أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - أفكار مسروقة (الجزء الخامس)















المزيد.....



أفكار مسروقة (الجزء الخامس)


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 4743 - 2015 / 3 / 9 - 22:16
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


وأتذكر هنا موقفا آخر حدث لي في زمن من الأزمنة التي ألهبتنا بمشاعر رنانة، وغامضة، كنت أستمع فيه إلى واعظ يعظنا بالموت بصوي دوي، يختنق بين أعماق نَفَسه زفرات تنعى تلك الأيام الغريرة، وهي تذكره بشطآن البحار المليئة بصمت الحيتان الطريرة. وهو يبكي ما تلهمه الذكرى من أصداء متغلغلة في العماء، والهباء، فقال لي ابن صديق لي، وهو ذاهل لما تركبه الكلمات في ذهنه من أحاسيس مكظومة: يا عمي، لم يبكي هذا الشيخ.؟ هل يبكي فقدان أمه.؟ وجمت بين المواقف المترعة بدلالات غائرة. فقلت له: لا، يا بني، بل يبكي موت أمته. أجل، يبكي حظ أمته العاثر بين سنابك خيول حرونة، ويتفجع لهزيمة صافحت تلك الأصائل المعزولة عن وضر الدسيعة، وغثاء الدسيسة،ثم غدرت بها ركاكة اللغة التي أفقدتنا جلاء الرأي الألحب، وتمحيص الموقف الألجب. فآه، آه،كان هذا البكاء مثيرا لشاعرية الطفل الذي عودته خصوبة عوالم التقنية بالسهوم بين أمداء فسيحة، لا يمشي بين ظواهر شبحها خائفا من عذل لائم يلومه، ولا من نصح صادقه يوجهه، بل يمشي بفم مثوتب نحو لزوجة المشاهد المغرية بألوانها الممتعة، وأزوادها المترعة. لا يعثر فيها على نهمة نفسه، حتى تلتهمه جارية الأمل الكابي في زناد لوعته، فينطلق بين حرارة الآثار متورايا نحو رغبته. وقد تمضي الليالي وهو مسروق النفس، ومنهوب العقل، فلا يكاد يُفيق من غفوته إلا ويد الشبح الافتراضي تقبضه بين راحة استعاراته، ومجازاته. أجل، بين ملامح شخص الواعظ المشرد بين حصون الآهات، والأنات، وبين مفاتن الشبح المبشر على سواحل اللذات، واللغات، قد ضاع نداء هذا الطفل الذي يناجي بين حقول الغيبة معاني فقدها بين حقيقة الأسرة، والمجتمع، والأمة. فلم لا يسكر براح يتجرعه من بحر علوي لا ساحل له بين جبال تنزف ببياض الثلج، وحمرة النيران.؟ أجل، قد ضاع بين المقدمات التي لا نهاية لها في كتاب الألم، والفراغ، والضيا، وتاه بين الوهاد متغزلا بغزالة تخب بين سدف داكنة، ودافئة. وأنى له أن يظفر بتلك العذراء التي تحتضنه بين سحرها الناعم، لكي تطير بروحه بين تجاويف الكون المتفجر من غدران الأبوة، والأمومة. شيء بريء فقده الطفل بين سيول التقنية الهادرة بين نوبات سباتنا بأجراسها الصادحة، وشيء رديء يغرد في حوصلته السجينة بين جسد الأنثى المقدودة من دموع الحرمان، والنسيان.وشيء دنيء يفجر دموع الخجل في عمقه الشجي بين بخور كاهنة تسخر بملاحة حلمه المنكود في ذكاء الطحالب المختبئة عند أهداب صباح مخذول بفاجعة الخدر، والكسل، والغباء. فلم نبكي الموت، وقد انحدر الطفل إلى مهواة تترصده فيها أعين غرثى إلى خمرة الأرواح الراكدة.؟ أجل، هو لا يحتاج إلى تلك البكاءة، الندابة، بل محتاج إلى عيون الليل التي تسكت صوت القيد، والغل، لعله ينفذ إلى نشوة لحم المنية التي عودته على قبلاتها خلف غشاء الأعين النائمة. سيتحسس في عمقه صوتا آخر يغريه من وراء المرايا المبثوثة في جثة الكون الرمادي، وسيجسس ما في صمت جيف الخيال من أغان تغرد بها جنيات الليل، وحيوانات الظلام، وكائنات السواد. شيء له ملامح ميتة. لا، بل ملامحه تنفخ في مواته روحا، فيغدو زهرة بين أيدي العشاق المحتشدين على جمرة المجهول المختبئ وسط دجنة الجبال الوعرة. فكيف لا يستشعر الطفل لجسد هذا الكائن الذين يريد أن يغدو بكاء قرونا تنطح ما تكتم في أسنانه الصفراء من بسمات غائرة.؟ بل متى سيصل إلى شفقة الشفق الذي يزهو به مختالا، ومتجبرا، وهويئز وراء رذاذ السراب المنفجر من عروق الحكايات الغريبة. أجل، لولا ما في شاعرية الواعظ من مضارعة مشاعر البكائين من الآدميين، لخال صوته من كوكب آخر لا يعرفه إلا في أحاجي الجدات المنبوذة. كلا، بل يذكره في غربته وعظ الواعظ برقصات ملاعبي الأفاعي السود بين رحبة الأسواق المنكوبة. هكذا صار الوعظ في دجل الحقائق نفخا في واد معقرب، لا يتخيله الطفل إلا اكفهر وجهه من ظلمة الدروب العابسة، وهكذا غدا وعظنا ينحاز إلى كتب الرؤى الغامضة، وقصائد الزمن السحيق. فلم انتشرت بين تلافيف وعظنا نشوة تبحث عن الفوت، لا عن الحياة.؟ لولا ما في كلماتنا من ترجمة أحاسيسنا الحزينة، لما استحال واعظنا إلى مؤول للأحلام المفجعة، والأوجاع المحزنة. شيء تولد صديده من زفرة النفوس العليلة، وهي تبحث عن الرموز في القرآن، وعن الألغاز في منثور الحكم، والمواعظ، والزهد. فمن الذي واصل بين بلل الواقع المستشري موته بين الأحشاء المدنفة، وبين رغبة الانتشاء بالرموز، والألغاز.؟ لو لم نقف على حافة الكلمات المغمضة الجفون عن أكذوبة الحضارة الفارهة، لما استحال وعظنا إلى تجارة تكفر عن الخطيئة بقطعة القماش، وعود الأراك، وعطر المسك، وصوت الحزن، وكلمة الحرب. شيئان متلازمان بين التواريخ العاجزة: ضجيح الأسطوانات التي ترتفع أصواتها بين الأسواق المسجورة بسعير الغلاء الفاحش، وحريق الذوات التي فسرت المعقد من لغات الأديان بلغة الندم، والألم. أجل، لولا ما يجود به صوت الشجن من مراهقة الفكر في الذات الممزوجة بالحرمان المقرور بين العوالم الطبعية، لما استغنى بائع العطور بلغة تميزه في معرفة فصائل الروائح. فذا خفيف لمن خف فيه لاعج الفقد، وذا ثقيل لمن أهاضه وجع الوكد. شيء يتكامل هنا بين شيخوخة العقل، ووهن القلب. فالقمصان، والروائح، والكتب، كلها تبني مفخرة الأمة بين المناقب المزرية. فهل سيرى الطفل في تراث أمته غدا سوى هذه المصنوعات التي نفختها ألقاب مزيفة بين سموم بضاعة التجار بالدين، وهم يسقون الغافلين صفاء الصل بين خدعة الأنواء الكاذبة. فلا غرابة إذا اتحد أنغام الفجيعة في سفاح العطر، والقميص، والنقاب، والطبخ، وكتب الأحلام، والموت، والعذاب.ففي العطر تسام على نجاسة الواقع المشتبك بين لذات الدهاء الفاتكة، وبين نيات الذكاء الفاترة. وفي القميص تميز الأحفاد عن سيرة الأجداد، وهم يتأملون المشاهد بعين الإدبار، لا بعقل الإنكار. وفي النقاب ندم على مآتم الشهوة المضرمة نيرانها بين النزوات الفاجرة، وخوف من لسعة الشيطان المغرد على فنن الطبيعة الخلابة. وفي الطبخ تغيير للبدة الإنسان بين مجاثم أرضه، وترسيخ لمفهوم الحيوانية في ذوقه، لكي تكون الصورة المصنوعة هي الإله الحق. وإذا ما استحكم إله الطبخ على النفوس الهزيلة، غدت الدكاكين مغلقة، لكي تجود الأسواق الممتازة بحصة من بهجة الحياة على المستهلك المشلول في إرادته، وانتسابه. وإذ ذاك، سيكون نظره قائدا لشهوته، لا لذوق وجدانه. وفي كتب الأحلام مكبوت لا تفسره دورة الحياة المتدافعة بين الدروب المصطنعة، والمتعاركة حول قضية جزئية لا تعني لنا شيئا أمام الكلي الجامع للضايا المصيرية، بل هي لغة الإحساس بالانفصال عن عالم الحقيقة. وهو الواقع بكل أمشاجه، وأنسابه، وأخلاطه، لكي يختلط مرض الفقد، وصداع عدم الإدراك. وإذ ذاك، لا عيب إذا رفضنا تفسير الواقع بصراع طبقاته حول كسرة الحياة الكريمة، لعلنا نظفر بالأمل في الغائب المجهول عنا بين صقيع المدن المنتحبة اللغات، والأعراق، والأجناس. ربما قد نراه في بلادتنا خلاصا