أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - أفكار مسوقة (الجزء السادس)















المزيد.....

أفكار مسوقة (الجزء السادس)


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 4753 - 2015 / 3 / 19 - 21:56
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


والله إنه ليشق علي أن أستمع إلى صوت أناس يفدون على المساجد الهادئة بين اغتراب البوادي عن الحواضر المضمخة بآلام السير فوق خيوط المراحل الحارقة، وهم يزعمون أنهم قد خرجوا في سبيل الدعوة إلى الله، ويريدون أن تمتلئ صماخ الآذان المسكونة بين تلافيف وجع الضياع بزعيق أصواتهم المتهدلة، والمتهدجة. شيء فاضح، وكاشف، يغري بلفظه، وهو في عمقه يجنح بالعقل نحو الانكفاء على الذات المستحمة من مستنقع الشقاء، بل هو الطريق الموحش في سير المحتاجين إلى تلك العودة المستبطنة بين النفوس المكلومة، والذوات المعلولة. شيء هو أقرب إلى الغباء، والبلادة، والحمق، والجنون. فلو كنت بالخيار في أمر رفضي، ونبذي، وكان لي موقع التحاور مع هذه الفئة الممتحنة بالأفكار الحسيرة، لأظهرت لهم بمنطق الدين عناوين كبرى، لا تجعل الخلاص في الجماعة، بل تجعله في حصن الفرد. والفرد في منطق الحقيقة لا ينشأ إلا بين حضن الجماعة، والجماعة لا يلتئم جوهرها إلا في وجود مصاديق أفرادها. فمن الفرد نشأت الأسرة، ومنه تكونت العشيرة، والقبيلة، والدولة، والأمة، والوطن الكبير في شاعرية الشاعر، والمثقف، والمفكر، والفيلسوف الذي غازلته أمنيات اللحظة الهاربة، فظن في مطلق المثال ما هو بعيد عن النوال بين مقيدات الواقع، ثم قال بالجمهورية الفاضلة، والمدينة الناعمة، وبالوحدة الأنطولوجية الغامضة، وباليوتوبيا الحالمة، وباللحظة السريالية الهادئة، وبالفضاءات الرومانسية العاشقة. فالفرد والجماعة -على هذا- كلاهما في عملية التركيب والترتيب أساس لهذا الهرم الذي يمازج بين الغايات في جمعية واحدة، لا يستأثر فيها الفرد بموقعية القيادة، والريادة، ولا تستعدي فيها الجماعة على مركزية الفرد في التأصيل، والتأثيل. وتلك فلسفة عميقة، ودقيقة، تتصل فيها الكليات مع المعنى الكلي للوجود، والكون، والطبيعة، والإنسان، وتنفصل فيها الجزئيات بين محالها المتصلة بأبجديات بناء معنى الحقيقة المظروفة وسط بؤرة الزمان، والمكان. لو كنت بالخيار في قرار الأمر، والنهي، لمنعت هؤلاء من التحدث باسم الدين الذي نريده روحا، وقلبا، وعقلا، ونفسا. وهم في أغلب أحوالهم أميون، وسطحيون، لا يجيدون رص حروف الكتابة، ولا فن الاستفادة من القراءة، ولا يتقنون منطق الشريعة، ولا مفهوم الحقيقة. بل يتلقفون فتاتا تنخلع عنه نفس الواعظ حين يشعر في عزلته باغترابه عن العالم المشاهد، لكي يتجرد من علاقاته المادية شكلا، لا مضمونا، ثم ينزاح بين ضوضاء الهامش، وهو يهجر قيمة المجتمع حقيقة، وإن افترض خلاصه في استقامة الإنسان. وهنا يتحقق مفهوم الهجرة المكنون في لغة الباطن الذي لم يتخلص من رواسب اختلال المفاهيم بين تضاريس البنية الذهنية، والنفسية، والاجتماعية. تلك هي هجرة الذات العاجزة عن فهم خيوط التناقض بين مركبات الحقائق المتعارضة القصد، والهدف، وهجرة الجماعة التي غدت منابعُ النور بين حدقات أعينها مريبة