أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - حين تلتبس المفاهيم















المزيد.....


حين تلتبس المفاهيم


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 4928 - 2015 / 9 / 17 - 15:39
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


في كل صلاة تعترضنا مشكلة استواء الصف، واعتداله خطه، فيقوم بعض أهل الغرة ممن لفحتهم حمى هذه الدعوات الغريبة، لكي يصِف للناس كيف يستوون في صفوفهم، وكيف يتجهون إلى قبلتهم. تعجبت كثيرا لهذا المشهد المثير، والمنظر الغرير، وأنا أستغرب من أناس يعتادون الصلاة في المسجد صباح، مساء، وهم طاعنون في السن، وظاعنون مع الزمن، بل يزعمون في قرارة أنفسهم أنهم الكمل علما، وعملا، كيف لا يطيقون أن يفقوا أسوياء في صف يفترض منه أن يكون دليلا على ما سواه من الصفوف المؤسسة لنظام الدين، والدنيا.؟ غريب أننا تحولنا من واقع إلى واقع، ومن وضع إلى وضع، وبدون أن نمر على جسر المراحل الذي يجب علينا أن نقطعها في عملية التحول، والتبدل. فبالأمس كان آباءنا يؤمون المصلين بالصلاة في المداشر المتنائية عن التأثر بالعادات الوافدة من هنا، أو من هناك، ولم نسمع من أحدهم أنه طالب المصلين بضرورة استواء الصفوف، واحتذاء المنكب للمنكب، ووقوف الرجل إلى جانب الرجل، وسد الخلل، والفرج. بل كانت عملية التدين فطرية، وبسيطة، لا تقبل في جوهرها التعقيد، ولا الغلو، ولا التطرف، لا لأنها كانت متخمة بهذه المفاهيم الغالبة اليوم على جيلنا المتثاقف، بل لكونها تستند في الغالب إلى صورة ثقافية تعكس نفسية الجيل، ونظام علاقاته الثقافية، والاجتماعية، والسلوكية. ولذا كانت وظيفتها في واقع الأفراد والجماعة جلية، وواضحة، وأثرها مشهودا، ومرئيا. وقد يظهر ذلك لنا فيما تعارف عليه الناس من أعراف وعادات وتقاليد تبني أفق المستقبل على قيمة الجماعية، واحترام العلاقات المشتركة، وتقدير المسؤوليات الدينية، والالتزامات الأخلاقية. وذلك مما أدى إلى وضوحٍ في الرؤية، وظهورٍ لأنماط وسياقات فكرية ومعرفية نشطت بها الحركة العلمية بين مدارات القرية، والقبيلة.
في ظل تلك الأجواء الهادئة، والناعمة، عاش الدين سليما مما لحقه من علل النفوس الهزيلة، وكان التدين بعيدا عما لزمه من سلوكيات مستغرقة في الأنانية المستعلية، والنرجسية المفرطة. والأغرب أن ما آلت إليه أحوال المتدينين من استبداد، وتطرف، لم يتضمن في حقيقته تلك العودة المزعومة إلى محصول السلف، بل ما هذا التحنث والتحنف المزايد فيه، إلا حجة على الفوضى التي تعيشها النفوس المنهكة بصعقة المادية، وبرهان على انعدام الوازع الجماعي دينيا، وخلقيا. وحقا، إن ما يرافق ظاهرة التدين من غياب المسؤولية الفردية، والجماعية، لا يدل في بنيته المعرفية والسلوكية على العلم والفقه بما هو مستبطن بين رياض الدين من روح، ومقاصد، وغايات، بل يدل دلالة صارخة على فقدان المتدينين لمعيار الحقيقة في التوجهات الروحية للدين، سواء في تشكلهم النفسي، أو في تمثلهم الاجتماعي. ولعل ما يفيد ذلك في تجليات الأحداث، هو ما حل محل النظام من فوضى، وما قام مقام التضامن من تطاحن. وكل هذا يفسر لنا عمق هذه الظاهرة المحرومة من الفهم والاستيعاب للأدلة العقلية التي أقامتها الشريعة حججا استدلالية يستدل بها على نظرتها إلى الإنسان، والكون، والحياة، والطبيعة، والوجود.