من علتنا المزمنة، وربما قد نراه في ضغطة أحزاننا موتا حقيقيا. هو الشيء عينه، ولا تعدد فيه. وهو النهاية لمن عاش في الحياة بلا أمل في زوال عتمة الإفراط بين رجاء النهاية. بل هو البغية التي تحفد إليها الذوات المكلومة. وإذا ما صنعنا بوعظنا كسل الموت في كساد العقول المهتزة المبادئ، والأخلاق، والمواقف، فلا محالة، سيحس بالوجود من يشعر بالخلود في الحياة بقوته، وعزته. وهو ذلك الآخر الذي يصنع في الموت حياة، وفي الحياة موتا. وإذا ما أنابنا عنه في صنعنا لجرس الموت بين الأذواق المغتربة، فلن يحيد عدونا في غرته عن جشع التهديد، والترهيب. وإذ ذاك، لن يصنع قنابل تهديده إلا في مادة إخافتنا، وإهانتنا. ولن يخفينا إلا بما نخافه في الأصالة. وإذا ما خوفنا بصمته عن صراخ واعظنا بعذاب الآخرة، ونحن قعود بينن مقبرة التاريخ على مأتم البكاء، فإن الخوف شيطان لعين يسري في شرايين الآدميين، ويجري بين العزائم بسموم النهايات المأساوية. وإذا ما سرى في الواقع المتروك فك قيد سجنه لعالم الغوامض المطرزة بالمطلقات، وشرب الإنسان نبيذ اليأس مما سيحدث من ممكنات جهده، لو عف عن كثير من نكد أوهامه، فإن ما سنعتقده في الغد لن يكون معنى إلا إذا اختلطت أوراق الحقيقة في كتب التاريخ، والحضارة، وامتزجت في عقول المنكوبين صور البقاء، والفناء. وإذ ذاك يصير الخوف بلا دين، ولا وطن، ولا هوية، وتلك رغبة المستعدي بحضارته علينا، وقد بناها من دمائنا، وأفكارنا، ومواقفنا. وهل الإنسان سوى دمه، وفكره، وموقفه، وإذا ما تعطل كيان الحقيقة في جمعية الذات، صرنا أوراقا تذروها الرياح بين مخازي البعيد، الغريب.؟ هكذا تتركب الحقيقة بين رغبات الواعظ، ونزوات ذلك القابع وراء شاشته المشربة بذهول أحداقنا حول ألوانه الفتانة، وهو يقرأ من زفيرنا مسير حدة الوجع في ذواتنا المعذبة. فلم نندب ما ضاع من غرة الحضارة الإسلامية بين طرر ما يكتبه الغرب عنا من حكايات مفجعة.؟ لو كان الشعر طريقا لإثراء حاسة الرفض للثياب المتسخة في البواطن الكليلة، لكان رقية تعالج ما يطفو على سطح مرآة عقولنا من سواد محطات العبور إلى ضفة العالم المحسوس في أعماقنا الممحضة لحكاية التراث عن سمو كان جميلا، ثم تضاءل في قطعة من الزمن، فاستحال دما يقرأ من غدرانه كل جبار كيف طغا الماء على الديار الهادئة. لكن الشعر كان حرفة، ثم كان خرقة، وحين لبسناها، نسينا لبسة المنثور، والمنظوم، فأبعدنا في الغرابة ما يبدع حزننا على واقع حزين. أجل، لولا غموض الوجع في ذواتنا، لما كان للغرابة سبيل إلى تفسير الحقيقة بين عوالم الطبيعة. ربما قد يكون الغموض ثراء، ولكن حين يكون اتزانا في الكلمة، لا إفراطا في الوصف المشخص بعيون عمياء. فلو نظرنا إلى ما في صوت الواعظ من شاعرية تفتق من الجؤار صوت التوبة، لأدركنا أن البكاء على فوات عصر الحضارة الزاهرة، ما هو إلا تأثيم للفراغ الذي أضاع الأندلس في عهد الغانية الماجنة، وقد بقي الوجع نازفا بالعلل الظاهرة، لكي يكون نبعه ثرا في ضياع بقية ما انحبس زفيره بين صدورنا من صوت الحضارة العربية، والإسلامية. فلا نستغرب، فابن لادن، والظواهري، ومن حفن من شعيرهم حفنة العنف في المورد، والألف لبعر البعير، لم يكونوا إلا شعراء غاوين في الكلمة. بل نتاج صوت سمع في سوق المربد، وغنى على مسرح عكاظ، وأجيز في ذي مجنة، ثم علق رسمه على أستار الكعبة. ولولا ذلك، لما كانت لشاعرية منكوبة في قلب الداعشي آثار في بناء المفاهيم القاتلة. تلك الشاعرية هي التي تحيرني اليوم، وأنا أتعرف على ما في كبت الأعماق من سعار الكلمة الميتة الظل، والطبع، والظرافة، وقد أيست من وجود جَد موصول النسب بالفراهيدي، بل أدركت أن قرض الشعر على موازينه البكماء، لن يكون خطابا سليما بين سلاسة اليوم الذي استغنت فيه القصيدة عن هدوئها، وسكونها، لكي تكون شاعرية الواعظ حركات بلهوانية، ترسمها الصيحات الزاعقة، والألحان الصاخبة، والدموع الغائرة. شيء فيه شاعرية لمن أدرك في البهلوان لحظة الاستعلاء على المواجع، لكنه لن يخلق من رحم المأساة منفذا نحو الشاطئ الآمن. كلا، بل يصنع مراكب للأطفال من شموع الأعياد المسعورة بالرغبات البهيمية الغامضة، لعلهم ينتهون عن غيهم بين حرارة الأيام البائسة. فهل البكاء لغة كونية تُكسب ميراثها كل من زفر بفقدان مروءة الآثار، وشموخ الأقدار.؟ أجل، لو لم يكن للبكاء أثر على القلوب الصلدة، لما جاد المفسدون بأطايب الطعم على مآدب العزاء. فلم لا يبكي الواعظ، وقد بكى غيره من قبله، ودموعه ما زالت تنهمر من لحية التاريخ المجرور بين مستنقعات الادعاء الكاذب، وهي تحكي عن لعنة عجز تدهم النفس القاصرة عن درك المعالي. أجل، من حقنا أن نبكي ضياع ثمين عقد السلف بين أيدي أوغاد الخلف، وقد كان من ممكنات العزائم أن نسير على درب منحنا أهلية البقاء بين أكوان تتنافستها عقول شاطرة. أجل، من حقنا أن نبكي، وقد مرت علينا قرون مليئة بالهزائم القواصم. فلم لا نبكي، وقد آثرنا زخرفة اللفظ على جزالة المعنى المستحوذ على الأذهان المحصورة عن إدراك صفاء التصورات بين خطايا التصديقات.كلا، سنبكي بلغة شواعرنا المطهمين بلواعج الكلمات الطازجة. لا لأننا غدونا نطيق فهم معجم الشعر، بل لكون الذي يموت بين أنياب الهرج هو وطننا العربي، والإسلامي، بل هو تاريخنا، وهو حضارتنا، وهو قيمنا، وهو مستقبلنا. وإن لم نبك بزفيرنا المحترق على الغصة التي تعتادنا حين نعود بأجسادنا المتهدلة إلى وسادة التاريخ، فإننا سنفاصل الحياة عند معترك التفاضل بين الانتحار، أو السجن. وإذ ذاك سنختار الزوال، لأننا قد صرنا اليوم ذوات لا تمتلك نظام التسبيح الذي يمتلك سيرة الوجود. فلا غرابة إذا سأل الطفل، وقال: عماه.! هل هذا الواعظ يبكي موت أمه.؟ أجل، يا بني، يبكي موت أمته التي فرقتها نعرات، ومزقتها نزوات، وحطمتها شهوات، وغربتها لذات. فلم لا يبكي تاريخا فقده بين أطلال مدينة التي بنيت على هامش التواريخ الحقيقية، ولم لا يبكي صوتا بريئا ضاع بين جلبة المتشاجرين على كسرة خبز يابسة، ولم لا يبكي موقفا دنفه الهزال بين ذوات ينخرها سوس الخلاف، والفراق. فوا أسفاه، كم يبدو لي هذا حقيرا، وأنا أشاهد الغرب في كثير من ادعاءاته يزعم أبوة الحضارة. فلم هو بمنزلة الأب في حصة الميراث.؟ لا، بل هو أم هلك زوجها بين لقاح آباء كثر تناولوا مهيع فتنتها بين الدروب المظلمة. فلمن سينتسب هذا الطفل في صلافته، ورقاعته.؟ لو نسبناه إلى موطنه الذي رفع على أشلائه ناطحات السحاب، فهو بلا أرض، ولا شجر، ولا حجر، ولو نسبناه إلى سمائه التي غادرها صوت الإله منذ زمان، فهو بلا نجم، ولا قمر، ولا شمس. شيء يربك الحضارة حين تستقوي بتواريخ غيرها. فالتاريخ لا يكون تاريخا إذا زعم أن قوته من مشيمة رحم غيره. فالتاريخ لا ينشأ منفصلا عن الأرض التي دبرت البقاء للإنسان، والخلد للأبدان. وإذا ما ادعى انفصاله عن الطين الذي ينطق من أعماق الحقائق، فلن يكون إلا تاريخا مزيفا، بل هو عين سرقة عرق المحرومين، والمكروبين. والتاريخ الذي لا يتحدث بلغة الأرض التي تهللت أساريرها بالأمل، والرجاء، لا يسمى تاريخا إلا عند من أعول بقوته الفارغة، ثم قال: إنني امتداد لقوة غيري. فليقها بلفظ صريح، أو ليقها بتلويح، فكلاهما لا يمنح صفة الهوية إلا لمن اجترع من غصة الطين حياته، ووجوده، وطبيعته، وعالميته، وكونيته.
