أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد حاشوش - التمثال















المزيد.....



التمثال


سعيد حاشوش

الحوار المتمدن-العدد: 4898 - 2015 / 8 / 16 - 16:47
المحور: الادب والفن
    



الواقع العجائبي


لا يهمني ما يقوله الناس عني بعد أن رأيت

كالإسفنجة المبلولة الدبقة تعصر فينز الماء منها ... إسفنجه صفراء أو شاحبة بلون الموتى .... اسمع دقات القلب كالطنين في الأذنين... لا شيء إلا دقات القلب ... أخترق الأجساد العارية الصدور، الأجساد اللزجة بشحوم أو دهان أسود يلّون الجلود المنقوش عليها عقارب وأفاعٍ وشعارات الذكورة ....أجاهد، أصارع مثل كلب أجرب مشنوق لأتنفس الهواء ... لا شيء إلا خفقان القلب الذي يطبل على معدة فارغة، افتح فمي على اتساعه... فم سمكة .. ,أمد رقبتي للأعلى في الفسحة بين الوجوه الجامدة النظرة ، وجوه تنظر ولا ترى ، العيون ثقوب وتجاويف ... مثل ثقوب هذا التمثال العالي.. العالي .. كنت أعتقد باني سأعثر على كتلة هواء لم يستنشقها البشر بعد ، كتلة أو سلة لكن السقف المعدني لهذا الجملون لا يدلف الهواء من ثقوب المسامير وإنما حرارة شبيهة بالحمى المصحوبة بالغثيان ، أشعر إني مريض بالتايفوئيد، تدفعني الحمى للجلوس والشعور بالتضاؤل , كرهت الانسحاق تحت المخلوقات التي تخترق الأمكنة بقائمين والتي لها رائحة الضربان ولون الموتى .، أنا غير متأكد هل الموتى لونهم أصفر شاحب أم بدون لون ؟ كل الأشياء ملونة حتى لو كانت بلون الأرض...
(تهز الزوجة يدها مشيرة لطفلٍ ما)
دائماً أعود للتجوال بين الجثث المنتصبة بصمت إلا من وجيف عضلات القلب وليقة صبغ يستحيل تحديدها ، تماثيل الشمع المبحلقة انتظار يوم القيامة، أبحث عن شيء مفقود .... قد تكون الحياة نفسها أو ذلك العنفوان الذي يميز السياسيين في السجون العديدة التي حُبست فيها ...( حياة)... حين يُحصر الإنسان في زاوية يكون تفكيره باتساع تلك الزاوية أو أبعد قليلاً .
وحين يفقد الأمل تضيق الحياة البشرية إلى حجم الزاوية التي يقف فيها التمثال ,أعني الإنسان، أخطو وحيداً بين الكتل المتراصة ، أسمع صرخات حادة مبتورة كثغاء الأغنام ، أبتعد ...لا أعرف أين أبتعد ؟ ابحث عن فسحة في الوجود كي أقف مثلهم وأتنفس بعمق... أختنق، يشخر البلغم المتكدس في الرئة مع كل شهيق ويرغي مسموعاً مع القرقرات ، تتدافع الأجساد ... تتحاشك ...أصرخ ... لا احد يسمع أحداً أو يصغي لأحد ...انزلق بدون أن ادري على أجساد أخرى متعرقة ومشحومة بدسم أسود ، ترتجف عظامي بوجع مزمن ...أغوص و أغوص في أعماق ذاكرتي ، أكواخ كينونتي ، ذاكرتي الخبيئة بالأسرار، أتحول من شخص يتحدث إلى نه بو مثلما كان يقول الأنصار أو ... نه ماوه ... أي غير موجود ... من هَيَهْ إلى نِيهْ... من وجود إلى عدم .. وبالصدفة – وفي كل مرة – أجد نفسي قرداً معلقاً بالأغصان ,أعني القضبان وتنتابني الرغبة أن أصيح :- فوق الأشجار ، ثمة شيء مخفي في الأعماق يؤجل صرخات التوجع، أعبّ الهواء في رئتي .. الهواء لا يوجد إلا في أعالي القضبان ... الأشجار... أشق حنجرتي بصيحة أعتقد في كل مرة إنها الأخيرة : فوق الأشجار ، لحظتئذ تتراكم في رأسي أفكار، لا اعرف سر رغبتي بالانفراد عن القطيع البشري ، أنا كنت في عمق كتلة البشر لكني متوحد مع نفسي ، أمشي مع الجميع وخطوتي وحدي ، ليس ذلك السياب من قال هذا وإنما هذا شاعر آخر من أبي الخصيب ....هي ليست وحشة وإنما غربة تجعلني أنفرد عن الكتلة البشرية الهائلة والمتداخلة الأذرع والأرجل .. الرؤوس العكشة الشعر والتي لا تكف عن البحلقة في سقف الجينكو ... الثقوب التي فيها أعين لا ترى تجعلني أحذف التأريخ بتطوره وارتقائه وأعود مجرد حَيون طويل الأطراف يتشبث بالقضبان ... ( حياة) : هل تدركين ما معنى أن ينظر الإنسان بعينين مفتوحتين ولكن لا يرى شيئاً ، عيون مفتوحة ... بلا أدنى رغبة في النظر ... عيون ليس لها عمق كعيني هذا التمثال؛ أنه يشق السماء ، هناك ظلام دامس من فراغ هائل خلف زجاجة العين الشفافة ، من المحتمل أن التمثال نفسه لا يرى شيئاً ... كيف يرى ؟ إذا لم يُعَذّب جسده ويصبح وعاءً لحيوان آخر ويظل يعتقد أن ذلك الوعاء هو وعاؤه لحظتئذ يحترم الجسد الذي قاوم وقاوم وجعله موجوداَ لم يتحول إلى عدم ... الوجود هو أن انظر وأرى وبثقة ، إن كل الأشياء التي أراها موجودة ... هل تدركين كم أحب جسدي النحيف لأنه تحيون معي وقاسى أبشع تعذيب وقاومت روحي أقسى وضاعة يمر بها الكائن والذي اعتقد هو أنا أو الإنسان عموماً، في بعض الأحيان تستحي روحي من جسدي ، جعلته يقاوم وحيداً ، أعتقد أن الروح ذكر وإلا كيف يهذي الروح ويبني جبالاً من آمال على جسد ضعيف ، جسد مدمن على الانتظار ... أما أنا أعتقد بأني لم أكن حياً، شبح واقعي ... أنت تدركين هذا ... كل زوجة في العالم تدرك بغريزتها أن زوجها ميت أذا كان بلا روح ... أعني روح صغيرة تحمل جثة ، أو جثة نحيفة أذا كانت تحمل روحاً ... أعتقد أن الروح أنثى رقيقة وإلا كيف أمتصها الجلادون وتركوني هيكلاً، هيكل فارغ يحوي... سرقوا روح الإنسان ... عنفوانه ...، أنا حيون كئيب يحمل في أعماقه صراخ وصهيل المجانين من التعذيب ... هذا التمثال العالي..العالي بعلو الآلهة هو من سرق مني إنسانيتي وتركني هائماً وحتى هذه الأصنام التي تشير إلى نهر جاسم هي من جعلت جسدي وضيعاً...يبعصني السجان ويدخل سبابة يده اليمنى في مخرجي دون أن احتج... أجلس على فوهة قنينة زجاجية أتحسسها تنزلق كولوج الإصبع...أنا دائماً أرسم هيكل غوريلا للسجان من ضخامة السبابة ، لم أكن أرى لأني معصوب العينين لشهور عشرة واليدان موثقتان للخلف...
وحين رأيت عيني الزوجة تتسعان دهشة أردفت:-
أنا لا أحكي أبداً عما جرى ... من المستحيل أن يصدقني إنسان لكن السجناء بعد انتهاء التعذيب وتكديسنا في الجملون الثاني في سجن الحارثية يجبرونني على البوح وهذا التمثال ... لماذا اخترت الجلوس على هذه المصطبة وكأنك تريدين تقديم النذور وتطلبين المراد ... أمن هذا ؟ ..لا تتركي عبد الباقي يحبو على المرمر ... مرمر السلطة زلق دائماً ... أعني من التنظيف ... شط العرب كئيب إلى حد الفصام ... لا يبدو أبداً مثل باقي الأنهار ...مجاري هائلة لوطن وضيع باضطهاده الطويل عبر آلاف السنين ... لو كان لون الماء بلون السماء... إنه أخضر مزبد برغوة رمادية مثل لون وجه التمثال .
- سعيد
- أرجوكِ لا تناديني باسمي
- يرعبني هذا الاسم ، الجلادون هم الذين أرعبوني بهذا الاسم ... كلما يأخذونني للتعذيب أدمدم ... يا للهول ...يا للهول .. يا للمصيبة ... صدقيني يا حياة لم أعثر على إنسان واحد يقول الحقيقة والإنسان لوحده.. أبداً .. أبداً .. لا يستطيع قول الحقيقة، يجب أن أبحث عما تبقى من مجانين... من أجل جماعية التفكير، لكنهم مجانين، وقد أكون أنا العاقل المجنون الوحيد، ما الضير إذا حدثتك ؟ وأنت أم ولدي البكر الوحيد !
لا أعرف كم من الحزن ينغل في الأعماق ... كم من غضب لم يجد له متنفساً، كنت أعتقد باني سأرتاح... سأسعد ... ثمة غضب بدأ من نوع آخر...آخر تماماً لا أفهمه... أنا... أعوذ بالله من كلمة أنا، لم تعد مهمة هذه الأنا لأنهم شفطوا عقولنا بأنابيب مستوردة وجهدوا لتكثيرنا كالدواجن ولأني لم أعد نفسي فليس مهما أن اردد ...أنا .. أنا..أنا .. كان ذلك في الجملون مهماً ... أنا الأمس لا تصلح لقراءات اليوم، أفكر بكتابة قصة طويلة ... لأني من كتاب القصة الشباب عام 1980 كنت أنشر في الطليعة الأدبية، الإنسان في كل دقيقة يتطور نحو الأسوأ وبطني تنتفخ مثل كل مرة، ديدان الإسكارس تسد الأمعاء، الحنظل وحده عدو لطفيليات الأنا، جميع العرب وبفم واسع كبير يجب أن يمتصوا جرعة هائلة من حنظله تشبه البطيخ الأصفر .
أعظم ما في مرارة الإنسان أن يتخلص على من يتطفل عليه، أناقض نفسي أيتها الزوجة وأسرد ما جرى لأن الفرد يفنى والنوع يبقى، لم تنتفخ البطن في تلك السجون من ديدان الإسكارس وإنما من الجوع وتحجر الفضلات في القولون، أعتقد أن هناك فضلات، لأن الإنسان كائن همه الوحيد أن ينجس الأرض بفضلاته ... ليس لتسميد الأرض أو زراعة الخس ... براز الإنسان أبشع من روث الحيوان، (حياة) .. كنت أردد في الجبال .. يا أرض الإشراق والظلمة أبتسمي فعشاقك جاءوا وعندما جئت مع الأنصار للعمل سوية مع حزب الدعوة في الأهوار ... كنا اثني عشر فدائياً ..علق بلساني شعر لا أعرف من أين التقطته.. سآتيك آخرة الليل وأطبع على جبينك قبلة...
-سعيد.. معقول .. رجعت تشرب عرق وأنا لا أدري.. أعطيتني كلمة شرف .
- لا والله لم أشرب أبداً.. فقط أريد أن أقول .. بعدما أموت سآتيك مثل الشبح أقبلك وأذهب .. لأن كلمة شهيد فقدت معناها .. أنا لم أتلفظها أبداً .. لم أفهمها .. أريد أن أوصيك .. بعدما أموت أريد أن أرمى في هذا الشط بدون كيس لايلون متطور كي أمتزج مع الماء والأرض ..بحاجز أبيض .. كفن أبيض .
أو بدون حاجز لأن جسدي ليس من النجاسة حتى تعافه الأم العظيمة، من صنع الحواجز بيني وبين أمي ... سأعود أسمر مثلما ولدت، لا أريد أن أتعفن، أتأكسد مثل الشيوعي الأعمى... هنا .. قبالة التمثال .. بملء إرادتي .. من المفروض اللا أخلق على الأرض وبالذات في البصرة.. ولدت أبكي وأموت وأنا ابكي ..هذا عيب .. فقدت الرغبة بالانتقام من النظام، الأحزاب، التيارات الثرثارة بشعارات تعود لمئات السنين ..الانتحار أعتقد أنه جنون بشري، جنون ثوري يائس، هل تستحق الآمال العظيمة هذا الموت الإرادي ؟ المهم سيمر هذا اليوم... بعد ساعات سيأتي الليل.. الظلام .. لا أعتقد أن القمر سيطلع الليلة ،لأني لا أذكر كيف كان القمر، هل يشبه السفينة؟ قد نكون في أول الشهر أو آخره.. غداً سيأتي يوم آخر ثم يأتي الليل ..
- والله أنت شارب عرق
- والله لم أشرب العرق
ينتفخ الحزن، يتضخم، ينتقل إلى قسمات وجه الزوجة ويلازمها، تفغر فاها كأنها توقفت عن فهم الأشياء.
- حتى أصغر مخلوق، مهما كان، عاقل أو مجنون، يمكنه أن يسهم في تغيير هذا العالم، الثورة لا تستثني أحداً... لكن العراق.. غريب هذا العراق... توقفت الثورة فيه ... توقف التغيير وسكر الديكتاتور ونام على الكرسي .. قتلْ ..قتلْ..سجون ... الاضطهاد يسكن ذاكرتي... ظلام هائل أشبه بنكسة في النظر، سوف أحدثك عن كل شيء، الذي لا أتحدث عنه مفقود، وكل مفقود تائه في غيهب التأريخ المظلم، نحن ننسى أن الزمن يمشي ...
أو يدور على نفسه في هذه البقعة من العالم ، حين يعيش الإنسان وسط هذه القذارة والمجاري فمن الممكن أن يموت غير آسف، الجميع بأشكالهم الحيوانية حاربوا اليأس ولكن دون جدوى .. ظلوا في خانة الانتظار حين تختفي نظراتي في الأفق، تتوه، فوق الأشجار لا أحد يشبه أحداً، الجميع يدور ويدور حول تلك النجاسة بعقول مبرمجة آتية من مستنقع التأريخ المظلم .
نختلف بأفكارنا لكننا نشترك بوضاعة واحدة ونتبرز كالحيوانات في تلك البركة، خراب الإنسان يؤدي إلى جنون سياسي، كل الأفكار تهرب من بين الأصابع كحفنة ماء .. كيف أكتب الرواية هل تعتقدين بأني أصبت بعقدة التقريد، أي إني عدت إلى قرد يتمسك بالقضبان أو الأشجار، هذا يقول أن الإنسان حيوان متطور وذاك يقول إن الحيوان إنسان متدهور ... أكره الفلسفة .. لأني أشعر مجرد قرد برأس ولحية مشعرتين.
