أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 1-2















المزيد.....



تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 1-2


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 4937 - 2015 / 9 / 26 - 01:32
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


رقم 1
يتبع
حكى لي صديق عن بعض الخطباء بأنه يختم دعاءه بالهلاك على العلمانيين، والليبراليين، والحداثيين، وقد أثارني ذلك، واستفزني، واستوقفني على أسئلة عدة يمكن طرحها وتوجيهها كما يلي:
1- إن جرأة خطيب على الحط من قيمة الإيديولوجيات المعاصرة فوق منبر عموم المسلمين، لا يدل على حصافة في الرأي، وفطنة في الاختيار، بل يدل على خوض يجازف فيه الخطيب بآراء لا يطيق الاستدلال عليها منطقيا، ولا معرفيا، ولا يقدر على أن يجادل حولها بالحجج القاطعة، والبراهين الساطعة. لأن فهم ما تنبني عليه الإيديولوجيات من فلسفات، ونظريات، يقتضي فهم سياقاتها التاريخية، والحضارية، ومحاضنها الفكرية، والثقافية. وذلك ما لم يأت لكثير من المتحذلقين على المنابر بأنهم أهل الاختصاص في كل ميدان ديني، وبشري. سواء كان ذلك مما له ارتباط بالعلوم الدينية، والشرعية، أو ما كانت له علاقة بالعلوم الكونية، والإنسانية. فقصارى جهد الخطيب إذا لم يكن ضليعا في درك القضايا بأسبابها، وعللها، ولا قادرا على سبر أغوار التوجهات العلمية، والفكرية، أن يحكي ما يذهب إليه غيره ممن له دراية بالأدلة العقلية، والمنطقية، ويروي الأقوال المستندة إلى أصحابها، وتوجهاتها. وإلا، تجاوز حده، وتعدى طوره، وأتى بالطامات في أمور اختلفت الأنظار حولها يمينا، ويسارا. لكن ما هو الفائدة من إثارة هذا النقاش على المنبر، وهو في حقيقته لا يرتبط بدوره، ووظيفته.؟
إن النقاش حول هذه المسائل محله المنابر الإعلامية والسياسية التي تسعى إلى إبراز خاصية هذا المذهب، أو مخالفه، وإظهار سمات قدرته على تدبير الشأن العام المحلي، والدولى، ومدى قوتِه على استيعاب تطلعات الإنسان واستشرافاته للمستقبل الرغيد. ولذا فإن المنبر بطبيعة خصوصيته الدينية، والروحية، لن يحسم هذا النقاش حقيقة، ولن يفيده بشيء، بل سيوسع الهوة فيما النخب المثقفة التي تدير رحى هذا النقاش بملكة المعرفة، وبين العامة الذين لا يطالبون في التكليف إلا بمعرفة ما هو ضروري واحتاجي لصحة العقيدة، والعبادة. ومن هنا، فإن إلجام العامة عن الخوض في الأمور العميقة واجب ضروري، لئلا تفقد المعرفة قيمتها، والفلسفة حقيقتها، فيتطاول على موائد العلم من لا رواية له، ولا دراية، ثم يتحول النقاش العقلاني إلى صراعات دينية، تعتمد على تحنيط مصطلحات الشرع في الجرج، والتعديل، وتمطيط الأفكار الموشاة بلغة التكفير، والتفسيق، والتبديع، والتضليل، والتخوين.
ولا غرابة في هذا، فالمدارك مختلفة، والمدارات متعددة، وما هو بدهي لعقل، قد يكون نظريا محتاجا إلى أدلة محسوسة في عقل. وهذا مما لا يتعارك عليه عنزان، ولا يختلف فيه اثنان، لأن العقول في اختلافها، هي التي تميز بين أهل الإدراك الدقيق، وأهل الإدراك الغريق. بل هي التي تميز فيما بين العلماء، والدهماء. ولذا، فإن الغوص في القضايا العميقة ذات الصبغة الفكرية، لا يتأتى لكل العقول التي تحس بنبض الأحداث، والوقائع، بل هو مناط لا يتحقق وجود دركه إلا للعقول الباقرة للمعاني، والقادرة على تمييز العلاقات والروابط التي تصل الأشياء المركبة بالأشياء البسيطة. ومن هنا، فإن خوض الفقيه في هذه الحقائق المتعددة المنابع، والمطالع، ولو كان من أهل الاختصاص في المرجعية الدينية، لا يؤدي إلى نتائج مقبولة لدى عموم المستمعين إلى خطب يوم الجمعات، بل يتنافى ذلك مع قواعد هذه المهمة، ووظيفتها، ودورها. لأنها ستجر المنابر إلى آراء متعارضة، ومتناقضة، قد يكون من أولى آثارها الخلاف، والاختلاف. وتلك هي الفتنة التي تحرض باسم الدين على التمييز بين المصلين، وتهدد بالتفرق، والتمزق، وتنذر بالاحتراب، والاغتراب. وفي ذلك ضرر على رسالة المسجد، والمنبر، وخطر على روح التدين المتسم بالرحمة، والسماحة.
وإذا كان للمنبر من دور ديني، وتاريخي، فإن غاية رسالته المثلى، هو ربط الذوات بما هو روحي وسلوكي في حياة الأفراد، والجماعات، لأنه في جليته يخاطب كل "الحساسيات" والتوجهات التي تتكون منها دائرة المجتمع، فيذكر ذا وذاك بكليات وجوده في الكون، وقواعد وظيفته في الحياة. وذلك مما يمنح النقاش العام بعدا روحيا، وإن اختلفت الأنظار حول القضايا، وتعددت المناهج والسبل الموصلة إلى المبادئ التي تبني عليها قيم الفلسفة، والسياسة، وغيرها من السياقات والمسارات الفكرية، والثقافية، والسياسية، والاجتماعية.