في فترة من الفترات التي عشناها بين أناس يخربون العمران بما يعولون به من صوت الذئاب المنكورة بين المداشر النائية، وقد انتهت نتائج حركتها المقيدة بين مساحات ضيقة إلى استحواذ ملايين الشاشات المققعرة على دورنا، وقرانا، ومدننا، بل على عقولنا، وأذواقنا، وألواننا، فلا تكاد تدخل بيتا من بيوت تسوده غفلتنا عن زحف منتوجات الآخر بفلسفتها إلى أسرنا، ومجتمعنا، إلا ووجدت لسانا فقد لسان الأرض، والعرق، والوطن، يحاكي ركاكة لغة هذا العقل الافتراضي الذي نسمع صوته الممزوج بمخارج مفخمة، ومرققة، ولا نرى وجهه المجدور وراء الاستعارات التي نفترضها لهذا الكائن الهلامي في أناقته، ونظافته. بل كنا نخال عقله موازيا لصناعته، فرأينا فيه تميزا كما لمسناه في صناعته الهاطلة علينا كنيازك حارقة. وربما نكاد من شدة انتباهنا إلى صوته الحنون نغمه الفاتن، نفقد شرارة كل صوت يهدي غوايتنا بأوامره، ونواهيه. وهنا، فقدنا أبناءنا بين رغبات ذلك العقل الافتراضي الذي يرسم على حيطان رسوما متشاجرة، ومتشابكة، ومتلاصقة، لكي يقوم مقام ذلك الملتف وراء قطن الأسِرة الغافية في التدبير، والتوجيه، وربما تثاقلت عن نوبة الإحساس بكرب فوات سلطة الأب، والأم، والأسرة، والمجتمع، وغدا ذلك الطفل المنسلخ عن إهاب قفصه تائها بين عوالم مفتوحة على شجرة التوت المزينة أغصانها بحرير تبابين القيان المستعرة الأوار. والأغرب أن نبع اللحظة المتحررة من عيون الرفض لا يحكمها ضمير، ولا أخلاق، بل هي نتاج صبوة مسافح يغتصب عذريتنا بما ينفي عنا شدة إيقاننا بالخصوصيات، وإيماننا بالثوابت، لعل جيلنا الناشئ بين خراب عزماتنا يجد ذاته تغلغل بين الذوات بلا وطن، ولا حدود، ولا مسافة، لا تمنعه مما يريد الوصول إليه من حريته، ولا تحجزه عما يرغب فيه من منيته. فيا للعجب، كيف فقدنا هيبة تلك السلطة المعنوية بين قفار المعنى المفجوع على من يحتاج إلى تجربتنا في حياة لم نجتز مراحلها الصعبة إلا بأنفاس مكبوتة، أو مختنقة.؟ وكيف أخفقنا في ترجمة ما نمضي إليه بين رداءة الرأي، وغضاضة الموقف. أجل، قد فرضنا قوة كلمتنا المبللة بأحاسيس متهادية بين اليأس والألم على من يرانا في عمقه –لو تدبر- سجانين، وجلادين، ولم نوجب بذلك احتراما في شمس تميل إلى المغيب بين عقول تلج أوج ازدهار بسمة الإنسان الافتراضي. وتلك عقلية تنشأ مع أبنائنا المحترقين بتصدع الإحساس، والوجدان، والذوق، وهم يتخلصون من رقابتنا بين تيه مستغرق في الفراغ النفسي، والعاطفي، والاجتماعي، لكي يسبحوا بين لجج بحر لا ساحل له بين لغة الشتات، والشرود، والذهول، بل تركنا حبلهم على غاربهم بين أناس يستهلكون مهجة روحنا كما نستهلك نزبف علومهم، وفلسفتهم، وحضارتهم. وهنا يمكن لي أن أتساءل عن هذ الحرد الذي يعتم علينا أفق الرؤية، ويجعلنا نفقد البساطة بين جرأة التوغل بين نيران أرض مذأبة، مسبعة: ما الذي استفدناه من شقشقات الحداثة الفاهدة، وتشدقات العولمة الفارعة.؟ هل نمينا خلي عقل الإنسان العربي بما يجعله قادرا على طي المسافات بقوانين خطوط الطول والعرض في فيزيائية الأرض، لكي يكتشف ما وراء الصناعة من هزال ذات أتعبها وجع الاستبداد، والاستحواذ.؟ هل امتلكنا تلك الأهلية التي تجعلنا نستثمر ما أنتجه الغرب بين مألوف عاداتنا، وأخلاقنا، لعله يكون سببا لفلسفة نهضة علمية ومعرفية يقودها الإنسان المحلي بين أوطاننا المستعرة بتمرد الغريب عنا على صفائنا، ونقائنا.؟ ولذا لا أغالي إذا قلت: إن مثل هذه الأسئلة في جوهرها الممتلئ بالرموز والإشارات المغتصبة، هي التي حيرت جل شبابنا الذين فقدوا قدرة سلطة الأسرة والمجتمع على تدبير شذوذ نشار الصدى عن أوزان الصوت المفتعل على موائد الإنسان الافتراضي، وخالوا وجودنا المصطنع من غرور قصة قديمة أقرب إلى الإفلاس، والإرتكاس، وأبعد عن قاع مدينة تحتفي بجثومها على جراب عظام نخرة يمص الغافلون ما فيها من نخاع ينزف بين كوكب يغشانا ضبابه المعرور على أفق عراء منبوذ خلف الذاكرة، والذائقة. فلا غرابة إذا فقدوا سلطة الدين، والأخلاق، أن يكونوا دمى مسلية بين مشاهد أيدي الراغبين في بكم صورة الإنسان المتحور إلى آلة عمياء، يحتكم في سر نفوسها ما يترجمه الحلم من رديء المعاني الموحشة في قلب النوى، والبعاد، والفراق. بل هؤلاء هم من يقدرون معايير بسمة فرحها، ولوعة ترحها، ويلفونها بسحابة السواد النافرة في طبائعنا، وأعرافنا، وآرائنا، وثقافتنا، وعيشنا، ثم يلونونها بألوان الطيف المحصور بين لحظات الدفء، وأكناف الأمل، وأزواد المنى، لكي يجد الإنسان ذاته بعد يقظة إحساسه الممزق بين مشاعر غامضة، قد لا تتحقق له حقيقة بين أمداء واقعه المسكون بجنون الضد، والمفارق، والمخالف، ولكنها، هي نفسها تتحقق له في عالم افتراضي، ومجاري، لا وجود له إلا بين استعارات أزرار الحاسوب المأبون، والشعاع المأفون. تلك الصورة هي التي صنعتها الحضارة الغربية بقسوة كاملة الجهد المسعور بحمى الإخلاص لديكتاتورية المادة الحارقة، وهي التي أترعنا بين غربة الألم بمشاعر الانتماء إلى وطن لا حدود له إلا في الافتراض الذهني، وإلى ثقافة لا قيود عليها بين نصوص مبتورة المعجم، ومفصولة المعنى، وإلى فلسفة عابثة بتواريخ المطلقات، والمقدسات. أجل، قد فقد أبناءنا ذلك المرغوب المراهق بين صميم نفوسهم وعقولهم في حياتهم المترعة بأوضار التفرقة، والتمزق، ثم ضاعت تلك الخيوط الروحية التي تربطهم بسحنة هذا الماضي العريق وصفه بين صفحات نفاخر بنضجها، ونبلها. فلم نلوم أبناءنا على توثبهم بين دوح ترسل ألحانها في جودة الصورة، وزخرفة الإطار.؟ لو عبناهم على ما وصلوا إليه من وفاء لأبوة الحاسوب، وأموة التقنية، فإننا ننسى عيوننا المترعة بالسهاد العميق بين أفراء الادعاء الخسيس، والتعالي البخيس. لو لمنا أنفسنا على ضياع المعنى بين أحواز العقول، والقلوب، لكنا أقرب إلى الموجة التي ينتظرها السباح الماهر لأمله في أزهار الأمان المنثورة على شطآن الهوية الحقيقة للأمة. لكننا بقينا سنوات نتعارك على رقعة الوجود الموروث بين مساحات الكون البديع النظام، والمرام. وكأننا نستشعر نهاية نغمة جيلنا بين صخب جيل يفارقنا بلهفته الحائرة بمفاتن جارية غيداء، هيفاء، وهو مولود بين جبتنا التي بليت قوة ملامحها بين غبار الآثار القديمة، والحديثة، وغدت وقاء لحضور جم البلابل، وغياب عن النفائس المخلدة في صلابة المعرفة، والأدب، والفن، والتاريخ، والحضارة. كلا، لقد وجد أبناءنا ديار أنفسهم بين محيط افتراضي في الخيال الناعم الأفق بين الأصائل، والهواجر، لا وجود فيه لنزوات الصراع، والنزاع، ولنعرات لا للإثنية، ولا لكبوات العرقية، ولا للطائفية، والمذهبية. عالم جميل، وفسيح، يسمو بالعواطف المكتومة عن دوائر الأسرة، والعائلة، والعشيرة، وينأى عن سالف الذكرى الحزينة بين المداشر، والقرى، والقبائل. هو الشيء الجميل الهارب من حياتنا الباردة العواطف الغامضة، وهو المقيم الذي ألفيناه في صورة رجل مضياف يجود بعنفوان الأريحي، الألمعي، وهو الذي يعوضنا بإيحاءاته الخادعة ما يموت بين أحشائنا من صوت البراءة، والبساطة، وكأننا نستلهم منه ذلك الواقع البائس في ضعف حياتنا المسنونة. فلا غرابة إذا سمينا ذلك المدى المطلق بلا حدود بالمواقع الاجتماعية، لمن لا موقع له بين الحقائق الجلى. إذ لو كان واقعنا معراجا نمتطي به صهوة المثال الأعلى، لما كان خيالنا عرسا نتخفف فيه من عناء الرقيب، وشقاء الغريب. فلم لا يكون الكون المنفلت من نظام الكلمات الأزلية في عقولنا موئلا نؤوب إليه حين تغزلنا بشجون الغربة الوجودية، والأنطولوجية.؟ فآه، آه، في تلك المواقع الاجتماعية التي ذهلنا عند قبابها بعيون الموامق المحب، نصير عريا عن قيودنا التي يدرسها غيرنا من فقدنا، وتيهنا، وفراغنا، وضياعنا، وهو بذلك يتعرف على مواقع سكننا الذي فقد قوة سلطته الأخلاقية، وطرق حياتنا التي نجابه ضيقها بعقول هزيلة، وسبل رغبتنا الطائشة بين واقع فقد لذة الحياة، وحق الكرامة، والانتماء، والهوية. بل يقرأ من ضياع قبلة اتجاهنا ما نضمره من لغة باطنية مقرورة، وما نستره من معان مكروبة، وما نكتمه من أحزان معرورة. بل حتى ما هو منبعج في أعماقنا من أسرار، وفي أقدارنا من أطوار. هذا العقل الافتراضي الذي يتحكم في ذواتنا، ومحيطنا، هو اللوحة التي نكتب عليها سيرتنا الذاتية بمداد الضياع المعول من لغة نثرنا، ونظمنا. وغداً إن يخالف الزمن وعده بالفجيعة، لن يحتاج الغرب إلى علماء يجوبون بلداننا المخترقة ببروق الغرب الخادعة، لكي يتعرفوا على طرق تشكل ذواتنا، ومجتمعنا، بل يكفيهم أن يقرأوا من عالمنا الافتراضي زفيرنا الذي نصرح به لمن لا قلب له، بل نحيبنا بين الدروب المتشظية، وآمالنا في مستقبل مظلم الرؤية، والفكرة، وأحلامنا الممتزجة بانفعالات غامضة.
فيا للحسرة، قبل أن أعود إلى تلك التجارة التي تعب سؤر الجهالة من بحر التجارة، لا بد أن أعرج هنا على أمر مضن عشته في صغري، وأنا أرى رجلا أحمر اللون، وأشقر العين، يشاركنا في جلبة أفراحنا، وندبة أحزاننا. والأغرب أنه كان يسكن بيتا من الطين، والقش، والتبن. تعلوه ملامح الطمأنينة، والسكون، والهدوء. بل لا تكاد تراه بعينيك، حتى تظنه سعيدا بين الديار المفتوحة عرصاتها لكل وافد، ووارد. أجل، كان لا يحس بالغربة، والوحدة. فالشيب والشباب يردون عليه مملكته الصغيره، فيجالسونه ليلا، ونهارا. لا يحس بملل، ولا بكلل، ولا يشعر بتفاوت بين الطبقات، والدرجات. فسواء عنده أولئك الذين يأتونه بعقول فارغة، أو أولئك الذين يباحثونه عن أمر التاريخ، والخضارة. فكلاهما يبش في وجهه ببسمة طلقة الإشارات، والمعاني، وكلاهما يصطحبه في طي تلك المسافات التي لم يقطعها مع تاريخ هذه المنطقة التي آوته بلا ريبة. شيء هو أقرب إلى التحفة عندنا، وشيء هو أقرب عنده إلى ما يرسمه من صور عنا. قد لا نعرف سحنتها، ولا بشرتها، ولا قشرتها. لكننا، ولو لم ندرك سر تلك اللحظة التي لم تكن وافية بالمعنى المستبطن بين العقل، والنظر، والرأي، فإننا كنا نراه في غالب أحايينه مبتسما، وهادئا، يهدي إلينا حلاوة حلوى كنا نظفر بها بين زمن مر اللعاب، أو ينقش لنا صورة كان يرسمها لكل واحد من أفراد القرية. أجل، كانت تلك الرسوم التي يرسمها إطراء وإغراء لنا. ومرت سنون، وتعلم منا لغتنا الأمازيغية، وتعرف على مساحات بيوتنا، وحجراتنا، وتكشف له ما توارى وراءنا من شهواتنا، ورغباتنا. وفجأة فقدناه بيننا، ونسينا أمره في ذاكرتنا، وأزلنا صورته من أذهاننا. والنسيان، هو اللغة العظيمة التي نتعلمها في زمن مداراة أغاليط الحياة الأليمة. ولكن ما حدث بعد ردح من الزمن، كان مؤلما، ومفجعا. فهذا الشخص الذي فقدناه بين أعيادنا، وأشجارنا، لم نعرفه حقيقته إلا بعد مضي زمن طويل مر علينا في هديل اللغوب وراء السراب البهيج، ونحن نقرأ كتابا كتبته عن عاداتنا، وتقاليدنا، وأعرافنا، وأعراسنا. شيء يستفزني في عمقي، لكي أقرأ هذا الكتاب بعد مرور ردح من الزمن الطويل، وأنا أرى فيه نياط سمكة ذاتي المفارقة لمياه المستنقعات العكرة، بل رأيت فيه ذوات كل الذين عاشرهم بين قرانا الغافلة عن نكونات المرجفين، والمتربصين، بل ذوات أولئك الموتى الذي أقمنا على رموسهم أضرحة، وعلامات، ورموزا. أجل، كان هذا الشخص ندي اليد بالحلوى، وطري الخيال بالرسوم، وهو يدرس ما في أعماقنا من مركبات معقدة، واستعارات بسيطة. لكن ما أخشاه أن ينتهي هذا الجيل من العلماء الأنثروبولجيين الغربييين، لكي يخلف من بعدهم خلف بدون تخصص علمي، ومعرفي، وفلسفي، قد لا يجوبون بلداننا طولا، وعرضا، ولا يخالطوننا في أعراسنا، وأحزاننا، ولا يعاشروننا في أسواقنا، ولا في مقابرنا، ولكنهم يقبعون وراء أرقام الحاسوب المحلاة في رخامة عقولنا بألوان الطيف، لكي يتعرفوا على مواقع ضعفنا، وموارد هواننا، ثم ينشئون على أنقاض خراب ذوقنا ما فيه دمار مستقبلنا الفكري، والثقافي. هذه الكتب التي كتبها أولئك الذين رضوا بفحيح شمس فم زكيد، ووارززات، وتنغير، وغيرها، لم تكن قنبلة مدوية بين أقدامنا العاجزة عن السير بين طرق الحقيقة، بل كانت قراءة نستفيد منها ما عليه قيام ذواتنا بلا حجاب، ولا نقاب. لكن ما يكتب اليوم بمداد السرعة على بحر التكنولوجيا العاتية، لن يكون حرفا يفيدنا في وحشة قوارب الغد المبحرة بين المحيطات الغائرة، بل لن يكون إلا أرقاما تدفع بالغيلان إلى رسم صور آمالنا الفاقدة لملامحها، ومعالمها. وتلك هي نهايتنا التي نخشى خريفها المقبل علينا بين غلال ورثنا حصتها الحزينة، والكسيرة. فالعقل الافتراضي، لا يؤمن بالمبادئ الإنسانية، ولا بالمواقف الأخلاقية، بل يؤمن بقيمة الانتاج، والاستهلاك، والسوق، والعمل، والسرعة، والاستسلام لديناصورات تعيش وراء البحر المخوف جونه. وتلك هي لغة الغرب المستعلية على الحضارات القائمة، وتلك هي لعنته التي ستدمر حضارته، وستبدد ما بناه من أهرام أقام دعائمها على سرقة خيرات الشعوب، وتراثها، وطاقاتها، ومواهبها. ففرق كبير بين حضارة تنتج التميز في ميدان العلم، والمعرفة، وحضارة تنتج قيمة التفوق الاقتصادي، والعسكري.