سألت الشيوعي الأعمى كيف تزلق وتمشي بين السجناء؟ أجابني ، تعلمت أن أعود للنقطة التي انطلق منها ولو إني انزلق على أجساد غريبة لكني بعد جهد أصطدم بجدار الاسمنت، أنطلق من الجدران وأصطدم بالجدران، الآن أفكر ولو أننا نبصر ولكن القلب أعمى، نحن أيضاً ننطلق من جدران ونصطدم بأخرى، الظلام هو الذي يجعل الجدران جدارا واحدا، هل تعتقدين بأننا نعود لنفس النقطة التي انطلقنا منها، هل أننا نكتشف البداية كي ننطلق ثانية، لا أعتقد، العميان لا يكتشفون أبداً وليست لهم بداية وإنما يعودون فحسب، روايتي التي سأكتبها اجعلها تعود لنفس البقعة التي انطلقت منها، هي مجرد عودة لا تعني شيئاً، لأنني حين أنطلق – أيضاً – سأنطلق من الظلام، الظلام يزيل الألوان ويجعل البدايات واحدة، لا أعرف لماذا كلما أفتح كوخ ذاكرتي أجد سباهي المومياء متصدر الجالسين، يردح المومياء في الذاكرة مستقبلاً صاحب هذا التمثال، بهوسة شعبية تعود لعصر فائت وكنت أعود القهقرى دون أن أدري مع الدورة التي تبدو أزلية في باطن الجملون حول البركة النجسة، الرجل النصف الذي تأكد لي فيما بعد بأنه كردي – يهز كتفيه وحين يمد يديه للأعلى بهياج جنوني راقص يضرب أنفي -في كل مرة – أنفي المكسور البارز من وجهي بتحد والطاغي على أنوف عديدة ليشفط الهواء، بل يشفط الخوف من الواقع السفلي الأسمنتي للجملون لكن الدورة متصلة، العالم كله متصل، لا نهائي هذا العالم ومن المكن أن أكون نواته أو سباهي المومياء أو هذا الواقف الذي ينتظر أو الجندي اللوطي الذي خرج مستقيمه وردياً يشم الهواء أو رجل الدعوة الذي صرخ في أذني بصوت جهور : أنا أعرف أن وزير الدفاع عدنان خير الله فيه طيبة، رأيت عينيه دامعتين. دمع القادة خفي..
ولا أعتقد أن الديكتاتور سيستجيب لأنه يرعى الماعز ... القائد حمار . التفتُ ... غاب رجل حزب الدعوة وسط ضجيج هائل، أنزلق بين الأجساد أو أن الأجساد في هيجانها الراقص أبعدته إلى اللامكان، يبتعد، لا أعرف أين يبتعد، أنا الآخر ابحث عن فسحة من الوجود كي أقف وأتنفس، أختنق، يشخر البلغم ...أسمع القرقرات. شعرت بغثيان ومرارة في الريق وحاجة ملحة للجلوس، جلست.. تحسست أن الأجساد تنتصب بجمود التماثيل ,تنتظر يوم القيامة أو سادنها صاحب السجل الكبير ... تماثيل برونزية مشحمة بزيت أسود، يرتفع صدري بشهيق مسموع وينخفض بسرعة وآلية، كان صدري قفصا صغيرا مخطط الأضلاع، في تلك اللحظة أنعدم الهواء وفاحت رائحة غريبة، رائحة الجرذان الميتة، وبصعوبة...استطعت أن أشق فسحة بين التماثيل المتعملقة واقف طامعاً بشهقة هواء حقيقي، فغرت فمي دهشة وتوقف تنفسي بتلك ألاندهاشه الطفولية حين أدركت أن الرجل الذي يبعد وجهه عن عيني بضعة أصابع لا يتنفس رغم تهدل فكه الأسفل، لم أستطع استيعاب ما يجري ولم أكن املك سوى أن أتفرس بوجهه – أنا الآخر يا عزيزتي توقف تنفسي تماماً – وجهه المكفهر بصفرة الموتى أو فمه المفغور من صرخة لم تنطلق، لم يكن فماً حقيقياً وإنما فوهة تطل على لسان متورم ومتضخم بصفرة كريهة وثمة رائحة تنبعث من تلك الفوهة، رائحة غير مألوفة، وبدون أن أعي وببلادة إحساس وبدون مبالاة قبضت على وجه الرجل بيدي اليمنى وهززته بعنف، فتح عينيه ... فكيه .. وبان لسانه كذيل أفعى ضخمة يتلوى ببطء، اللسان يملأ فمه، رأيته يبذل جهوداً جبارة لكن الصوت لم يخرج, انتبهت للهاث يخرج من فم رجل ملتح يضع وجهه ملاصقاً لوجهي .
- هل هو سياسي ؟
وامتدت أصابعي لتحك جلدة وجهي بإفراط، آلمت جلدتي نهايات الأظافر المقضومة بالأسنان، وقد يكون سبب الحكة الشعر النابت تحت القروح، أردت أن أبتعد لكن الرجل النصف حي يهيمن بشراسة على عقلي , انتبهت إلى صفير خافت يشخر من ثقب معدني أسفل الحنجرة .. وتأكدت أنه بدون حنجرة وثمة جرح كبير أسفل ذقنه، عاودني الإحساس أن لحم وجهه الأبيض أو الأصفر الشاحب بدون حياة بل أن نصفه الأعلى كله قد شمله الإلغاء ومن المحتمل قد التفّ كالكعكة في مكان آخر قرب الأمعاء أو القلب .
- هل هو سياسي
لهث الرجل ومد لسانه كالكلب :
- السياسون كلهم مجانين
مسهم الجنون تحت التعذيب، الرهاب من لذعات الكهرباء، الكهرباء مثل الذئب في الذاكرة البشرية ثم اقتنعت أن فخذيه مسلوخان بالتيزاب مثلما سلخوا شعر لحيتي وشاربي بكلابتين ... هذا الشارب الذي حمل على أكتاف شعراته النابتة كالأسلاك كل ما احمله من وقار....
(لا تحدقي بوجهي ..حدث هذا منذ سنين)
الجلاد هو الوضيع الذي فقد قدرته على الامتعاض – عن طريق الألم ينال الجلاد على اعترافات السجين وفي بعض الأحيان عن طريق الاحتقار والخسة يأمل أن يكره السجين نفسه ويتقبل الوضاعة وحين يشعر الإنسان بأنه وضيع ومهان يعترف ببساطة ولهذا السبب يغتصبون أمهات أو أخوات أو بنات السجين أمام ناظريه, أما وضاعة سجن الحارثية فهي إعداد للإعدام أو لسجون أبدية أخرى – وزفرت بحسرة مكبوتة حين رفع أحد المجانين رأسه للأعلى ونادى بصوت مبحوح: فوق الأشجار ... وسمعت جلبة ونداء الجلادين المعهودة :... زاوية ... زاوية وأقتحمتني موجة عارمة للجند الفارين من كيبلات السجانين التي تغمض عينيها حين تهوي على الظهور والرؤوس ، وفي لحظة محاولتي الوقوف صدمتني الموجة فانكببت على وجهي في تلك البركة اللينة النجسة، حاولت أن أنهض وأنتشل الوجه الملوث بالقذارة فغاصت يدي اليمنى حتى المعصم في وحل شاحب لزج، التفتُ إلى زوجتي ورأيتها تكشر بامتعاضه وتتفحص دمامل وجهي أو ...أو عقلي .. في الذاكرة يصرخ أبي الحكواتي : لا تحدث الناس بما يسيء لكرامتك ، مهما تكن الحكاية في النهاية تحتقرك الناس وتذكرت أيضاً إني أجبته " لا يهمني ما يقوله الناس عني بعد أن رأيت ما لم يره الإنسان "
قلت للزوجة : سقط في تلك الحفرة بضعة جنود، رأيت احدهم يداس بلا رحمة ببساطيل سود لجيش من بغال أو حمير ...، سمعت زوجتي :
أي والله وجعلهم كالثيران الهائجة من نباح كلب..
لم أكن أعي الحقيقة بفطرتي البليدة، أنا الآخر انضممت لقطيع الثيران بهياجها الجنوني وخوفها من أن تقع فريسة لأنياب الذئاب التي ما تنفك تعوي : زاوية ..زاوية...ولم أكن أعي أن وجهي الذي سلخته شعبة الأمن الخاصة ومن ثم سلمتني للاستخبارات قد اكتسى بطبقة من براز مختمر بيساريع وديدان ... هاج الألم ، هاجت الحكة في تلك القروح المتيبسة بدماء وصديد ، أتحسسها تلين وتلين وتنفتح الدمامل في هذه اللحظة وقفت زوجتي فزعة كمن أمسكت بخيط من حالتي الغريبة ، عيناها تتفحصني عن كثب ، كأنها تقول لي لابد أنّ في عقلك لوثة أو أنت ليس مثل باقي الرجال . أنا الآخر انتصبت بوقفتي ، عيناي مطرقتان للأرض.. لعباءتها المكومة على مربعات المرمر . كان التمثال الضخم لعدنان خير الله ينتصب عالياً ... التمثال ينظر بعينين مجوفتين وبنظرات فاقدة المعنى ... الزوجة تنظر بوجه التمثال وتارة تحدق بوجهي فيما ظل الوليد يصرخ على الأرض ... تلعثمت... أنا أريد أن أقول لكِ ما فعله بنا صاحب هذه الكتلة المستطيلة من البرونز وأنت تريدين أن نلتقط صورة تذكارية على الكورنيش وأن يبتسم الطفل ...كيف يبتسم عبد الباقي وهو يبكي منذ ولادته، أنتِ مثل كل النساء تريدين أن يتوقف الزمن في صورة جامدة حتى لو كانت هناك روثة نتنة لمعزى..والمهم إن الدولة وضعتها وأضفت عليها الهيبة , لو أعرف فقط العجوز التي لطخت قاعدة التمثال بالحناء ... أنا اعتقد أنها عجوز مختلة العقل ...كيف تحول الصنم إلى مرقد ولي ؟ ... كيف تحول المسلم إلى عابد أوثان دون أن يدري ... أية ماكنة غسلت الأدمغة ؟.. الريح تصرخ في صمت الإنسان، تجعل الصمت وثناً، نعبد الفراغ لأننا لا نلوك إلا الفراغ ..نصنع داخل الفراغ وثناً ونجعل من القاعدة حصاناً ابيض تمتطيه حجارة ..أنا لم أر عربي إلا وهو على صهوة الجواد ... اللعنة على الفرقة الحادية عشر، الفيلق الثالث .. حيث يمتطي المقداد حصاناً ويعبر الجبال والقرى... وأنا كالجرذ في ذلك الملجأ الترابي .
وحين وجدت نفسي أنزلق في ذاكرة أخرى لذت بالصمت ، الدقائق تأكل بعضها... تفوهت بصوت بارد : نحن العرب اختصاص صناعة الأوثان، نحن الذين نصنعها بجهود جبارة ثم نقدسها، لماذا تركنا الله وحيداً في السماوات وعبدنا بشراً تأكل وتزرب، لا تستغربي ... الله يجسد ضمير البشر ...
وبعد صمت تمكنت أن انتشل نفسي من أكواخ الذاكرة وأغلق أبوابها، ...ترمع شفتي العليا ,أوكد لكِ إننا لم نكن أبطالاً، هم سرقوا الشعور الحقيقي بالبطولة، حين قذفتني أمي لهذا العالم أدركت سر تنهداتها وولولتها الحزينة .. أمي فقدت ذاكرتها تماما ً ...قطرة... قطرة.. وقبل أن تموت لم تتذكر أنها حية ... كانت تهذي عن طفولة رائعة، أنا مندهش كيف ينسى الإنسان أنه عاش وبعد قليل سيموت؟ لم يكن هذا العالم جميلاً وإلهيا وإنما عالم من مرض وغبن ووضاعة، تدفعك الوحشة فيه أن تتحد مع ألمك الخاص بنوع من الكآبة وبغريزة انطفاء الحياة، تستلذ بتلك الوحشة وحين يطلقون عليك النار ترتعب...أنا الوحيد الذي ارتعب من صوت أطلاق النار ولم اخف من الموت ...هذا ليس تناقضا ... هي الحقيقة ...حين يأخذونني للتعذيب أو للموت – لأني أعتقد ذلك في كل مرة أغور وأغور في متاهات المجهول وتبدأ من الآن رحلة اكتشاف جديدة...
لا أستطيع التعبير لأن اللغة التي ورثتها عن الأجداد انزوت تحت جثة الأعمى، الكلمات عاجزة ... الذي حدث في السجون أكبر من كل وسيلة تعبير وتواصل, تتفحصني الزوجة، تتفحص وجهي ... تتفرس بإمعان ... تلك النظرة الغريبة ... أعرف هذه النظرات ... خبرتها ... لا أعرف بالتحديد ما يجول خلفها ، هل أنا وضيع أم هناك لوثة في عقلي ؟ اتهمت صاحب التمثال العالي ... العالي ... لذا أكملت حكايتي، ثمة تشنج ... هستيريا في لفظ الحروف، يداي تتقافزان أمام عيني بشكل لا أرادي...
