإنّ المؤمنين بأسطورتها الخرافية أقاموا لها تمثالا، ومع ملاحظة أنّ كاتب أسطورتها ذكر أنها ((كانت لا ترضى بشىء أقل من إراقة الدم البشرى)) (جيمس فريزر- فى موسوعته الغصن الذهبى- هيئة الكتاب المصرية- عام2000- ص98) وذكر فريزر أيضًـا عن ظاهرة حالات العشق بين البشر والربات الخالدات فى الديانات القديمة ، ويـُـعتبر أدونيس أشهر هؤلاء العشاق جميعًـا ، وأنّ ((تنافس أرتميس وفيدرا على حب هيبوليتوس ، ظهر فى صور مختلفة كما هو الحال فى تنافس أفروديتى وبروسربينى على حب أدونيس ، حيث أنّ فيدرا ليستْ سوى نسخة من أفروديتى)) وأنّ سلسلة طويلة من الكهنة توافروا على خدمة الإلهة (ديـّـانا) حاملين لقب (ملوك الغابة) والذين انتهتْ حياتهم نهاية عنيفة. وأنّ ملك الغابة (من البشر) كان يتخذ الإلهة ديـّـانا ملكة وزوجة له. وإذا كانت الشجرة المقدسة التى كان يحرسها ويحميها بحياته تــُـعتبر تجسيدًا خاصًـا للإلهة ، فإنّ كاهن ديـّـانا لم يكن يعبد تلك الشجرة كإلهة فحسب ، بل إنه كان يحبها أيضًـا كزوجة. كما أنّ أحد النبلاء الرومان فى عهد بلينى الأصغر (61- 131 ق. م) كان يـُـعامل بنفس الطريقة إحدى أشجار الزان الجميلة : يحتضنها ويقبلها وينام فى ظلها وكان يعتبر أنّ تلك الشجرة هى الإلهة التى كان يعبدها . ولا تزال عادة (الزواج الفيزيقى) بين البشر (من الجنسيْن) والأشجار موجودة فى الهند وبعض بلاد الشرق الأخرى. كذلك توجد تشابهات كثيرة بين الميثولوجيا اليونانية والرومانية. وظهر ذلك فى خصائص الآلهة والربات والأدوار التى يقومون بها ، فإنّ لكل إله أو ربة عند اليونان مقابلا مماثلا عند الرومان ، وكثيرًا ما يستخدم كــُـتاب الأساطير اسم أحد هؤلاء الآلهة الأسطورية ، فى إحدى اللغتيْن والثقافتيْن لمقابله فى اللغة والثقافة الأخرى ، مثلما حدث فى الخلط بين فينوس وأفروديتى.
وهل الآلهة المصرية واليونانية والرومانية لها وجود حقيقى؟ أم هى من إبداع من كتبوا الأساطير عنهم ؟ وهل (زيوس) صاحب الشهرة فى الأساطير اليونانية ، التى وصفته بأنه كبير الآلهة وخالق اليونانيين ، له أى وجود حقيقى أم من اختراع من كتب الأسطورة ؟ وأعتقد أنه من المهم التوقف عند ما ذكره المؤرخ اليونانى (ديودور الصقلى) أنّ (الإله) زيوس نجح فى إقناع زوجته الغيور (هيرا) كى تتبنى (هرقل) وفى تلك الأسطورة حدث الصراع العنيف بين هيرا وهرقل ، وأنّ هيرا غضبتْ عليه وانتقمتْ منه ، باعتباره من نسل زوجها من إحدى زوجاته من البشر الفانين ، فأعلنتْ الحرب على هرقل منذ مولده ، وأرسلتْ إليه فى مهده إثنتيْن من الأفاعى القاتلة. ولكن – حيث أننا إزاء خرافات خارقة للطبيعة – فإنّ الطفل تمكــّـن من قتل الثعبانيْن بيديه !! فهل (هيرا) لها وجود حقيقى بإعتبارها (إلهة) ؟ ويمكن طرح هذا السؤال على باقى أسماء (الآلهة) فى الأساطير اليونانية والرومانية ، حيث نقرأ فى الأساطير الرومانية اسم (جوبيتر) ويـُـنطق (يوبيتر) على أنه كبير (الآلهة) الرومانية وأنجب (الإله) مارس (إله الحرب) وخلق السماء والأرض.. إلخ ، فهل جوبيتر له وجود حقيقى أم صنعته مخيلة من كتب الأسطورة ؟ بل إنّ الفيلسوف أرسطو لم يسلم من الاعتقاد فى الخرافات (فريزر- ص183)
وذكر فريزر أنّ بعض الشعوب القديمة كانت تبتهل بالدعاء لمن يعتقدون أنهم (آلهة) قادرة على منح الخير ومنع الشر، ومن بين الأمثلة الدعاء التالى ((يا إله الشمس والقمر، أبعد الرصاص عن أزواجنا وإخوتنا وأقاربنا.. ودعها تسقط بعيدًا عنهم مثلما تتساقط قطرات المطر. أيتها المراوح الذهبية اجعلى رصاصنا يـُـصيب رصاص أعدائنا)) (ص157) وذكر أيضًـا أنّ اليونانيين والرومان ((كانوا يقدمون الأضحيات والقرابين من الحيوانات الحبلى إلى (إلهة) القمح و(إلهة) الأرض حتى تزيد من خصوبة التربة ، فتمتلىء السنابل بالحبوب)) (ص165) وكتب فريزر ((إذا كان الإنسان (البدائى) الذى خلق آلهته قد جعلهم على شاكلته ، فقد افترض أنهم سوف يصيرون إلى الفناء مثله ، وهذا الاعتقاد نجده حتى بالنسبة للآلهة التى أعتربتْ سامية ، كآلهة البابليين الذين لم يكونوا ليظهروا لعبادهم إلاّ فى الأحلام والرؤى ، وبالرغم من ذلك فقد تصوّروهم بشرًا فى أشكالهم وعواطفهم وفى مصيرهم ، وأنهم يولدون ويموتون)) (ص52) ولأنّ فكرة الآلهة بدأتْ من الخوف من بعض مظاهر الطبيعة ، مثل العواصف والبراكين ، أو الخوف من بعض الحيوانات المفترسة ، لذلك خلق البشر- فى المراحل الأولى من تكوين المجتمعات الإنسانية- الآلهة التى تصوّروا أنها سوف تحميهم من الخطر، وكذلك الآلهة التى سوف تــُـحقــّـق لهم رغباتهم ، حيث أنّ الشعوب التى كانت تفتقد مصادر طبيعية للمياه ، اخترعتْ (إلهـًـا) للمطر.
