أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - أفكار مسروقة (الجزء الأول)















المزيد.....



أفكار مسروقة (الجزء الأول)


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 4721 - 2015 / 2 / 15 - 11:36
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


في هذه الأيام جمعني مجلس مع ثلة من أصدقائي، وهم قلة في الأعيان، وكثر في العقول، لكنهم كثيرا ما يستمتعون بكلامي، ويتفهمون مرادي، لا لكونه يحمل متعة، وإنما لما يضمره من وجع، ونزيف. هم أعرف الناس به من سواهم. هو وجع قائم في داخلي، أداريه أحيانا، وأحيانا أهمس به. ولا أهمس به إلا لهؤلاء الأصدقاء. فنظام حياتي لا يقبل كثيرا من المجالس التي أجلس على مائدة دسمها، وهي فارغة من معنى الإنسان البريء. بل أتألم لذلك، وأحس بصداع في رأسي، وامتعاض في باطني، وقد تنتابني كثير من الأفكار الأليمة، فاستوحي مما يقال فلسفة العقول، ومضمرات النفوس. فأرى في ذلك ما أره من آراء، قد لا تعجب هؤلاء الذين لا أجالسهم إلا اضطرارا، ولكنها يَعجب بها هؤلاء الذين أجالسهم بحرية، وهم يرون في إنسان نزل عن صفاته شيئا فقدوه ممن يسمون أنفسهم بالأطهار. فكلامي معهم لا يحمل الأحكام، وإنما أقوم بدور الحاكي عن آمالي في الحياة، وأنزف، وأنزف. ثم أترك لعقولهم حق اختيار ما يحبون، ورفض ما يكرهون. والعجب أن أحدا منهم قال لي: أنت تمتعنا بما يوجعنا. فقلت له: أنا أحكي عن تجربتي، وهي مرة المذاق، ولا أمل لي في أن أحكيها إلا لمن أثق بصداقته. فقال لي: لا تبخل علينا، فإننا نركب قواعد جديدة في الفهم. قلت: لا بخل فيما تسمع، فهو شعوري، ووجداني، ولا أخالني سأخون ضميري، ولو سكتت، أو حاولت أن أجري بين الأمواج بلا ضياع. تلك آفتي، وأنا لا أحبذ أن أتحدث أمام العامة كثيرا. بل لاقصارى الجهد أن أصمت، ولو لم أطق الجلوس محصور البال، ثم أصمت، لكي يكون للكلام قيمته، وإذا ما عن لنا إصغاء من غيرنا، كنا أقدر على الأمر، وأوجع في الأثر. ذلك ما أحس به أصدقائي، وهم فئة قليلة، تعرفني بدون صفة، وأعرفها بدون صفة. لكن ما أثار حفيطتي، هو ما أرسله إلي صديق مكتوبا. قرأت ما كتب، فظننته قد جمع بعض ما قلته في أماكن متفرقة، ثم كتبه. إلا أنني حين أتممت المقروء. قال لي بعدما هاتفته: إنني أفرغت ذلك من تسجيل كنت قد سجلته في إحدى جلساتك. ضحكت، وسخرت، فقلت: ليست هذه هي الأمانة، فالمجالس لها أسرارها، وما يقال للخاصة، لا يقال للعامة. فقال: إنني فعلت ذلك، لأن ما قلته صوت فيك، وأريد أن يسمع الناس هذا الصوت المكتوم. فقلت له: لم أقصد به غيري، حتى يسمعه، وإنما كان نفس مكروب، أحس بهوان أمته، فنظر إليها بنظر الحائر، ثم تحسر، فأرخى زفيرا في الوجوه الحالكة. فقال لي: أرجوك أن تصححها، فهي كلامك، وأنت تحدثت بعفوية، وتلقائية، وتنشرها لمن يريد أن يقرأها. ترددت في الأمر، وكدت أبعدها عني، لكنني حين قرأتها مرة أخرى، لم أجد فيها ما يجعلها عظيمة، بل هي أفكار بسيطة نطقت بها في لحظة الصفاء. فلم لا أنشرها.؟ وعدت نفسي أن أنشرها كما كتبها صديقي، ما لم يكن فيها خطا يقتضي تصحيح اللغة. أما الفكرة التي جادت بها اللحظة، فإنها ستبقى فكرة، لا تقبل التهذيب، وإلا خنت فيها عهدي. ومن ثم نشرت هذه التأملات المسروقة، لعلها تعثر على القلوب التي ابتغى صديقي أن يجدها بين قرائي.