فالحضارة الأولى تعتمد على فلسفة العلم، وهي تريد النفاذ إلى مضمرات المعرفة في قوانين الطبيعة، والكون، والإنسان، والحضارة الثانية، لم تجعل الإنسان محلا لانتاج أحلامه، وآماله، بل فرضت عليه أن يدخل إلى معبد المادة بلا عقل، ولا قلب. وإذ ذاك سيستحيل جزءا من الآلة، لا موجها ومحركا لجمودها، وقصورها. وهنا يمكن لنا أن نفصل بين لحظتين من لحظات الحضارة الغربية. ففي عهدها الأول كانت استعلاء بفلسفة العلم كما قلنا، وفي عهدها الذي نعشيه، تغدو مع الأحداث استعداء بالحديد، والنار، بل استقواء بالاقتصاد المسجور بنيران أنانية الإنسان المتفرد في ذاته بمزاعم ألوهيته للعالم، والكون. فلا غرابة إذا اضمحلت فلسفة الغرب التنويرية، لكي تخلفها نظريات صراع الحضارات، وموت الحضارات، وبقاء الأنموذج الامبريالي المعتمد على قوة الصناعة، والاقتصاد، وجدوى الفوضى الخلاقة. أشياء تبدو خطواتها لعنة، ولكنها لن تكون في واقع اليوم لغة التواصل بين أرواح الحقائق الصامتة في المعنى المخزون وسط صخب الرداءة، والدناءة، ما دمنا نفتقر إلى معرفة دقيقة بخطوط الفصل والوصل في الفلسفات، والثقافات، بل ما دام وعظنا، وتربيتنا، وتعليمنا، لا ينأى بنا عن دائرة الذهول، والانبهار، بل عن دائرة الكراهية، والموجدة، لكي نلج عتبة عالم الحقيقة الدامعة عيونها بين رمالنا التي أنتجت مساحة أوطاننا، ومسافات وجودنا بين عادات وتقاليد وأعراف بسيطة، ولكنها في عمقها الإنساني والأخلاقي كبيرة، وعظيمة. إذ المعنى الكبير لا يتعاظم في ذاته إلا إذا كان صغيرا. فالفكرة البسيطة بريئة. وكل براءة تعيدنا إلى طفولتنا المبتسمة للحياة، والكون، والوجود. وكل تعقيد، هو التصفيق في جوقة المرضى بجنون العظمة، وصداع الكبرياء. فلم لا نتألم، وشعوبنا العربية والإسلامية تحدو بنوقها نحو رفاه الحضارة المادية، وإغراءاتها، وإكراهاتها، وإسقاطتها. فلو أدكنا في حضارة الغرب سر ضعفها المكنون في صوت قوتها، لأيقنا بزوالها، وفنائها، ونهايتها. وتلك هي المقولة المسلم بها بين فلسفة العقل، وقواعد البناء، وسنن التاريخ، وشريعة الحضارة. إذا لولا ما فيها من مواطن الفساد المحفور بين قاع جرحها، ووجعها، لما تترست بالنيران التي تحرق بها زروعنا، وضروعنا. بل لما أوقدت الفتن بين الشعوب المستضعفة بطغيانها الفاجر، لكي تسلم الحياة لتلك الطغمة المستحوذة على منجزات الإنسان في الحقوق، والقوانين، والأعراف المحلية، والإقليمية، والدولية. فلا غرابة إذا قرأنا من لوحة الحضارة الغربية سطر مروقها عن الإنسان، وخروجها عن دائرة فسلفتها المطعونة بخناجر الدهاة المجرولين وراء صداع التقنية، رغبة في استحمار الشعوب، واستبغالهم، واسترقاقهم، واستعبادهم. شيء تافه تنتحل الحضارة الغربية صفته الكاذبة، -وهو مظهر الألوهية، والربوبية،- وهي تريد أن ترسخ جؤار تاريخها بالقضاء على سيادة الإمبراطوريات، والدول، والأمم، والشعوب، والأوطان. فكيف سيستقيم أمرها إذا لم تفجر من ينابيع الأمن خوفا، ومن مهاد الفرح قرحا، ومن جمال الخير شرا.؟ لن تستقر وهجة أضوائها الكاشفة لعمق شوارعها الممتلئة بصراخ المحرومين، والمنكوبين، والمعذبين، إلا إذا أغرقت ذا في بحر الدَّين، وذا في معرة النزاع، وذا بين أتون نيات المفسدين في أوطاننا، وهم يُلقنون من فم العاهرة آداب الخيانة للوطن، وللدولة، وللشعار المشترك تاريخا، وحضارة. فمن الذي حمل المرتزقة على صهوات دواب دباباتهم، لكي يكونوا سادة بعد أن رفضهم الوطن، وأيس من دواء يشفي خبثهم، وشرههم، ونزقهم.؟ فالغرب هو الذي يحمي لواذ هؤلاء الباعة للضمير الجمعي المشترك، وهو الذي ينفخ في بطونهم سعيرا بلذائذ شهواته، وهو الذي يحمل سمومهم إلى أوطاننا، وهو الذي يحدث بهم التفرقة، وهو الذي يخذلهم، ويغدر بهم، ويمكر بهم، وفي نهايات العلاقة بهم، يكونون مشردين، ومطرودين، لا يلوون إلا على خيبة، وخسارة. تلك هي الحضارة بعين لا تصدق تهريج من يقول: إنها نظرية المؤامرة. أجل هناك مؤامرة قذرة تتحكم في عقيدة حذاق الغرب، وشطاره. لكن هناك فرق كبير بين من يسعى إلى أن يجعل الذات سوية، ويزعم أن ما فيها من خلل، هو من زرع غيرها الخارج عن الجوهر، لا من اختلال موازين لغتها، وفكرها، ومنطقها، وفلسفتها. وبين يرى المؤامرة حقيقية، وفي الخط نفسه يشهد في الذات قابلية الاستعداد لكي تكون هي الضحية، ويلمس في الواقع شتاتا يحتاج إلى من يجمعه، لا إلى من يفرقه، وهو في حقارته لا يراه إلا قطعة غنم، يستقوي بسوادها على ملاك الأرض، والسماء. فرق كبير بين جعل من الإنسان مسؤولا عن أمنه، وغذائه، وصحته، وتعليمه، وتربيته، وبين من جعله متسائلا عن الأماكن التي ستحتضن جثمانه بعد موته. فذا يشتري الكفن، ويبحث عن مكان مريح بين القبور، وذاك يأمل الحياة، وهو يقول ببراءتها، وبساطتها. فإذا انتفع بمهجتها، أحس ببقاء الجهد، والسعاية. وإا لم يشعر بوجود ذلك إلا في المثال، فإنه يصل حبل الانتماء إلى الأجيال المتعاقبة على تاريخ الأرض، لعل اللاحق يستظل بظلال السابق. شيء نحتاجه، هو الإصرار على تقديس الأرض. فالأرض إذا قدست بإلحاح، كانت محرابا، ومعبدا، ومتجرا، ومصنعا، وحقلا، وبئرا، ونهرا، وفضاء واسعا. الأرض، هي الوطن الذي لا يغدر بمواطنيه، وإذا فقدنا سره، وسيرته، وصورته، كان العالم الافتراضي مرتعا خصبيا لشياهنا الشاردة. فهل الأرض المقدسة هي حقيقة هؤلاء الذين يزرعون فيها الحروب، والدمار، والألغام، والسموم.؟ هؤلاء خونة، ولو ادعوا أنهم ملاك الحقيقة.