ولعلّ ما يؤكد فكرة خلق البشر ل (الآلهة) التشابه الذى وصل لدرجة التطابق بين أساطير الشعوب القديمة، وما ورد بعد ذلك فى الديانة العبرية، حيث تناول علماء الأنثروبولوجى (علم الإنسان) قصة الخلق لدى الشعوب فى عصور ما قبل الكتابة ، والتى يُطلق عليها التعبير الخاطىء (الشعوب البدائية) بينما التعبير الأدق هو الشعوب التى كانت (البداية) فى منظومة مسيرة البشرية. ولاحظ العلماء الذين درسوا آثار تلك الشعوب ، أنّ الإنسان خـُـلق من طين . وكان من أبرز هؤلاء العلماء السير جيمس فريزر مؤلف موسوعة (الغصن الذهبى – 12مجلـدًا ضخمًا) وأجرى دراسة مقارنة على أديان الشعوب القديمة. وفى كتابه (العناصر القصصية الشعبية فى الإنجيل) جمع الكثير من القصص والخرافات ، وقارن بينها وبين الديانة اليهودية ، مثل قصة (خلق آدم) وطرده من الجنة وقصة نوح . وذكر أنّ الأصل القديم للمعتقدات الشعبية السابقة على اليهودية انتقل إلى الديانة العبرية ، التى اتفقتْ على خلق (آدم) من تراب. وأنّ الإله العبرى خلقه على صورته. ومن ضلعه أخرج (حواء) وكانت نتيجة دراسة (فريزر) أنّ ما ورد فى التراث العبرى لا يختلف إلاّ فى التفاصيل عن خرافات وأساطير الشعوب السابقة على اليهودية. ثم أورد بعض النماذج منها :
قصة بابلية ورد فيها أنّ الإله (بعل) عندما أراد أنْ يخلق الإنسان وجد التراب يابسًا ويصعب تشكيله. ففكر أنْ يُرطبه. فأرسل إلى الآلهة الأخرى لحضور اجتماع مهم . فى هذا الاجتماع قام الإله (بعل) بقطع رأسه فسال منه الدم الذى اختلط بالتراب ، فبدأ الآلهة تشكيل الإنسان من هذا التراب المُبلل بدم الإله الأكبر (بعل) وفى تفسير الاختلاف بين أخلاق البشر، تقول أسطورة يرويها سكان جزائر (ببلو) أنّ الدم الذى خلط الإله به التراب ، كان دم حيوان . وفى كل مرة يخلق فيها الإنسان يخلط التراب بدم صنف من أصناف الحيوان ، فمرة يخلطه بدم الفأر، فتغلب على هذا الإنسان ونسله أخلاق الفيران ، ومرة بدم ديك ومرة بدم حية إلخ. وتقول أسطوة أخرى آمن بها سكان منطقة فى النيل الأزرق اسمها (السلوك) أنّ الإله (جووك) كان أثناء الخلق يجوب أنحاء الأرض ، فصنع لون الإنسان حسب لون التربة (بيضاء أو سمراء أو سوداء) وتستمر الأسطورة على ذاك النحو إلى أن تقول ((إنّ الخالق قال لنفسه إنّ الإنسان لابد من أنْ يسير على الأرض ليفلحها، ولذلك أعطاه أرجل (الباشروش) ولابد له من حرث الأرض فيلزمه يديْن كى يمسك الفأس ويقطع الأعشاب. ولابد له من عينيْن وهكذا فى باقى أعضاء الجسد.
وفى أسطورة من إحدى الجزر النائية فى المحيط الهندى تقول إنّ الآلهة اختارتْ إلهيْن من بينها لعمل الإنسان الأول . فنجحا فى صنع الرجل والمرأة ثم ترك عملهما لباقى الآلهة. وفى مجمع الآلهة وافقوا على أشياء وعابوا أشياء. وأعادوا الإنسان للإلهيْن المُتخصصيْن ، فأخذا يُصلحان من رأس الإنسان وبطنه. رضيتْ الآلهة بهذا التعديل . وصعد الإله الأكبر إلى السماء ليبحث عن روحيْن خالديْن ليضعهما فى جسدىْ الرجل والمرأة فتدب فيهما الحياة الخالدة ، ولكنه نسى أنْ يأخذهما معه ، فجاءتْ الرياح الأرضية ودخلت فى رئتيهما فتنفسا ودبّتْ فيهما الحياة ، ولكنها حياة أرضية فانية. ويرى بعض العلماء أنّ تلك الأسطورة هى التصور الأولى الساذج لفكرة (الخلود) وهى الفكرة التى طوّرها المصريون القدماء فيما بعد. وفى قصة أخرى من القصص التى جمعها فريزر، تطرح السؤال التالى : لماذا كـُـتب على الإنسان الفناء ؟ هذه القصة (الأسطورة) تؤمن بها قبيلة اسمها (كومس) تسكن منطقة (تشينا جونج) شرق الهند ، فيها تصور عن اعتقادهم عن أصل الخليقة. ويؤمنون بأنّ إلههم بعد أنْ خلق الشجر والحيوانات خلق الرجل ثم المرأة من الصلصال ، وظلّ نهاره كله يُـشكل فى الصورتيْن حتى تعب فنام ليستريح . وإذا لم يسترح فلا يستطيع مواصلة عمله. وأثناء نومه جاءتْ أفعى فالتهمتْ الجسديْن اللذيْن صنعهما الإله. فصنع الإله جسديْن آخريْن للرجل وللمرأة. جاءتْ الأفعى وابتلعتهما. غضب الإله من أفعال الأفعى، فخلق كلبًا ضخمًا ليحرس جسدىْ المرأة والرجل أثناء نومه. ظهرتْ الأفعى للكلب فنبح عليها. استيقظ الإله وأبعد الأفعى. واختتم كاتب الأسطورة أنّ هذا هو السبب فى نباح الكلاب كلما رأوا جثة إنسان ((ولكن الإله ينام هذه الأيام نومًا عميقــًا، ونباح الكلب لا يوقظه فتبتلع الأفعى الإنسان. ولعلّ فى تلك الأسطورة البداية الجنينية للشك فى قدرة الآلهة والسخرية من فكرة وجودها من الأساس. وأنّ ذاك الشك يؤكد حقيقة أنّ الإنسان هو الذى (خلق) فكرة الآلهة وليس العكس، والدليل على ذلك أنه لا توجد آلهة بدون بشر يؤمنون بها ويعبدونها ، بينما يوجد بشر لا يؤمنون بأية آلهة.
وفى أسطورة أخرى تؤمن بها قبيلة (شير يمس) إحدى قبائل روسيا تقول إنّ الخالق بعد أنْ شكل الإنسان من صلصال صعد إلى السماء ليبحث له عن روح يحيا به. وجعل الكلب حارسًا عليه حتى يعود. ولكن (الشيطان) انتهز فرصة غياب الإله فأرسل ريحًا عاتية ، فخاف الكلب وارتعب وكاد يموت من شدة البرد. فأحضر له الشيطان رداءً من الفرو ليُغريه. أخذ الكلب رداء الفرو، وفى مقابل ذلك سمح للشيطان أنْ يعبث بالجسد الذى صنعه الإله فأفسده. ولما رجع الإله من رحلته السماوية، اكتشف أنّ التخريب الذى صنعه الشيطان بالجسد يصعب إصلاحه. فأخذ يُقلب الإنسان (ظهرًا لبطن) وهذا هو السبب كما تقول تلك الأسطورة فى أنّ جوف الإنسان قذر، فى حين أنّ ظاهره أملس جميل . وفى الختام لعن الإله الكلب فظلّ ملعونـًا.
ولتفسير فكرة أنّ الإله فى أغلب تلك الأساطير خلق الإنسان على شاكلته (أو على شكله) يرى فريزر أنّ الإله لابد أنْ يكون قد رأى صورته فى مرآة أو ما يُشابهها ليُصوّر شيئـًا مثل صورته. ونقل للقارىء أسطورة (دينية) يؤمن بها سكان إحدى الجزر فى الجنوب الغربى من سومطره. والأسطورة مكتبوبة بأسلوب أقرب إلى نظم الشعر وتقول: إنّ الإله الأكبر(لوو زاهو) كان يستحم فى نهر من الأنهار السماوية ذات المياه النقية الصافية. فلما رأى صورته مُنعكسة على صفحة الماء تاه فخرًا وزهوًا. فخطر فى ذهنه أنْ يخلق من