كانت بداية الكلام هكذا: قرأت في بعض الجرائد بأن رجل دين برأته المحكمة بعد أن أدين بتهمة الزنا التي اعترف بها أمام القضاء. ويرجع أمر براءته إلى زوجته التي نزلت عن حقها في المتابعة، وأدينت المتهمة بالفساد، وحكم عليها بمدة من السجن. حين قرأت هذا الخبر كانت لي ملاحظات بسيطة. سأحكيها لكم كما يأتي:
أولا: صرنا نلمس في واقعنا العربي اهتمام وسائل الإعلام بأمثال هذه الفضائح التي تظهر رجل الدين مخالفا لما يؤمن به من قيم، وأخلاق، بل صارت هذه الفضائح تنتشر بين الناس انتشارا خطيرا، مما جعلها أخبارا مقبولة، ومرغوبة، تشاع وتذاع في كل المجالس التي تجمعنا بغيرنا. سواء أولئك الحماة للمعبد، وللهيكل القديم، أو أولئك الذين ينشرون فيها قيح ذواتهم الصدئة بكره المطلقات. عجيب، لم الإصرار على فضح هذه الأسرار التي تُكشف عوراتها للقارئ المتتبع لأحوال المجتمعات العربية، والإسلامية.؟ هل لتربية ذوقه.؟ أم لإفساد عقله.؟ لا نكاد نختلف في وجود مساحة جميلة لحرية التعبير في بعض الأوطان العربية، وذلك مطلب اجتماعي، ومقصد شعبي، بل يعتبرا جزءا من النضال الذي تعترك بين سدفه كثير من الحركات المجتمعية، وهي في غايتها تسعى إلى أن تشعر بوجودها بين أمداء كون مفتوح على الكرامة البشرية، وموعود بأن يضمن لها حق الحرية، والعدالة، والمساواة. هذا أمر لا نختلف في تأكيده، وهو نتاج جهد ضحى به كثير ممن قدموا أرواحهم فداء لحرية الإنسان. لكن الذي يحز في نفسي: هل نشر هذا الأخبار مقصود لذاته.؟ إذا كان الخبر المنشور حقيقة، وأذيع بمهنية، ومسؤولية، فهو الخبر يقينا، لا نختلف في إثباته، أو في نفيه، لكن إذا كان الخبر غاية لنيات دفينة، فهنا يكمن الخطر، ويرتج الأمر، ويصير الإعلام جزءا من أنانية الإنسان المستعلية. فلم لا يتعلق نشر الخبر بشخص المرتكب للجريمة، لا بتوجهاته العقدية، والدينية، أو بوظيفته، وعمله.؟ لم نحشر صفاته المجتمعية، وهي في حقيقتها معنى، لا يتجسد مبناه إلا في الإنسان.؟ ذلكم الإنسان، إذا كان سويا، نال كمال الصفة، واستوجبها بصدق، وإذا لم يجسدها بحقيقتها، كان هو المتهم بالحكم، وليست هي. فالعدالة مثلا، هي معنى، بل هي أمل كل المحرومين، والمجذوذين، وإن اختلف تحديدها في كل طبقة من الطبقات. فمعناها موجود وجوديا حقيقيا، لكونها طلبا للإنسان كما قلنا، لكن إن كُلف أحد بإقامتها بين الآدميين، ثم اختلت منه الموازين، فهل سنعتب على المعنى.؟ أم نعيب على الذي جسده بلا أهلية.؟ ومن هنا، فإن من أخلاق مهنة الإعلام أن تحكي الخبر كما هو حقيقة، من غير أن تتأثر بخلفياتها النفسية، و الاجتماعية، حتى يكون مادة للعقول، توجهها كما تريد، لا أن توجه عقل القارئ، لكي ينصب حكمه على جهة واحدة، هي المرادة من الخبر أصالة. هكذا يحكى الخبر متجردا من هوى الإنسان، لا يراد منه إلا ماهيته. وإذا ما استطعنا أن نصل إلى رجل إعلام بهذا المستوى، فإننا سنعثر على المادة الإعلامية النظيفة.
فانتشار الخبر المكشف لحقيقة من الحقائق، سواء كان المقصود به ذا مكانة اجتماعية، إو كان إنسانا عاديا، هو مطلب اجتماعي، وحرية في التعبير، لكن ما يقع كثيرا، وهذا مضمر في العقل الباطني للمستمع، أن تعاب تلك الصفة، وينتقص من قيمتها، وينسى المتهم، فتتهم تلك المكانة بعموميات تفقد هيبة ذلك المعنى في القلوب، وذلك المعنى هو أيضا مطلب اجتماعي للمتمدنين الذين يسعون إلى أن يسودهم عقد اجتماعي ينظم حياتهم الاجتماعية، بكل نظمها السياسية، والاقتصادية. ولذا فإن رجل الدين، أو رجل السياسة، لن يخرجا عن كونهما آدميين، خلقا للجنة، ثم حدثت المعجزة، فأهبطا إلى عالم الأرض، لكي يمثل أحدهما الخير، وهو المقتول دائما، ويمثل الآخر الشر، وهو الذي نفذ إرادته في الاستحواذ بقوة القتل. وهو الأب الذي تفرعنا عنه، بعد أن قضى على أخيه، وصرنا بين اختيارين، إما أن نثأر لذلك المقتول، أو أن نفي لأبينا الموجود فينا بالقوة، والفعل. إذا فهمنا سيرة الإنسان الأول، فإننا لن نخرج بالآدميين عن هذه الدائرة: دائرة الخير، والشر. وسيكون الحكم عليهم بمقتضى هذه الثنائية، لا على المعاني التي اتصف بها الآدمي سلبا، أو إيجابا. فسواء نال تخفيفا من المجتمع الذي أدرك بشريته، وغفر له خطيئته، أو نال عقابا من الذي جعله صورة ملاك، فإذا به قد تبدى له في يوم من الأيام شيطانا رجيما. ولا أخالني أبعد النجعة إذا قلت: إن رحمة القانون الذي وضعه عقل النبيل، لأرحم به