إن ما حدث من تغيرات في بنية التدين، لا يمكن حصره في جميع أوجهه بالعودة إلى الماضي المتضمن لدلالات معينة، ومحدودة، بل يجوز لنا أن نفسره بتفسيرات أخرى، نستجلي منها واحدا في اعتبارنا أن هذه الظاهرة تتضمن الدلالة الرمزية على الوجع النفسي، والحزن الذاتي، والضجر الروحي، لاسيما وأنها تمنح المتدين تفسيرات جاهزة تخفف عنه من نوبة التألم بما هو قائم في واقعه من اضطرابات، وتناقضات، كما أنها تسكن من هوج الذات المختنقة في خضم ما يعتريها من إخفاق، وهزائم. ومن هنا، فإن التدين كما يكون سلوكا معرفيا في الفلسفة الروحية، فإنه يكون مهدئا نفسيا واجتماعيا لما يتغير في الحياة من نظم، وأنماط، وسياقات، قد تعود الإنسان على المحافظة بآثارها الإيجابية، وإن كانت في راهنيتها لا تحقق له رغبة الانتماء إلى دائرة اجتماعية مرتبطة بتفاعلات تفوق حدتها قدرة الإنسان على المواجهة، والمحاججة. وهكذا، فإن ما ظهر في مساجدنا من ممارسات لم تكن معهودة في الجيل السابق، لا نفسرها بهذا الملحظ إلا في دائرة كونها تجسد انحرافا عن الحكمة التي فقدها واقعنا، وبحثنا عنها بوسائل شتى، وفتشنا عنها بين ما هو حادث، ومعاصر، فلم نعثر عليها إلا فيما أحسسنا به من عوز إلى الارتباط بموضوعات الدين الذاتية، بينما ظهرت لغيرنا في التطرف نحو اليمين، واليسار. ولذا، فإن ما كان عليه الآباء والأجداد من تدين مترع بالمعاني الباطنية، والظاهرية، لا يحق لنا تبخيس قيمته، ولا تحقير دوره، وإلا كنا بلا سلف، وغدونا مغتربين بين ماهيات متباينة. وهل السلف الذي نُعول به في استكناه معالم الهداية المرتجاة نصا، وفصا، هو ما نحرقه من مراحل تفصل بين الأجيال، لكي نقف على حافة القرون الأولى.؟ لو أقررنا بهذه العملية غير الميسرة لاعتبارات عديدة، فإن ما بيننا وبين القرون الأولى من فواصل، لن تكون له مكانة، ولا مقامة، لأننا في التمييز بين الأزمنة لا نعرف حقيقة السلف الأول إلا بوساطة السلف الأخير. ولهذا، فإن انتقاص ما كان عليه الآباء والأجداد من تدين، لا يعدو أن يكون رافده أحد أمرين: الأول: أننا نجهل قيمة ما كانوا عليه، ولولاهم، لما بقيت للدين طراوة، وطلاوة. وكيف نختزل معالم الدين بهذه الرؤية التجزيئية، ونحن في جلية الأمر لا نستطيع أن نفصل بين حزمة الزمن المتواصل الأدوار.؟ الثاني: أننا لا نجهل ذلك، ولكن نقدس معرفتنا أمام معرفتهم، والتزامنا الديني أمام التزامهم، واعتدادنا بما نقضيه من شعائر أمام شعائرهم. ثم نقول بأنهم كانوا قاصرين عن درك الحقيقة، إما لشرك نالهم بين موارد العقيدة، أو لبدعة أصابتهم في مهيع الشريعة، أو لشطح دهمهم بين بساتين الحقيقة. لو قلنا بالأول، أو بالثاني، أو بالثالث، فإننا قد فصلنا ذلك الرابط الذي يصل فيما بين الأجيال بوشيجة الوحدة، وألحقنا أنفسنا بتجربة لا حدود لها في ضرورة المنهج، والمعرفة. لأن الانتماء إلى السلف بما نبديه من التزام الصرامة الممزوجة بعنفوان الخوف، والجبن، والحزن، يفرض علينا مجموعة من الأسئلة المعرفية والفكرية التي تطالبنا بالإجابة عنها، وليس هذا المقال محلا له. لكننا، وإن لم نجب عن ذلك السؤال المتمخض عن أنظار متعددة، ومتنوعة، فإننا نرى هذه القفزة نحو السلف، بلا عروج على المراحل الزمنية الفاصلة بين الأجيال، لا تعدو أن تكون هروبا من صدمة الواقع، وتحصنا بالتشدد من أجل استعادة ذلك الحق الطبعي الذي فقده الإنسان في مادية الحضارة، أو من أجل استرجاع ذلك المجد التاريخي، وربطه بتدرج الحياة نحو مواقع العزة والكرامة الإنسانية.