لم أكن افقه ما يجري لأن الأجساد تراصت، كُبست كالتمور وصارت إفرازات أجسادنا من عرق دسم لها مجرى سيل واحد ثم انضغطنا ككورة من كارات القش واختفت بقع الفراغ التي بحجم راحة اليد وتوقفت مرغماً عن التنفس, أسمع صوت الكيبلات تلهب الظهور، لم نتوجع وإنما نفلت صرخات مبتورة من النصف كثغاء الأغنام وفي لحظة لا تستعاد اقتنصت عيناي وجه إنسان يرتعش, ترمع شفتاه ... يكشّر ... الارتعاشة نفسها للجبن أو الغضب، الوجه يكتسي بحمرة الدماء وثمة روح فيها من ذلك اللون القرمزي الخفي للوجه الأسمر النحيل .. لون حساسية الأمصال أو الحمى القرمزية، وبالصدفة وجدت نفسي أنتفض معه، أحاول أن أستدير للخلف ...ألوي رقبتي على الأقل ... لكن الأجساد الزلقة تكبلني بقيود لينة ومفروشة، يلتوي وجهي من ألم السياط تعوج الفكان بنصف التواءه وتهتز شفتي العليا ... ترمع ... أعتقد أني قلت لكِ كان لي شارب كث وبيدي بندقية ... فليأت إلي كل جنود العالم ... لن أتراجع.. الجندي ... نعم الجندي استدار وبقبضته أمسك ببلعوم الجلاد، أرتعب الزيتوني وحملقت عيناه في الفراغ...لم يكن هناك الفراغ ... أعني تنظران للا مكان، تحسست جبنه الشنيع وأدركت أن اغلب الجلادين في الطفولة عانوا من عقدة جبن تأصلت في أعماقهم منذ أن تلقت الوجوه في الطفولة أول صفعة ولم تتمكن من ردها فظلت هذه الكرة المؤطرة بشارب ثمانية شباط تميل للجهة الأخرى وتطلق الأيدي النار من البنادق على الليل والكلاب الهاربة أو الثعالب وفي بعض الأحيان تردي الفراغ قتيلاً...أو تلهب السياط الأجساد المتقرحة ، انهالوا على ظهر الجندي العاري بالكيبلات ، يضربونه بهوس وخبل على أمل أن يفك أصابعه عن تفاحة بلعوم الجلاد، انهارت كرامة الجلادين ... انقشع ضباب الكبرياء، هي لم تكن تفاحة آدم بل تفاحة كرامة العروة التي تشبث بها الجندي من الإفلات والغياب في جب عرب أيوب ... تتشنج يداه كلما يزداد الضرب، رأيت العلامات الحسابية ترتسم على ظهره بلون اسود مضمخ بالدماء ، ضُرِب ثم قُسِم لأشلاء متساوية وسُرق بعلامة ناقص توسطت ظهره، فوق الفقرات القطنية، تلك العلامة مرحلة أولى لقطعه نصفين، يزداد الضرب والركل، يرتسم الصليب من تلقاء نفسه وثمة علامة كثيراً ما أشاهدها على محولات الكهرباء تصطحبها جمجمة قرد ( رسمت العلامة في الهواء) لا أعرف لماذا هذه العلامات تشير لإلغاء الجندي من الحياة وشخط اسمه من سجل الكائنات الكبير، السجل الأسود .
اعتقد أن اليأس وبعد أن تخطى الإنسان الخط الأحمر الأخير للوضاعة التي يتحملها كل كائن تحدى بانتحار جنوني... هل تعتقدين بأن الإنسان قذفته مركبة فضائية على سطح الكوكب كحيوان يتنفس الأوكسجين؟ أنا اشك انه مخلوق أو كائن تطور من حيوان أرضي لأن البشاعة التي يرتكبها أقذر من بشاعة كل حيوان على الأرض ... كيف نحشر _ أنا والجلاد _ يوم القيامة؟ هذا ليس عدلاً ... بصعوبة فكوا الأصابع المتشنجة بقبضتها وحملوا الجندي إلى خارج الجملون والدماء تقطر بطيئة وبلؤم وراءه، عدت إلى هيئتي الأولى، هيئة القالب الكونكريتي الذي وجدته وعاءً لي ولبسته بدون أرادة مني وأزداد التصاق الأجساد، عصرنا كالتمور ونزّ الدبس دافئاً مشحما يسهل انزلاقنا البشري كاليرقات واختفى الهواء من الفسحة التي بين رؤوسنا وسقف الجينكو وأخذت أفواهنا تجتر الهواء، أسناننا تصطك بعلكة وهمية نسميها الهواء نعلكه آلاف المرات نعلك ونعلك دون أن تشبع الرئة، تفوح رائحة نتنة بعد انجلاء الخوف قد تكون رائحة وجهي أو رائحة أحشاء البركة التي تتوسط الجملون ... أنها أعمق ... أكثر جيفة، رائحة ساق مقطوعة متعفنة بالصديد بل أعمق .. تعبت أعصاب الشم .. هي رائحتنا، رائحة موتى ينتصبون أو يتصالبون على قوائم.
نادى أحد المجانين بصوت مبحوح ، فوق الأشجار ... فوق الأشجار ثم سكت مخذولاً حين تأكد لا أحد يناجي صوته المبحوح .
مجنون آخر لم يثمن الصمت المفروض لذا عاد لمواجهة رفيق حزبي يدق الباب آخرة الليل ومعه قوة ضاربة ،اسمعه يعاود الكرّ والسبّ على الشبح المتجسد في خياله، اسمعه بوضوح، صاير رفيق ... الزاني ابن الزانية ... تضيع مخارج الحروف ويبح صوته... يتشنج بأوج النوبة ويسقط إلى الأرض... يصبح الصوت مجرد فحيح.
ثمة صوت مباغت طغى على الطغيان وضجيج الأفواه، يفرط الصوت في الوضوح والارتفاع وتارة يتيه بين الأصوات، جلاد ما يتحدث في مكبرة صوت محمولة، يتحدث بصوت الأسياد : زارنا الفريق الركن ... وكل من يخالف ... العفو.. باب ... يعاقب. طغى الصوت على الأفواه الثرثارة ,المتململة ,المتأوه ,وخيم على ضجيج نزيف الذاكرة، أفكار آنية تقتحم الدماغ وسرعان ما تتلاشى ، تتداعى وبدون أن أعي وقفت على أهبة الاستعداد، ثمة فرح طفولي مشوب بخوف غامض ,أن تشعر بالأمل حين تواجه المسؤولين الكبار ، الخوف ... كل الخوف أن ينزعج المسؤول ويصدر قرار الإعدام ... إن حسنات الديكتاتورية ببساطة هي أن ينتشي المسؤول أو الديكتاتور من رشفة ويسكي ويصدر قرار الإفراج بدون الرجوع لهذا الذي اسمه ... المجلس الوطني أو .. وخاصة إن الجملون توقف منذ أسبوعين عن استقبال الجنود المخالفين ... كنا نسمع من أفواه الجلادين بأننا وجبة قذرة لتفجير الألغام في شرق البصرة ... أنا غير متأكد هل هي وجبة الله اكبر أم توكلنا على الله .
كان تغميس وجهي بالغائط المبيض شبيه بصعقة كهربائية سرت في الأعصاب والغرائز والدماغ، الدماغ المستغنى عنه ... المنوم في سجون وضيعة، لا استقر في مكان، قلق وبلبال يجعلني في نزيف مستمر، أتحرك كالملدوغ بين الأجساد، ابحث عن شيء مفقود، انظر وجهي في عيون الآخرين واكتشف أن كل العيون مقفلة أو تبصر بالمقلوب، ما يجول في الرأس من أفكار ... أشكال تتجسد في الواقع الموجود أمام العيون المفتوحة المقفلة ، من يوقف نزيف الذاكرة، كنت وحيداً أواجه الجلادين، بالأحرى كنت أواجه نفسي ... أتحداها ...
أبحث عن قواي الخفية ، قوى الإنسان الصعب الانقراض .. ونترت يدي بعصبية : لا تتركي الطفل ملقى على الأرض وفمك مفتوح على اتساعه .
أحارب بؤر الجبن والانقياد السهل، كل إنسان يحارب بخبرة نفسية تخصه وحده ... ليس في وكدي أن احكي عما تخبئه كومة جسدي النحيف من أسرار , المهم عندي أن ابحث عما اجهله عن نفسي، أنا ابحث ولا اكشف، الذي قلته .. كشفته من الصدق أو الحقيقة لا يعني شيئاَ ، لأني ما زلت اجهل كل شيء عن نفسي، الوثيقة لا تعنيني على الإطلاق ، إن أعمق ما في حياتي هي أحاسيس تفر هاربة قبل الإمساك بها، حتى وان كتبت رواية لا يمكنني الإمساك بنزيف دموي في ذاكرة تصهل فيها كل ألوان التعذيب، نسبة صفر إلى الحقيقة، ذاكرتي تتداعى الآن بصورة مشوهة لعجوز فلسطيني بعد أن دفنّا ابنته ياسمين في رمال البر متضرعاً لله : الهي لماذا تخليت عنا، اسمع الآن همهمات الفلسطينيات التائهات في ليل الغربة وعدم فهم الظلم الذي يجري وثمة قنينة نفط زجاجية ترتجف فتيلتها المصنوعة من غصن بردي ...ليس الفتيلة التي ترتعش ..النار هي التي ترتعش ... الأوكسجين هو العنصر الخفي .
إن فهم الواقع يجب أن يتخذ له هدفاً وهو فهم الوضع الإنساني، آلاف من السنين مرت بين جماعة تجمع الغذاء أو تصطاد وبين الآن ... نحن نتلقى القوت كي لا نموت ,تمتد يد العجوز الفلسطيني برعشة اعتقد انه داء الرعاش لان أبي هو الذي يلفّ له سيجارة ويتشبث بيد ياسمين الملقاة جنب جثتها بإهمال ... ليس جذر حمض نباتي أو حميض أو حرتش أو شويل كي لا تجرفه الريح وإنما يد بيضاء يأمل أن يقودها لعالم آخر ...
أو هو الذي يتمنى أن تقوده معها ... ياسمين أو انتحرت لأن الأعراب يقولون وبكل ثقة لا تموت فتاة من الاغتصاب ... هل اصدق عرب الله كريم أو عرب أبو صابر أو عرب أيوب أو الجب ... هل تعلمين بأني أسست أول تنظيم مسلح عام 1978 في مقبرة الحسن البصري رداً على الاعتداء المتكرر من الديكتاتورية؟ اعتبرني الحزب الشيوعي فوضوياً وطردوني . وحين حبسني أخي الأكبر الرفيق الزيتوني لأنه يريد أن يتزوج في غرفتي زوجة ثانية وجدت التنظيم كله هارباً، اعتقد الأغبياء بأني اعترفت عليهم , منهم موسى عمران يسكن الآن في السويد وكاكة أيوب عبد القادر في السليمانية ... وكثيرون....
يتراءى لي بأن الأرض لفظتني قبل سنين وقذفتني في غمرة من انهار استغاثة دائمة ، عرب الجنوب لم يقذفوا في انهمار ضوئي هائل ...لو كانت السماء زرقاء لصار الماء ازرق ولشعرنا بالنقاء أمام التمثال ، في الطفولة ، ... نلعب على ارض صحراء مفتوحة ، في الصحراء نشعر بالبعد عن الجرذان ولون الزيتون ، كلما أرى الصحراء ممتدة أحس أن الله فيها،.... صدقيني كان النضال السري مجرد تسول ثوري، الذي طغى في الانتفاضة ليس العمق المتجذر منذ مئات السنين وإنما رغوة السطح، رغوة أو شهوة للدم نمت مع أعشاب القمح ضد الطغيان، شهوة أبي ذر والحسين وحمدان قرمط وصاحب الزنج، الشهوة للحرية هي التي جعلتني احتفظ بالبندقية ليس لقتل عدوي الطبقي وإنما لأحارب... المهم أن أحارب ... حتى لو أطلقت النار فوق الرؤوس ... أنتِ أدرى قبل أن يدري الناس بأني غير مستعد أن اقتل دجاجة .
- حسام الدين هل كان مسجوناً معك؟
حسام الدين النايف شاعر قصيدة سُميّة كنا أصدقاء في الجامعة.. ارتبطت به بصداقة فوق كل الأحزاب والأيدلوجيات، يسكن الآن جنوب السويد...أعدِم أبوه وأخوته وهو الآن في حزب الدعوة وكل أملي حين جئت مع الأنصار للأهواز أن أتصل به لتكوين بؤرة ثورية ضد النظام ... لكني هربت من الأنصار ...الدعوة والشيوعي يعملان معا ....
- هل تعرف يا سعيد في ليلة زواجنا بقيت تتحدث مع حسام الدين للصباح في غرفة العرس ونسيتني مستيقظة مع زوجة أخيك في غرفتها ... أنا لا أستوعبك ... لأنني لم أسمع بعريس يترك زوجته في ليلة الزواج ويتسامر مع صديقه حتى الصباح... وحتى حين توفي عمي .. أين هو حسام الدين...أجبتها بدون تفكير :
- هرب لإيران بعد أن أصيب في الانتفاضة ... أو بعدها ... كان المسؤول العسكري لخط في الجناح العسكري لحزب الدعوة في الناصرية ... وبعد صمت ..سمعت صوتها :
- كلهم ماتوا ... هربوا ... أعدموا ... سجنوا ...
أنا الكائن الوحيد الذي يجب أن يتذكر، أن يؤدي رسالته في البوح، ليس لك وحدك ولو أنك الوحيدة التي أثق بها ... يجب أن أزيح هذه الصخرة عن صدري ..هي أمانة ... إذا لم تستمعي لي ... سأحدث شط العرب...
المهم عندي أن اسرد ما جرى لأنهم لم يتركوا آثاراً بعد إعدامهم سوى سباهي المومياء الذي لا أعرف كيف ظل حياً ..عقيل سيد زيارة .... الشيوعي الأعمى تركوه يتعفن بيننا على تلك البركة النجسة لأيام أربعة، رائحة الشيوعي بعد الموت هي التي علقت بجسدي، البعض نفقوا على الألغام في نهر جاسم أو هو نهر العرايض هذا مصبه، البعض في مقابر جماعية، لم يتركوا في الجملون إلا المجانين وهؤلاء لم يخلفوا وراءهم سوى وشل الخراف، رائحة تشبثت بالجدران، أنا كنت معلقاً على القضبان، من أجل أن أتنفس فقط رغم ضربهم المبرح بالكيبلات على كفي المتشنجين على الاشياش، أعتقد لهذا السبب اعتبروني من المجانين ولم تشملني الوجبة الأولى التي نادى بأسمائها صاحب السجل الكبير ... قبل أن يتعفن الأعمى وضعت قلبه الصغير في جيبي ... لماذا... لا اعرف ؟ ... قد يكون الجنون ... لأني اعرف بأنه سوف يحرق أو يثرم ...حاولت أن انتشل كرة صغيرة سوداء بحجم راحة اليد في جيبي، ثقي بالله...أنا اكره الثقافة التي تجعل من المثقف أسانيده الكتب كالفأرة .. مرجعيتي الحياة . ولم أكن أعرف أن مقتل ياسمين أو انتحارها ينمو في عقلي ويدفعني بضراوة أن أقرأ كل شيء وأمارسه على أرض الواقع ... الواقع المر... الصعب ...المعقد ...صحيح ..إني تشبثت بنفسي إلى حد الجنون بينما يزداد الواقع ابتعادا لكني أحاول ...أحاول فقط ..في ذلك الجملون اصطدم وجهي بوجه نحيف مؤطر بكوفية سَمِلة و على الرأس تاج أسود ، كان الرجل ملكا لمملكة موحشة ، لم يحتج الملك بل خلع تاجه العقال بيده اليسرى وباليد اليمنى مسح وجهه ثم مسح وجهي متوجلا من القروح أسمعه يهمس : أستغفر الله .. اللعنة على آل عفلق والقومجية ، بعد برهة نظر بوجهي متوددا أضعها تحت رأسي كالوسادة ، المهم أن أحافظ على العقال وبحنو تعشق العقال بيافوخ الرأس ، تشبث بقحفة من شعرات بيض بأكرة ملتوية ، حاول أن يحثني على الكلام ... عن أي شيء ، لا أملك إلا عينين مفتوحتين لا أعرف سر الثقة التي تغمرني كلما أراه ، أن تطمئن وتثق بإنسان لابد أنه سر خفي نتوارثه عبر الأجيال ... قال : لا عليك ... عقوبتنا أن نعيش مع هذه النجاسة ، كلنا ملوثون من الرأس حتى أخمص القدمين ، فقدنا الصلاة وحاسة الشم .. صارت عادية ... نحمد الله ونشكره وبعد تأمل مفرط وكريه :هذا الأعمى مسكوه في الهور قبلي ، الصيف الماضي وبسبب التعطيش والتجويع في أمن الناصرية فقد نظره تماماً أما أنا والحمد لله تيبست لثتي وهذا الكردي جزّوا حنجرته ...أدخلوا دريل فيها لأنه لم يعترف ... يعترف على ماذا؟ ... أما ذلك الذي هو واقف ينتظر ومعه كيس على أهبة السفر أصيب بالجنون ... العقل نعمة ... أي والله نعمة .