مما شرعه الإنسان بعقله البدوي، ثم بصم عليه بمداد السماء. وذلك ما نراه متجسدا في الغرب بوضوح. فقد يفضح الإنسان، ثم تسحب منه أهليته لذلك المقام، فيطلب الناس الكفاءة لتدبير شأنهم. وهي موجودة بحكم إيمان الإنسان الغربي بالوقت، بالزمن، فلا يجوز في حقه أن يضيع وقته، بل يملي إرادته على ذلك الذي يزعم أنه سيجسد قيمة المعنى، ثم يراقبه، وإذا ما اختلت المعادلة فيما بينهما أهبطه، وبسرعة يمشي، وهو يريد هدفا، لا يفارقه في سفره، ولا في حضره، فلا غرابة فيه إذا أغرق عينيه في يم كتاب، أو جريدة، وهو ينتقل من مكان إلى مكان. تلك قيمة الزمن، لكننا في أوطاننا العربية، لا نبرح دائرة الإشاعات، وحكاية الفضائح، حتى تعودت عقولنا على ذلك، فصرنا نبحث عنها بقوة المدمن لسكرها، وخدرها. بل الأغرب أن عقولنا نزلت عن الصناعة لذلك الذي يؤمن بقيمة الوقت، لكي يقول له: أنا سأكفيك سبة البحث عن تلك الأخبار التي تحمل الناس إلى المجازر. ثم يأتي بلا شعور في صباحه ومساءه كراسي المقهى، لكي يستمع إلى جديد الأخبار. وحين صارت جزءا كبيرا من اهتمامه، بدأ يخلقها، ويلفقها، ويزينها، لكي يكون له رصيد السابق إلى الغنيمة. هكذا تعودت العقول على سماع الأوساخ، لكي لا تبرح دائرة دور الصفيح، ولو عاشت بين العمارات الفارعة، وشقق السكن الرفيعة. فكيف يمكن لعقول لا تدخل مدنها إلا ودهمك روث الحمير في الشوارع العامة، أن تبني حضارة، وهي قد تعودت على تنسم روائح القاذورات.؟ هؤلاء بدو، ولا مدنية في عقولهم، بل تعودوا على روث البهائم، ورائحتها. فها هم كل يوم يشمونها، بل يشمها معهم حتى من عاش مدنيته غريبا في زمنه، وهو في كل صباح يخرج بربطة عنقه، وروائحه تفوح من أنجاده، لكنه حين وضع رجله الأولى من سيارته الفاخرة على بلاط الرصيف العام، دهمته تلك الرائحة، فأيقن بأنه مقامه بين ما لا يعيش إلا كالذباب، لا يأتي إلا الجراح، والأقذار، لن يبعده عن شم رائحة الوسخ. فأي فائدة سيتفيدها العربي من انتشار الفضائح بين جبة كل معنى مقدس ومطلق عند الإنسان.؟ شيء عندي هو اليأس، هو الذي يتأسس في الإنسان، ثم تصير تلك المعاني الموجودة إيجادا حقيقيا في جمال الحياة، غير مقبولة الوجود، بل تكون عنده محالا. فماذا ينتظر.؟ لا ينتظر إلا أن يكون داعشيا يقتل الناس، لكي يفر من المعبد، ومن الدنيا، ويتقرب بخطوات إلى الآخرة، وما فيها من لذات مكبوتة في باطن ذلك الميت عقله، وإن كان جسده ضخما كالفيل. هذا هو اعتقادي في الحقائق، فلو خففنا من نشر لوثة الفضائح عن هذه العقول، وتركناها لعلها ترتاح قليلا، ثم تشم رائحة الجمال من الكون، فإنها ستجدد عزيمتها في الطلب. وذلك أمل، وغدا الوصول. وإن لم نصل إلى خلق الروح في رميم عقولنا، فيكفينا أننا وضعنا ثقل تلك المعاني المفقودة على الأبناء. فإن كانت حقيقية، فإنها سينالونها في زمن وجدوا له، وإن كانت وهما، فحسبنا أننا أشعنا وهم المثالية في العقول التي لا تعيش إلا بوهم النقاء. وإذ ذاك، نقول: قد خدعتنا اليوتوبيا، ونحن ضحايا الفلسفة.
في كثير من الأحيان، أجالس أناسا كبارا، يتبصبصون بأعينهم المتوقدة بسعار يحرقهم، وكأنهم يحملون مولودا في بطونهم، فتراه يقفز، وينط، وكأنه أراد أن يقوم، أو يريد أن تخسف به الأرض. شيء في حوصلته، يريد أن يقوله جهرة، لكي يسمعه الناس، ثم يستحيي، وييأس، فيجر من إلى جنبه، ثم يهمس له: هل سمعت خبرا عن فلان، فيرد عليه الآخر، ويسرق من إلى جنبهما كلمات، هي المفاتيح للقضية في عقله، ثم يشاركهما، فتتكون الجماعة، ثم ينتشر الخبر. والأغرب أن يقول من يريد بناء ورعه عن الحكايات: ما شاء الله، ثم يتظاهر بأنه لم يسمع الخبر، وهو قد سمعه من منبته. فيحكى له الخبر، لكي يتلذذ به، وهو يحوقل. وكثر ما أنظر إلى هؤلاء بعين فاحصة إلى هؤلاء الجلاس المتحاذقين في فهم الأسرار، (لأن لغة الأسرار هي التي خلقت الكهان، وقد كانوا شطارا، لأنهم طوعوا العقول لكي تقبل بأنهم يمتلكون مفاتيح الكنوز، سواء كنز النص، أو ذلك الكنز الحقيقي، وهو مطلب لكثير من العقول التي تؤمن بالمعجزة، ولا تؤمن بالنبي، بل أصرت على معاداة قانون الأسباب، من أجل قانون الحظوظ، فعاشت راغبة في الحظوظ، وقد حارب الأنبياء هذه العقلية الاتكالية، لكن لها رهبانها، ولا بد أن يكون لها أثر في كل الأجيال. إذ لولا باعة الوهم، لما وجدت الأسواق. وفي فلسفة كل سوق مجتمع، فالتجار أذكياء، وهناك من يشتري الذكاء، وهناك من يشتري