التراب (إنسانًا) يُقلد فيه صورته. فأخذ من تراب الأرض ما شكل به إنسانـًا صغيرًا ووزنه. ثم وزن من الرياح ما يُعادله. وأدخل الريح فى أنف الجسد الذى شكله. فكان الإنسان الأول (سيهابى) كما أطلقوا عليه. وفى أسطورة يؤمن بها سكان إحدى جزر(الفلبين) تحكى أنّ الخليقة بدأتْ بكائن أول أو إله. وكان هذا الإله ضخمًا عظيمًا أبيض اللون ذهبى الأسنان. وجلس فوق السحب فامتلأتْ السماء بضخامته. وكان ناصع البياض، ولا يطيق من فرط حبه للنظافة أنْ يُعكر صفاء بياضه أى شىء، فتعوّد على أنْ يُرفرف بجناحيه ليُزيل ما يعلق بهما. ومن الأشياء التى تناثرتْ من جناحيه تكوّنتْ كومة كبيرة من التراب ، فخطر على ذهنه أنْ يجعل منها (الأرض) ثم فكر أنْ يصنع من التراب إنسانـًا (أنثى وذكر) وبينما كان مُنهمكـًا فى عمله أقبل عليه إله آخر اسمه (تاوو دالم تانا) وطلب منه أنْ يترك الأنف ليصنعه هو. وبعد مناقشة حادة أذعن الإله وسلمه الجسديْن، ثم صعد إلى السماء غاضبًا ، فنسى أنْ يُكمل أحد المخلوقيْن ليكون كالآخر. صنع (تاوو) الأنفيْن وجعلهما مكانهما، ولكنه لسوء الحظ جعل فتحتهما إلى السماء ورضى عن عمله وصعد إلى السماء مطمئنـًا ، فإذا بالمطر يهطل فيرتعش الجسدان وكادا يهلكان. ولما رأى الإله ما بهما من سوء جرى إليهما وأصلح الأنفيْن فكانا كما ينبغى أنْ يكونا.
وكان من بين تعليقات فريزر المهمة أنّ تلك الأساطير كانت تسعى لتفسير(أو لإقناع أنفسهم) بتفسير بعض الظواهر الطبيعية. وأنّ صوت الإله هو صوت المطرقة التى بها يعطى الإشارة لولاة الأطفال. وأنّ الأم أو الأب إنْ كان معهما سيف فإنّ الطفل سيكون (ذكرًا) وإنْ كان معهما (نول نسيج) كان المولود (أنثى) وأنّ المطر دموع الملائكة. وأنهم عبدوا الرياح المُدمرة إتقاءً لغضبها وعبدوا مياه الأنهار للاستمتاع بخيراتها إلخ .
وبعد آلاف السنين جاءتْ الديانة العبرية فنقلتْ قصة خلق الإنسان من تراب كما فعلتْ أساطير الشعوب السابقة على اليهودية، فذكرتْ التوراة أنه فى اليوم الأول خلق الإله السماء والأرض والشجر. وفى اليوم الثانى الماء إلخ وأخيرًا خلق الإنسان فى اليوم السادس ، وقال لنفسه (نعمل الإنسان على صورتنا. فخلق الله الإنسان على صورته) وفى اليوم السابع استراح ((من جميع عمله)) (سفرالتكوين- الإصحاح الأول) وجملة (استراح من جميع عمله) مطابقة تمامًا لجملة شبيهة فى الأساطيرالسابقة. وبينما كاتب التوراة ذكر أنّ خلق الإنسان كان فى اليوم السادس، إذا به يقع فى تناقض فى الإصحاح الثانى مباشرة، إذْ جعل بداية الخلق (آدم) لأنه ذكر فى بداية هذا الإصحاح الثانى ((كل شجرالبرية لم يكن بعد فى الأرض. وكل عشب البرية لم ينبتْ لأنّ الإله الرب لم يكن قد أمطر على الأرض. ولا كان إنسان ليعمل الأرض. ثم كان ضباب يطلع من الأرض (هكذا) ويسقى كل وجه الأرض. وجبل الرب الإله آدم ترابًا من الأرض)) وبعد عدة آيات قال ((وانْبَتَ الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل)) وهكذا كأنما من كتب الإصحاح الأول شخص آخر