في النظرات، والعبرات، بل هجرة كل الأنماط والسياقات التي يتركب منها المجتمع بكل تشكلاته، وتمثلاته، بدءا من نظام الأسرة، ومرورا بزعزعة نظام الدولة المحلية، وانتهاء برفض نظام الكون. وذلك هو ما يحدث اليوم في عوالم الدواعش المنكوب رهان عودتها إلى التاريخ المترنح بقصائد العزاء، والتأبين. ومن هنا، فإن عالم المادة الطاغي بانتمائه إلى عالم الإنسان المملتئ بلغة العزلة، والغربة، ومفاهيم الفراق، والبعاد، ومعاني الضياع، والتيه، لم يكن لحظة متسامية عن غرابة الفقدان، والهجران، ولا لحظة متخلصة من ثقل ضعوطات الحياة الشادرة عن المعنى المسجور في الذاكرة الفردية، والجماعية، بل كان زمنا صالحا فينا لهدم اللغة، وهجر المعنى، ثم استطال علينا الوجع بين لحظات التجلي المفارق للكيان، والمجانف للزمان، فأولجنا فضاء المستقبل باشتياق يصطاد ذلك المعنى المستغرق في عموميات الانتماء إلى عناصر متناثرة بين كثرة كاثرة، لم يتحدد فيها ما هو سكر يعيد الإنسان إلى طفولة الحلم البعيد عن عفن الأحداث المتعاقبة بسوء مصيرها على الإنسان، وعلى الكون، وما هو صحو يرصد الظواهر بعين بصيرة، وحديدة، ويلهب في أعماقها أنوار المعرفة بأصول الصراع، والصراع، وبدايات التجافي عن الذات الهاتفة بالانطلاق نحو غايات قد يضيق عنها المكان في سعته، ولكن تطيقها الذات في فهمها لسنن الزمان، وتاريخ الإنسان، وطبيعة الكون، وحقيقة الوجود. فأي بله هذا الذي أصاب عقل المتدين المتلهف إلى قطع الصلة بالحاضر المكتنز اللذات الثابتة، والعارضة، وربط ذكرى الخلاص بمناقب الماضي المنصرم بين المكارم، والنقائص، وهو يزعم في سواد المشهد أن نص الدين رخيص المعنى، قد يطيق درك مداراته كل من كشف له لاحق الادعاء عن شيء من إشراقات الذات الممرعة بوجع الواقع الصدَّاح بالطغيان، ثم زعم أنه يمتلك مقدرة على إدراك أبعاده المتنائية عن تأويلات النفوس الملتبسة بين تناقضات المفاهيم الممزوجة بأوهام امتلاك نهاية الحقيقة في عالم الأزل، والأجل.؟ لو تركنا هؤلاء في مراكز التوجيه للأمة، ومواقع التربية، والتهذيب، والتعليم، فماذا سنخلق من رسل السلم بين رسائل حيرتنا المضطربة من معنى الإنسان، والتاريخ، والحضارة.؟ هل سنصنع دواعش يهتكون أسرار المعاني الكبرى بخلاعة شهوة الانتقام من تأرجح الحياة بين يقينين: -يقين المترقب المترصد لشيء يعود به إلى المعنى الغائب عنه بين خدع النقائص المزرية، والمغرية، ويقين الراغب في تأويل ما تداخل بين الحقائق من معاني الغروب، والشروق.- ثم يتركون زوجاتهم لحشود الذئاب المستطيبة لديار البؤس، واللؤم، والذل، لكي يحلقوا بلا سفن ضاع معها الموعد الحقيقي للإبحار نحو بلاد باكستان، أو نحو بلاد العجم، لعلهم يستعيدون تلك الأريحية التي سجنت بين دهاليز الباطن العاجز عن درك الجزئي والكلي في مركب الكليات المتصلة بجوهر الذات، أو المفارقة لها عرضا، ولكن الواقع لا يهب فتات مصاديقها الملغوبة بين جموح المشاهد المحسوسة عن حواس الائتلاف مع ما هو متاح، وما هو ممنوع. فلا تستغربوا ألمي من هذه الشطحات المعرية عن تفاوض باطني، -تفاوض ابتغاء الحقيقة بالخيال، والعلم بالجهل.