في هذه اللحظة وضع شاب نحيل وجهه بين وجهينا واقتحمنا صمت مفاجئ حين اكتشفنا أن أذنيه منتفختان بعث الجرب ولا ينفك يحكهما بعصبية .. بل يريد قلعهما عن صفحتي وجهه ، دفعته برفق خوفا من تطاير نثار الحك ، ضحك بهستيريا وتشنج بصوت عال ... أروي .. بوجيراوه ..عرب ... أخ ... عرب .
أبتعد يائسا بعد أن نكأ جروح الأذنين فتقاطرت بضع قطرات من دماء وصديد ...شيعناه ، كل إنسان هناك يشيّع بنظرة أخيرة ... باللاشعور أيتها الزوجة : الإنسان الذي ترينه الآن قد لا ترينه مرة أخرى ... تعلمت هذا من السجون ..إن كل إنسان مسافر لجهة مجهولة وما السجن إلا محطة قطار أو ساحة النهضة أما الذي يسجن معك في الغرف الانفرادية فأنك تعتقدين بأنه سيعيش معك طول العمر ثم تفقدينه فجأة، بعد لحظات قال صاحب العقال : عن أي شيء كنا نتحدث ... لم أجب ... رضخنا لتأنيب الضمير وفاجأتني نوبة حساسية في وجهي وانهمكت بحكّ الجلدة المتقرحة بعصبية حتى كدت أفجر السوائل المختزنة في الفقاعات أو المكيسة بجلدة وردية أكثر صلابة وفاحت رائحة غريبة لقيح أو براز ونادى مجنون بأعلى صوته : فوق الأشجار ، كان صوته يثير الشجن ويحرك المواجع النائمة في عمق كتلة الإنسان ، تتداخل الأعضاء وتنزلق الأجساد ، شعرت بالاختناق وبدأت بالبحث عن نفحة هواء ، صار تنفسي مسموعا كمصاب بربو مزمن ، أسمع دقات قلبي ، أتحسس أن القلب يطبل على جدران معدة فارغة ، كدت أنحدر بانهيار عصبي جراء ذبابة مخططة بالأحمر التصقت بوجهي .. أنشّ وأنشّ ولم أجد حرجا حين سحقتها بيدي على جلدة الوجه التي فقدت معالمها ... أنا لا أستوعب كيف يعيش الذباب مع هذا الكم الهائل من البشر ؟حاول الرجل ذو العقال أن يتذكر كلمة واحدة من الذي كنا نتحدث به ، فقدنا الموضوع مثل آلاف الأشياء واستغربت حين عاد الرجل المتهم بالإسلام إلى عمله اليومي بمسك كتفيّ الأعمى وحثه على المسير حين فقد الشيوعي قوته وبانت ساقاه عسقتين معوجتين ووجدت نفسي أساعده على المشي ... خطوة .. خطوة .. هي ليست خطوة كاملة وإنما خطوة طفل يحبو وتشممت رائحته مقبولة كرائحة كل الأطفال لنحافته الشديدة ولأنه أفرز السوائل كلها قبل شهور عدة ، أنه بدون لحم وشحم يتعرق من المسامات ، مجرد جلدة مطاطية تكسو نتؤات العظام ، تألمت حين التفت على ذراعه أصابع يدي والتقت مع أصبع الإبهام ، أردت أن أسأله عن أي شيء لكن الرجل المتهم بالإسلام حثّه على المسير ، لم تنفع محاولة المشي ..لا يمكن أن تمرق ثلاثة أجساد وسط الحشد الهائل من السجناء .. صحيح .. أن بعض الأجساد تنضغط وتتداخل أعضاؤها في أجساد أخرى وتترك لنا فسحة ، وسرعان ما تمتلئ تلك الفراغات بأجساد مباغتة، انفرطنا كحبات عنقود حين هاج السجناء كالثيران وعوت الذئاب ...زاوية .. زاوية ...وتدافعوا .. ، يمسكون الجدران .. الباب الحديدي ونادى صوت ينبعث من أسفل الأقدام طالباً الرحمة دون أن يكل أو يفقد صبره ، ظل بنفس النغمة المستعطفة طالبا الرحمة وتحسست أن قدمي تسحق ساق ذلك الرجل أو رأسه ، أردت أن أنظر للأسفل ..لم أستطع .. لم أر شيئا لأن الموجة قد دفعتني بعيدا واصطدمت مرضوضا بين الأجساد الزلقة والحائط الأسمنتي وبقيت هناك محبوساً لا أستطيع الحراك ، رأسي يبرز فوق الأضلاع واكتشفت أن أنفي وحده مدسوسا ً في شعرات إبط إنسان أو كائن ما على قدمين ، كان ذلك الإبط القليل الشعر مسلوخاً ببثور حمر متقيحة من فطريات متوحشة وشعرت أن ذلك القيح المصن تسرب إلى فتحتي الأنف ، لم أشم في حياتي رائحة قاتلة مثل هذه التي أشمها الآن ، رائحة أشد فتكاً من رائحة الموتى ، أصابني الدوار وكدت أسقط لكن جسدي معلق بالأجساد الأخرى بل تحمله الأجساد وشعرت أن أمعائي قفزت إلى جوف الحلق وتقيأت مختنقا بسائل أخضر شديد المرارة ، سال ذلك المرّ على ظهر الرجل ولم يأبه وبدأت أشك أنه من بني الإنسان ، حاولت أن أنتشل جناحي من تحت الأجساد لم أفلح ، طير مقيد على وشك أن يذبح وبدون أن أدري قلدت الحيوانات برفاسها .. أرفس .. أرفس ..أرفس بحثا عن فراغ لا رائحة فيه وسط الخضم الهائل للبشر واكتشفت أن ساقي في هذه اللحظة ترفسان النصف حي ، وكان جزؤه العلوي الميت يكشر عن أسنان صفر ملغاة ، أنا الآخر بدأت أشك بأني من الأحياء وقد أكون من الأحياء الأموات وإن روحي سائبة هائمة ، روح كلب أجرب لا يستقر في مكان ، الآخرون وجوههم أقرب لأشكال الحيوانات ، هذا له أذنا كلب وآخر له رقبة حصان ووجه مستطيل ..تكشيرة القرد على كل الوجوه ، لم أجد بيننا إنسانا ، لم أتيقن من شيء ، أشك أن لي روحا ً وإلا كيف تتقبل كل هذه الذلة والنجاسة دون أن تفكر بالمغادرة ، لابد أن الروح أكذوبة من أكاذيب الجلادين وقد لا تهمهم ، بل لا تهم أحداً ، أشك أن الروح قوة خفية لا يصدق السجين قواها الخفية ، السجين روح وجسد ، أنا واحد ...واحد ... أنا ...أنا ...أنا وأصرخ بصوت عال : الروح ترتبط بالجسد كارتباط النظر بالعين كشر الكردي النصف حي عن أسنانه الصفر ونظر بوجهي ، أجدني أتحرك بخطوات لا ترى ، الأجساد اللزجة تدفعني للأمام وتكاثفت الحرارة المدوخة الباعثة على الغثيان ، تلك الحرارة والرطوبة تدوخان العقل ، تنومه الحرارة وتارة تشطره إلى متاهات عدة ، تأكدت أنهم عن طريق الحرارة يريدون تفسخنا ... انشطارنا أن يجعلوا لنا عدة وجوه وأشكالا ممسوخة لجسد جنوبي واحد .
التفت إلى الوراء رأس كبير أشيب وطالعني بوجه قط عجوز ... قال :
- الآن تأكدت أن السيد وزير الدفاع سيزورنا لأنهم وزعوا لكل سجين طاسة لبن كاملة مع صمونة .
وأردف بصوت واطئ :
- أن السيد وزير الدفاع شديد الطيبة .. كل العناصر تتحدث عن طيبته حتى الصحف . ووجدت نفسي أصرخ بعصبية صراخاً يخيم على ضجيج الجملون وفي أعماقي كره لهذا القط الذي يتحدث بالعناصر ، رجال النظام وحدهم يلفظون كلمة عناصر ، وبدون أن أشعر أو أعطي ليدي إيعازا لكزت رقبة الرجل المتجعدة وفمي يفتح بفوهة واسعة ألا تراهم جعلونا كالأسماك في بحيرة يجف فيها الماء .. أفضل أن يحكمنا صهيوني بدلا من هذا الكلب .
- بابا لا تتحدث هكذا كي لا يسمعك أحد وتروح في شربة ماء ..
أدار القط رأسه وصار رأساً بين رؤوس عديدة مشرئبة الأعناق ، تنتظر بفارغ صبر أن يأتي دورها في المكرمة التي هي كأس من اللبن الحامض ، التفت إلى النصف حي ووجدت الفرصة سانحة أن أحدثه عما يجول في رأسي ، أريد أن أنتشل روحي من الهوة : نحن ملح الجنوب فإذا فسد الملح فبماذا يملح الملح ..جعلونا لصوصا ً ونظهر عوراتنا ونتقاتل على لقمة زاد ، زبدة الجنوب أو ملح الجنوب فقد الحياء والعورة تشم الهواء لساعات دون أن تغطيها الأثواب ..، أهز بعنف كتفي النصف حي :هل أنت أبن الشمال جعلوك هكذا ..، يبتسم النصف حي بوجهي أو يبكي لأني أرى شفتيه ترمعان أو ترتجفان بانفعال دون أن يخرج الصوت ، صرخت بإذنه : نحن مضطهدون إلى حد النخاع .. أشعر أني كائن ممسوخ ينتمي لكائنات أخرى وفوجئت بالرجل المتهم بالإسلام يربت على كتفي ويهمس : هذا رجل مسكين لماذا تفعل به هكذا ، استدرت بكامل جسدي ورأيت أن يدي تتحرك بعصبية بدون إيعاز وهاجت الحساسية في جلدة وجهي ونهش القمل رأسي وما زالت المسيرة الربع خطوة تدفعني للأمام أو للخلف وواجهت الرجل الذي يزين رأسه العقال كزخرف أسود حول قبة ويدي تحك بإفراط جلدة الوجه دون أن أعي .
- حرام ..حلال ..حرام ..دعوة ..شيوعي في أطراف الهور والكل يعدم .
حاول الرجل ذو العقال أن يدفعني من الكتف الأيمن لكني أبيت أن أستدير وأكتشف أن يده الأخرى تمتد طويلة وراءه وتسحب ذلك الشيوعي الأعمى من يده فيما حشر عدد من المجانين على طول اليدين الممتدين .
تفوه الشيوعي الآخر الذي ألقبه بالصامت ، لا يمكن تمييز صمته عن الكآبة :
- يا حلال ... يا حرام ..ألا ترى الغضب ؟
وشعرت أني أتحدث كالمجانين وما أن تخرج الكلمات من فمي حتى أفقد العلاقة بها وكأنها ليست كلماتي ، المهم أن أبصقها بوجه إنسان آخر كي أتخلص من كدس الذل الهائل المختزن في أعماقي البالونة ، وبدأت تلك المسيرة التي لا ترى خطواتها ، كالدبيب ، مسيرة ربع الربع خطوة بالتقدم ودار السجناء على نواة الجملون الهائل النجاسة ، من اليمين لليسار فيما ظل القلب يدور على نفسه دون أن يتمكن الجنود من الاندساس في الزحف المتقدم نحو الباب لاستلام الصمونة وطاسة اللبن ، كان مركز الدائرة ذلك الرجل الملتفت دائما لليمين ولليسار ، أنه الواقف الذي ينتظر ، الشيوعي الصامت و رجل الدعوة يأتيانه بالتعيين ويملأ قنينته الفارغة بالماء ( الدورة) ، فلسفة الدورة فيها من التجلي وكأني أدور في الفراغ ، أمشي مع الجميع وخطوتي وحدي .. هل تدركين ما معنى أن يدور ويدور الإنسان حول مركز ثابت حتى ذلك العقال هو دورة كاملة حول رأس ضاج بالتداعيات .. الدورة الصوفية في فراغ الحياة .. صدقيني أن الدورة في النفوس أسرع من الخطوات في ذلك الجملون ، ثمة أعناق مشرئبة بتحد ووجوه أخرى أكثر إطراقا من هول الظلم والوضاعة وحين اقتربت من الجلادين والحرس العسكري قال أحدهم : الآن ظهر عصعص الجملون ، وكان يقصد أن المجانين ومشوهي التعذيب الذين يسكنون البركة النتنة أو الشتايكر بعرض النصف متر قد دارت بهم المسيرة وصاروا بالمقدمة ، وجدت نفسي أتقدمهم – في الطليعة – الباب الأمامي ، باب القضبان أعظم ما في هذا الكون ، هذه الأبواب ، من الأبواب ينفذ الهواء ، يدخل الهواء وفي بعض الأحيان تدخل الحرية أو تقتحمه الذئاب وتصرخ : زاوية .. الباب عالم كامل وبدون أن أعي أتشبث بقضبانه ، مكتوب على الجباه أن نتعذب والعيون مسمرة على الباب الفرج ، لكن الباب لا يفتح ، الحياة فقدت أهميتها .. قيمتها ، قيمة الحياة ليس في طولها وإنما في أدراك قيمتها ، أن التمتع الحقيقي في الحياة ، في هذه الهبة ، النطفة التي أخرجتني للوجود أو هي مكرمة الأبويين ، هو الذي يجعل للحياة وزن أنا لا أعني طول العمر أو السنين للعبد ، أنا أعني عمق حياة الإنسان ... امتلاؤها ..لأننا امتلكنا وعاءً أو أجساداً ويجب ملؤها بماء الحياة ، أن تعيش بعمق وامتلاء وحرية لكن وضاعة السجون جعلت الموت أزمة ، أزمة تؤدي للعدم , قلت للزوجة بصوت واضح النبرة :
أننا في الموت عندما نكون في قلب الحياة .