غير كاتب الإصحاح الثانى. وبعد أنْ خلق آدم كتب ((أوقع الرب الإله سُباتــًـا على آدم فنام. فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحمًا. وبنى الرب الإله الضلع التى أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم)) بعد ذلك تدخل القصة التوراتية فى موضوع الحية التى أغرتْ (حواء) بالأكل من شجرة بالجنة، فتم طرد حواء وآدم. وعلى عكس الشعوب القديمة التى لم تتطرق لمسألة الفرق بين المرأة والرجل، نجد التراث العبرى ينحاز للرجل ضد المرأة فيقول النص لحواء ((إلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك)) (تكوين:3) وهذا الموقف من المرأة نجده فى العهد الجديد ، ففى رسالة بطرس الرسول الأولى يقول ((كذلك أيتها النساء كنّ خاضعات لرجالكنّ )) (الإصحاح3) وهو ذات الموقف فى القرآن ((وللرجال عليهنّ درجة)) (البقرة/228) و((الرجال قوامون على النساء)) (النساء/34) وعن قصة خلق (حواء وآدم) نجد القرآن يتطابق مع التوراة فى أشياء ويختلف فى أشياء، فعن التطابق موضوع السكن فى الجنة. ثم الاقتراب من الشجرة المُحرّمة عليهما ثم الطرد (البقرة/35، 36) والاختلاف هنا أنهما خضعا لغواية (الشيطان) وليس لغواية (الحية) كما فى التوراة. ورغم أنّ القرآن لم ينص على خلق حواء من ضلع آدم، فإنّ بعض كتب التفسير أصرّ مؤلفوها على التطابق مع التوراة مثل تفسير الجلاليْن إذْ ورد فيه أنه تم خلق حواء من ضلع آدم الأيسر. ثم يأتى التطابق الثانى فى حكاية ابنىْ آدم (قابيل ويعمل فى الزراعة وهابيل راعى غنم) وعندما قـدّم كل منهما قربانــًـا للرب فإنه تقبـّـل قربان راعى الغنم ورفض قربان الزارع . ثم تنتقل القصة إلى موضوع قتل الشقيق لشقيقه (تكوين4 والقرآن المائدة/ من 27- 30) ويعود القرآن فـيُـكرر الحكاية فى سورة الأعراف /من 19- 24. وفى سورة طه- من 117- 123. وكما فى أساطير الشعوب القديمة أنّ الإنسان خـُـلق من تراب نص القرآن أنه خــُـق من طين (الأنعام/2)
وفى كتاب فريزر الموسوعى (الفولكلور فى العهد القديم) ذكر التشابه بين قصة ميلاد نبى العبرانيين (موسى) وقصة ميلاد (سرجون) الأكبر، أول ملك سامى حكم بابل حوالى سنة 2600 ق. م حيث وضعته أمه (وهو طفل رضيع) فى سلة وأحكمتْ إغلاقها بالقار، وطرحته فى النهر. فأخذه (آكى) السقاء وانتشله من الماء وكفله واعتبره ابنه.. وأحبته الإلهة عشتروت.. إلخ . فكان تعليق فريزر ((وتــُـشبه حكاية إبعاد الطفل سرجون فى سلة وُضعتْ عند شاطىء النهر، حكاية إبعاد موسى الطفل فى سقط من القش ، الذى وُضع بين الأعشاب عند شاطىء النيل، حيث أنه لا مجال للشك فى أنّ الحكاية البابلية أقدم بكثير من الحكاية العبرية ، ويترتب على هذا أنّ كاتب سفر الخروج ربما كان يعرف الحكاية البابلية ، وأنه ألــّـف الحكاية العبرية على نمطها... وبناءً على ذلك يمكن أنْ تكون قصة ميلاد موسى أقرب إلى مجال الفولكلور أكثر من نسبتها إلى التاريخ)) (الفولكلور فى العهد القديم- ترجمة د. نبيلة إبراهيم- هيئة الكتاب المصرية- عام 1974- الجزء الثانى – من ص6- 8)