2- إذا كانت هذه المبادئ متداخلة بين ما هو ديني، وما هو فلسفي، وما هو سياسي، أو بين ما هو إلهي، وما هو بشري، فإن عسر التفريق بين مركباتها المعقدة في عالمنا المعاصر، قد أدى إلى نتائج وخيمة، سواء لدى الخطيب الضحل المعرفة، والخبرة، أو لدى بسطاء العامة الذين ينصتون إلى بيان يوم الجمعة، ويتلقفون ألفاظا غريبة تنطوي على خدعة اللغة، والمصطلح. لأن طبيعة الحقائق التي حصل حولها النقاش، تتسم بغموض التاريخ، وعتمة التجربة، ومتشبعة بأنظار متفاوتة، ومختلفة. وذلك يجعل حصرها في رأي واحد متعذرا، بل غير مقبول، وإلا كان رأيا متطرفا، ومغاليا، لا يقبل النقاش فيما محله الحجة، والبرهان. ومن هنا، فإن ادعاء الخطيب الفهم والفقه في كل شيء، هو نتيجة حتمية لغرور تاريخي ورثه من محيطه الديني، والثقافي، والاجتماعي، وصيغة لازمة لنفسية يدل مكنونها على وجع ذاتي، ومرض روحي. وهذا ما يمكن لنا أن نستجليه من تلك النرجسية التي يتعالى بها في خطابه، والعنجهية التي يتعامل بها في حياته. وكأنه في صيرورة علاقاته الذاتية، أو في ارتباطاته مع الآخر، يعتبر رأيه الأكمل، والأتم، والأعم، والأشمل، ورأي غيره الأنقص، والأصم، والأبكم، والأرخص.
وعلى هذا، فإن المصطلحات التي يتداول محيط الخطباء ألفاظها، كإطلاق لفظ العوام على العامة، أو ما تبعه من صيغ أخرى، لها بعد قدحي، ودوني، هو جزء من ذلك الانكفاء على الذات، والاعتداد بها، والافتخار بمجدها. لأن طبيعة المحروم من عزة التاريخ التي منحت في لحظة من اللحظات، لا تتحصن أنفاسُها إلا بالمحافظة على أحفورة الماضي، والاغترار بها، والمحاربة من أجلها، ولا تتقوى أوداجها إلا بلغة الكراهية، والعنف، والفتنة. إذ لا وجود لذلك الزعم الموروث عن ماضيها في واقعها، وإنما هو قائم في سعير خيالها، وحاضر فيما تزهو به من شعورها. وهكذا تتشابه وتتماثل محددات كل التوجهات الفكرية التي صعقتها صدمة الحاضر، فلم تجد لها ملجأ إلا بين أطلال التاريخ القديم، وشظايا الذات المنحسرة عن الحاضر الأليم، لعلها تحتمي بصولتها، وتتحصن بصلابتها، وتتوارى خلف ما تضيفه إليها من إحساس مترع بالنكوص، والضمور. ومن ثم، فإن اعتبار الخطيب نفسه الأقدر على سياسة العامة، وتدبير شأنها، وتسيير أمرها، لم يكن إلا خلاصة لمخاض نفسيات تريد أن تضمن لها حق الوجود بالالتفاف حول معطيات التاريخ، ومحصلات واقع انخرم، وانجدل، ولم تبق منه إلا صورة باهتة بين الأذهان.
وهذه الصورة هي التي يعبر عنها بعض الخطباء القادمين من بؤس الموارد، وشقاء المزاود، لكي يتحولوا في خطفة بصر إلى أحبار يقطعون بسيوف الفتاوى المجنونة وريد الحياة بين ذوات المخالفين، والمعاندين، ورهبان يصوغون في ظلمة عقولهم مسار ضياء نهار الأوطان، والأكوان. فبعضهم مر على حصير العلم غريرا، طريرا، فوجد بعد انفضاض الجمع على الخوان عظما نتنا، فابتلعه بشجع، وهلع، ثم خال نفسه في عز الحضارة أنه الأجود عقلا، والأكمل عملا. وبعضهم سمع جلبة وسط الديار الهادرة بالآراء، فأصغى بأذنيه إلى الأصوات المهموسة بين الأمداء، وحين بلغته عبارة شاردة عن السياق، خال نفسه الأعرف بالروايات والحكايات باتفاق. وبعضهم عض الجوع بطنه المتهدج بالخواء، ثم نظر إلى ساعده الممدودة في العراء، فشهده مفتولا على العجز، والكسل. ولولول، وأعول، ثم خب بخطوات يتبصبص حول الأماكن المقرورة بأفراحها، وأعيادها، فلم يختر في همه إلا أن يتصيد من الموائد كسر خبز يستعيد بها لون وجهه الذي فقده. وحين ولج الدائرة في غفلة عنه، وجلس خلف الصفوف المتقدمة له، ظن أن لحظة من زمن جثومه على خزي غباوته، هي الأهم في صيد أوابد المعرفة، وشوارد الفكرة. مكث هناك برهة استثقل فيها الجثو على ركبتيه، فنفث دخان غيظه، وغضبه، ثم انصرف متبرما، ورجع القهقرى إلى خبثه متألما، وولى الأدبار إلى جهله متورما. وحينها فر إلى الخلاء منتشيا، فصعق صعقة زعم فيها أنه نال ما لم ينله غيره من المرتبة.