وأغلب الظن عندي أن ما نال مجتمعنا من تغير في كل بناه المعرفية، والثقافية، والسلوكية، قد أثر في سيرة التدين بتبعية المناخ الديني لهذه التقلبات التي تعكس تطور المجتمع، وتحديثه، وتثويره. وهنا تداخلت الحداثة، والماضوية، والعولمة، والمحلية، من غير تحديد لمنطقة كل واحدة منهما في صيرورة العمل الديني، وتوجهاته العلمية، والفكرية، بل غازلت بعض هذه التوجهات الدينية موجات العلمانية، والليبرالية، والشيوعية، من غير أن يكون رأيها واضحا فيها بالقبول، أو الرفض. فهل يصح منا أن نغير عملية التدين القديم باللجوء إلى قيم حادة في الطبيعة، وشرسة في الحقيقة.؟ قد يكون من المستساغ في أذهاننا أن نطور كل الوسائل التي تمنح هذا التدين بعده الكوني، والإنساني، لكن أن نهدر الوقت في تغيير ما كان سببا للتسامح والتصالح في مجتمع القرية، والقبيلة، بدعوى أننا ولجنا عالم المَدَنية، والمَدِينة، فهذا خلط بين ما يمكن تطويره، وما يمكن الإبقاء عليه. لأن ما كان جمالا وكمالا لذاته، لا يمكن أن يكون قبيحا ورديئا في ذاته. وهنا يلزمنا أن نبقي على عدالة قضية الماضي الذي رسخ آباءنا وأجدادنا قيمه، وأن نعالج تداعيات الحياة التي طفت أزماتها على سطح واقعنا بما يزيل عنا تعاسة الاغتراب الثقافي، والفكري، والفلسفي. ومن ثم، نكون قد اتصلنا بالماضي، ولم ننفصل عن الحاضر. لكن إذا مارسنا حق المحاكاة في الوسائل، وحق الإلغاء في المقاصد التي وقف آباءنا وأجدادنا جهدهم على تخليدها، وبقائها، فإننا لن نعضد ما كنا عليه سلفا، ولن نبني في واقعنا هرم منظومة متسمة بقوة الإيمان واليقين بالقضية.
ربما يعن لكثير ممن درسوا الظاهرة الدينية في المجتمعات العربية أن يقولوا بوجود صحوة دينية متناسلة ومتنامية بين أوطاننا الهادرة بفلسفات متناقضة، ومتصارعة. أجل، قد يكون حقا في اعتبار المظاهر المنتشرة في عصرنا المرتبط بتفاعلات خارجة عن إرادته، وطاقاته، ولو اختلف التفسير لأسباب ولادة هذه الظواهر، ونشأتها، وتفريخها، لكن يغيب عن بعضٍ منهم تحديد الفرق بين الدين، والتدين. ومنشأ هذا التضخم في الغالب من تلك الأرقام المهولة التي تعتمدها بعض المعاهد البحثية، والاستراتيجية، وهي تزايد بارتفاع نسبة المتدينين في المجتمعات الإسلامية أحيانا، وأحيانا في كيان المجتمعات الغربية، لكي تؤسس لذلك الوهم المتطرف في أذهان المتغربين من أبنائنا بين دهاليز الغرب، والشرق. وكأنها تعِد بتحقيق ذلك الحلم المتلاشي بين أرض الشتات، وهو يخلق صورة لهذا المخلص الذي ينقذ البشرية من تطرف المادية بتأسيسه لنظام الدولة الدينية. وفي الحقيقة، إن أمثال هذه التقارير التي تحمل أفكارا منمقة، وأرقاما مفخخة، لا تبني إلا سطحا معرفيا تغذيه "ثيمة" الخيرية، وتزكيه بثرثرة الأنانية، والاستعلاء المقيت، ثم تجعله نارا في عقول تشربت صديد القهر النفسي، والكره الاجتماعي، لكي تتحول إلى ثورة تهدر ثروة الأرواح في متاهات لا تحمل نفعا للأمة، ولا لمستقبلها، ولا لخلودها. وذلك ما يشاهده المتتبع لظاهرة التدين في الشرق، والغرب، ويلمسه من عرف ما في هذه الظاهرة من جيوب المقاومة للواقع، وظروف إنشاء ظاهرة التطرف والتشدد بين الدور الموءودة الحلم، والأمل. ولذا، فإن