في تلك التجارة المربحة، كانت العطور والقمصان وعود الأراك تباع إلى جانب كتيبات تتحدث في أغلب محاورها عن الموت الذي يغدو مع كثرة الحديث عنه أمرا هزيلا في القيمة المطلوبة، لا يثير كوامن النفس الحبيسة، ولا يستفز ما في الأعماق من أصوات مسكوتة. بل صار مع ميوعة العبارة المستعملة، والاستغراق في غلو تصوير غرائبه المبهمة، مفخرة يعتز بها أهل الوجاهة حين يفقدون فردا في دائرتهم المصونة بعز الحظوة الممرعة بالعناء بين أحشاء قلوب خصيبة بشهيق المداهنة، والمداجاة ، ثم تتحرك الأشباح المسكونة بوجع الظمأ إلى ملذات الحياة متهدلة بين الشوارع المتكظة بمئات المشيعين، والمودعين. شيء غريب أن يشيع الأغنياء بآلاف المكتحلين بإثمد الفتوة، والغواية، ويودع ذلك الفقير ببضعة أشخاص يحصرهم العد على رؤوس الأصابع. تالله كم أتعبتني هذه المعادلة التي تقودني بلفحة الاستكشاف إلى غور عميق، وعمق سحيق ، وأنا شاهد بعين قلبي ما يلين له الجسد هناك، وما يرق له القلب هنا. شيء كثيف ولطيف لمسته بعيني، ورأيته بقلبي. فيا للحسرة، في لحظة مرت علي بين تلافيف زمني، توفي رجل دين كان يعيش مكدر البال بما يرميه القدر في سبيله من بذور شظف العيش، وحيف الواقع. بل كان مدنفا بمرض القصور الكلوي المستوجب لعملية تصفية الدم التي أقلقت راتبه الهزيل، والضئيل، بل الأغرب أنه قال في إحدى في خطبه الزافرة بنزعة اليأس المستحوذة عليه بين عنف المرض، وتوحش المجتمع: لو كان في هذه المدينة فقير يستهدي مرضه عطف الباكين على تضييع الناس لمكرمة التعاطف، والتعاضد، والتآزر، لكنته أنا. أجل، كانت أيدي الأغنياء ممسكة في حق مرضه المؤذي، ومقترة في فك رقبته من سطوة الفقر المضني. فلا يجودون عليه بما يزقونه من نتن في أفواه أولئك الذين يتزلفون، ويتملقون، ويتبصبصون على لعنة الموائد بأذيال القطط القميئة، والحقيرة. هذا الرجل التي تستدعيني ضرورة الواجب الإنساني أن أتعاطف مع علته، ووضره، رغم عدم معرفتي بألوانه،الذاتية، والاجتماعية، لكوني كنت حديث العهد بهذه المدينة التي اختاره الله أن يكون ضيفا بين فِنائها، وانتقتني الأقدار أن أكون حزينا بين دروبها، لم أشاهده في حقيقة التجلي بصورته المفقودة بين سراب الأماكن المسكونة بفتوة الجشع، والشره، إلا حين اغتصت الشوارع بمئات المشيعين لجسده المنكوب بين الأبدان، والأعيان، وهم يثوبون بنعشه إلى بطن الأرض المرحبة بكل من فقد انتسابه إلى عالم الآدميين، وغدا جزءا من التاريخ المتسارع إلى النسيان. فكرت مليا في هذا الحشد الذي يبدي احتراما للإنسان إذا زال آثاره بين بقية النجوم المنهدة على أطلال الليل، والنهار. فتاهت بي أفكاري بين لزوجة هذا العقل الذي يسافد الحقيقة بأوهام يتخرص فيها وقاءه من تناقض الأفكار، والجوارح. فقلت: إن قوة الأمة، لا تكمن في هذه الكثرة التي تلاشى فيها المعنى الحقيقي للدين، بل فيما ضاع بين العويل من انبساط الكلمة بين القلوب العطوفة، والحنونة. شيء يغلي في دمي، ويخر إلى قاع عقلي، وينبث في قلبي، وأنا أرى هذه الكثرة بدون جدوى، ما دامت قد ضيعت الإنسان بين لحظات النجدة القصوى. والأغرب أنني كنت ساهما، وواجما، أتأمل المشهد بين آثار ملاحة الملائكة، ووقاحة الشياطين، فإذا بي أسمع صوت أحدهم يقول لي: سبحان الله، إنها جنازة مهيبة، قد شهدها القاصي، والداني. فكرت في تصحيح الخطأ بين سطور هذا العقل الذي يتورم بكثرة سواد الأمة الفاقد للطوبى، والمعنى. حاولت أن أخرج يراعي من كيس حزني، فلم أطق، لاسيما والموقف يحتاج إلى لغة الصمت، لا إلى هرج الصوت، واللغط. فخاطبته في قرارة نفسي، وقلت له بملامحي الغائرة: لو عرفتموه في زمن حياته، وهو محتاج إلى قطرة عطف، وحدب، لكنتم أقرب إلى درك حقيقته، لكنكم لم تعرفوه إلا حين فقد أمله، وأجله. فبم ستنفعونه اليوم، وقد أنكرتموه حين كان محتاجا إليكم.؟ قد تنفعه دعوات بعض الصادقين، وثناء بعض الصالحين، لكن أن ننكر عوز الإنسان في حياته، ثم نحضر جنازته، فتلك هي من آفات الوعظ. ذلك الوعظ الذي يوزع أمداء الجنة، فيمنح ذا قيراطا، وذا قيراطا، وذاك قيراطا، وهو لا يربي الناس على احترام الإنسان في لحظات عزوه إلى الحماية، والرعاية. فأي خير في أمة يتكاثر أعدادها في العزاء، ويقلون عند جفاف الأماقي من دموع الألم، والمرض، والعوز.؟ كانت تلك اللحظة التي شاهدتها داكنة، وحالكة، وقد زهدتني في حضور الجنائز، لا لكون القبر أجلى موعظة تنفذ إلى أعماق قلوبنا، بل لكون الواعظ قد استغنى عن لغة الفقد، والموت، وهي لغة بليغة، لكي يصك آذاننا بوعظه الذي يحدث فينا غثيانا، ودوارا، وصداعا. وتلك هي مخالب الواعظ، حين يغرس اليأس في القلوب، لكي يصور بين غبش الأحزان صورة قاتمة عن الرحمة الإلهية. فلو أدرك الواعظ أننا في حزننا نحتاج إلى من يعلمنا كيف نخلق من لحظتنا سموا في النفس، والعقل، والقلب، لكان كلامه صوتا يلتهم ما في أعماقنا من عجز الإرادة، وموت الحقيقة، لكنه أصر على حرق زهور ربيعنا، لكي يجني في خريف عقولنا شهوة، وشهرة، وربما يسارا، ورياشا. فياللحسرة، ففي خدر الذوات بفقدان اللحظة لترتيب العقل، وتركيب الفكر، وتهذيب الخلق، تسرق منا أحلامنا، وتنتهك آلامنا. وذلك ما يقوم به الواعظ حين ينزف من قعر قراءته لفنجان الذهول بشؤم طالعنا النحس، واللئيم. فمن الذي علمنا أن نموت في لحظة الحياة.؟ ومن الذي عرفنا بطعم الألم بين أطايب الآمال.؟ ومن الذي اغتصب عقولنا، واسترق سمعنا بهتافه المكدر، ولهاثه المحبر.؟ لو سكت الواعظ عن لغته المنكودة بين الأشلاء البشرية، وهو لا يصنع من عللنا ضفائر الرغبة في جليل النعم السابغة علينا من أزل الحقيقة، لكانت صورة الموت بين عباءة الكون مليحة، وطريفة. لكنه حين غمسنا في جب الخوف، لم يكن إلا مخففا لأوزارنا، وأوزاره، ولم يكن إلا رساما رديئا لعالم المثل، ومآل الحقيقة البشرية. بل الأغرب أنني رأيت بعض الموظفين يغلقون أبواب مكاتبهم في أوقات عملهم لكسب قراريط من الأجر الممنوح على لسان الواعظ بسخاء، وذوو الحاجات ينتظرون رجوعهم من شهود الجنازات الكئيبة. بل كثر ما ألج بعض الدوائر الوظيفية، فأجد إنسانا يجر حبات السبحة بين يديه، أو يقرأ كتابا دينيا، وعلى بابه زمرة من المواطنين ينتظرون نهاية خلوته الطويلة، وربما قد تجد أكياسا من الأوراق مكدسة على طاولة مكتبه، وهو لا يستسيغ إنهاءها برحابة صدر ممزوج بحب تهدئة عنف الحياة في نفوس متضايقة من عناء الأحداث الجائرة، بل يتخلى عن حق الجماعة في عمله، وخدمته، وواجبه الفردي تجاه وظيفته، أو حرفته. تلك أمراض استشرترغباتها في مجتمعنا الذي ضاعت منه ذائقته الدينية، وعاطفته الروحية.! فلم يتجمهر هؤلاء الناشدون لراحة الباطن لموت غني مشمول بشملة النهب، والسلب، ولا تكاد تجد منهم أحدا في مواكب تشييع ذوي الحاجات من المحرومين، والمنكوبين.؟ فهل رفضتموه حيا، ونبذتموه ميتا.؟ كلا، لو لم يكن لفجور الغنى في القلوب مكانة، لما كان الذل سبيلا لنا في الحياة، والموت. أجل، فالموت الذي تنشره هذه الكتب المرفهة بحنين الطبيعة الأولى، هو الذي يباع هنا، وهو الذي يشترى هناك، وقد استحال من كثرة البكاء بذكرياته الأليمة شوقا تبحث عنه عجائز النفوس، لعلها تتحرر من أعباء المادة لحظة بسيطة من زمن الاغترار بحطام اللذة، وخطام الشهوة. فلم تنتشر هذه الكتب التي تصنع آلام الموت، ولا تباع تلك الكتب التي تصنع آمال الحياة.؟ جنون مضمر في لغة النفس البشرية، قد تصاب به حين تفقد قيمة حياتها، فلا ترى بين عينيها إلا سيول البكاء، وعذابات الموت، وحسرات نهاية العالم. فما الذي أحدثته هذه الكتب في واقع أمتنا العربية، والإسلامية.؟ في تقديري المتواضع، لم تحدث سوى هذه العواطف الجانحة بين أحناء المتدينين، وقد صاروا من شدة فقدانهم لجمالية الحياة أقرب إلى سريالية التعاسة المنتحرة بين رومانسية السعادة. بل الأغرب -وأنا أقول شيئا مرا لا أريد أن يفهم في غير محله- أننا صرنا نخشى من استفزاز نفوس المتدينين الغامضة، وهم لا يمتلكون مشاعر جميلة، ولا أحاسيس نظيفة. ذلك أمر مضن لي، وأنا أرى في تضارب المواقف زمرة من المتدينين بهذا النوع المغالي في الأوجاع، الأحزان، لا يستقرون على رأي، ولا يثبون على حال، بل سرعان ما يمرق أحد منهم عن أسس الأمس المطرزة في عواطفة المنكوبة، لكي يعادي من كان يواليه، ويعاند من كان يناصره. وهذا ما يحدث في أوطاننا العربية، والإسلامية، فلا تكاد تجد واعظا جديدا يحل بمكان من الأمكنة المجللة بحزن المواعظ المكبلة بقيود الآلام الكسيرة، إلا والتأمت الحشود حوله، وتواطأت الألسن على مدحته، وإذا ما عرفت أذواقه، وحفظت أقواله، فإنه يترك لحال سبيله، وجلية أمره، لكي يخلفه في لغة الحزن طفل غرير، طرير، يبشر بالخلاص الميت قالبه وقابليته وفاعليته في الذوات، ويبحث عن سوق نافقة لبضاعته التي يتبضعها من يريد الإسلام باكيا، لا فرحا، مرحا، ثم يبيعها بأبواقه العفنة بين الدهماء في ثوب يلبسه السُّمد عذابا، وانتقاما. بل الأغرب أن هؤلاء المتدينين، لا تستحوذ على عقولهم إدراكات يقينية، ولا تستولي على قلوبهم وجدانيات حقيقية. فلذا، لا تكاد تستفز أحدا منهم بحقيقة تدينه، وطبيعة ذاته، إلا وسب، وشتم، ولعن، وربما قد يجد في سوق المجالات بعض المغازلين لجيبه، والمماذقين لجهله، وغبائه، فيبثون في عمقه لعنة الكراهية باسم الدين، والضغينة باسم الشريعة. شيء طريف أن نجد الدين يحارب بالدين في حلقات الوعظ المميت، بل وصل كثير من صغار العقول إلى حقيقة الألوهية بدون العروج على باب الله، وبلغوا مدراج فهم القواعد، والكليات والمقاصد بلا إدراك للغة الخطاب، وقدسية معناه، وروحانية أهدافه، وجمعية غاياته. بل طمسوا معالم الهوية القرآنية لزعيق يزفر به هذا المتصلف باسم الدين، أو المعتوه الذي يجود بألقاب الجنة لمن رأى في دسم مائدته حياة، وأملا، وهناءة. أجل، في بعض الأحيان، قد ندرك الرحمة في قلوب دأبت على سبة العصيان، ومعرة الخطيئة، وإلى جنبها نجد قلوبا منهوبة بلغة العقاب، لا تبرح دائرة المعبد، ولا تفارق عينها هيكل الرموز والإشارات الغامضة، ولكنها ترفض الحوار، والرأي الآخر، والموقف المخالف. بل تفتل عضلاتها، وتنفخ أوداجها، لكي تقطع كل ذراع لا يبني قبة حجرها الصاخب بالنظرات المحتقرة للعقل، وللفكر، وللفلسفة، وتنسف كل جدار يحجبها عن شهوة اللقاء المحموم بعشق العاجل من لحظات الخلود المجدول بين النهايات الأثيمة. وربما تسعى بالنميمة إلى ذوي الخطوات المتقدمة في الحظوة المبللة بنزيف ذل بيع الضمير المسجور بالنيات السيئة، لا لجرم ارتكبه المخالف، وهو به يستحق التغريب، والنفي، والغربة، بل لهوس ديني قائم في نفس حزينة، وذات عليلة. فلم تخلى المتيدينون عن أخلاق الرحمة، وتخلق بها من نخالهم في اعتبار استعلائنا فساقا، وفجارا.؟ تلك مصيبتنا حين تعززنا بالطاعة، وشعر أهل المعصية بذنب الذات، ووخز الضمير، وجرح الطريق، وعذاب الحياة. تلك الطاعة التي تُطغي، هي المفاهيم المتهدلة بين الأعماق الحسيرة، وهي الأغاليط التي تغدو أحدوثتها مفتاحا لباب صحراء الأحلام اللعينة. فزعمنا بأننا نمتلك سرعة التحليق بين عوالم الله دون من سوانا، هو العلة التي أفقدتنا مصابيح الطريق بين دجنة الليل البهيم، وجعلتنا نمشي بعيدا عن مساحة دائرة الطهارة، ونسوق نوقنا بين مجاهيل لا تشفع لنا فيه غرتنا بالغفلات الفادحة. أجل، هناك أمثلة كثيرة، ومقالات عديدة، وما نحن فيه من ألم المواسم العابثة بأوراق شجرة الحياة الجميلة، لا يعبر عن نظرة الجمال إلى هذا المعلوم المزموم بيننا بأقداره، ولا إلى ذلك المجهول المفصول عنا تقديره، لكي يكون وعظنا الديني رسما بيانيا يعري عن مجازنا المجعول مشعبا لطلاب الحقيقة، لا استغراقا في عالم الخيال المصنوع من أحلام تغتصب لغة الخقيقة، ولا تنبؤا بالمستقبل الهزيلة حصته بين يدي هذه الأمة العظيمة. أجل، أقول عظيمة، لو وجدت في عالم الوعاظ منهلا خصيبا يثري فيها ذوق العمل للحياة التي بها تبنى حياة المعاني الجميلة. أجل، أقول عظيمة، لو وجدت من يعرفها بالممكن الذي دبرته الأقدار في طريق نجدينا، لكي يكون سلما إلى نبع الصفاء في بواطننا الدفينة، لا أن يكون غابة تغرقنا في بحر المحال المستعصي علينا فهم عدمه، وغيوبه الغزيرة. أجل، أقول عظيمة، لو وجدت من يبقر بطن المعارف الحقيقية، لكي يمسها العقل ببصيرة نافذة، تهجر القصص المؤلمة، وتقيم على ضفة تلك الشجرة الفارعة، والشامخة، وهي في كمال فن التصوير لها، تمنحنا ظلال المعرفة الدقيقة بعلم الجمال الذي سترته إرادات المعاهد الإستراتيجية المدبرة لخداع الحروب المدمرة في نظر العيون الرمداء. أجل، نحن نحتاج إلى علم الجمال في الوعظ الديني، حتى نقرأ من أخطائنا سر فقدان أخلاقنا، وقيمنا، وفننا، وأدبنا، ولغتنا. لكن الوعظ الديني بمقروئه، ومكتوبه، إذا اكتفى بذاته المترنحة بمظلومية الحزين المقشعر بنوبات فجعه، أوبغيبوبة ذات من يهرف به عن درك مهب رياح حياته، أو بفقدان وجدان من يوجه إليه هذا الصوت المثخن بالجراح من رعاع وسفلة وحثالة العامة، وهو لا يبتغي إلا صناعة اللحظة بين هوامش الحياة الاستثنائية، فإنه لن يكون بين مخالب الملل لغة تبني نظرية، ولا حضارة، ولا تقدما في العقل، والقلب، ولا تهذيبا للخلق، والسلوك، ولا انفتاحا على الخطوط المستطيلة في المستقبل المتقلب بشدة، وغير المستقر البتة. بل الأدهى أن نكتشف بقية ذواتنا المغروسة بين الأصص اليابسة، وهي تخوض أوحال الهامش، والعرضي، ونحن ذاهلون عن الغوص في غور الذات المتناقضة في أمزجتها، وتقبلاتها، وأشواقها، وأتواقها. بل الأغرب أن نبكي على أطلال الماضي المجلل بالعياء، والعناء، ونحن نهدم ما تبقى من حاضرنا بأيد عاجزة عن فاعلية التأسيس، والتأصيل، والتأثيل.