فهؤلاء وغيرهم، لم يميزوا بين ما يجب الحديث عنه، وما يجب السكوت عنه، لأنهم لم يرتشفوا من معين العلم شرفا، ولا أملا. فهجيراهم أن ينعقوا كالببغاوات بين المآتم، والولائم، ويهرفوا بما لم يحيطوا علما بخبيئته، ولا بسبيله. بل قصارى جهدهم أن يشعلوا نيران العدواة، والفتنة، ويقذفوا غيرهم بالتهم، والريبة. ولا عجب إذا كان من نتائج ذلك، أن احتدم الصراع في القضايا الدينية بين رحاب المساجد، وتصاعدت لهجة الخطابات العنيفة في المعابد، فكان من ذلك التكفير، والتحريض على القتل، واعتبار المخالف منحرفا وزائغا وضالا ومارقا عن الملة، والأمة.
3- إن انكفاء المحيط على ذاته المتغربة، والاعتداد بقدرته على تطويع الآخرين بدعاوى رعاية المطلق، وحماية الحقيقة، لم يكن إلا إفرازا طبعيا لظاهرة تلاشت بين التواريخ المنسية، وتناثرت بين ذوات لم تطق أن تحدث لها بين تعاقب الأحداث واقعا يقبلها، ولا مناخا يساعدها في بناء نفسها، والغوص بها في لجة عالمنا المعاصر. ومن هنا، انطلى هذا الزعم بخدعته على النفوس، والعقول، وأثر سلبا في علاقة الخطيب بمحيطه النفسي، والاجتماعي، والثقافي، وأربك سيره في صيرورة المشكلات التي تموج بها الحياة الثقافية، والفكرية. ومرد ذلك عندي إلى أمرين: الأول: أن المنظومة التقليدية، لم تستطع أن تطور نفسها، وتهذب نظرتها، لكي تواكب تغيرات العصر، وتقلبات مزاجه، وتجاري سرعة الأحداث المنفعلة في كوكبنا الأرضي. الثاني: أن الأبجديات التي يتعامل بها الخطيب في محيطه، ما زالت تلبس خلقان اللغة البائدة، ومعانيها الحوشية. وذلك ما خلق انفصاما بين الخطيب، وبين ما يدور في فلكه من فلسفات ونظريات تناءت بنا بعيدا عما هو موروث، ومحصول، ومكتسب، وباعدت بنا عن مطلقاتنا التي حادت في لجة العلم عن سبيل الحقيقة. ومن هنا انطوت مركبات هذه اللغة على ذاتها، واكتفت بترداد ما هو كائن في الأذهان الكسلانة عن التفاعل، والانفعال، وتكرار ظواهر الماضي السَّلبية كما تكونت مع الفكر الكاسد في الزمن المنصرم. ولا غرابة إذا كانت هذه اللغة الميتة محضنا لمجموعة من العلل والأمراض التي هيأتها لكي تكون متحصنة بالتراث، ومتترسة بعالم هو أشبه بالأسطورة من الحقيقة. وهكذا، عبرت هذه الفئة عن نفسها بأنماط وسياقات مخالفة لما درج عليه المجتمع من تغيرات، وتقلبات، ودبرت واقعها بأخلاق وسلوكيات تتنافى مع وحدة الإنسان، وصورة الكون، وفكرة الحياة، ولغة الوجود. ولذا يمكن لنا أن نفسر هذا التشظي بما يلي: أ- اعتمادها على الدلالات الرمزية التي توحي إلى شعورها بغربة أنطولوجية في عالمها المعاصر. ب- تحنيطها للحاضر بقيم تجاوزها الإنسان، والتاريخ، والحضارة. ج- إخفاءها للهزيمة على المستوى النفسي، والاجتماعي، وإضمارها للإخفاق في ميداني الروح، والمادة. وذلك ناتج عن عدم القدرة على مزج التجربة الروحية بالتجربة الحياتية. د- استدعاءها لأدوات التواصل من بنية نفسية متكلسة، ومتخلفة، لا تعترف بما هو خارج عن ذهنها، بل تعتبر ذلك التشبث بأورام التاريخ تميزا، وتفوقا، لاسيما في مجال علاقاتها الاجتماعية التي تعقمها بأخلاقيات يغلب عليها الخوف على كشف غموض الذات أكثر من سعيها إلى تحررها من عقدة النقص، ومن مرض الاستعلاء. ه- دخولها إلى عالم المَدَنية بأفكار متآكلة، لا تستوعب نجاح عالم اليوم في ترسيخ قيم أدوات الاتصال، والتواصل. ولذا حاولت أن تتعالى على ذلك بشطارة ادعاءاتٍ فارغة من الصدق، والموضوعية. كادعائها أن ما أنتجه الغرب من حضارة، ما هو إلا تسخير إلهي للمتدينين، لكي يكونوا به أقدر على مواجهة أرزاء الواقع وتبعاته.وهذا وإن كان صحيحا من حيث ارتباطه بعالم التكوين الأزلي، فإنه فاسد من حيث كونه دالا على تخلف العقول التي تستهلك ما ينتجه غيرها من مادة، وآلة، لا تستوعبها بإدراكها، بل تفرض عليها فلسفتها المعرفية، والقيمية. وهذه الادعاءات قد أثرت على محيطها بتبني خليط من النتائج الوخيمة، والعواقب الحقيرة، وأضعفت رغبتها في التفوق بتسويغ هزيمتها بضجيج تميزها بحيازة المطلق، وامتلاك لغة النص المقدس، والقدرة على تفسير كل شيء بأدبيات الدين. ويمكن استجلاء ذلك فيما آلت إليه أوضاع الأمة من التشبث بلغة التزييف، والتشدد، والتنطع، والاتجار بالدين، والسمسرة بالفتوى. وكل هذه النتائج قد خلقت مجتمعا يميل إلى ظواهر الإلزام المفرغ من عمل العقل، أكثر من ميله إلى الالتزام الأخلاقي بدور المسؤولية في تنمية المجتمع، وتحديثه، وتطويره. أو لنقل بعبارة أخرى: قد أنتج ذلك بنية متخلفة تحارب الاجتهاد، وتعطل العقل، وتمنع مرونة اللغة، وقبولها للمجاز، والتأويل، وتحجز الأنظار عن سعة الرؤية، والنظرة، وترفض الاندماج في كل المشاريع الحياتية المجسدة لقيم الحضارة المادية الفارهة.