قيمة التدين، لا تنجلي في كثرة السواد المحبطين بالأزمات، والنكبات، ولا في شراسة الانتماء إلى سياق معين في التدين، بل في صناعة النوع البشري المؤهل للاستخلاف في الأرض بمقتضى جمالية النظر إلى القيم الإنسانية، والأخلاقية. ومن هنا، فإن ظاهرة التدين المعاصرة، لم تنشأ في محضن آمن يجوز له أن يكون مرفأ للاعتدال، والوسطية، بل كانت ردة فعل على ما خاضت الأمة العربية والإسلامية حروبه المستعرة بين الديار المنهزمة بالغربة، بدءا من الصراع العربي الإسرائيلي، ومرورا بالمد الشيوعي، وانتهاء بظهور الحركات الإسلامية. وكل ذلك كان له دور رئيس في صياغة هذه الظاهرة، وتحديد معاملها، وملامحها، وأبعادها الإيديولوجية، والسلوكية. ولا أدل على ذلك مما طفر إلى مجتمعاتنا العربية من أقمشة نافست اللباس المحلي، وأغرفته في بحر الموت، لكي تكون هذه الملابس سمة خاصة للظاهرة الدينية، سواء كان ذلك اللباس واردا علينا من أفغانستان، أو من السعودية، أو من إيران. بل تعدى ذلك ما هو عادة إلى ما هو عبادة، فاختلط الموروث بالمستورد، وظهرت المقاومة، والممانعة، وباءت بالفشل، والإخفاق، لا لكونها لا تتوافر فيها أجهزة المناعة، بل لأمور فرضتها التوازنات التي دخلنا غيابات جبها، فكان ماكان، مما نستحضره، ولا نذكره، ثم انتهت المعركة باستحواذ الفكر الرعوي القادم من فحيح الصحراء على الجيل الذي اختط خطه في التدين بين مواجع الثمانينيات، وما بعدها. لكن ألا يحق لنا أن نصدع بالعودة إلى تراث الآباء، والأجداد.؟ لا أراني استفخم ما آلت إليه أوضاعنا من التشبث بالماضي المستغرق في العماء، بل أراني مختنقا من طهول أعراض هذه الظاهرة البائسة على مساجدنا، ومعابدنا، وعكوف مجتمعاتنا على ما تفرزه من آمال الخلاص، والفداء، ووجوم الأصوات الحرة والمفكرة والمتنورة عن الفعل البناء، والعمل المؤسس لقيم التطور الحقيقي للمجتمع، والانتقال به من وضع مريب إلى واقع مشبع بروح المسؤولية، والوطنية، والمواطنة. هذا ما يخيفني في زمن غدا فيه الفكر الحر منبوذا، وصار فيه الرديء مردودا، بل الأغرب أننا تحولنا إلى موقع تفرض علينا حيازة هدوئه مرونة في التعامل مع عموم المتدينين، وإلا وقعنا في حمأة الأحقاد، والضغائن، لاسيما في لحظة انفجرت فيها أبواق لم تعش على حصير المدارس العلمية العتيقة، ولم تجثم بركبها في زوايا الذكر، بل نالت بصيصا من المعرفة بين فوضى الأمكنة، فغالت بما أحصته من نثار علم جمعته من الأسطوانات، ومن كتب تهدى، ولا تباع، ثم غدت في تهريجها موئلا لهؤلاء الزمنى المفجوعين بواقعهم المهين، وصارت مع صمت العلماء أهل الجرح، والتعديل، بل القضاة الذين يمنحون صفة العلم لمن سار على دربهم، ويلصقون تهمة البدعة على من خالف غثاءهم. تلك هي الفاجعة التي أتذكرها حين أرى هذه المظاهر الناشزة في مساجدنا، والنافرة في مدارسنا، ونحن لا نملك لها ردا، ولا صدا. وما هذه العبارات التي يهتف بها كثير من الأئمة قبيل الإحرام بالصلاة، إلا جزء مما طالنا، وليس له دور جلي سوى ما يوضحه للبيب من ضياع أمة لا تطيق أن تسيطر على خط تموقع أجسادها في المسجد، ولا على خط توازنها عند الرغبة في ازدراد نجيع الشر، والحرام.