هناك..في البعيد ..خلل الأشجار كلاب تنبح على اللاشيء وثمة جدار يعلو بوجه ملون بالأحمر وشارب اسود وأوسمة مهرج ,على مايبدو أنها جدارية الإلوهية, اله وجوه امتصها التعذيب والجوع ,راسخ على الكون بابتسامته الماكرة الكريهة ..
وتداعت في ذهني صور مشتتة لجثث الإيرانيين المحفوظة في أكياس لايلون في مرصد 5/2 حين كنت حارسا للجثث بانتظار التبادل ... تبادل جثث الحياة مقدر عليها الموت .
التفت للزوجة وأكدتُ :
الموت بضعة مني لأن الوضع البشري بأجمعه باطل ، يجب أن نفكر بالموت كثيرا كي نجعله أليفاً مثل حمار سباهي ، لأن كل شيء أليف يصير حماراً لا يخيف ولا يخون لأنه حمار ، قال أحدهم يوماً : الاضطراب في الحياة أكثر قسوة من الموت , فاجأتني الزوجة بنفاذ صبر
- أنا لا أفهم لماذا يشغل الموت تفكيرك وأنت تقول بأني كنت ..الله رزقنا هذا الطفل...
- مصيره الموت ومن المحتمل ..أدفنه قبل أن أكتب روايتي ..لماذا اسمه عبد الباقي .. أنا أكره أباك لأنه ..هذا يعني أنه يموت والباقي هو الله ..عنده إسهال منذ الآن .
- سعيد .. الكل يموت ، الآن أو بعد ساعة أو بعد ... قد تصعد النفس ولا تنزل ، فال الله ولا فالك ، تصالح مع القدر المكتوب اللهم إلا إذا كانت ذنوبك ... أنا لا أفهم لماذا يشغل الموت تفكيرك وأنت تقول كنت فدائيا ً.
قاطعتها بعصبية :
- لأنهم ينظرون للموت باعتباره هدفا ً وليس نهاية .
- أنا لا أفهم الفرق بين الهدف والنهاية ، عمي الحكواتي لم يفكر بالموت أبداً إلا قبل وقوعه بدقائق ،الحر يعلم بموته ، أنت تهذي لكثر ما قرأت ، تقرأ ليل نهار ونسيت لكَ زوجة ....
- لا لم أنس زوجة لها احتياجات،
أجبت متأملا ً:
-على ما يبدو انك تفهمين كل شيء ولكن لا تريدين التحدث ، أنا غبي ، الموت ليس نهاية وإنما يعطي للحياة قيمة خاصة ، الموت يحررني من العبودية ، أعظم ما يفكر به الثائر أن يجتاز الموت .
- ولكني زوجة لها احتياجات ؟
- ما معنى احتياجات ؟
- احتياجات .. معقول زوج لا يفهم احتياجات المرأة .
رمقتها بنظرة خاطفة ، وجهها الحليبي الأبيض ، الأبيض النقي ، نقاء الطفولة ، تغمز بعينها اليمنى وتستغرق بضحك شبيه بكركرة الأطفال ، اجتاحني حب جم لهذه المرأة وكدت أنسى حكايتي حين غمرني فرح خفي وأطلقت ضحكة في الهواء أصدت بجسد التمثال وارتدت إلى أذني وسرعان ما غلفني القنوط وقفزت إلى ذهني حكايتي المريرة تناولت الصمونة بيدي اليمنى ووجدت طاسة الماء جاهزة ومرتفعة أمام وجهي ولقذارة إناء الألمنيوم اختلط لون الماء دافئاً يبعث على التقيؤ أكثر ما يطفئ العطش , الجوع والعطش جعلاني التهم كل شيء .. كل شيء .. دائما أردد أمامك : لأنك لست حاراً ولست باردا ً لذا تقيأتك في الحال ، لم أمرض ولم أتقيأ ، جسمي العظيم يجب أن أقدسه بتمثال أو لوحة على الأقل .. أو أراعي مشاعره تجاهك مثلا ً ...جندي ثالث ناولني كاسة اللبن وتفوه بصوت يئز في الأذنين ، صوت أعاد تكراره مئات المرات حتى بدا صوتاً غير أنساني : ما الذي تريدونه بعد .. لبن وصمون ..في كل وجبة يقول نفس الكلمات .. نفس الجملة وبنفس النغمة وكأنه صوت تسجيل آلة ، في هذه اللحظة وقف الجندي مذهولا ً – مثل كل مرة – وقف النائب ضابط وعيناه تستفهمان الرجل النصف حي ، هو الآخر يقف بارتباك ومحنة عظيمة ، يحاول الابتسامة وقد تكون استغاثة ويكتشف في كل مرة أن ابتسامته لا تخرج للعالم، ظل يمسك بيده كيس لا يلون فارغ تتدلى منه أنبوبة نحيفة وبعد صمت قال النائب ضابط :
- من أرسلك إلينا ؟ ألا يعرف إنك لا تأكل ولا تشرب .. الله يعلم قد تكون البلاوي كلها من تحت رأسك .
امتدت يد النصف حي في جيب بنطاله وأخرج كيساً آخر من اللايلون اللماع وفيه كمية من مسحوق حليب النيدو وظل منتظرا بفارغ صبر دون أن يرسم على وجهه تعابير استجداء أو توتر أنما هو الصمت ، تأكدي أن الصمت أعظم لغة في العالم ، في أثناء فراغ وجهه من التعابير انبرى الشيوعي الصامت الذي يجيد مهنته اليومية ويأخذ طاسة الماء ويشرب منها ثم يضع أنبوبة كيس المغذي بين شفتيه ويبج الماء في الكيس لكن الصامت هذه المرة بصق ذبالات التصقت في جوف فمه مرتعدا من الغضب ..
- حرام .. والله حرام ... حتى الماء قذر وأحمر من أكسدة زنجار البراميل ، ألا تخافون الله وأنتم تصلون له أمام الجملون في كل وقت ...
- نحن نؤدي الواجب ، كلكم خونه لإيران .
- أنا شيوعي وهذا كردي .. ما علاقتنا بالشيعة وبإيران وبالغضب .
- أذن أنتم ملحدون .
وأردف الرجل صاحب العقال :
- وهل هم يصلون لله تعالى ... الله أعلم .
وجاءه صوت من خارج القضبان .
- متى ما تركت دينك وصرت مسلماً لا أحد يسجنك بعد الآن .
وسمعت صاحب العقال يردد مع نفسه .
- ولكني مسلم شيعي ما هي المشكلة في ذلك ؟
لا أعرف سر الغضب الذي جعل النائب ضابط يتعتع هادرا ً .. هل أن الحاجز بين السجين والسجان تعرض للإزالة .
- أسكت يا ول ...شروقي ..حيوان ..
وتناول الكيبل بيد مرنة ، دون أن ينظر للمكان الذي امتدت يده إليه ، له حاسة شم خاصة باكتشافه أو كأنه عضو ما من أعضاء السجان ، دون أن تخطئه اليد المدربة ، ثمة حبل سري بين الكيبل والسجان ، أنه عين السجان وكانت عينا الصامت تتابع الكيبل حين ساط الهواء وحين هوى دون أن يميل بجسده سوى حركة لا ترى للحفاظ على رأسه فقط ، وجمدت يد الجلاد حين رأى وزير الدفاع يبرز بغتة خلف القضبان بدون حماية سوى ضباط برتب عالية يتقافزون هنا وهناك كالسعادين ورأيت النصف حي يختطف كيس المغذي ويدفع الأنبوبة إلى جوف الفوهة بعد أن أغلق ثقب الحنجرة بيده اليسرى ...يرفع السبابة ويغلق الفتحة بحركة منتظمة وإيقاعية شبيهة بحركة السبابة والناي ، نظر وزير الدفاع للرجل النصف حي وتوقفت نظراته على وجهي ، وجهه أسمر محمر بدماء خفية أو كما تعبرين عنها بـ( خلطة ) ، تمعن بنظرة هادئة ثابتة وثمة صمت مريب ، توقف التنفس تماما ً ، لا تصدر تلك النظرة إلا من قادة كبار واندهشت حين أعوج فمه بدائرة مشوهة واستقرت عيناه على المجانين ، يملأ المشهد الآن سباهي المومياء ، ويحاول أن يخرج الكلمات من فمه ،يداه تتقافزان كأطراف الضفدعة ، يشب للأعلى مع كل كلمة يريد أن ينطقها لكن الكلمات تهرب كعادتها دائما ً فيسقط للأرض ويزحف متشبثاً للقضبان محاولا ً تقبيل الحذاء الجوزي للسيد الوزير ، ابتعدت قدما الوزير وتحدث بصوت تحت أنف أفنس .
- شنو هذولي .
وأجابه عقيد ركن مزين بأوسمة حمر كديك عربي .
- سيدي هؤلاء مجرمون وخونة .
وتساءل الوزير بعد أن ازدادت خنّة صوته .
- اللي عليه إعدام أعدموه ، ليش باقي أما الذي عنده هروب قليل أخرجوه من هذا الإسطبل .
نظر لوجوهنا ثانية واجتاحني الرعب وأزداد وجيب القلب ، لم يكن ذلك القلب هو العضو الصغير الذي أحتضنه وسط الأضلاع وأنما قلب يدق مثل ساعة يطبل عقربها على دمام .
سمعت العقيد ينق كالضفدع
- سيدي كلهم من الجنوب والأهوار والقليل من بغداد ، البعض سياسي .
- صدق الرئيس القائد – الله يحفظه - حين قال : وجوههم ممسوخة من قردة وحيوانات ، غجر أو عجم .. ليسوا من العرب ... الله يحفظه أدرك الحقيقة وحين سمع السجناء لفظة السيد الرئيس بادروا بالتصفيق ثم أنبرى جندي المغاوير ولهج بشعر شعبي يمدح فيه الأسياد ، خيم الهرج والمرج في الجملون ورقص السجناء بهوسة شعبية ولا أعرف بالضبط ,حين اختلطت الأوراق كلها هل يرقص أبن الجنوب للتنفيس عن ظلم قاهر خزين أم ينافق السلطة، الجميع يتصاغر أمام حقيقة في السموات أن الله يجمعنا لكنا لا نملك أيدينا، الأيدي تتقافز لوحدها ، الأرجل ترفس ، العيون تبحلق ، لم يسأل الإنسان عن الأعضاء التي تحررت منه ومارست طقوساً غريبة ، أنا أحد الناس لم أكن مسؤولا ً عن روحي التي التصقت ببدني كالذبابة ، وجوه قليلة تغيرت أشكالها البشرية ، الكل يقتنص حركة و سلوك حيوان ...أنا ... لا تسأليني لأني كنت مرعوباً ، بلا لون أو بلون الموتى ، حين تقتل كل السبل التي تجعل من الإنسان أنسانا لا يملك إلا الرقص برعونة ، رقص جارية طفلة سيغتصبها ذلك العجوز بعد أن يسكر ، جسد الجنوب يتلوى أو يتفتل كلما رأى أصحاب اللباس الزيتوني ، نافقنا ولم نربح شيئاً سوى خسارة أنفسنا أكثر تأكدت ، كلما رأيت شيوخ التسعين أصحاب العقال والعباءة المذهبة وآلياتهم المتفننة بليّة خاطفة وهزة أرداف سمينة تذكرني بسارة العبدة المومس ، يا أم عبد الباقي كل الذي أعرفه وعلمني إياه أبي الحكواتي ذهب إدراج الرياح ، أسمي سعيد لماذا لم يسم أبوك عبد الباقي على اسم لاعب الكرة حسين سعيد ... والله أنه أسم جميل ...لا تتركيه يحبو على مرمر السلطة ... لا أمان لمرمر التمثال ...مرمر السلطة زلق ... لكن الزوجة ما زالت فاغرة الفم والعينين ، تلك النظرة الغريبة .
واجتاحتني رعشة صعدت من أسفل الجذع حتى يافوخ الرأس حين جاء شاب دون سن العشرين بسجل ضخم ، كان سادن السجل نظيفاً بليقة صبغ توحي باختفائه عن عالم الشمس والغبار .
ينادي بأسماء مخلوقات الله ، نفق بعض السجناء كالجرذان بخطى بطيئة وسرعان ما تحدث الوزير مع صاحب السجل ، رأيت حزناً خفياً في عينيه يحمل من الأسف مالم تحمله نظرة سجين ، وعاد السجناء بخطى وئيدة واثقة بعد أن أدوا رقصاتهم وحيوا السلطة ورجوا من الله أن يطيل عمر الوزير ، لم يطل عمر السيد الوزير وإنما اغتالته السلطة بعد أكثر من سنتين لأن دعوة المظلومين تستجاب بالمقلوب ، الوزير في تلك اللحظة يرنو بعينين مخاتلتين ولم يعجبه اطمئنان المحبوسين وإنما يريد الذعر أو يتسلى حين قال لأحد الضباط بصوت مسموع ، أبناء البصرة يحبون لعب الهيوا .. أنا أذهب دائما ً لقضاء الزبير عند السعدون أو صديقي القريشي في مزارع البرجسية ...
صاح أحد الجنود من قلب الجملون : صدام اسمك هز أمريكا وأعاد الهتاف عدة مرات وتلجلج لسانه من الارتباك ، لا أحد يهتف معه وإنما حل صمت مخيف ... الانتظار ، توقفت الأنفاس وتشنجت العيون بحقد موغل على وجه الوزير ، عقولنا البريئة تعتقد أن كل وزير في العالم بإمكانه أن يخرج الآلاف من الموت بكلمة ، الكلمة أساس خلق الإنسان ، لا ينفع كل الذي قرأته لهذا السبب أكره المثقفين وأعتبرهم جرذان كتب ، انتابتني موجة حساسية رهيبة على صفحة وجهي ، أحك وأحك حتى فجرت السوائل المختزنة ومعها الدماء ولم أشعر بالألم ، نسيت أني أقف قبالة الأسياد ولم يعنيني الزمن حتى وجهي لم أعد أصدق أنه عائد لي وإنما جمجمة مدملة وضعت أعلى جسدي ...ارتمى ثانية سباهي المومياء ومعه جندي المغاوير على أمل أن يمسحا برفق الحذاءين الجوزيين اللماعين ويقبلانهما بحب عظيم طمعاً في عفو شامل ..