4- بعد هذه المقدمات، لا بد من طرح أسئلة تسعفنا على فهم مجموعة من المفاهيم التي لو تدارك الخطباء فهمها بشيء من الجدة، لكانت سببا في تطوير العلاقة بين ما هو حاصل، وما هو كائن، وتجديد الوعي بكل التجارب والمسارات التي خاض المجتمع العربي والإسلامي لجتها. وهذه الأسئلة يمكن صياغتها كما يلي: ما هو دور المنبر.؟ هل الخطيب مؤهل للفتوى والاجتهاد في القضايا الحادثة.؟ وما هو دور الخطيب على المنبر.؟ وهل للمنبر من رسالة في حياة الناس.؟ وما معنى حرية التعبير، والرأي.؟
إن دراسات إشكالات هذه الأسئلة، ستعيدنا أولا إلى قراءة تجربة المنبر عبر التاريخ الإسلامي. وثانيا ستفيدنا باكتشاف كل الطوارئ التي طرأت على دوره، وحدثت في وظيفته، فعطلت رسالته عن الأثر الذي أسس له في أول الأمر، وصار مصاحبا له في كل أطواره، وتقلباته. ولذا، فإننا إذا تحدثنا عن دور المنبر الرئيس، ولازمه مع تعاقب الدول، والأمم، والشعوب، فلا محالة سنتحدث أولا عن أبجدياته وأدبياته التي يقوم عليها في بناء صيغ ألفاظه، ومعانيه، ومفاهيمه، وثانيا في طريقة تنزيلها على قضايا الناس، وأحداثهم، ووقائعهم. وذلك ما يتطلب منا وضع خطاطة منهجية تبتدئ في استجلاء تلك الصورة التاريخية بزمن النبوة، ثم ما تبعه من أزمنة تشكلت معها بنية الشريعة في محيط المجتمع العربي، والإسلامي. وهذا مما لا يتأتى لنا في مقال يطلب منه القصر لكي يصل إلى المراد المقصود منه. ولكن، ولو لم يكن الطول مرغوبا عندنا، فإنه يكفينا أن نشير إلى مجموعة من المحطات التي مرت بها تجربة المنبر، وانبنت عليها قيمه في تأسيس الرابطة الروحية بين دائرة العباد وحضرة مالك الملوك.
الأولى: إن القرآن اعتبر ما يقوم به المنبر من وظيفةٍ ذكرا لله عز وجل بمعناه الشامل، وحثا للعباد على تحقيق العبودية له بالصدق في النية، والإخلاص في العمل. ويعني هذا أن المنبر يقوم بدور تحقيق ذكر الله في القلوب، والتذكير بمفهومه في بناء صيغة الحياة الدنيوية، والترسيخ لقيمه في سلوكيات الأفراد، والجماعة. ومن هنا، فإن كل ما يخدم هذا البعد الروحي في تشكيل جاهزية الذهنية الإسلامية لفهم ومعرفة جوهر الحقيقة، فهو مندرج في مفهوم البيان الأسبوعي الذي يهرع الناس إلى سماعه كل جمعة، ويفزع إلى هدوئه كل المهمومين بضغطة المادة العاتية.
ثانيا: إن النبي (ص) خطب على المنبر مدة من الزمن بمقتضى هذا التوجيه الإلهي الذي نشأت به مفاهيم الإسلام، وتعاليمه. وكانت خطبه هداية للناس إلى الموارد التي يتحقق بها ذكر الله في ماهية الذات، ودلالة على ما يتجسد به شأن أعراضها الخارجيه، ويتمثل به أمرها في المملكة البشرية. لأن دور النبي (ص) في إقامة هذه الشعيرة، لا يمكن أن يتجاوز تلك الكليات التي حددها القرآن لقيم المسجد، ورسالته. ولذا، كانت خطب النبي قصيرة في التعبير عن قصدها، لا طويلة الذيل بحشوها، لأنها من جوامع الكلم، لا من سواقط الحروف، وسفاسف المعاني. ومما لا شك فيه لم تكن إلا لحاجة الصدع بما أمر الله به، وإنذار العشيرة الأقربين بفحواه، والصدع بكلمة الحق في وجه تناقضات الحياة بين ظواهر وبواطن المسير، والمصير. إذ الهدف من بناء مشاهدها، والغاية من صياغة مظاهرها، سواء في الجمع، أو العيدين، أو الحج، أو الجهاد، هو خدمة مشروع المسجد بما يستلزمه ذلك من فصاحة اللفظ، وبلاغة المعنى، وصدق النية، وأمانة الذات. ولذا، اختلف كلامه (ص) بين خطبه يوم الجمعة، وخطبه في المناسبات الأخرى، ولكنها وإن تعددت الوسيلة، فهي متحدة القصد، والوجهة. لأنها إجابة عن حقيقة المخزون وراء عالم الشهادة، وإظهار لما يتضمنه طريق السماء من مراحل، ومنازل. وإن كنا نرى ما وصل إلينا من خطبه (ص) نزرا يسيرا، لا يستوعب كل المراحل الزمنية التي خطب فيها على المنبر. وذلك قد يطرح عندنا أسئلة من نوع آخر، وليس هذا الاختصار محلها.