الغباء، لأننا نعثر في محل الغباء على ذكاء. وتلك منظومة ذهنية، لا تستقيم فيها الأشياء إلا تناقضت، وتنافرت.) فأرى في أمعائهم فساء يريدون أن يلوثوا به أنف المجلس، (لأن أنف المجلس هو المقصود، وكل أنف فيه أنفة، إذ لولا ذلك، لما اعتبر تمريغ الأنف على الرغام ذلا، وهوانا. بل أدركنا أناسا من الجيل القديم، يعتبرون مس أنوفهم بيد أخرى انكسارا، وكانوا يقولون: هل أنا عبد حتى تسم أنفي بيدك. هكذا الأنوف، وهكذا يكون أنف المجلس إباء، والإباء لا يكون صاردا إلا ممن أدرك حقيقة الضعف، والقوة. ولو أدرك أنف المجلس قيمة أنفه، لما استساغ حكاية الفضائح أمامه.) ولا محالة، لقد لوثوه، حتى وكرا للأوغاد، والأنذال، والأخساء. فلو كنا نحترم عقولنا، لما أدرجنا في رف من رفوفها وسخ الفضائح. لكننا لم نحترم نقاء العقول، وهي وسخة بما جمعناه فيها من عفن، ونتن، وإن أقامت الليل، وصامت النهار، ولم تقدر نعمة العقل. وبدونها لن تعرف قيمة النعم. فهؤلاء أغلفة عقولهم من نوع آخر، ولنا معهم حوار. فلو احترمنا سمو العقول، لاحترم ذا صفته، وحاول أن يحتفظ على هيبتها، واحترم ذاك صفته، وحاول أن يفرح بها، ولو كانت الصفة صفة الجهل. لأن الجاهل إذا احترم صفته، كان ذلك منه منجاة للمجتمع من جهله، وعناده على ادعاء المعرفة. وإذا تطاول الجاهل على قيمته، فلا قيمة للبرلمانات في العقل، ولا لمجالس الحكومة في الحقيقة، بل في بعض الأحيان يستغنى عن النظام العام. لأن الجاهل حين سيستغني عن معاني الأشياء، وهي القائمة في ذهنه، وبها يطلب وجودها، سيعلن خلافته، وسيبايعه الداعشيون، والقاعديون، كما حدث في عصر العلوم، والحقائق. بل كما حدث في عهدنا، في أفغانستان، وفي العراق. ولكن هناك خلف البحار أناس يصنعون الحضارة، وهنا أناس يصنعون الموت. فيا حمقى، لا تصنعوا موتكم بالمشانق، ولا بقطع الرؤوس، فلم كل هذه الوحشية.؟ اصبروا، فإن الذين من وراء البحر يصنعون لكم القنابل المدمرة لكيانكم العليل. وها هي بين أيديكم. فاغزوا، فإنكم منصورون. لن تنتصروا أبدا، ولن تحققوا وعدا أبدا. لأن من خُلق للموت، لا بد أن يموت. ففكركم موت، ولن يكون حياة أبدا. لأن ما بني على دماء الإنسان الفاني، لن يفرح به الإنسان الباقي، وإن اختلف الزمان، والمكان. فالحضارة التي ستنشأ على دماء غيركم، لن تستمر طويلا، كما لن تستمر حضارة صنعت الأسلحة، ولم تصنع الإنسان، ولو طال عليها الأمد. وتلك حضارة الغرب. فبمقدار ما نجعلها أقرب إلى المعنى المدني الحضارة، بمقدار ما نبعدها عن حقيقتها في التمدن. فحقيقتها قامت على سرقة تراث الشعوب، وعرق المنكوبين، وذلك لم يتم إلا بدعوى الحماية. والحماية لفظ مقصود به الاستعمار في حقيقته، لا انتشال فسائل الخوف من حياة الإنسان. والاستعمار، هو ما يسميه الدواعش غزوا. لأن الاستعمار يسرق، وغزاة اليوم يسرقون. فأي قيمة لهذه الحضارة التي صنعت على جماجم المعذبين، والمحرومين، والمطرودين.؟ هي حضارة أفرغت الإنسان من وجدانه، وأعادت صياغته، لكي يكون إنسانا آليا، لا يتحرك إلا بعجلات سيارته. فالحضارة الغربية في جانب العمران، والسلوك الاجتماعي، يمكن لنا أن نعتبرها متمدنة، لكنها في جانب ترويعها للشعوب بما تصنعه من خراب، ودمار، ليست مدنية، بل هي حضارة عسكرية، لا تؤمن بالسلم، بل لا إحساس لها إلا بالموت. والموت خوف، لأن الموت فيه غول الفناء. والمستفيدون من ريع الحضارات، يخشون الفناء. فلا بد أن يكون هناك جاهل، وعالم، وبدوي، وحضري. وإلا أصيبت بالفناء.
أجل، يمكن لنا أن نأخذ من الغرب ما خلده عقل النبلاء، والحكماء، لكن إذا حولنا إلى عقولنا ما يضمره من استبداد، واستعلاء، فكأننا حولنا أمراض أنانيته إلى بركة أنانيتنا، وبذلك، سيجد العقل المدمر للحضارة بالحضارة أولئك المهلوسين بحمى الغزو. وهنا سيتجانس السلاح المصنوع لقتل الإنسان مع الإنسان الذي يحب الموت، ولا يرغب في الحياة. ومن هذه الحيثية تكون داعش أداة لعقل داعشي يحمل أطماع الاستحواذ على الكون. وتلك سبة ادعاء الألوهية، ولم يعلن هؤلاء ألوهيتهم، ولا نبوتهم. فما نراه من حقيقة في حضارة الغرب، هو ما نراه من حقيقة فيمن يستعمل أسلحتها لحرق البلاد، والعباد. هكذا تتجلى لي الحقيقة، وأنا أقارن بين هذه المجالس، وبين ما تؤؤول إليه الأشياء في أعماقها البعيدة. فصعب أن تقارن بين مجلس يفشى فيه السر، وتفضح فيه العورات، وينتهك فيه العرض، وبين داعش، وبين داعش، وبين