تفوه الوزير بصوت أخن وبكلمات حفظها عن ظهر قلب :
- ياول ..قابل إجه السيد الرئيس القائد الله يحفظه ولزمك هارب أو خائن لو آني إجيت ..أنتم أهل الجنوب الواحد ينافق على الآخر .. ذنوبكم على جنوبكم ؟
وتقدم الصامت بضعة خطوات وتحدث بصوت واثق واضح النبرات
- ليش هو أكو جندي واحد من تكريت أو الدليم في الخط الأمامي حتى يهرب ,نحن أبناء الطبقة العاملة حطب حروبكم التي لا تنتهي ...
كرهت الشيوعي لأنه فجر القنبلة قبل أوانها ، أسبل السيد الوزير يديه ووقف بالاستعداد وأشرأب بعنقه قليلاً ليدقق النظر في هذا السجين ,حاول أن يتقمص دورا بطولياً للذي يقتل أعداءه بنظرة خاطفة وظل بتلك الشزرة الخفية ..تأكد لي أن قادة السلطة يحتقرون من يتوسل إليهم، التوسل يدفعهم للجنون ، العيون تتحدث أكثر مما ترى ...تعبت ...رمشت ..وما زال الشيوعي الصامت بنظرته الساخرة الخفية وأزداد رمش العينين واتسعت حاجبا الوزير ...تفكك جسده ..تململ في استعداده وقبل أن يلوذ بالفرار قال بضع كلمات ، على ما يبدو ,ولم يكن متأكدا من تلفظها :
- إن شاء الله سوف أكلم السيد الرئيس – الله يحفظه – عن حالتكم , الله يحفظه لا يقبل الذلة لإنسان عراقي واحد ..بشخصي سوف أذهب إليه ..الساعة ..
أبتعد الوزير ترافقه السعادين المزدانة بالأشرطة الحمر والعطور ثم توقف بغتة ونظر لوجه الصامت وبعدها أكمل المسير للا مكان .
أنفتح الباب على مصراعيه وانهال الجلادون على الشيوعي الذي لم يظل صامتاً الذي هو آخر نبيل مؤدلج رأيته في حياتي – بضرب قاس من كيبل ضخم ، رأيته يسقط للأرض والألم يلون وجهه بالأرجوان ،وعلى وشك أن يطلق أحد السجانين من مسدسه أطلاقة حين قال له ملازم إن الاطلاقة قد تربك السيد الوزير وعاد ذلك السجان يدمدم : وين تروح ..أول وتالي تعدم أمام الجيش أو على ألغام الجبهة .واكتشفت من لهجته بأنه جنوبي قح .
سحلوه من شعر رأسه وفي الخارج سيارات ريم عسكرية تنتظر واقفة صامتة منذ أيام بشبابيك من قضبان ، رأيتهم يعصبون عينيه بخرقة سوداء واليد اليسرى معلقة بجامعة حديدية بتلك القضبان ...
أعتقد أنه يرى العالم أسود وأن كل الأيدي معلقة بقضبان فاستكان بجلسته صامتاً بدون حراك ,يتفحصه الإله المغلف بالأوسمة.
عاد صاحب السجل يكرز بمشيته وينادي بالأسماء ، أسماء المخلوقات، يقلعوننا كما يقلعون الأوراق ...ورقة ...ورقة ..ثم كدسوها في العربات بانتظار أن تمزق لقصاصات في الجبهة تذريها الرياح .
رأيت الجندي الذي ينتظر لا يقبل الرحيل إلا مع كيس لايلون مليء بالقمامة والنصف حي يخرج ماشياً بخطى بطيئة متثاقلة دون أن ينظر بوجوهنا وإنما تنظر عيناه للعربات وسمعت الرجل صاحب العقال يهتف بغتة بسقوط الطاغية وحين جال ببصره على الوجوه وجدها فاقدة الألوان والتعابير ، وجد الصمت الهائل ورأى العيون لا تستقر ثابتة في مكان ، كان للرعب مملكة أخطبوطية ، تخيم الأصابع الأميبية ويصيبنا الخرس ويظل القلب ينبض وينبض حتى كاد أن يخرج من بين الضلوع ، استدار يائساً يغمغم مع نفسه ومسك العقال الذي يزين الرأس وظل يسمطه على فخذه الأيمن بتحد لم يعلن يومه بعد، اليأس ..، ذلك اليأس قد يأتي يوم ويجعل التماثيل البرونزية تنطق أيضاً...
وفوجئت بالرجل الأعمى يزوغ هارباً ، يرتطم بالأجساد ، وجها لوجه ، رأيت ساقيه النحيلتين تحملانه بعظام ناتئة معوجة ، يتعثر بالوحل ويسقط في البركة وحين حاول الجلادان غير المسلحين حمله للخارج تمسك بالوحل حين تأكد له أنه ينحدر وينحدر على سفح هاوية بدون قرار ويهرب الوحل من بين أصابع يديه ، حثي القذارة على جسده والأجساد الجامدة كفزاعات طير، فزاعات أو تماثيل ، سحلاه من قدميه ووجهه يحتك خشنا ً فوق أرضية الأسمنت وحين اصطدمت يداه بالقضبان الحديدية للباب تشبث بتلك الأشياش الغليظة وأرتفع جسده عن الأرضية بعلو ذراع ، سحبه الجلادان بقوة ، تتشنج اليدان على القضبان ، توسل أخير من أجل الإبقاء على الحياة ، بدون أن يعي كانت غريزته ...بل حريته في أن يعيش ..أفرجا ما بين ساقيه ، لم أسمع منه أنّة ألم وكان رأسه أمامي حين هوى جلاد ضخم الجثة بأخمص بندقيته على ذلك الرأس الناتئ بورمه فوق المخيخ ، سمعت صوت تكسر العظام ... حسرة ... أو نفثة ألم وأبتعد صاحب السجل والجلادون وتحركت العربات ، تسلقت القضبان وفي أعماقي رغبة خفية أن أنادي : فوق الأشجار ... فوق الأشجار ..، وتصورت نفسي طيراً مقصوص الجناح ، أهز كتفي بشكل لا إرادي ورأسي يدور ويدور حتى هذا اليوم كرأس طائر يبحث عن أعدائه المختفين في مكامن الأشجار .. الآن ... يجري الماء دائما ً وأبداً نحو الجنوب وثمة مارة على كورنيش العشار يلتقطون صورا ً تذكارية يتربع فيها تمثال السيد الوزير بشموخ ...تلتفت الزوجة لليمين وتارة لليسار ...ثمة رائحة تسكن في الجوار تشبه رائحة الموتى .. الآن ... عرفت لماذا كان برازنا أصابع بيضاً مبتورة وأصواتنا مقطوعة من النصف كثغاء الأغنام ، رأيت الزوجة تضم وليدها الصغير من سوء التغذية إلى أحضانها وعيناها مشنوقتان على عيني التمثال .. تستنطقه ....لا يجيب ...بل غير آبه فألتصق الطفل على صدرها خائفة من مستقبل مظلم ومجهول ..تبتعد قليلاً ..تحاول أن تهرب وتتركني وحيدا مع التمثال غير الآبه بما يجول تحته ..وقد لا يتذكرني ...أي ذنب يفصل الإنسان عن نفسه ؟من ثقب البالونة في أعماقي وجعلني أبوح بالوقائع العجيبة التي تنم عن لوثة ما في عقلي ... أو ...
للمجانين دوائر تحفر الوجوه بفوهات مغفورة ، رئات مقطوعة الأنفاس ، قلب ينبض مجهدا ً بدم فاسد معاد ، كنا قرابين مجوفي العيون لأصنام مزينة بأشرطة حمر ، أردت أن أقول لكِ أن مشاعري لا يمكن التعبير عنها بسبب التوحش ، قتل الإنسان لأخيه الإنسان ، ليس الذي يتحدث هو أنا وإنما مستنقع اللاشعور هو الذي يعترف ، أن عقلي مجرد قطرة من بركة هائلة النجاسة تحوي نجاسات التأريخ كلها .. أرجوك ... لا تبتعدي .. أن تلافيف دماغي تثرثر ...تعيد تجسيد الأحداث ...كالتشابيه في عاشوراء ...أرى كل الوجوه الملتحية التي حجبت عن ذاكرتي في فترة ما ..فورة الذاكرة ..أتسلق القضبان .. أقترب من ضوء كوني ينفذ من أعالي الأشياش ..الباب ...ما أعظم الباب ...( شمس الصيف سجان رقيب على دورته) ، صرختي المقطوعة من النصف تمتد فوق الأشجار ..ألا يكفي هذا لإدانة التمثال .. وأسمع صوتا يهتف : هو ضحية ..دارت به الدورة .. أجبت الصوت وأنا أهز رأسي بثقة : من قال أن يقترب من الملك ...راعي المعزى .. ويعود رأسي مسمرا ً على الأشياش ، إن مأساة البشرية تكمن في تركها الله وحيدا ً في السموات وتبعت خطى راعي المعزى .. لماذا كلما نوغل في السنين يزداد القتل وتتجوف أجسادنا بالفراغ ...كيف نملأ الذوات ، لماذا أبتعدي وجعلتيه يسخر مني ، أردت أن أقول لكِ ...أنا أريد أن أغني بعد أن أصعد على رقبته ، أن يغني معي الجميع .
ياعذابي .. أووووه ..ياعذابي .. أحب سماع العود ..لم أتمكن من العزف عليه ، لم أعثر على الإنسان الذي يعلمني العزف ، لكني أحب العود أعشقه أكثر من منير بشير .. أحب سماع أغاني الزبير والزهيريات وأبو عوف وعوض دوخي وهذا الذي نكأ جراحي بموته .. رياض أحمد .. أنا أعزف فقط على الناي أنه فقير مثلي ، الثقب الذي أغلقته أعود وأفتحه ..النغمة التي ابتدأ بها أنتهي عندها وأعود إليها ..أعني النغمة ... أعني الكلمة .. التاريخ .. وفي كل عودة أكتشف سر النغمة أو الواقع للمرة الأولى ، أعود .. مراراً وتكراراً .. أنا مستعد أن أموت أو أذبح كخروف الأضاحي من أجل أن يبتسم أهل البصرة على الكورنيش أمام هذا الحجر أنا لا أريد شيئا ..فقط ..سوى ابتسامة،على وجوه الأطفال على الأقل..أنا احبك..احبك من أعماق قلبي وانطلقت حنجرتي بالغناء .. راحوا اليردوني وأردهم ..وتحسست أن الزوجة تحاول إغلاق فمي براحتي يديها، قلت لها : والطفل وبدون أن انظر إلى مكانه قلت :أنا أحدثك عن زمن مضى ,ما العيب إذا غنيت وغنى معي الجميع ..نعم .. إن صوتي قبيح مثل صوت ألوز لكنها أغلقت فمي للمرة الثانية ولم استطع الكلام .
نشوة الفرح الآتية من الأكواخ المظلمة لذاكرتي لم تجد لها وطء قدم فانتكستْ ..اليد التي أغلقت فمي أغلقت عيني وجعلتني أعيش مع أشباح الذاكرة ..نتف ذاكرة ، وجوه تضحك ..تصهل ..وجوه أخرى تبكي أو تتألم بل قفزت في رأسي أفكاراً وتارة سطورا لأفكار مكتوبة ..ابتعدت عن الزوجة هربت ثم اكتشفت بالصدفة ، هي التي ابتعدت يجب أن تساعديني في كتابة الرواية لأنك بريئة ولأن المرأة في العراق هي الكائن الوحيد الذي يجيد النظر بما يحسه ويراه , المرأة كائن مهووس بالثرثرة عن غوامض اللاشعور ولأن الكثير من الأشياء التي لا نعود نلاحظها قد تبدو غريبة، روايتي تعتمد على التجربة لأنها المصدر الوحيد للمعرفة البشرية ، أنت تدركين أنني كائن ضعيف ، فقدت نصف أمعائي الدقيقة بإطلاقه كلاشنكوف وأنا هارب في الانتفاضة / أحدب قليلاً كي تلتم البطن على نفسها من ثقل تأريخ أسود ،حدبتي شبيه بحدبة سباهي الذي طارد حماره لأيام ثلاثة بدون نوم لأن الحمار يرفض النوم ولو وقوفا ً في إسطبله الناقع بالروث والرطوبة والديدان فأضطر لإطلاق سراحه في المستنقع ..حدبتي حدبة التقاليد الأعراف ..القتل، أنا أعتقد أن لي تأثير ما ، أنا لا أعرف حجم هذا التأثير ، بالتأكيد لي ذرة تأثير لأني لست مرغما ً أن أعيش تحت جور السلطان ، لا تنفع النذور ، كل شيء لا يأتي صدفة ، الجهود الإنسانية هي التي تجعل العالم أفضل ..
قال شاعر يوناني أسمه لوكريشيوس
سوف ترقد ولن تستيقظ ثانية .. تتخلى عن ألمك الضيق وظلام البصر الموت نوم طويل هي الطبيعة التي تعطي وتأخذ من موتك يولد آخر ..الحياة لا تقتصر عليك أو علي لأنها تمنح للجميع
ولا يملكها أحد
الشعراء بالحكايا الكئيبة الموحشة تثبت صحتها على الأرض وأنت حي ...
ليس في الجحيم
أيتها الزوجة هذا الشاعر كتب كلماته من أجلي أنا المعلق على القضبان من أجل أن أحكي حكايات جحيم السجون ، قلت لكِ قبل قليل الشعر صرخة أخيرة لشعب جبان لكنها صرخة آتية من الأعماق ، من المحتمل من قعر العالم السفلي ، صرخة تهددني بعدم استخدام البندقية ، الرصاصة لا تثقب رؤوس البدو وإنما تثقب الهواء ، الشر المنظم لا يحارب بأطلاقات مبعثرة ..الشر ثمرة جهود تطور العالم اقتصاديا وما الدكتاتور إلا حارس على وشك التقاعد ..الشر المنظم عدو الثقافة المنظمة ...
شعب منفصل عن العالم ، منعزل ، مصاب بكآبة جماعية ، الكآبة في العراق ليست مرضا ، أفترض أن أطلق عليها الوحشة الحضارية ، الوحشة تنغل في الأعماق ونصاب جميعا بالجنون ، الجنون الجنوبي حين نخرج من سجن صغير إلى سجن أكبر يسمى الوطن مغروسا بقضبان حديد على خطوط وهمية وإحداثيات فراغ الخارطة .
داخل الخارطة يوجد الخوف واللاشيء واللانهاية أيها القارئ أنا وأنت سنوجد فقط وسنكتب رواية ، أنا الآن بصدد وضع ملاحظات حول الرواية المقترحة ...
يجب الانتباه أولا أن الحاضر مريض وباللاشعور يعيد إنتاج الطفولة المعوقة أو يوقظ الإعاقة بالطفولة البعيدة قبل أن نشرح الواقع نضع كميات كبيرة من الملح على المداخل والمخارج لقتل الطفيليات ، الطفيليات عدوة الإبداع .