- فقد التوى حبل الجهل على عنق أمتي، وغدا كل مريض النفس، سخيف العقل، لا يتقن في سعار هزيمته بدنف عصاب حمقه إلا فتل أوداجه بالنعيق، والنهيق. فيا هذا، لو طمعت في أن تتجاوز سبة جهلك، ومعرة غبائك، فلا عليك إذا خرجت عن سفه عقلك ابتغاء مرضات سبيل ربك، لكي تبحث عن حقيقتك بين حياض المعرفة الكامنة في كسر قيود بلادتك المؤججة بنيران الضدية بين المترادفات، والمتماثلات، ثم تسعد بنشوة انطلاقك نحو الفضاء الذي تعي به سر تكوين صورة الكون، والإنسان، والحياة، والوجود، والطبيعة في قلبك، وروحك. وإذ ذاك لن تكون في قاعك فراغا يبحث عن إملاءات الرفض، والعنف، والكره، والانتقام. لو أنكرت ذاتك، لا ذات غيرك، وجعلت هزيمتك فيك، لا فيمن حولك، فإنك لن تهجر متن علتك، وألمك، بل ستفصح عن سر انكماش نيتك، ولذتك. وإذا أفصحت عنها، وترجمتها بلا أخطاء في اللغة، والبلاغة، فإنك ستدرك حقيقة كيف نشأ الصراع بين الفرد، والجماعة، وبين فئام المتظللين بظل المكان، وزمرة السابحين بين أدوار الزمان. شيء يتمدد مع الذات العاشقة للانتشار بين شرايين المباني، والمعاني، والاستيعاب لكل الأمداء المادية، والمعنوية، وهو الذي جعلنا لا نمشي بين أطلال الذكرى سراعا، بل لا نبرح دائرة الظل الجاثم في عتمة أغوارنا، وأنجادنا، بينما غيرنا يمشي خفيف الظل بين الأدوار، والأطوار، وإذا أحس بعياء توقف عند محطة التزود بطاقة الحركة، وإذا ما شعر بمرض استشفى بدواء المعرفة لا بخرافة التمائم، وإذا ما انتباته أفكار، أو اعترته أذواق، جعل الصراحة عقيدة له، والكتمان كفرا مبينا في شريعته. وهنا افترقنا عند طريقين متباينن، ففي المجتمعات الإسلامية يصير الإفصاح عن سر العلة عارا، وشنارا، وهناك، وفي المجتمعات الأخرى، يغدو زفير الإنسان سطرا مقروءا، وكلاما موضوعا، تفسر به دورة الحياة المتعاركة نصا، وفصا، وتؤول به تقلبات الإنسان معها قبولا، أو رفضا. فلا غرابة إذا كان الزمان عندنا بلا قيمة معنوية، ما دمنا نعيش الغياب في حصتنا منه. والمكان إذا غدا بلا جدوى، ما زلنا لا نحدده إلا بالشكوى والضيق والحرج من المادي الممنوع الضفاف، والشطآن، ولا نترجى في لسعات ضمائرنا إلا أن يكون انبساطنا مرفها بين عوالم خلقناها موقعا لأقدامنا، وأذواقنا. وهنا تكون العودة إلى الذات في رفض الواقع زمانا، ومكانا، لكي نخلد إلى تلك الصورة التي غرسها الوعظ فينا ذهنا، لا أملا في قوة الفكر، والزناد. وهي صورة لذلك الملاك الأمرد المليح الذي يرفل بين حلل البهاء، والسناء، ويدرع المكان بنزوة الآمن على فتوته، وشهوته. بل هي الصورة المصطنعة من أخبار الجنان المستوحية في تفاصيل متعها لكل ما يرمم شقوق الذات، وفتوق النفس، ويبدد آلام ضياع البيت، والأسرة، والدور، والكور، والقبيلة، والوطن. فلم لا تؤلمنا هذه الصورة التي تنتعش عزلتها بمنأى عن تأثير الأشياء في صورة بعضها.؟ بل أي فائدة ترتجى في معلومات مشتتة الأوصال المفجوعة بين العقول الخامدة، ونحن في مثالية فقدها لضغائن المسير، والمصير، لا نسترد بها إلا مرآة تلك الذات التي فقدها عقل المسلم، وهو لا يطيق أن يفسر بتخمة معرفته أبسط المعادلات المركبة في بحر واقعه.؟ لو تركنا فراغا لمثل هذا الخطاب الوعظي المتعالي عن مكابدة الحقائق الأنانة بالحزن، والألم، لاحتجنا إلى مئات السنين في تطور الأمة، وتحديثتها، وتنميتها، وتعمير أراضيها بموسيقى الحياة الهادئة، والناعمة. فلم لا نبكي عجزنا عن السفر والرحلة والتحليق فوق هيكل ذواتنا الشاهقة بالانتظار المُطالب بدلالة جمال المعنى الغائب عنا عقده النفيس، ونحن لا نميز -في هوج الإصرار على خلود المعاني المهلهلة.- بين مطلقات الحقائق، وتمردها، وتفكهها، ومركباتها، ومواقعها.؟ فلا حرج علينا إذا خالجتنا غرة البكاء على فوات معراج مثلنا الرفيعة، وعهد الإمبراطوريات العاتية قد انتهى، وولى، ثم دخلنا عالم الدولة، والأممية، ومن بعدها عالم أمة واحدة، ومتفردة، تستحوذ عليها صكوك المواثيق الناطقة بنزوات طبائع إنسانها الإصطلاحي، وهمزات عقل صناعتها الافتراضي.! فلم لا نبكي، ونحن قد تحولنا من بداوة مجتمعات الزراعة، -وإن كانت جزءا كبيرا من كسبنا في حاضرنا المستعرة أرجاؤه بطبوغرافيا عصية التحديد للحياة، والأحياء.- إلى مجتمعات صناعية، رافضة، وعنيفة، لا تؤمن بقيمةٍ سوى ما تناله من عناصر الانتاج والاستهلاك المستوعب لهوامش بعيدة من مدارات الفقر البلدان النامية، وإن اقتضى ذلك الجشع المغامر في قنصه للعقول المتخلفة أن تحرق الزروع، وتمتص الضروع، وتهدم البلدان، وتقتل الشعوب، وتزيل أمما عتيقة من أجل رمزية أمة هلامية افترضت لنفسها تلك الصورة المتكاملة في مديح المتزلفين، والمرجفين، والمجدفين. بل الأغرب أن فلاحتنا التي هي جزء من ضرورة نشدتنا للحياة الكريمة، قد ولجت بساطتها عالم سموم الصناعة الكافرة بكل ما يوجهنا نحو استغلال تخوم الزمان، والمكان، ويلمهنا دلالة الحقيقة، وجدل الطبيعة، بل صارت تتحكم فيها نسبيات معدلات موازين الاقتصاديات والسياسات العالمية.! فلم لا نبكي، وقد استحالت خدمتنا سلعة يتبضعها من يمتلك قوة الذهب، وحدس السوق، ولو كان في ذلك استلابنا، واستعبادنا، ووأد كرامتنا، وشح معيشتنا، وجهل معرفتنا.؟ سنبكي هذه الحدود المختنقة في تعريفنا للأشياء الجميلة، والقبيحة، لأننا نرى صبيانا صغارا، أرخوا شعيرات منكوشة على ذقونهم الرحيبة، وألقوا ذؤابة عِمامهم المسودة على ظهورهم العريضة، وهم فارغون من الجدوى، والفحوى، والطوبى، ولكنهم في مسام الغفلة يصطادون لعاب السوقة بما يزقون شهده بين أفواه ساعات الهوان، لكي يقولوا لنا بلغة المخلص لنقطة الانطلاق: إن هذا الدين الذي تأخذونه من جثو الركب عند موراد العلماء محض مين، وزيف، فتعالوا نخرج في سبيل الله أياما، أو شهورا. وإذ ذاك ستنزاح عنكم غمة الأماكن، فتنعموا بمعاينة هذا الإيقاع المتناسق لحنه في قصيدة الأحزان. تلك هي لغتهم الهزيلة، وهم لا يطيقون أن يفجروا من البساطة التي يبرزونها في تقشف حالهم معنى يزرع بين الغايات نور الحضور المتمرد على الحلول المغالية في المثالية، والطوباية. وتالله إن فمي ليمتلئ بصرخة ممزوجة ببسمة شاهقة، وأنا أتذكر هنا مواقف أربعة: الموقف الأول: أن رجلا من هؤلاء المعذبين بخمود ذهن لم يدرك اليقين بين تصوراته المجنونة الصور، والألوان، طهى لنا طعاما في أيام غرة الشباب الغرير، وحين ولجنا بركة مرقه، تذوقت مرارة حارقة منه. تأملت تلك الخضروات التي تسبح بين مياه القصعة العفنة، فرأيتها قد صليت بالنار بلا سحو قشرة ذيها، ولا قطع أجرامها، وأفرادها. فقلت له: يا هذا، ما الذي طهيت لنا في هذا الطعام المر المذاق.؟ فقال: هذا طعام الزهاد. فسحقا، سحقا، لقد التوت أمعائي، وأصابتني حمى، وأوردتني رداءته مهلك الدوى، ومجثم الضنى. وحين واصلت الطبيب من أجل فحص علتي. قال لي: قد تناولت سما زعافا. فباسم الزهد المبهم في نفوس لا تعرف تأويل ألغاز الطبيعة الغناء، تناولت سما أوشكت أن أعاشر به أوصاب الموتى الهالكين بالأطعمة الفاسدة التاريخ، والعلب، والانتاج، والاستهلاك. فهو لا يقصد تسميمنا بما وعته ذاكرته عن طرق طبخ الزهاد لأغذيتهم البسيطة، بل سممتنا أفكاره السمجة، وأذواقه الوسخة. فهل الزهد في غياب دلالة النظافة بين عقول تظن أن سموها المعنوي في أن لا نغسل الخضروات الطازجة، ونطبخ ما على قشرتها من سموم كيماوية.؟ فيا أحمق، إن ما نأكله بين لجج حياة نخوض غمارها متعبين بكواهل فاترة، لم تجُد به يد الأرض طواعية، بل هو إفراز مميت للحضارة التي غيرت خلق الله في الأشياء الجميلة، واللطيفة، ثم حولتها إلى صناعة معقدة، ومتطرفة.! هكذا قلت، وهكذا كان لقائي الأخير مع هذه البساطة الممزوجة بعنفوان الجهل، والتخلف. فلو درى هذا الرجل ومن على شاكلته أن الزهد في امتلاك الدنيا بأيدينا الندية، لا بقلوبنا القابضة، لعلم يقينا أن الدنيا موقف جميل نمتلكه، ومورد سائغ نرده، فإما أن نكون صادقين في مسعى الاستخلاف عليها، فنجمعها من عرقنا المصبوب على عواتقنا المتهدلة بطول الأيام اللافحة، وإما أن نكون خاسئين في سيطرتنا عليها، فنجمعها ببيع الضمير، والتلاعب بالأخلاق، والاستهزاء بالدين. الموقف الثاني: كنت مجتازا على إحدى حلقات الحكاية بجامع الفناء بمراكش، وقد استوقفتني حلقة من هذه الحلقات الراقصة الأكناف، فاندفعت طالبا سماع ما يحكى فيها من روايات غريبة، وحين اقتربت من الصوت المثخن بجراح السنين، وأوجاع الحنين، رأيت وجها مجدورا، تبدو عليه علامات الخوض العريض بين أوحال الحياة المسافرة بعيدا عن أحلامه، وآماله. تأملت بعقل الروائي الذي يجمع سر حرفه من أوعية الشرود، والنفي، والجنون، بل من تناقضات البشر حول المعنى الساحر في الحياة، وانكماشهم، وانسلاخهم، وتهاتفهم، وتكاثرهم، وتفرقهم، وتمزقهم. وتلك هي لغة الأديب الذي يخرج من بطن الأصداف والمحار والقواقع ألفاظا يصنع منها حلي كلماته، ويبني بها عرش جنيات معانيه. فلا حرج علي، وأنا أزاوج بين مولد وجدت فيه بجسد الملائكة الطاهرين، وبين مكان انتقلت إليه بأجنحة العصافير المزقزقة على الأفنان المرحة. ففي مولدي، كنت ذلك الإنسان الذي التوى بين طين بيت الذات الجمعية. وفي مكاني الذي انتقلت إليه جذلان الجوى، رأيتني ذلك الضمير المستتر في كياني. أجل، هو ضمير المتكلم الذي يعشق المرئي، وغير المرئي. وكلاهما يرفهان عن الذات الشاعرة طقوس القيود الغافية بين هدوء الكلمة، ودماثة الخلق. وهناك عشت بين خطين منفصلين: خط تلك القرى الهامدة، وخط هذه المدن الصاخبة بين أغوار لا تجود بنشوة وضوحها إلا في ترنيمة الليل، وتعويذة السهر، وقداس الكلمة. والنسيم يداعب خصلات الحرف المتحرر من حيرة الأماكن، واضطراب الأزمان. وهنا ولد الحرف لغزا منبهما بين زبد البحر، وهو البياض في ناصية المعنى المسكون بخفة الأحلام، وقد ترعرع بين ظلمة الكواكب الغائرة في سواد الأفق. وهنا كان السواد موئلا للآلئ الكلمات السائمة، وهي تعشق شمس الظهيرة بين أصائل الأيام اللاهية، وإذا ما صادفتها لغة الغروب، كانت شروقا بين معان عارية عن عوالق الأوصال الممزقة عرضها بين حشود ترعى بهم الغوائل الحقيرة. فهل يحرس تلك المعاني جند الألفاظ المكتملة ولادتها بين فراشات الأيام المتواجدة بوجْد المكابدة، والمعاناة.؟ أجل، فكل ولادة لا تنزف حياتها من عمق الظلمة، لن تكون مداد حياة في كتاب الأحاسيس، والمشاعر. فلا غرابة. حين دنوت من الحاكي البعيد بين مساحات النظر، وأنا غير مقتنع بما هو متيقظ هنا من عيون ساهمة، بل لم أستوهب ما تجود به الحكاية من معنى يراد فهم ما فيه من سخرية، واستهزاء، بل تلبستني حالة الكشف عن البطل المخزون بين الكلمات، والحركات، فخلت أناملي تجوس حول عقل الحاكي، وتحسس عمقه، وهو يقول بصوت ممتزج بالإغراء: قد وصف الوعاظ الجنة بأوصاف المبغى.! لو استمعت إلى الزفير المتحشرج في صدور من حولي، لرأيت على ملامحهم غبرة الانتقاص لهذا القول القذر، القبيح. لكنني لم استكنه ما في البواطن، وما على الظواهر، بل انطلقت في حرية القول إلى كوامن المعرفة الجاثمة وراء الحكاية المبتذلة، وأنا أراجع رسم الواعظ لصورة الجنة على صخرة النفوس. فقلت: إذا كان الوصف غير قادر على استيعاب الموصوف بالألفاظ الظاهرة، فلن يطيق أن ينشئ باستعارته لباب معرفة حقيقية بالمعنى المقصود بالأصالة. كلا، بل استغراقنا في رص أذيال الوصف وراء المنعوت، يفقد جسم الموصوف قيمته، ومرتبته، ومكانته. بل كثر ما تكون الإطالة في المدح إسهابا في الذم. فالأشياء تخلق من أضدادها، ففي الخطاب عن كليات الرحمة، نبدع خطابا متناقضا في جزئيات العذاب. وهكذا تنشأ المفاهيم السلبية من المعاني الممتنعة عن التحديد المادي، ثم تغدو عند اجتماع الجزئيات عناء، وشقاء، فيتركب منها مركب اليأس، والقنوط، والألم. وهنا تموت المعاني، وإن أصر اللسان على ذكرها، والاحتماء بها، والحماية لها.



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أفكار مسروقة (الجزء الخامس)
- أفكار مسروقة الجزء الرابع
- أفكار مسروقة (الجزء الثالث)
- أفكار مسروقة (الجزء الثاني)
- أفكار مسروقة (الجزء الأول)
- صرخة براءة صغير
- همم الحكماء، وذمم السفهاء
- تعدد الزوجات بين فحوى النص، وفوضى اللص.
- دموع الجمعة
- رسالة حب إلى أوشو
- تأملات في خلفية داعش


المزيد.....




- معرض روسي مصري في دار الإفتاء المصرية
- -مستمرون في عملياتنا-.. -المقاومة الإسلامية في العراق- تعلن ...
- تونس: إلغاء الاحتفال السنوي لليهود في جربة بسبب الحرب في غزة ...
- اليهود الإيرانيون في إسرائيل.. مشاعر مختلطة وسط التوتر
- تونس تلغي الاحتفال السنوي لليهود لهذا العام
- تونس: إلغاء الاحتفالات اليهودية بجزيرة جربة بسبب الحرب على غ ...
- المسلمون.. الغائب الأكبر في الانتخابات الهندية
- نزل قناة mbc3 الجديدة 2024 على النايل سات وعرب سات واستمتع ب ...
- “محتوى إسلامي هادف لأطفالك” إليكم تردد قنوات الأطفال الإسلام ...
- سلي طفلك مع قناة طيور الجنة إليك تردد القناة الجديد على الأق ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - أفكار مسوقة (الجزء السادس)