تلك الأصوات، وتلك الكتب، لن تظهرنا غداً على لوحة الكون إلا بصفة أمة تعيش بلا مدارس، ولا مصانع، ولا مزارع، ولا معابد، وربما سيزول كل شيء في وجودنا الذي نحيى على مساحتنا فيه مهجرين، ولاجئين، ولن تبقى لنا في المحصلة النهائية إلا رفاهية البكاء على المنابر، والمحاريب. فأي إفلاس هذا الذي أصاب العقل العربي، والإسلامي، وهو يودع كل يوم آلاف الأجسام البشرية إلى مقبرة التاريخ.؟ بل أي شيخوخة هذه التي بددت تحدياتها قوانا المنهمكة في نشر رقيع الآراء، ورجيع الأفكار، وحملتنا إلى مشنقة الحضارة بصغار، وذلة.؟ فلا علينا، قد نكون موجودين بسلبية المواقف بين تأثير التغيرات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، أوربما سنكون مندمجين مع إيجابية خلان الصفاء من صفوة عقول العالم المتنور، والمتحرر، فإن استوجبنا الوجود بلا قيد نتعثر به بين ما يدهمنا من تدهور في مكونات كياننا، فلا محالة، ستعانقنا سنن البقاء بين الأكوان المفتونة بصوت النحيب، والبكاء، وإن أنهكتنا نيران الحرب، والفقر، والظلم، والخيانة، والخوف، والموت، فإننا لن نستمر، ولن نسود، ولن نتحرر. وتلك هي سنن بقاء وهج الأمم، والشعوب، واستمرار قوة الثقافات، والحضارات. فلم نتطاول على واقعنا المر اللعاب، ونتعالى بخطابنا الذي لا يعي ما في واقعنا من تطورات، وتغييرات، وتحولات، سواء في البنية الديمغرافية، أو في التحولات التكنولوجية، أو في الحركية الاجتماعية، أو في الصراعات السياسية، أو في التجاذبات الفكرية، أو في الاتجاهات الجماهيرية، ثم نزج بالناس بين أتون فكر همجي لا يؤمن بالنظام، ولا بالقوة.؟ فأي توازن سيحققه الواعظ في حياة الأمة التي تؤمن بالدين، وترفض أنماطا من التدين، وهو في لغته يفقد وسائل التوجيه لمشاكل الأفراد، والجماعات، ويفتقر إلى الاعتراف بقيمة دوره في التأثير على القاعدة العامة الغريبة أحاسيسها بين ألوان المجتمع، وأطيافه، لا بذلك الاستعلاء الممتحن فيما يسبله عليه وعظه من جبة العفة، والطهارة.؟ فهل اغتناء هؤلاء النازحين عن سواد الفقر إلى كراسي الوعظ البدين البنية في شرِه الشهوات، هو الذي سيحرر المنبوذين والمنسيين بين دهاليز الحرمان البشع من الجوع، والاستبداد.؟ فلنسكت قليلا عن المثل العليا التي نبني عموميا ت خصوصيتها في العقول الكاسدة، لكي نمنح الإنسان لحظة يزيح فيها عن عقله تلك الكوابيس التي تزعجه أحكامها المتطرفة بين مدارات حياته، ووجوده. وإذ ذاك، يمكن لنا أن نفسر أحلام السعادة التي نبحث عنها، بل سنفسر كل الميولات والنوازع الفطرية الكامنة في أعماقنا، وسنعرف كيف نسلك طريقنا ببساطة الموقف، لا بنظرة السواد التي تلف أعيننا في حياة الفناء، ونحن نأمل الموت أكثر من البقاء.
إذا كان هذا هو مستقبلنا الحقيقي، فلم نتألم لخوف الموت الذي يطاردنا.؟ إذا أحسسنا بأننا موتى في أثواب الأحياء، فلم الإصرار على الدنيا التي نتقاسم مساحات خيرها، وشرها.؟ ألا يدفع بنا ذلك إلى الزهد في متعها الرخيصة، ونحن قد تعودنا على سماع ذلك ممن جعلها إلها يوالي من أجلها، ويعادي في سبيلها.؟ لو كانت الدنيا بهذه الحقارة، فلم اكتنز فيها وعاظنا ما لا تضمه يد الفقراء الذي دغدغوا مشاعرهم في لحظات الهوان.؟ شيء مفجع أن يكون الوعظ سببا لفقدان الثقة في الدين، وفي رجل الدين، وفي المعبد، وفي القبر.أجل، شيء تجاوز الحد بين غلمة الواعظ المتدسم بدرن المكانة الاجتماعية المزيفة، وبين الباحث عن حقيقة العلمانية في مدار الديمقراطية، والرافض للأديان بلائكيته المجنونة برهاب الخوف من التاريخ القديم. شيء تجشأ به كل ناعق، وناهق، وصار اليوم سائلا، ما ئعا، لا يثير تلك الأحاسيس الجميلة في العقول، والقلوب.



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أفكار مسروقة الجزء الرابع
- أفكار مسروقة (الجزء الثالث)
- أفكار مسروقة (الجزء الثاني)
- أفكار مسروقة (الجزء الأول)
- صرخة براءة صغير
- همم الحكماء، وذمم السفهاء
- تعدد الزوجات بين فحوى النص، وفوضى اللص.
- دموع الجمعة
- رسالة حب إلى أوشو
- تأملات في خلفية داعش


المزيد.....




- أغنيات وأناشيد وبرامج ترفيهية.. تردد قناة طيور الجنة.. طفولة ...
- -أزالوا العصابة عن عيني فرأيت مدى الإذلال والإهانة-.. شهادات ...
- مقيدون باستمرار ويرتدون حفاضات.. تحقيق لـCNN يكشف ما يجري لف ...
- هامبورغ تفرض -شروطا صارمة- على مظاهرة مرتقبة ينظمها إسلاميون ...
- -تكوين- بمواجهة اتهامات -الإلحاد والفوضى- في مصر
- هجوم حاد على بايدن من منظمات يهودية أميركية
- “ضحك أطفالك” نزل تردد قناة طيور الجنة بيبي الجديد 2024 على ج ...
- قائد الثورة الإسلامية يدلى بصوته في الجولة الثانية للانتخابا ...
- المقاومة الإسلامية في العراق تقصف 6 أهداف حيوية إسرائيلية بص ...
- -أهداف حيوية وموقع عسكري-..-المقاومة الإسلامية بالعراق- تنفذ ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - أفكار مسروقة (الجزء الخامس)