ثالثا: في زمن الخلافة الأولى، كان المنبر كما وجد عليه في زمن النبوة، وإن طرأت عليه تغييرات طفيفة في بنية اللغة المستعملة، وفي نوعية المواضيع التي تناولها الخلفاء بالخطابة. لكن طراوة الدين، وغضارته، لم تسمح بأن يحدث في زمنهم ما حدث بعد ذلك من تغير أفضى إلى الاختلاف بين العراقيين والشاميين في صياغة العناوين الكبرى لقيم المسجد، وموضوعات المنبر. وينجلي لنا ذلك في طبيعة النقاشات الدينية والسياسية التي تعرض لها الخطباء في تلك الحقبة التاريخية، وتوقف عندها حق الدفاع في رغبة الوجود بين المنظومات المتعاركة على مسرح الأحداث الكبرى. وفي هذه الفترة تطورت لغة الخطاب إلى وضعية صار فيها المنبر لسانا ناطقا لتوجه هذا الطيف، أو ذلك، بل تجاوز الأمر حدود عرض الأفكار، ومناقشتها، والاستدلال عليها، إلى شتم وتسفيه ولعن التوجهات الأخرى. وذلك ما أنتج عزوف الناس عن حضور الخطبة، والاكتفاء بالصلاة دون الإنصات إلى الخطبة كما ذكر الزرقاني في شرحه على الموطأ. ومن ذلك ما توافقت الروايات عليه من لعن سيدنا علي (ض) على المنبر مدة من الزمن، ينشأ عليها الصغير، ويهلك عليها الكبير. بل غدا سبه ضرورة يعاقب على تركها بالطرد، أو الحجز، أو القتل. ولعل الدارس لهذه المرحلة من التاريخ، سيدرك عدد سنوات سبه (ض)، وعدد المقتولين بأيدي السوقة والرعاع بسبب ترك سبه، ورواية خصائصه، كالحاكم النيسابوري، والنسائي، وغيرهما.
رابعا: بعد هذا الزمن الذي تمخض عن تشكلات دينية وفقهية مختلفة، تغيرت وظيفة المنبر في بنيتها الروحية، والاجتماعية، وصار الخطيب صوتا موجِّها لقضايا النص الديني إلى ما يخدم مصالح فئة معينة في العقيدة، والسياسة، وصدى معبرا عن موجات العنف المستعر أوارها في المجتمع العربي، والإسلامي. وقد أدى تطور الأحداث في كل المجالات إلى تعدد أنواع الخطب التي تعرض على عموم المسلمين في المساجد، وفي كل المواقع السياسية، والاجتماعية. وسواء في ذلك ما يلقيه القادة، أو العلماء، أو الأدباء، أو ما يقوم به الكتاب في تخصصات الدين، واللغة، والأدب، والتاريخ. ولذا يمكن تقسيم ما أفرزته ضروريات الأحداث المتعاركة إلى أنواع ثلاثة من الخطابة: الخطب الدينية، والخطب السياسية، والخطب الاجتماعية. ولكل نوع منها خطباء مفوهون، ومبرزون، يتميزون بجزالة اللفظ، ودقة التركيب، والاقتصار في فنون البلاغة على ما يترع الأسلوب برقة التعبير، وعذوبة المعنى، مع الاستشهاد بآي القرآن، ونصوص الأحاديث، ومنثور كلام العرب، والاعتماد في كل ذلك على الإيجاز غير المخل بالمراد. لكن حين اختلط العرب بغيرهم من الأعاجم، فرسا، وأتراكا، وتسربت العجمة إلى الألسن الفصيحة بالسليقة، اقتصر الخطباء على ترداد ما قيل في الصدر الأول، من غير تطوير لمادته، ولا تجديد لمعناه. وهنا ذبلت زهرة الخطابة بجميع أنواعها، وأطوارها، وجمدت حركتها وفاعليتها في التأثير على الآخرين، فتكلفت السجع والجناس والطباق وغيرها من المحسنات البديعية. لأن ما كان يدفع إليها من حروب لمع بريقها في زمن معين، بدأت حدتها تخف، وشرتها تزول، ولم يتخلف في قوى الحياة والواقع ما يدعو إليها، ويتطلب وجودها. إذ انتهى زمن الفتوحات العربية، وأفل نجمها الظاهر، واختلط العرب بقوميات وإثنيات عرقية أخرى، وامتدت جغرافية العالم الإسلامي إلى مناطق شاسعة من هذا الكوكب الأرضي. ومن ثم انحسر دور الخطابة السياسي، والاجتماعي، لكي يقتصر وجودها على الخطبة الدينية التي ألحت الحاجة إليها في الدفاع عن الدين، أو عن المذهب.