إن هذه العبارات لم تكن معهودة ولا معروفة عند الجيل الذي نشأنا فيه، وتربينا بين بساطته. وقد مرت معنا أعوام طوال، ولم نسمعها إلا حين اختلط الفكر الوارد علينا من وراء آبار النفط بموروثنا، ثم انتقلنا بحركة اعتباطية إلى وضع يمتهن مغبة تحقير قدراتنا على الانضباط لهذا النداء المبلل لعقولنا لدى كل صلاة. والأغرب أن هذا الأمر يغدو مع الأيام ضرورة تكتسي صبغة الفرضية. كلا، بل انتقلت تلك البدعة إلى سنة لازمة، يفترض على الإمام أن يهتف بها، وإلا عد من الطراز القديم المستبطن لحب البدعة، والمنتشي بلذة الخرافة. شيء مؤلم للمنظومة الدينية التقليدية، وهي تنتحر ببطء أمام هذه العادات التي تغزو مساجدنا يوما بعد يوم، لكي تتحول إلى حقائق لها مساحة في عقول أولئك الذين لم يعرفوا متجه القبلة إلا بمسبار مواعظ هذه التيارات النازلة علينا كالصاعقة المحرقة.
لم أستسغ أن أردد هذا الهتاف عند كل صلاة ندبر أمر مناجاتها لربنا، لأنني أولا لا أستن بسنن المغردين بما دهمنا في قعر ديارنا من أفكار تحمل نفسية من ينفق عليها ملايين الدولارات من أجل ترسيخها، وتثبيتها. وثانيا، لأنني أرى الصف دليلا على ما سواه من الصفوف التي تتكون منها ماهية الأمة. فإذا استوى الصف في سلوك المجتمع، وقبِل كل واحد أن يقف عند حدود مكانه، ورضي بأن لا يسبق أخاه في كسب حقه، فهناك سيستوي صفنا في المسجد، وصفنا في قصدية العبادة. لأن استواء الصف دليل على استواء صف القلوب على المشترك الإنساني، والأخلاقي. وإذا تخالفت صفوفنا في بنيات المجتمع، والحياة، والبيئة، والطبيعة، والكون، فلا محالة ستختلف في المسجد، وفي العبادة، وفي الله. لأن قيم المسجد تجسد نفسيات وأخلاقيات وسلوكيات رواده، وإذا ما كانوا أقدر على فهم النظام الذي تؤدي إليه الصلاة في بعدها الروحي، والمادي، وتوحي به كل التشريعات الفردية، والجماعية، فإننا لن نختلف في صفوفنا المختلة عند المصالح، والمنافع. وهنا، لا يمكن لصلاة فاقدة لجوهر الإنسان أن تؤثر في صيرورة الجماعية، ولا يجوز لمجتمع متناحر أن تؤثر فيه جماعيته بفرض النظام، والقانون، لأن هذه الأشياء متكاملة، ومتجانسة، ومتناغمة، وإذا ما تخلف فيها شيء، سادت الفوضى، والبلبلة، وعم الاختلاف، والتشاحر، والتقاطع. وإذا ما عمنا الخلل في الوظائف الحياتية، فإن ذلك سيسري على تمام صلاتنا، وكمالها.
فالصلاة قبل أن تكون حركات خاضعة لمنهج فقهي، عملي، فهي تشريع يؤدي إلى تحقيق أهداف، وغايات، ومقاصد. وأي صلاة لا تؤدي إلى هذه الحقائق الإلهية، والإنسانية، فهي صلاة من حيث الشكل، لا من حيث المضمون. لأن المضمون الحقيقي للصلاة، هو ما تفرزه في حياة الفرد والجماعة من قيم، وأخلاق، وسلوك. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الصلاة، تعلمنا كيف نؤسس لقيمة النظام، والانضباط، والاعتدال، وكيف نتربى على فضائل العدالة، والحرية، والمساواة. وهذه القيم، ما لم تنعكس على حياة الأفراد، والجماعات، فهي حركات الظاهر، لا أعمال الباطن، لأن كل صلاة لا تغرس قيم الإنسانية في عمق المصلي، ولا تربي فيه حس الجماعة، ولا تزكي فيه اعتدال الأخلاق، فهي قاصرة في درك الحقيقة المرادة منها، وعاجزة عن صناعة ذلك النوع الذي يؤهله سموُّه لتسخير الأرض، وتعميرها، وتنميتها. فالمصلي حقيقة يتشبع في صلاته بروح الجماعة، ويقدمها على أنانيته، وغروره، وكبريائه، ثم يسترسل في تجسيد تلك المعاني في حياته، فلا يحيد عن النظام، كما لا يتقدم ولا يتأخر في صلاته عن الإمام، ولا يفضل نفسه على غيره بالمصلحة، كما لا يفضُل غيره بقيمة في رحاب المسجد، والصلاة، والصف، ولا يستعبد أحدا لسطوته، كما أنه في المسجد لا يمتلك قيمة أمام غيره، بل كل ما له من تميز في المرتبة الدنيوية، لا يجوز له أن يستبد به على غيره من المصلين.