الحضارة. أجل صعب، لأنني أرى هذا الوقت الذي يضيع هنا، وهو فراغ من المعنى الإنساني للزمن، هو امتلاء عند الآخر، إذ الزمان لا يرحم، هو ملحاح في طلب غيره بإفراغ ما فيه من مكنون. وإذا ما اشتغل أولئك في زمنهم بين حقولهم، فلا محالة سينتجون، ولا محالة، ونحن مشتغلون بحكاية الفضائح، سنكون منتجين، فنحن نتعامل مع الحكاية، ولن نكون إلا ظاهرة صوتية، وأولئك يتعاملون مع الحديد، وهو مادة قوية، لا ترحم غيرها. فأنت لو مشيت في وسط طريق عمومي، لا محالة ستدهسك سيارة، لأن المكان اكتسبه الحديد بقوة. الحديد استأثر بامتلاكه بشدة. فأنت بدون أن تملك الحديد، لا أمل لك في أن تلج مكانا استحوذ عليه، وإلا كنت ضحية عدم التقدير. هم تعاملوا مع الحديد، فأنتجوا الحديد، وهو الذي يقتل به نتاج هؤلاء الذين كانوا فارغين منه أبناء الفارغين. فداعش، هو نتاج طبيعي للغة الفضائح. وأعني به صدقا ضحية التخلف الذهني، والعقلي، والفكري، والثقفي. والحضارة نتاج لأولئك المحترمين لوقتهم، وسواء اعتبرنا فيها جانبها المدني، أو جانبها العسكري. فلم لا تكون داعش نتاج هذه المجالس.؟ فالذين كانوا يرددون الفضائح، قد خلفوا من وراءهم ذرية. والذين كانوا يستمعون إليها ويحوقلون، هم الذين زرعوا بذرة الشك في المعاني. وهم الذين أنتجوا الدواعش. لا لأمر أرادوه، بل بعضهم يحكي عن الرحمة، ولكنه ينقضها، وينسفها. فحين ينشر الكراهية للآخر، ولو اعتدل كلامه، واتكأ على العاطفة الحزينة عند البكائين، فهو يبني سقفا معرفيا لا يقبل بالآخر. ليس في قضية معينة، بل ينشأ لديه قاموس الإنكار، فيكون الرفض حكما له، وهو واقع على كل ما خالفه. هكذا نتعلم لغة الإنكار، لأن فيها حياتنا، إذ لولا الإنكار الذي تحول من قضية بسيطة إلى قضية كبرى، لكنا بين خيارين: إما أن نحيى بعقولنا. وإما أن نموت بعقولنا. فالمجتمع الذي تنتشر فيه الفضيحة، تنشر فيه أمراض خطيرة، وعلى رأسها فقدان الثقة. وإذا فقدت الثقة، فقد الأمل. وإذا فقد الأمل، كانت الحياة الأخرى أجمل لنا من هذه التي يعذبنا فيها الامتعاض، والألم المعطل للحواس. وهنا ينشأ اليأس من رحم الإنكار الذي يهدم حضارة الضعيف. وهو الإنسان العربي الذي حاول أن يخرج من عصر الجمل إلى عهد القطار، وهو يأمل مزيدا من الراحة في حياته. أما القوي، فقد حمى حضارته بما يمتلكه من معرفة يسخرها لهزيمة الضعيف. لأن الحضارة تتضمن مفهوم الاستلاب. وهو ما فيها من قوة، قد أدركها ابن خلدون قبل حدوثها، فقال: والمغلوب مولع بتقليد الغالب. هو ليس ولعا حتى يكون فعلا اختيارا، بل هو سطوة، وتسلط، وطغيان. وإذا ما احتفظ الغربي على أرقام الاتصال بين بني الآدميين، فإن بني يعرب، لن يكونوا إلا في حمى التتجريب. بل لن يكون لهم إلا يرقصوا، ويمرحوا، ثم تغني لهم القيان بكلمات لذيذ كالعسل. هم لم يتذوقوه إلا حريقا من فم النحل الذي تذوقه رحيقا من الأزهار. أجل، حين فقدوه في المعنى الذهني الجميل، فلن يكون لهم أمل إلا أن يسمعوه من فم العاهرة التي تمزجه بلعابها، ورضابها، وهي تميس بلباس العري من أجل لقيمة عيش، ينزف بها فرجه صديدا، قبل أن تكون لعابا تحيي به نفسها، وأمها المطلقة، وأخواتها الفقيرات إلى دروس الدعم في اللغة العربية، والفرنسية، والإنجليزية، وقليلا في الرياضيات، والكيمياء. أجل، هي تبيع شيئا هو لها، ولا تبيع الوهم، ولذا كان عملها شريفا في عقل من أدرك نجاسة بيع الوهم في ثوب الحقيقة. وهنا تختلف النتائج. فهذا النوع الذي يأكل قوته من فرج أخته، هو الأقرب إلى درك اللعبة، من ذاك الذي يرافقه أبوه إلى مأدبة غذاء، لا يخرج منها إلا معروق الجبين من شدة آلامه من صوت رفيع، ويدين ممدوتين إلى السماء بالطلب المستحيل. لأن هؤلاء يعرفون كيف تسلب الحياة من مسام الريال. من مسام الرياح، من فحيح الصحراء. بل لا تعرق جباهها إلا إذا غرقت في بحر النجاسة. وهل هناك نجاسة أعظم من الاستعباد.؟ لولا عقلية الاستعباد في إنسان الصحراء، لما تجسس فرج المرأة بلسانه، لكي تلحس جيبه المثخن بالعار. فهذا نوع آخر، هو داعشي، ولكنه متجه نحو البحر، لا نحو الصحراء. هو يمشي إلى الفنادق المطلة على الشواطئ المرفهة بأنوثة الطبيعة، ولا يمشي جهة الصحراء المغبرة بسنابك الخيل المهاجرة إلى موتها. فهنا زقزقة الطيور، وهناك العربان، والنسور. بل في طريق الصحراء تعب. وأعظم تعب، ما تعانيه الدواعش الآن من قصف التحالف لمواقعها المطلة على فوهة النار.