خامسا: في عهد الانحطاط الذي كان مظهرا للحروب الصليبية، والمغولية، وبدءا من العهد المملوكي، وإلى نهاية العصر العثماني، انتقلت الخطابة إلى تسجيعات متكلفة، وتمطيطات مبتذلة، تبعا لما كان سائدا في تلك اللحظة التاريخية التي تعكس طبيعة الموقف الديني، والاجتماعي، والسياسي، وتبين عين ما استحوذ على الذوات من انتصار، وانكسار، واستبد بالواقع المتمخض عن تيارات مختلفة في المنهج، والقصد. وهذا التغير الذي حدث في منظومة الفكر، والحركة، قد كان له أثر سلبي على دور المنبر، تبعا لما هو حاصل في بنية المجتمع من شتات، وانحطاط، وإن كان هذا الوجع الذاتي والاجتماعي قد خدم مادة اللغة العربية بغربته، لكونها لغة الدين أولا، وثانيا لكونها لغة رسمية للدولة، رغم عجمة السلاطين، والأمراء، والحكام، وحاشية البلاط, (السلاجقة، الأيوبيون، الممالك، الأمازيغيون...) وفي الوقت نفسه أترع فن الخطابة بمدونات وفيرة، ما زال لها مقام بين الدراسات الأدبية والاجتماعية لمعاجم النثر الخطابي، على اعتبارها فنا من فنون الأدب، ثم لكونها مادة تشرح نفسية وعقلية تلك المجتعمات. لكن ما يلاحظ في هذه المرحلة التاريخية، أن ما دهم المجتمع العربي والإسلامي من فتن محدقة، لم يكن فقط دافعا إلى استعمال المعجم الدلالي لنفسيات تعيش تحت وطأة الضعف، والهزيمة، بل دفع ذلك الألم النفسي أيضا إلى استخدام أساليب الممانعة للدلالة على تماسك المجتمع الإسلامي، ومدى قوته على تخصيب عوامل الإبداع في كل المجالات الدينية، والفكرية، والأخلاقية، والثقافية، والاجتماعية. ولعل خير دليل على ذلك، هو ما قام به السلاطين في تلك من بناء المساجد، والمدارس، واستقدام العلماء، والأئمة، والإنفاق عليها بسخاء، بل أوقفوا لها أوقافا تعد مفخرة في تاريخ الحضارة الإسلامية. وكل هذا يعضد قوة انتماء الدولة الإسلام، ويوضح قيمة التحصن به من العدو المخالف. لكن ما يلاحظ في ذلك، أن هذه الجهود المبذولة، لم تكن سببا في تحقيق نهضة علمية، ومعرفية، وفكرية، بل انكمشت على ذاتها المفجوعة، فكان منتوجها ملتزما ببناء شوكة الأنظمة القائمة على خصوصية الدين، أكثر من التزامه بالحديث عن قضايا الإنسان الكونية. ولذا كان أثرها من الناحية العلمية والفكرية قليلا، بينما في الجهة المقابلة أثرت هذه المخاضات مادة الفقه بكتب تتضمن شخصية تلك المرحلة، وما واكبها من تغيرات أثرت في تشكلها النفسي، والاجتماعي. ولا غرابة إذا أصلت للسيف، وأودت بالمخالف، لا لكونها تحمي بيضة الدين في الغالب، بل لأنها تتحصن به من أجل حماية ما هو عسكري، وسياسي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، كان ذلك استرجاعا للتراث الذي أحرق في لحظة على أيدي التتار، وأهدر رمزه في الواقع بسبب الحروب الطائشة. لكن تلك العودة إلى الماضي، كانت تحمل روح ونفس وطبيعة وبيئة تلك الفترة، وتتسم بالخوف والحذر مما هو واقع، وحاصل. ولذا تكاتفت الجهود على إعادة صياغة القديم في حلة لا تخلو من ضعف في التصنيف، والمنهج، والترتيب، والتبويب، والموضوع، وتكرار واجترار وتقليد لما هو موروث، من غير تجديد، ولا تطوير، ولا تحديث، بل انعدم فيها حس الإبداع، والابتكار، وفقدان حساسية الجمالية والفنية إلا فيما ندر من ذلك، وانعكس فيها ما هو سائد بين دوائر تلك الفترة من أساليب، ومعان.
سادسا: استمر هذا الوضع إلى عصر النهضة التي كانت إقلاعا من أتربة النكبات المتوالية على الأمة العربية والإسلامية إلى وضع آخر، يتغيى نفخ الروح في بذرة التاريخ، لعلها تنبت في موات الأرض المجللة بدماء الحروب الفتاكة، حيث طرح السؤال من جديد حول علاقة الدين بالسياسة، وعن مدى قدرة العودة إلى التاريخ على تحقيق الإشعاع الحضاري للأمة، وعن كيفية تحقيق العدالة والحرية والمساواة بهذا الدين الذي كان مهيعا للحب، والصدق، والوفاء. ومن هنا خاض الخطباء معارك حامية الوطيس حول كثير من القضايا التي شغلت العقل الإسلامي، لاسيما وأن الفترة جاءت مع انهيار الخلافة العثمانية، وغزو الأوطان العربية والإسلامية من قبل القوى الاستعمارية الغربية. فطائفة ناصرت ما هو موروث من المعارف الدينية، والتراثية، واكتفت بالأساليب المدونة في زمن تفجر طاقة العقل العربي بالإبداع والابتكار في المعاني، ولذا كانت الخطابة عندها فنا مقيدا بشروط وضوابط معينة. وطائفة ناصرت الجديد، فاخترعت أساليب كان لها دور هام في صياغة دواوين يتسم بعضها بالجدية في الأسلوب، والموضوعية في الطرح، وبعضها بالرداءة الفكرية، والمعرفية. ولذا كانت الخطابة عندها رديفة في بنيتها المعرفية والوظيفية للجدل، لأنهما يقصدان معنى واحدا في النتيجة، وهو المحادثة مع الآخر عن طريق المخاطبة. إذ المحادثة بدون مخاطبة، تقتضي المشاركة في الحديث، والمفاعلة التي تستوجب عرض نظر كل منهما في القضية المتحدث عنها. (أي القول المتداول بين اثنين.) لكنها مع المخاطبة، تعني ذلك الانفعال الداخلي الذي يحصل من الطرف الثاني. ويكون قصارى جهده أن يستوعب ما يقال له بإصغاء، وإذعان. لأن المقصود بها في هذا الاتجاه الإرشاد، والتوجيه، لا المناظرة، والمجادلة، لأن الأخيرين مرتبطان بإقامة البرهان والقياس والضمائر عن طريق الحجاج المنطقية، بينما المخاطبة تتغيى التصديق للخطاب عن طريق