أما الفيلسوف باروخ سبينوزا فقد طرح فى (رسالة فى اللاهوت والسياسة) السؤال التالى : بواسطة من تـمّ تأليف أسفار الكتابات (المقدسة)؟ ومتى؟ وما صحة الرأى الذى نسب كتابة كل سـِـفر من الأسفار إلى البطل الرئيسى الذى يتحـدّث عنه السـِـفر؟ وانتهى سبينوزا إلى أنّ ((موسى لم يؤلف أسفار التوراة الخمسة (كما هو شائع) وأنها لا تعود إلى عصره ، فالتوراة لم تتحـدّث بشأن موسى فى أى موضع بلسان المُـخاطب ، بل تتحـدّث عنه كثيرًا بضمير الغائب ، كما تسرد أحداثــًـا من المُـستبعد أنْ يقولها مؤلف عن نفسه مثل ((ويـُـكلــّـم الرب موسى وجهـًـا لوجه كما يـُـكلــّـم الرجل صاحبه.. وإذا رجع موسى إلى المحلة.. إلخ)) (خروج : 33/ 11) وأيضًـا ((وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات)) (تثنية: 34/7) فكيف يكون هو من كتب سفر التثنية؟ (وهو السفر الخامس) ويتحدث عن نفسه بأنه (مات) ؟! كذلك فإنّ سبينوزا وجد فى ثنايا التوراة أسماء مُـتأخرة لم تكن موجودة فى زمن موسى (الافتراضى) وبالتالى فإنّ الأسفار الخمسة الأولى من التوراة ، كتبها شخص آخر بعد مئات السنين من زمن موسى (الافتراضى)
أما العالم (هوجو فينكلر) فذكر أنّ كل الأساطير والروايات الموجودة فى العهد القديم ، مؤسسة على الميثولوجيا البابلية ، فإبراهيم من أور الكلدانيين ، وهو ابن إله القمر وأساسه فى الخرافة البابلية (تموز) أخى زوجته عشتروت.. وأنّ كل أبطال التاريخ العبرى القديم لم يوجدوا ولم يـُـخلقوا بل هم نتاج الميثولوجيا (لمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى كتاب " تاريخ نقد العهد القديم - تأليف زالمان شازار- ترجمه عن العبرية أحمد محمود هويدى – المجلس الأعلى للثقافة- عام 2000- العدد رقم 204)
***



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مفتى مصر ومفهوم المواطنة
- لماذا لا تتعلم أوروبا الدرس ؟
- نداء إلى منظمات حقوق الإنسان العالمية
- لماذا الرعب من الاتهام بالسامية ؟
- أوروبا وكيف انتصرت العقلانية
- تاريخ علم المصريات
- ما سر عودة الحمساويين للتمحك فى مصر؟
- ما سر المتاجرة بمصطلح (الوسطية) ؟
- توابع موت عمران الأعسر - قصة قصيرة
- تعصب المسيحيين والمسلمين من خميرة واحدة
- هل تختلف الشعوب العربية عن الحُكام ؟
- لماذا يتنفس أغلب المتعلمين المصريين بالعبرى ؟
- هوّ النظام مع المعتدلين ولاّ مع المتطرفين ؟
- التناقض فى كتاب (موسى والتوحيد) لفرويد
- الرد الثانى على السيد (ملحد)
- لماذا تأخر الاعتراف بجرائم حزب الله ؟
- هل سلاح الأحذية هو الحل ؟
- رد على السيد (ملحد)
- هل مراجعات الأصوليين حقيقة أم خدعة ؟
- هل شباب الإخوان المسلمين غير شيوخهم ؟


المزيد.....




- صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها ...
- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!
- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - تاريخ العلاقة بين فكرة الآلهة والبشر