أنا لا أريد أن أتناسى الواقع وإلا كيف أتجاوزه ولكن من الرثاثة أن أرصد التفاصيل ، التفاصيل تحتاج لملايين الصفحات لكني أحتاج من الذاكرة أو الخيال لتعويض الصفحات التي يستحيل كتابتها في هذا الحاضر ، الراهن ، تأكد أيها القارئ أن الثقافة هي التي تخيف السلطة وليس بندقيتي القديمة التي تخطأ الهدف بدون ناظور ، وإذا أخطأت الثقافة هدفها فإن السهم يصيب صاحبه في الرأس ، وتصبح الثقافة وباءً ، حالة تجرثم مثل صواريخ سام في حرب التسعين حين تنطلق تعود لتفجر قاعدتها .
القاعدة الثالثة : هي أن تفكك الواقع الذي بنته الدكتاتورية , نعتبر الواقع لوحة هائلة الحجم نفككها إلى لوحات أصغر مثلما نفكك ماكنة السيارة من أجل أيجاد العطل وهو الخوف لأن النظام يخاف التفكيك حتى لا نصل للمركز المقدس اللانهائي وهو الدكتاتور ، أعني القلب وعندما لا تؤمن بهذا التفكيك لأنك مريض مسبقا وتعتقد أن كل شيء متواصل في الجنوب ولأن الواقع مريض وخائب وميؤوس من تحسنه وتحاول الابتعاد عن التفاصيل التي تخص النساء .. لا ترى إلا عدواً همجياً يقصف بالقنابل أطفالا ً تلعب لعبة الغميضة جيجو ... اغتالوا الطفولة ثم ...لا شيء ..لا شيء ..لا شيء لكل شيء سوى أننا نعمل من أجل نعيش .في هذه اللحظة أترك التأليف ..أترك القراءة أيضا ً ... أنها مأساتي ، أنا العاقل المجنون ...
أنا متأكد ..أيتها الزوجة مهما أحدثك ستموت أفكاري تحت قاعدة هذا التمثال ، حزن هائل يصيبني بالرعشة ، بالفصام ، ينغل في الأعماق غضب لم يجد له متنفساً ، غضب ينمو من نوع آخر ، نوع لم أفهمه ، أنه الأعمى يريد أن أحكي ما عاناه بعد يوم من وفاته ...
أحاول بجهود جبارة الابتعاد عن الأعمى ، حالما أتذكره أصاب بنكد وحزن غامضين ، أحدثك عن اللوطي ، أنا لم أره في يوم القيامة لكن الشيوعي الصامت ، قال لي إنه فتى مسكين أقنعه بعض المهووسين بالشذوذ أن يدعي اللوطية حتى يطرد من جبهة الرجال ، الرجال الجوف سندويشات القتل السريع ..لأول مرة تلتقي عيناي بعينيه ، عينان كبيرتان كمن سرق منه كل شيء دون أن يعرف أين يجد أشياءه أو يجد نفسه ، ما زال ممدا ًعلى ظهره دون أن تُرفع ساقيه على جذع ثور وينكح مثل النساء ، ساقاه ما زالتا عاريتين بلون صقيل أملس وثمة دماء أو صديد يندي أرضية الأسمنت تحت مخرجه ، أسمعه يحمد الله ويبصق على الباب ، الباب الذي خرج منه الرعاع ، شعور بالكره باغتني نحوه لأنه فقد كل شيء والسجن بانتظاره , وشى بجسده كمن وشى على عائلة آمنة هذا الكائن لا أريده أن يدخل روايتي ، نظرت للتمثال العالي وأدركت تصاغري الملح اللجوج وأدركت ثمة طيبة في أعماقه ، لقد رحم بالجميع حين أخذهم للإعدام أو خدعه الدكتاتور ، ليس مهما ً .. أنا ممتن له لأنه يجب أن يسهم في إعدامنا ، بعد أن تفكك العقل وبات لا يفهم معنى الموت نخاف من دوي الصوت أطلاق النار فقط ، رؤية حبال الإعدام ، مثارم اللحم التي يحدثنا الجلادون عنها ، لا نعي ما يحدث بعد ذلك ..أنا أحبك أيها التمثال ، أحطت القاعدة بيدي ، قبلت المرمر وكأني أقبل قدميه ، قد يكون الشيوعي الأعمى هو الوحيد الذي لم يتفكك عقله وهرب بكل الاتجاهات لم يفقد الأمل على الرغم انه لا يرى ,هو الذي يرى .. أنا أعبدك أيها التمثال جعلتني أتسلق باب القضبان كل يوم وارى الأعالي وأصيح فوق الأشجار وابصق على اللوطي وساقيه المرفوعتين للأعلى وبين الحين والآخر يتحسس مخرجه بإصبع مسور بحافة سوداء , أراه ينفرد لأول مرة بحرية عجيبة في محاولة أخيرة لامتلاك جسده , المجانين يهرولون في الجملون السيرك تصحبهم ضحكات مبتورة , أصبت بالهستريا .. فتات الصمون اليابس كالزقوم تدخل من المريء للمعدة. تركت القضبان وجلست القرفصاء حول الأعمى المسجى على حافة البركة , للموت قامة عملاقه الحجم , قامتي وفي كل يوم تقصر بضع مليمترات أمام قامة الموت التي صارت عملاقة , أنا مجرد ظل باهت لقامة الأعمى المرمية بإهمال .
- إلى هنا يكفي
- أنتِ أيتها الزوجة عبر التاريخ لكِ علاقة بالحيوان وليس بالإنسان تارة تشبهين الغزال أو تشّبه عيناك بعيون البقر .. المها .. الله اعلم أي حيوان تشبهين, فلم يقل واحد منهم إن المرأة تشبه الإنسان .. رجاءً .. لاتنزعجي هي مجرد أفكار عن هاجس الإنسان المقموع عبر آلاف السنين ,أتشوق للحرية ,خصوصيتي ككاتب وإنسان .. وارث الأجيال ...
أنا متألم من الأعماق لان العالم الآخر صار مصدر إرهاب للأعمى وليس عزاء لروح الإنسان البائس , أنا الآن أرى في وجهه ملامح الطفل .. ألا تسمو روح الأطفال للجنة منذ الصفحات الأولى أؤكد أن الموت في الحياة ولكن بعد أن توقفت أعضاؤك عن الحركة فمن المستحيل أن تتجاوز روحك البوابات للعالم الآخر انتظرني في كتب أخرى سأبعث جسدك حيا بكامل أجزائه , لست أنا الخالق وإنما الجامع , هل نسيت أنا القرد المعلق على القضبان واعتقد إن اسمي سعيد حاشوش , من أجلك جهدت في تكوين سلوك ذهني جديد ... اصرخ كالمتخلفين عقليا قد يتوقف سيل المارة , السيل الذي لا يوقفه إلّا صوت أطلاقة وقد تجعله يهدر كالثيران ,حين أتوقف أقول بعيّ .. السلام عليكم وبأدب حجم من اجل لا يكون عقلي ملتاث ببعث الحياة في كائن ميت شبع موتا .. نحن معاقبون في هذه الحياة منذ أن اقتلعنا الفيضان في كرمة علي من الجذور .. الهواء .. واصطياد السمك في قرية (أبو حلوة) ,كنت جزء من طبيعة فيها أشجار وماء نهر العسافيه العظيم وفرخه الصغير الخاور، العمل كان نزهة حب في أجواء الطبيعة مجرد هامش صغير على متن الحياة لكني هامش موجود, ومن المحتمل أن اقرأ الآن, مجرد ظل باهت للأعمى أيتها الزوجة سأطرق باب الواقع من باب لم يطرقه احد بعد، باب مهمل لا تراه عين الخنزير لأنه باب جانبي وافلتّ ضحكة يتيمة (دماغي وارث الأجيال عابر كوة الأكوان ) سأحاول إبراز أفضل ما في ذاتي حتى لو كان ضئيلا، الضئيل عظيم في واقع عجائبي لان الضئيل على الأقل متأكد بان هناك بقايا مازالت حية في خلايا الدماغ، العقل دائما يختار الحياة هذا قانون الطبيعة أما أن تلغي العقل بأجمعه وتهرول ذليلا تابعا لإنسان يلبس ربطة عنق زيتونية هذا هو الجنون وتقيم المأتم للحسين (ع) وكأنك متأثر به وتبكي وتظل تبكي وتقنع نفسك هذا ثواب وفي لحظة البكاء تفكر كيف ترضي الأسياد سواء بكتابة تقرير مناسب عن إنسان شريف وإذا لم تجد ماتلفقه ستقدم زوجتك (بطحا) للرفيق, هذا هو الجنون العراقي ,وأنا فخور بدماغي الذي جعلني اصنع من نجاسة البركة قطع شطرنج لعبنا فيها ساعات وساعات أنا والشاعر، اهزمه ويهزمني وفي كل جولة نفكر بوضوح أفضل على الرغم من جثة الأعمى المستلقية بصمت والياتنا المشعرة التي تشبه عجزة قرود جائعة ، لم يعرنا أحد اهتماما ً ولا حتى تساؤل فصار العري جزء من تكويننا العقلي الشطرنجي ...
لست مجنونا ً وإنما لكي أطلق العنان لقواي الكامنة ,أحاول التفرد والابتعاد عن القطيع قال عني بعض المتأدلجين المسيسين كالأغنام بأني فوضوي ولكن صدقيني أن الفوضى توقظ عقول الخائفين كالخراف من عواء ذئب بعيد وقد يكون العواء وهماً..
وجدت الناس بعد فشل الانتفاضة لا تثير عقولهم إلا عجيزة أنثى أما ضحكهم ، بكائهم يشبه ثغاء الخراف على الرغم من حبي للمضطهدين لكن الصوت الآتي من الأعماق يرجني ..يهزني ، التأريخ إعصار بدوي وأنا مهجور في صحراء قاحلة ، صحراء لا تبدأ بشجرة أو تنتهي بعاقولة ، أنا وحيد ...
التف معك في بطانية واحدة وأشعر بالوحدة أيضا ً ، لا تقولي بأني أفكر بهموم البشرية والفلسفة اليونانية والعربية وأتناسى وجودك كامرأة ,أنت تقولين أن لها احتياجات ...هم اعتقدوا - أخصائيو التعذيب – بأني وصلت للجنون ، لدغات الكهرباء وتلك الإبرة التي تجعلني أنام حالما ً بعالم جميل ، أركض وأركض على رمال أرض مفتوحة ، في الصحراء في الأهوار أحس أن العالم أجمل وكلما أرى الأرض تمتد أو المياه تمتد أحس أن الله فيها ، الخوف وحده يحول الإنسان إلى جرذ يبحث عن حجر يختبئ به ، أنت حرة معي في قفص وهمي اسمه الزوجية ، حرة بين أربعة جدران اليوم الذي تكرهيني فيه أو أن الحياة القصيرة لا يمكن أن تعيشيها معي أضربي الجدران برأسك وأطيحي بجراثيم الأجداد ، في صدق الإنسان تكمن الحياة ، سأعطيك كل شيء وهكذا نفترق ، هم يقولون نفترق , نتطلق ، هم يقولون أن هذا القبق يجب أن يطبق على القدر والقدر يجب أن يستقبل غلقه وتعمل آلات الطبخ والتسليك خلال الحياة القصيرة ، أنا وأنت لا نحمل مطارق البدو ,نفترق مثلما التقينا بدون خيانة لاتفاق ما ...، أنا أعرف بأنك ستقولين بل أن عينيك لا تكفان من البحلقة ، بأني أخوط في قدر الواقع بجفجير عظيم ، في القرية تسمينه ( المس ) وأبي يسميه المحراث ، أخوط في الرماد ، في مرق الواقع ، تارة يطفو الصامت ، وتارة يطفو الشاعر لكني أتوقف عند الأعمى لأني انتشلت قلبه الصغير من الضياع ووضعته في جيبي ، ولأن رائحة الموتى تتشبث بجسدي فلا أحد يميز اللحمة الجاسئة المتعفنة ، الشاعر يرى بعض اليساريع ، أنا لا أعرف أين اختفى قلبه .
أنا لست غريبا ً عنك ، لا ... لا... أنا غريب حتى لو كنا ملتفين ببطانية واحدة أنا أدرك سر الغربة ، جعلوني كالحيوان الذي لا يفهم أن الوطن مجرد خارطة على ورق, تائه أبحث عن أرض المراعي والكلأ ، الحيوان دائما ً يرى الحرية أمامه إذا لم يكن هناك ذئب يعوي .
- حياة لست أنا الخائف الذي يرسم الابتسامة كمن يضحك على نفسه ، الإنسان الجنوبي مبرمج على الخوف لكثر ما قتلوا وسجنوا وحرموا لقمة الزاد من أن تصل للبلعوم ...ليس الآن وإنما يزاح الخوف على التخويف... في فترة ما أخاف أن أحلم ...
انظري للمارة ، للجالسين ، اللغة خافتة ، الأيدي ترسم إيماءات أكثر من أفواه تفتح تحدق كل الوجوه في شط العرب ، تحاول التهام جمال مفقود ، لا ترمي جثتي في الشط لأنه عجوز نتن ترغي شيباته بالمجاري ، التمثال آلهة المجاري ، يتغذى بمسبار الرجل النصف ويغلق أذنيه عن سماع الركام البشري الذي يثغو .
كل الوجوه ترحل من سجن إلى سجن ومن حرمان إلى آخر ، أنا أرفض أن أحشر مع القتلة في يوم القيامة سواء ذهبت للجنة أو للنار ...الله يحبني ,لكل منا مهديه الخاص ، أرفض أن أعيش في الماضي لقهر المستقبل الأسود .
ليس مهما ً أن أقتل عدوي.. المهم عندي أن أحارب وأن أحتفظ بعدة الحرب ، بندقية صدئة بل قلم الخوف وحده هو الذي يحول الإنسان إلى جرذ يبحث عن جحر يختبئ به ، أرض الله مفتوحة ، لا تحدها شجرة ، من يرضخ وحده يتناول مخدرات الأنظمة ، حتى هذه اللحظة كل الذي بحت به غير مهم ، أهميته الصغيرة تكمن بالكشف عن اعتراف مجتمع يخاف الاعتراف تحت ثقل كبرياء العربي الفارغة ، التستر على الهزيمة ، كل اعتراف يكتب بشكل قصصي هو حرب وتعرية للسلطة ، كل اعتراف عار من البسة كونكريتية زيتونية .