الإقناع، والاستمالة. ولذا أستدل على المخاطبة في التداول المعرفي والاجتماعي بالنص الديني، لأن مجالها الدين، والعقيدة. وارتباطها بالدين، هو الذي يمنحها قدسية، ويجعلها لا تحتاج إلى كثير من أدوات الصناعة، وفي الاتجاه نفسه يوظف سلطتها في تكوين ذلك النظر الإلحاقي الاستتباعي الذي لا يقبل الأشياء إلا بالعودة إلى أصولها. ومن هنا، فإن الخطابة في هذا العصر كانت تبحث عن ذاتها في ربط الماضي بالحاضر، وسواء في ذلك الطائفة الأولى، أو الثانية، لكن الطائفة الأولى كانت ترى الخطبة سببا في تزكية النفس، وتطهيرها، وتنقية القلب، وصفائه، والسمو بالروح إلى برزخ الكمال. ولذا استعملت التعميم في أساليب الترغيب، والترهيب، من غير أن تتعرض للجزئيات، ولا للخلافيات، لأن الهدف منها، كان هو بث تعاليم الدين ومثله وأخلاقياته عن طريق الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وذلك كله مرتبط بسياق عقدي، ومعرفي، لا يتجاوز حدود ما مرسوم من خطوط البداية، والنهاية. بينما الطائفة الثانية، حاولت أن تفرض سلطة هذه الموضوعات بطرق أخرى، تتأسس على هذيان العودة إلى التراث، (لأنها لم تحدد نقطة زمنية للعودة، ولا مرجعية موحدة في الأوبة.) وتعتمد النقد المباشر للواقع، وربما تعيِّن الظواهر وتصفها بأدق تفاصيلها، بل لم تكتف بذلك التشخيص للواقع المر الذي يخوض المجتمع بين أوحاله، بل سعت إلى أن يكون حديث المنبر صوتا للمقهورين، والمظلومين، والمنكوبين. وهنا اختلفت الطريقتان من حيثية التعامل مع المواضيع المعروضة على المستمعين، ثم من حيثية الأساليب المستعملة في تسويغ القضية، والاستدلال عليها. ففي الأولى يكون النص أولا، وأخيرا، وفي الثانية يكون أولا، والنص ثانيا. ولذا، لا يمكن وضع الأسلوبين في كفة واحدة، لأن الهدف المستبطن في الطائفة الأولى، هو الدلالة على الله في أمره، ونهيه. لكن الطائفة الثانية، قد تخذت الخطابة مشروعا دعويا يستبطن الآخر الذي هو المعادي، والمخالف، ويستظهر الاحتجاج على الواقع، والانتفاضة على أخلاقه، وقيمه. ولهذا استعمل مصطلح الدعوة إلى الله في ديار الإسلام، مع كونها لا تتناسب في مكنون دلالتها التاريخية إلا مع ديار الكفر. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الخطابة إذا كانت إرشادا وتوجيها في الطائفة الأولى، فإنها في الطائفة الثانية، كانت دليلا على مقارعة ومجابهة ما دهم العالم الإسلامي من تيارات مختلفة، وسواء في ذلك الاستشراق، أو الاستغراب، أو المذاهب المادية، أو العلمانية، والليبرالية، والحداثة، والعولمة. وكل ذلك وإن غزا صوته الأمة الإسلامية، فإن مجابهته في الطائفة الأولى، لم يكن سلاحه المنبر، بل جردت سيف قلمها الصقيل، فجابهت الدليل بالدليل، والحجة بالحجة، فكان كلامها موجها إلى النخب التي تتبنى تلك الأفكار، والأنظار، لا إلى عموم المسلمين الذين لا يفرقون بين هذه التحولات الفكرية، والثقافية، بل يُؤخذون بما يشهدونه من طفرة في ميدان الأخلاق البشرية، والعلاقات الاجتماعية، ويذهلون لهذا الخطاب الذي يصور لهم تحرير أنفسهم من سبة الحاضر، وتغيره. ومن هنا احتفظت الطائفة الأولى للمنبر على رونقه، وهيبته، لأنها تعلم يقينا أن الصراع مجاله الفقه، لا العقيدة، ولذا ضنت بالخلافات العقدية والكلامية على غير المتمرسين، والمتخصصين، والمكلفين. لأن مجال الفقه، وإن تباينت فيه الرؤى، فهو محل قابل لذلك التعدد النوعي. لكن مجال العقيدة، لا يسمح بالتباين في الأصول الكلية، وإن اختلفت الفهوم في ذلك، لأنه خاضع لمنهج معرفي، أو نظام إبستيمي، لا يمكن تجازوه. إذ غايته الإيمان، أو الكفر. بينما نجد الطائفة الثانية، تستعدي عامة المسلمين على محاربة المفاهيم الموجهة للنظريات المعرفية والفلسفية بطرق دوغمائية، تستبطن حس الدعوة إلى كنه التيارات الفكرية التي باضت هذه اللغة الإلغائية بين أحضانها في العالم الإسلامي، وإن كانت في مظهرها الخارجي، تميل إلى لغة المظلوم البكاء على ضياع مجده، وعزه، والمهدور حقه، وظله. ومن هنا، ابتذلت هذه الطائفة قيمة المعرفة بالعلوم الدينية، والأدبية، والإنسانية، وصار باعة الحساء يتكلمون في الأمور المعقدة، ويفتون في المسائل الخلافية، ولو لم يجثم أحد منهم على حصير العلم لحظة واحدة. بل استدعى ذلك بعض أدعياء التحرر إلى الدعوة بأسلمة المعرفة، وأنسنتها، حتى تخدم العلوم جوهر الدين المؤول بنفسيات مختنقة في واقعها. وهنا اختلط الأمر على هؤلاء، فظنوا أن ما تفتق عن العقل الإنساني، لا يمكن اعتباره نظريا، إلا إذا ختم عليه رجل الدين بخاتم القبول. وإلا، فإنه علم وضعي، لا شرعي، لا نفاذ له إلى واقع المتدينين، ولو كان مظهرا مدنيا يسهم بسهم في بناء التراكيب الاجتماعية، ويؤطر العلاقة فيما بين الأفراد، والجماعة، وفيما بين الجماعة، والدولة. ولا غرابة إذا كان الاقتصار على المكتوب ضروريا في الطائفة الأولى، لئلا تشرد عن المراد الذي تحاوله من غير تعيين، ولا تخصيص، وكان الارتجال سمة للطائفة الثانية التي خاضت في الدين، وفي الفكر، وفي السياسة، وفي القانون. وشرقت، وغربت، وكانت نتيجتها ما أحدثه من فراغ وضياع في عقول استعذبت الارتحال إلى لفحيح الصحراء، لكي تقدم دمها فداء للبشرية، وخلاصا للكون من الطغيان، والجبروت.