إذا كانت الصلاة بهذا المفهوم، فإن استواء الصف، يجب أن يكون جبلة في المصلي، لا تلقينا يلقنه عند كل صلاة، أو توجيها يبين بلادته وغباءه في رص قدميه إلى جانب إخوانه. لأن المصلي قبل أن يتخذ المسجد وقاء له، قد تلقى دروسا في التربية، وتربى على احترام النظام، والقانون، وصار مدنيا في حياته الدنيوية، والأخروية. وإذا ما لم نمتلك مصليا يشعر بأن لهذه الصلاة روحا، ومقصدا، وغاية، سواء في خاصة نفسه، أو في علاقته مع غيره، فإنه يتعالى بذاته على الآخرين، فيفرض سياقه النفسي والاجتماعي في شعائره، ويصير بذلك محروما من روح الجماعة التي تزرع بذرتها شعائر الدين. بل الأغرب أن هذا التضخم الذاتي لا يخلق إلا تلك العلاقة الجدلية بين السيد، والعبد، ولا يثمر إلا أخلاق العبودية، والاسترقاق. وذلك ما يحاربه الدين في حياة المتدين. فكيف يكون مناطا لتحقيق العلاقة بين العباد في معابدهم، وصلواتهم.؟
وهنا نخلص إلى خلاصتين: الأولى: إن اللغة إذا فقدت دلالتها، والمعاني إذا فقدت فلسفتها، تحولت إلى عالم من الفوضى، والعبث. وذلك ما نشاهده حين ضاعت لغة الشرع، ومعانيه، وفلسفته، ثم نطق بالسفه كل من خال هذا الدائرة بلا دليل في المدخل، وفي المخرج. الثانية: إن الصف المقوم والمستد ينظر الله إليه، لأنه في لغة الكون استواء، واعتدال. وليس المقصود استواء الرجلين، واعتدال الذات فحسب، بل استواء القصد في النية، واعتدال الخُلق في الطبيعة. فلا تقدم، ولا تأخر، وهكذا يكون صف الملائكة في السماء، وصف المجاهدين من أجل قضية العدالة الإنسانية في الأرض.



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ناسك في دير الحرف 1
- ناسك في دير الحرف 2
- مقالات في التصوف
- حقيقة المجرم
- مفهوم الحقيقة
- إزالة الإبلاس عن معاني الإرجاس
- أفكار مسوقة (الجزء السادس)
- أفكار مسروقة (الجزء الخامس)
- أفكار مسروقة الجزء الرابع
- أفكار مسروقة (الجزء الثالث)
- أفكار مسروقة (الجزء الثاني)
- أفكار مسروقة (الجزء الأول)
- صرخة براءة صغير
- همم الحكماء، وذمم السفهاء
- تعدد الزوجات بين فحوى النص، وفوضى اللص.
- دموع الجمعة
- رسالة حب إلى أوشو
- تأملات في خلفية داعش


المزيد.....




- أحباب الله.. نزل تردد قنةا طيور الجنة الجديد 2024 وفرحي أولا ...
- حدث أقوى أشارة لتردد قناة طيور الجنة بيبي على النايل سات وعر ...
- هذا ما ينتظر المسجد الأقصى خلال عيد الفصح اليهودي الوشيك
- حامل ومعها 3 أطفال.. انقاذ تلميذة اختطفتها جماعة بوكو حرام ق ...
- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف موقع اسرائيلي حيوي ...
- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف قاعدة -عوفدا- الجو ...
- معرض روسي مصري في دار الإفتاء المصرية
- -مستمرون في عملياتنا-.. -المقاومة الإسلامية في العراق- تعلن ...
- تونس: إلغاء الاحتفال السنوي لليهود في جربة بسبب الحرب في غزة ...
- اليهود الإيرانيون في إسرائيل.. مشاعر مختلطة وسط التوتر


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - حين تلتبس المفاهيم