فالعقل العربي حقيقة مبدع. وإنتاجه قد رأيناه فيما أبدعه من حيل، ومكر، وخبث. أجل، ليس هذا حكما عاما، وإنما هو أغلبي. ولا عيب في ذلك. فالنخب المثقفة لا شعبية لها. بل الديمقراطية في حد ذاتها نشأت من جبة الطبقات الكادحة، إذ لولاها، لما حصل الاستبداد بالديمقراطية، لأنها تحولنا إلى مجتمع يباع ضميره، ثم صار التاجر فيه، ولو كان فقير العقل، هو من يرتب تقدم الحياة. إذن، الديمقراطية معنى جميل، لو كانت إحساسا في الجميع. وسأحكي حيلة وقعت لي قبل قليل. لكن قبل ذلك، لا بد أن أجسد قوة العقل العربي في مدينة من المدن التي أغرمت بها حين كانت مرفأ لجيل التيه. لا أود ذكرها، ولو كانت في الأصل تحمل عندي صورة جارية طروب. أستنشق عبيرها مع غروب الشمس على ضفة المحيط. وأزورها حين أحس بالغربة، لا لأنها تحصني من حزن تلبد في قلبي، وهو جزء من تكويني، بل لما تضيفه إلي مجالس الأصدقاء من اعتزاز برصيد مجابهتي لأمراض عقلي. أجل، المرض الحقيقي، هو أن تشل طاقتك الذهنية بميت أفكارك، ثم تكون وعاء لغيرك، يملأك بأناته، وهناته. في هذه المدينة التي تزيح عني برقع الاختفاء، وعلى هذا الشاطئ الفضي، نلمس الحياة في اختلاف وجوه معانيها، وتباين مواد عناصرها. ولا أظن مدينة باريس ستكون أنقى منها حسا، وتجربة، لأن باريس كما حكى من أتى الحضارة الغربية بوعي الجمل عن جموع انفضت حول غيران الفحم التي أودت بحياتهم الناعمة، وخلفت من ورائها أمراضا خطيرة في الأجساد الخائرة. أجل حكى عن ألمها، وتعبها، بل حكى عن فقدان الإحساس المترع بجمال الإنسان في كثير من دوربها المتشظية. أجل حكي عما فقدوه في عالم الغرب من قوة الذات، وتلك هو القوة المستلبة، وهي التي رفعت حضارة الغرب، وحمتها من النازية، وهي القوة التي عادت إلى أدراجها حسيرة، وكليلة، وهي التي حزنت لما كانت له نتيجة سالبة في ذاتهأ وموجبة عند غيرها. هذه الحكايات المبتورة الصلة مع الغرب، سواء أولئك الذين جربوا قسوتها، أو أولئك الذين خالوا فتنة ماكرة، هي التي تقول: إما أن تهدموا ما بنيناه حين كنا جهالا، وكان غيرنا يمتلك مجسمات ما ننجزه بدقة عالية، وإما أن تذرفوا الدموع على ما ضاع، لعلكم تنالون بركة السماء. هكذا يحكي لسان كثير ممن وطئت رجله ما وراء البحار، ثم آب مترعا بالحزن، أو بالألم، أو بالكآبة. بل هذه هي الصعقة التي صعقت العقل العربي، وأضرت بوظيفته، وجعلته يتبنى نظرية المؤامرة. والأغرب أن كل خوف من التآمر، لا يزرع إلا شجرة الكراهية. وهنا انزوى أولئك الذين أنجبهم الغرب من أبنائه، ولكنهم رضوا بأن يحزوا رءوس الرهائن في الصحراء. فهؤلاء غربيون، لاتنيون، ولكنهم لم يشموا رائحة باريس في الجزء الذي كان جميلا فيها. ذلك الجزء الذي لم تشبه شائبة العقل العربي كما يقول العنصريون، وإن كان العنصريون يمتلكون العقل نفسه. عقل الألغاء، وعقل الإنكار، وكل عقل يتبنى خرافة الإقصاء، لا بد أن يتحول إلى هادم. وهؤلاء هم الذين لفظتهم أوربا وفاء لدماء متنوريها، -وما أكثر جماجمهم بين يدي الراهب الذي أقام محاكم التفتيش،- لكي تزج بهم بين أتونٍ مستعرة النيران في قاع الصحراء. أعود إلى مدينتي التي عشقتها حين كانت غيداء فاتنة. وهي شبيهة بباريس، ففيها ما في باريس من تناقض، وأنا أمر حذاء الشاطئ. ذلك الشاطئ الذي أحسست به يقول لي: ما زلت تحمل شيئا من تلك العقول الزنجة. أجل، قد نتنجس بنجاسة، لم ندر كيف أصابتنا. تلك طبيعة بشرية. فلا بد من شيء من النجاسة، حتى ندرك معنى الطهارة. غضبت، فنظرت إلى الإنسان المتحرك أمامي. فهناك إنسان يمشي هادئا، وإنسان يمشي صارخا. كل يمشي على شاكلته، ويلبس على ذوقه. لكن هناك تمييز بين الأشباه، والنظائر. عقول ليست كالعقول. فهدوء تلك العقول، ليس خوفا متورما في الذوات. فهؤلاء سواح يستحلون أسرة غير أسرتهم. ولا ألم أعمق من مفارقة فراش فيه روح نومك، ويقظتك. وهم الآن يزيحون غلالة تعب العمل المجهد للعقل الصناعي. فلا عليهم إذا تحامقوا، وتعانقوا، بل لا عليهم إذا تعروا ومارسوا الجنس بنوعيه. هم في عطلة، ولا حرج عليهم. لكنهم يمتلكون عقلا آخر، عقل الهدوء، عقل الاتزان، عقل احترام الآخر. لو رفضوا أن يلجوا إلى دولة سياحية ما لم تسمح لهم بممارسة جنونهم علانية، لاختارت بعض الدول أن ترضخ لطلبهم. وأنى لمن يعتمد على جمال أرضه، أن يقبل بابتعاد الناس عن التنزه بها، وفيها.؟ تلك الطبيعة الخلابة، هي التي يغرقها من مُنحت له قدرا بأوساخه، وهي التي فقدها إنسان الغرب، وومن أجلها شد الرحال لكي يكتشفها. فتأملوا كثيرا من الصور التي صورت بها هذه الطبيعة في مخيلتنا، فإنكم ستجدون من ورائها أناسا طلبوا جمالها الذي حرموا منه بين مواطن وجودهم الحقيقي. فالإنسان الغربي، فيه فراغ، وعندنا امتلاء، لكننا لم نكتشف ما فينا من معنى، فلو اكتشفناه، لعلمنا أن أكثر الناس تألما بالحضارة، هم أولئك الذين صنعوها. فالحضارة فيها فراغ، فراغ الإنسان، فلو نشرنا نحن العرب تلك الإنسانية المخزونة فينا. أجل هي موجودة، وهي التي نبحث عليها، وهي التي من أجلها تقدم خراف داعش أعناقها للسان النيران. شيء كامن فينا، هو الذي لا يريد صناع الحضارة أن نكتشفه، والإنسان الغربي محتاج إليه، بل أحس بضغط الحضارة، ولو فهم طرق صناعتها. –ونحن في أوطاننا نحس بضغطها، وثقل فهم مكوناتها، ولذا كان ألمنا مضاعفا- وهو الذي حاربته بالحروب، وبالغزو. لو اتقدت فينا تلك المعاني الجميلة، معنى الإنسان، معنى الطبيعة، معنى الكون، -وتلك أصوات لا يعكسها إلا مطرب ماهر، ونافذ، وحاد- لكنا أطباء للإنسان الغربي. أجل، لم نكتشفه، ولست متشائما من الزمن القادم. فربما سيكتشفه بنو يعرب، فيتحولون إلى حماة للديار، لا تيوسا تتبارى في الحلبة، ولا ثيرانا تعشق الدماء، ولا سباعا تقبل بحرارة حس الصحراء. فهؤلاء السواح، لم يطالبوا بحريتهم التي يجوز لهم أن يطالبوا بها، كما طالبنا نحن باحترام الحجاب، والنقاب. لم يطلبوها فينا، لتعذرها واستحالتها في العقول التي تحمي الأفكار بالاغتيال، وإن فرضت علينا قهرا، فهي غير موجودة فينا عقلا، لأنهم يريدون أن يتعلموا منا. وماذا يمكن لنا أن نعلمهم.؟ أشياء كبيرة رأوها هنا. ماذا رأوا.؟ رأوا رقة عقل الصانع الذي صنع الخابية، ولم يصنع لها قاعا، لكي تجلس عليه. أجل، شي ثمين ما نصنع. هم يشترونه، ويحملونه إلى حضارتهم. الخابية هي المبرد الطبعي في قيظ نهار غشت. والطب البديل لأولئك الذين استعصى عليهم الطب الإكلينيكي، هو الذي يقول بعدم جدوى المبرد الكهربائي. فلا علينا إلا أن نعود إلى نمير الخابية. أجل، سنعود إليها ، لأننا نحن من صنعها. ولو فرضنا أننا تركنا صنع غيرنا من باب المقاطعة للبضائع الغربية، لرجعنا إلى عهد الخابية، ولكانت آبارنا مغتصة الجوانب بالفتيات المزمحرات بالرجز، والزغاريد. وتلك أمنية لفاقد إحساس الأنثى في قلبه. شيء جميل أن تكون الخابية تراثا، كما هو صوت أحواش، وأحيدوس، وكما هي رقصات الفكلور الشعبي. صوت نسمعه حزينا بين الأصوات الناعقة. فيه تذكير بالبراءة. هو فطرة فينا، لا نكاد نفارقها. لأنها جزء منا. هي المعلم للهدوء. وحين نعود إليها استلهاما لبراءتها، سنجد أنفسنا في مبتدأ التحرر من هوس الحديد. الخابية طين، ونحن طين. ولذا لا أمتلك سيارة، لأنها حديد، وأنا أكره عقل الصانع الشرس، الجشع. قد لا أكون مجافيا عن الحقيقة إذا قلت: إن العودة إلى الفطرة مقام ذو منقبة عظيمة، لكن إذا كانت العودة حزنا على ما انصرم بين أيدينا من زمن في المناقشات الجدلية، كانت ألما. والداعشيون يتألمون، ويمتعضون، لأنهم فقدو صوت الطبيعة التي أنجبتهم، بكل ما أبدعته من ناي، وقيثارة، ثم خلدوا إلى الطين، يبحثون عن يبسه، لا عن رطبه. وهنا يكون ابتغاء الفطرة مرضا نفسيا، واجتماعيا، إذا لم تكن العودة إلى المعنى الحقيقي المخزون في الأشياء الطبعية. هكذا يفهم الأروبي أن خابيتنا تحفة، وتراث. وما دمنا لا ننسج إلا على منوال التراث، ولم نطق تجاوز منطق الضعيف، فنحن ما زلنا نبتعد عن الحضارة بمسافات طويلة. إذن هؤلاء السواح في مدينتي أتوا ليتعلموا منا كيفية تخلف عقولنا، بل يتعلمون منا أننا ما زلنا نتوسط بالرموز الغامضة. وإن بخل هؤلاء السواح عن ذلك الصانع المعجون عقله مع الطين، ولم يشتروا شيئا من صناعتنا التي نفتخر بوجودها بين أيدينا، فيكفيهم أن يجلسوا على الرصيف المجنون بأجساد تخطه جيئة، وذهابا، ليروا أولئك الصاخبين من أبناء حماة السماء، كيف يذرعون المكان بلباس تخاله أنيقا، لكنه سرعان ما يبدو غريبا، ووسخا. هم يتأملون كيف نتعامل مع أزبالنا، فإذا رميناها تحت أرجلنا، أيقنوا بأننا نرمي حس المَدَينة. هم ينظرون إلى طريقة مشينا في الحدائق، فإذا قطعنا زهرة، وأهداها العاشق لمعشوقه، أيقنوا أننا لا نمتلك ذوقا في العشق. وإذا ما ركبوا قطارنا، شهدوا منا كيف نقيم نظامنا. هم يدرسون أنظمة عقولنا مما نخاله تافها، وهو عظيم في عين المتمدن. لأن المتدين يمتلك رهافة في حسه، وفي ذوقه. وهؤلاء الذين لا يحترمون الأماكن العمومية، هم أقرب إلى عقل الصحراء من عقل المدينة. لأن عقل الصحراء يقبل الفوضى، لكن عقل المدينة يؤمن بالنظام، ويؤمن بالأمن، ويؤمن بالإنسان. هذه هي الحضارة المنشودة، وهي المفقودة في وطننا العربي، بل ربما كدنا نفقدها من ممتلكات الغرب. فأي فائدة سيستفيدها السائح من الكتب التي كتبناها، ونحن نجامل فيها أنفسنا.؟ قد أتى بماله، وأطمعنا في جيبه، ليرى كيف نكتب تاريخنا الحقيقي. أمر تافه حين أتخلى عن البحر، لأحل ضيفا وجلا على الضفة الأخرى من المدينة. خليط من البشر، يسكن دورا محترمة، لكن في الأرض زبل، وفي السماء دخان. وإلى جانبهم قوم حرموا من بيوت القصدير، وهي الأنسب لهم ذوقا، ثم منحوا مساحة على هامش المدن، ولم يمنحوا عقلا متمدنا، ولا مدنيا، فعاشوا بين تلك الأكواخ شتات الإرادة، وتناقض الذات، وإلى جانبهم حشد من العربات المجرورة بالحمير، والبغال، وبعضهم له شياه ترعى الزبل. وهي القربان لبعض الفقراء يوم الفداء، والخلاص. فآه، آه، لو رحمنا هذه الشياه، لأرجعناها إلى قراها التي لن تجد مكانا أجمل منه. هؤلاء وُجدوا بدوا، فلن يقبلوا الحضارة إذن. بل الحضارة تتأذى بهم. وهم أولئك الذين يلوثون بلاط طرق المدينة بروث الحمير. فأي تناقض في مدينتي.؟ فالمدينة بدون مَدَنية في جزئها العلوي، والمدينة المتمدنة في جزئها السفلي. وهنا ينشأ التناقض، بل الانفصام في الذات، لأننا لا نجد بين التخلف والتقدم إلا حاجزا بسيطا. ربما هو الجدار العازل عند غيرنا، ممن يرانا وحوشا يخشى من بائقتها. وما أكثر هذه الحواجز، بل تكتسي صفة القانون في بعض الدول الغربية، فتعامل الإنسان العربي معاملة مهينة، وربما تعتبره من الطبقة الثالثة في الإنسان. هنا نشأ الانفصام عندنا، لأن مدننا متناقضة، وهناك نشأ حس الاستئتار بأنانية الذات في الغرب، فرفضت الغريب، وإن قبلته لمصلحة فيه، فهو مواطن. ولكنه غير مواطن بقوة ولادته في الغرب، بل هو مواطن سيفارق البلد مهما استوطن المكان زمنا من الأزمنة. هكذا يفكر بناة الجدار العازل، وسواء كان الحاجز متاريس قائمة بين الحدود، أو كان استعصاء في القانون. فلا حرج علينا إذا نعينا على الحضارة الغربية قيام قانون التجنيس فيها على هذا المعنى المشلول. وربما من تجليات هذا المعنى، هو الاستعداء على الغرب من قبل من أراد رفاه حضارة الغرب، لكن بلبوس دينية. لو لبست هذه الاماكن لبوس الدين، وهي لم تقم إلا على انقاض رفض صوت الكنيسة، فلن تكون إلا صحراء قاحلة، كما كانت في زمن استعباد الكهان للإنسان. لأن الدين قد أزيح عنه ما يمتلكه من حسه الحضاري، ثم وضع في قالب الاستهلاك. استهلاك الإعلام، واستهلاك الاقتصاد، واستهلاك السياسة. فلم اختار أهل العلوي أن يكونوا لوثة في حياة مدينتي.؟ لقد نزلوا إلى الأسفل، ولكنهم لا يمتلكون مقومات العيش بين برودة أهوية البحر. لأن الأسفل، هو بداية الحياة. فلذا تستطيع أن تشعر بمكونات العقل العربي في المدينة. فالمدينة التي بلا مَدَنية، هي موئل الإشاعة، والغموض، والرموز. قمة الحضارة في البناء، والسيارات، والأسواق، ولكنها متخلفة في عمقها. إنها ما زالت تبحث عن الخلاص من الخارج. الخارج، سواء كان جنيا يمتلك مفتاح سر الأماكن المغلق فهمها على العقول. أو كان ذلك الإنسان الذي وزن الحديد في ذاته، فساوى بين ما فيه، وبين ما يجوز له أن يملكه من حديد. فهذا قد احترم ذاته، ورضي بطاقته، فحمل ما يستطيع من هم التوجيه لمعضلات الوجود. وذلك الذي ينتظر صناعة من يخاله عدوه، ويعيش على بلل غيره، لم يعرف ذاته، ولا قدرتها على التحمل. وحين حملها ما لا تطيق، كانت نهايته الواضحة.



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صرخة براءة صغير
- همم الحكماء، وذمم السفهاء
- تعدد الزوجات بين فحوى النص، وفوضى اللص.
- دموع الجمعة
- رسالة حب إلى أوشو
- تأملات في خلفية داعش


المزيد.....




- فريق سيف الإسلام القذافي السياسي: نستغرب صمت السفارات الغربي ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف مواقع العدو وتحقق إصابات ...
- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...
- الأوقاف الإسلامية في فلسطين: 219 مستوطنا اقتحموا المسجد الأق ...
- أول أيام -الفصح اليهودي-.. القدس ثكنة عسكرية ومستوطنون يقتحم ...
- رغم تملقها اللوبي اليهودي.. رئيسة جامعة كولومبيا مطالبة بالا ...
- مستوطنون يقتحمون باحات الأقصى بأول أيام عيد الفصح اليهودي
- مصادر فلسطينية: مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى في أول أيام ع ...
- ماذا نعرف عن كتيبة نيتسح يهودا العسكرية الإسرائيلية المُهددة ...
- تهريب بالأكياس.. محاولات محمومة لذبح -قربان الفصح- اليهودي ب ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - أفكار مسروقة (الجزء الأول)