إلا أن ما يمكن دركه في هذه المرحلة، أن الطائفتين كانتا تتسمان في بداية النشأة بصفة العلم، ولو اختلفت الوسائل، والمناهج، والغايات. ولهذا كان انتاجها غزيرا، سواء لدى طائفة التراثيين، المحافظين، أو لدى طائفة الحداثيين، التنويريين. (ولا أعنى هنا الحداثة بمعناها الهادم لبنيات الثابت المقدس.) لكن ظهور حركات الإسلام الإسلامي في المشرق، والمغرب، وبزوغ فجر محاربة الامتداد الشيوعي، وظهور المقاومة للوجود الإسرائيلي، كان له أثر آخر على بنية المنبر، والخطبة. ففي خضم النوازل المتتالية بالهزيمة، بدأت تتلاشى الصبغة القديمة للخطابة كصناعة، وللخطبة كمادة، لكي تظهر الخطب الحماسية التي تناصر قضايا الإسلام، والمسلمين، وتنادي بالجهاد والمقاومة، والممانعة، وتجاهر بالعداء للغرب، ومدنيته، وحضارته. وهنا، وفي هذه اللحظة ظهر الدعاء على الغير المخالف على المنبر، من باب التجييش لعواطف المسلمين، والتهييج لمشاعرهم، واستدرار النصر من عالم السماء بعد أن فقد في عالم الأرض. ولذا، امتد هذا التيار إلى المساجد بشراهة، وشراسة، لاسيما وأنه يعتمد على الإحساس المشترك للأمة، ويتوسل بهذا الخطاب إلى نصرة القضايا العربية، والإسلامية، ويتوسط بهذا النشيج إلى خلقِ جو من العداء للغزاة المغيرين على الأوطان. وهكذا بقي الأمر قابلا للتشنج، والصراع، لأن القوى الغربية في البداية كانت تستفيد من نتائج تلك الخطب، وتحارب بها غيرها من وراء ستار، وقناع. ولذا سمحت لها بأن تؤثر في تشجيع المؤمنين على الجهاد، سواء في الشرق، أو في الغرب، لكي يكون حلم الهجرة إلى أفغانستان لمحاربة قوى الكفر والإلحاد إحساسا عاما مشتركا بين عموم المسلمين. ولولا ذلك التسخير لغباوة العقل الديني، لما حدث ما طرأ على العالم من انهزام المعسكر الشرقي، وظهور قطبية العالم الواحد، وبروز جشع الغرب في خيرات البلدان العربية، وبزوغ نجم الفوضى الخلاقة، ونشوء الصراعات الإيديولوجية المعتمدة في جهة على قيم الاعتدال، والوسطية، وفي جهة أخرى على العنف، والتطرف. وكل هذا قد هيأ الفرصة لطرح سؤال الجدوى بين الفضاءات الدينية، والفكرية، وأفضى إلى استقباح ذلك الصوت الزاعق على منابر المسلمين بالنصر للمجاهدين، واستهجان تلك المصطلحات التي كانت تبني قيم الصراع مع الغرب في أذهان عموم المصلين.



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جذور المعرفة الصوفية
- حين تلتبس المفاهيم
- ناسك في دير الحرف 1
- ناسك في دير الحرف 2
- مقالات في التصوف
- حقيقة المجرم
- مفهوم الحقيقة
- إزالة الإبلاس عن معاني الإرجاس
- أفكار مسوقة (الجزء السادس)
- أفكار مسروقة (الجزء الخامس)
- أفكار مسروقة الجزء الرابع
- أفكار مسروقة (الجزء الثالث)
- أفكار مسروقة (الجزء الثاني)
- أفكار مسروقة (الجزء الأول)
- صرخة براءة صغير
- همم الحكماء، وذمم السفهاء
- تعدد الزوجات بين فحوى النص، وفوضى اللص.
- دموع الجمعة
- رسالة حب إلى أوشو
- تأملات في خلفية داعش


المزيد.....




- أغنيات وأناشيد وبرامج ترفيهية.. تردد قناة طيور الجنة.. طفولة ...
- -أزالوا العصابة عن عيني فرأيت مدى الإذلال والإهانة-.. شهادات ...
- مقيدون باستمرار ويرتدون حفاضات.. تحقيق لـCNN يكشف ما يجري لف ...
- هامبورغ تفرض -شروطا صارمة- على مظاهرة مرتقبة ينظمها إسلاميون ...
- -تكوين- بمواجهة اتهامات -الإلحاد والفوضى- في مصر
- هجوم حاد على بايدن من منظمات يهودية أميركية
- “ضحك أطفالك” نزل تردد قناة طيور الجنة بيبي الجديد 2024 على ج ...
- قائد الثورة الإسلامية يدلى بصوته في الجولة الثانية للانتخابا ...
- المقاومة الإسلامية في العراق تقصف 6 أهداف حيوية إسرائيلية بص ...
- -أهداف حيوية وموقع عسكري-..-المقاومة الإسلامية بالعراق- تنفذ ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 1-2