ما قيمة ثرثرتي أمام الشفة المعضوضة بأسنان صفر ، الأعمى الذي قضم شفته السفلى ، على ما يبدو ...مات من هول الظلم والوضاعة ، نادما ً على حياة يتمنى لو لم يعشها أبدا ً ، كان يأمل وبقوة جنونية أن يرى بناته الصغيرات ، أنا لا أحدثك عن موتى رأيتهم يفغرون الأفواه , يزمون الشفة العليا وتكشر الأسنان ويتحول الوجه الآدمي إلى وجه آخر هو وجه الموت ..لم أحدثك عن الكردي النصف الذي ظل ينتظر موته بفارغ صبر وعن أبي الحكواتي الذي يعتقد أنه يفهم كل الناس حين يقص حكاياته لكنه لم يحاول أبدا ً فهم نفسه .
-الله يرحم عمي ..أترك الموتى تنام ..حرام
-أنا أحب أبي ، هو الذي جعلني أثرثر وأحب الحكايات لكني أختلف عنه ، الحاضر بالنسبة لي مجرد ماضٍ يتكرر بشكل آخر ، الحاضر سر جاثٍ تحت الأضلاع والمستقبل غامض ومخيف ، أتمنى لو لم يلد عبد الباقي ، الرغبة الملحة أن أعيد الأعمى للحياة لأني لم أتمكن من تفريغ الاضطهاد ، سوف أنقلك أيضاً من هذا الواقع الذي لا يكف من إنتاج طفولة معوقة إلى بطن الرواية التي سأكتبها .. الهي ....كيف أجعلك تعيشين معي في الرواية ، الإنسان كومة أسرار بائسة ، جبال من الأسرار ، كل الكتابات لا تستطيع أن تنقل أنساناً واحدا ًوتجعله في عالم آخر ,أنا الوحيد الذي تلح عليه الرغبة في إعادة الحياة ثانية ، لأن الكون ما زال في طور التكوين ولو أنه في الكهولة حيث لا أرقص أبداً رقصة الموت وأنساق مع القطيع عنوة للضياع والتلاشي ، الذي يبحث عن المعنى الحقيقي للحياة لا يموت ، خلاف ما طرحته أفكار السماء وفلسفات الأرض ومع الأسف لم أعثر بعد على هذا المعنى ...أعني معنى الوجود أن أكون سيد الأرض وأن الله أكرمني بروح منه ويجب أن أكون حرا ً وكائن له كرامة ، ليس مجرد قرد يرتجف من الموت مثلما يقشعر طائر من عيني قطة .
صرخت بصوت أجفل الزوجة والتمثال وأوقف بعض المارة ، أنا الجامع لست الخالق ، الخالق في السموات ، أنا الإنسان الجامع لحيوات البشر ، تحسست ذاتي تتطاول ، بل رأيت التمثال على مبعدة بضعة أصابع واكتشفت أن رأسي يعلو على الرأس الحجري القبيح ببضعة سنتمترات وتصاغرت الزوجة إلى كائن يحتضن دمية صغيرة لفت بأقمشة ملونة ، الكائنات تدب على الكورنيش كالنمل ، كل شيء هلامي صغير ، ذاتي تنطلق بالحكمة : لم يتحوا للإنسان فرصة أن يتأمل ، لم يكن هناك اختيار وإنما جعلونا نمشي على قوائم أربعة إلى نهايتنا ...
- سعيد ..حبوبي ..إذا لم تسكت أنا راحلة لبيت أهلي ، ألعن اليوم الذي تزوجتك فيه.
صمت ...يتمدد الصمت ...يتحدث بوشوشات زبد الماء الذي يشفط القبلات من صخور الجرف ، نعقة طائر أبلق ينقض على سمكة بسقوط عامودي ، تشق الماء شختورة بمثلث متساوي الساقين مخلفة موجة تصفق الضفة بلا حنين ، صوت المحركات يشلّ الأذان من سماع أنين الكائنات ، الريح دبقة ، ناولتني الزوجة كوب ماء وتحسست العرق الغزير يلزق ملابسي بالجسد النحيف ، تجشأ الماء بزفرة كريهة ...يدي اليمنى تنزلق على جسد الأعمى كمن تمسك صابونة منقوعة بالماء والرائحة المثابرة على نتانة وتفسخ ، يداي تزلقان والرائحة وفوهة فوق القلب منزوعة اللحم عن عظام بيض معوجة كأعساق الطلع ، أضلع حمل صغير وثمة ظلام في جوف الفتحة وخطوط سود على الجلدة اليابسة ، ثقوب سود عديدة لم تبصق قطرة دم واحدة ، من الأفضل أن أقول تمج أو تنبثق قطرة دم لكن البصاق قرين الموتى السجناء ، لسعات كهرباء ، حفر دريل محمر ...أو ....أو ...كمن يثقب جلدة بجمرة سيجارة ، جذوات عديدة لم تخلف ثقوباً ، وحين قلبت الجثة بعد جهد ، بياض الجثة الناصع يثير في قلبي براءة الطفولة لكن قلبي من حديد حتى الحديد يذوب من حرارة البراءة لكن الذي ينبض بين أضلعي لم يذب، مغلف بالبلادة وفقدان الإحساس على الرغم من البياض الذي يرش الجلدة ببودرة عجائبية ، أتعتقدين أن سمرة جسدي النحيف تؤكد انتمائي الطبقي ، لم ألتقِ بغني له سمرة ونحافة ، أجسادنا تستهلك نجاسات أخلاق السلطة ، رجال السلطة لا يصعدون للسماء مثلي الم يقل المسيح ذلك ( أن دخول جمل في ثقب إبرة أيسر من صعود غني لملكوت السموات ) ....
-الله أكبر ...نحن أسلام.. يا مسيح ..يا صابئة
- ألم يقل سبحانه في القرآن الكريم ( إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها أن يفسدوا فيها ففسدوا ) سواء أمرنا أو أمرّنا فإن الله يعني رجال السلطة الذين هم لصوص قوت الشعب ..في السجن نريد السلطة ونجبر الآلهة بعد الموت أن تدخلنا الجنة ...نحن الذين لم نأكل لقمة زاد قتلونا ببشاعة ...صدقيني في ليلة ما وأنت نائمة جاءني رجل ملتح بشيبة بيضاء ناصعة كالثلج وقال لي : كن ذاتك يا سعيد وأن الله نفخ فيك ( بعض من روحه ) ...هو يعني أن روح الله نفخت في الحيوان والنبات وإلا لماذا تعود إليه طاهرة ...أنا المرشح أن أمسك هذه الروح وأعتلي بها وأصعد عالياً ، أعلى من التمثال ... من المحتمل أن أكون وثنا ً أو ربا صغيرا مفوضا من أجل الذين سحقتهم ماكنة النظام ...ما الضير إذا صنعت لي تمثالاً أعلى من هذا الأفنس ، أعني تمثالاً في الواقع الحقيقي ، أعني خيالي... واقف جنبه ، بل هو الذي يمسح حذائي المتهرئ هذا ..عندما أقول لكِ شيئا ً صدقيني في الحال ، سر التصديق هو الإيمان لأنك اجتزتِ الشك ووصلتِ لليقين وتباحثنا في مسألة عين اليقين وأنا الآن أجسد الروح الكلية للمعذبين على الأرض لكني لا أعرف لماذا صارت جثة الأعمى أثقل بعد الموت... من المحتمل أن الأرض لا تريد ترك وليدها الصغير ، بعد جهد قلبت الجثة ، خدر الشلل يكتنف يدي ، اقتحمت عالما ً مخيفاً ، عالم الأموات ، اليدان معقوفتان بيأس على الصدر واعوجت القدمان على جهة واحدة ، تخشب عضلي جعل الرأس يهتز بمرارة مع الساقين ، لم تكن هناك ثقوب على الظهر إلا ثقبا صغيرا بلون وردي لإطلاقة كلاشنكوف ، شلت يداي وارتجفت شفتي حين أندلق الدماغ من المخيخ بسائل شفاف شبيه ببلغم أصفر ، أين الدماء ؟...
خيط يتيم يشبه الدماء على اليد اليسرى وثمة انتفاخ في الرقبة كمصاب بالنكاف, كنفت أردان القميص فوق عكس الساعد ، لم أعثر على عضلة ...أوتار متيبسة بلون الأرجوان وثمة عضلة نافرة بلون الشاي ، الشرايين نافرة كأمعاء نحيفة مجوفة ...حيّات صغيرة بدون أحشاء ، هناك عظمة شديدة البياض ، احتضنت الجثة ، سورة تنبثق من الثقب ، تلون الأرض بلون أسود، الدموع انبثقت من عيني وانسابت تملح شفتيّ اليابستين ، قطع متناثرة بلون أسود وثمة رمانة سوداء ابتعدت منفردة ، لا أعرف أي عضو هذا ، لم أستوعب أن قلب الإنسان بهذا الصغر ، قال الأعمى وما زالت شفته السفلى معضوضة بشدة أكبر ، هذا هو قلبي ، هو أصغر مما تظن ، أنا مندهش كيف يخرج الصوت للعالم وبأسنانه يعض الشفة السفلى ، يهرب القلب وحيداً بحجم عصفور ، احتضنت الأعمى ، عصرته إلى أضلعي فأصبحنا جثة واحدة تثير البؤس حتى في أعماق ذئب ، قلت للأعمى أنت ميت لا يحق لكَ الكلام ...أنا الناطق الإعلامي عن كل الموتى ، صمت الأعمى ولاذ بهاوية سحيقة من الصمت وامتزجنا كجرذين مخبئين بالوحشة والأسرار ، تكومت أسرارنا ...سر فوق سر ...ألم فوق الم ولو رأيتي ما نخفيه لكان بعلو جبل ، لا أعرف كيف أمتزج جسدي بالجثة وأصبحنا كائناً واحداً ، عيناي وحدهما منسيتان على القلب ورأسي ينزف بأفكار شتى ، ذكريات غريبة وعجيبة ، يضخ الرأس جنونا ً لا أفقه عنه شيئا ً ، لم يتوقف العقل عند نقطة صفر واحدة أو أشارة مرور بل تاه في مفترق طرق الظلام ، الظلام يخيم على الأصقاع الموحشة ، الصمت في أصقاع موحشة هذا أسم قصة نشرتها في الطليعة وضاعت ... هل فقدت نظري أم رحت في غيبوبة أم غفوت ...لا أدري ...كل الذي أعرفه أن الأفكار لم تكن حقيقية إلا إذا وجدت لها تطبيقاً في الواقع ، أنا متأكد أن جمجمة الأعمى الآن تؤلمها الشمس وفتتها التراب وفي الحالتين تبكي ألم الوحشة والمتاهة ...الهوة السحيقة بدون قرار ...لا أريد أن أتناقش معك ..النقاش ثرثرة ، لغو يخفي حقيقة الكائن ، كل ثرثرة يتقيأها النفاق ، الصمت وحده يحمل الحقيقة ، الصمت والظلام ، الذي سمعته في تلك الظلمة هو كلام الشيوعي الصامت حين قال لرجل الدعوة في ليلة ما : المهدي هو بؤرة ضوء بعيدة ...فنار بعيد نسري إليه كي لا نتيه في الطريق ، حبنا للعدالة ، ضمير الإنسان الذي يلمع في البعيد ، علينا أن نحارب الظلم كي نصل لنقطة الضوء أنا وأنت وكل المظلومين، هو المهدي حين نثور ، حتى لو كنا شهداء كالسيد الصدر أو صابئة كفهد العظيم أو سلام عادل ومن المحتمل أن يكون السيد الحكيم الذي كون له قوة ضد الطغيان وبعد صمت قال الصامت أن مرحلة الشيوعية هي المهدي لنا إلا ترى أننا نريد الاتجاه إليها ونحاول أن نعبد الطرق بالوصول مهما كان الثمن تارة ديمقراطية وتارة اشتراكية ...المهدي في كل الديانات حتى لو كانت وثنية ...أعرف ذلك من الفلسفة اليونانية .
- قال رجل الدعوة :
- سيظهر عجل الله فرجه ..سيرانا يوما ً ونراه بعد أن تملأ الأرض ظلماً وجوراً
- أنت ترى الظلم في العراق فتعتقد أن الظلم في كل مكان
قال رجل الدعوة بأدب جم :
- وهل تعتقد أن بلدان الاشتراكية ليس فيها ظلما ً ، نحن متفقون أن السيد الصدر في كتاب اقتصادنا أثبت أن الظلم في الرأسمالية ولكن ...
- أنا أعتقد أن الاشتراكية هي الطريق الأفضل للعدالة ، لا يوجد طريق ثالث ، ولأن النقيض يولد نقيضه ، ما دام هناك ظلم أذن هناك ثورة ، ما الذي جمعنا هنا أذن ؟
قلت بدون أن يسألني أحد عن رأيي :
- هو ( ع ) نقطة ضوء وقد يتجسد برجل ، وإذا لم يوجد هذا الرجل نحن نصنعه لأن الظلم ينجب رجالا ً تتبعهم الناس دائما ً مثل صاحب الزنج وزيد بن علي...
قال الصامت
- أنت كالغراب ...يحجل ويمشي ...من أية ملّة أنت ؟
- لا أدري ....أنا لا أضع الأجوبة في جيب البنطلون ، صرت شيوعيا ً بعد أن تأثرت بأبي ذر الغفاري والحسين .
- أنت ثرثار
- وأنت رجل آلي ، كمبيوتر يهذي
وكالعادة نطحني الصامت بجبهته العريضة وتشنجت يداي بشعر رأسه الطويل لكن الجبهة لا تكّل من نطحي على الأنف الذي سالت دماؤه حارة وزفرة على الشفة التي كانت مرتع لشاربين عظيمين .
أتوه في متاهات الوحشة ، ينفثأ ألم الضرس المعذب لدرجة الملل ، أنتبه للمجانين الملتصقتين بالحائط الأسمنتي، في الذاكرة يصرخ ذئب ..يعوي ..زاوية ..زاوية ، تماثيل من لحم ودم ، العيون متحجرة على الجثة المتكورة بين صدري والساقين ، قلبي يلبط ..يمور يقفز بين الضلوع ، هبت رياح اللامعقول في دماغي ، اللامعقول في سخيم الجملون يصير معقولاً ما دامت بركة النجاسة مركز العالم ، وبين اللحظة والأخرى أنشغ بنشغة مكتومة ، حسرة سجينة ، الإنسان هو الكائن الوحيد غير المرغم على العيش بحياة غير مقبولة ، حياة انتزعت اللذة منها ، لذة التحرر من الخوف والموت والصعود إلى عالم أسمى ..أبداً ...لا أستطيع التفكير وأنا أرزح تحت ثقل الخوف ..القهر ...أنا لا أكترث بالموت لأني حي موجود وأتنفس ، أنا الوحيد الذي يحق لي أن أقول أنا .. لأني أجسد الحق ، أنا أكترث حين يقترب الإعدام ويفزعني دوي أطلاق النار
( الله والطبيعة لا يفعلان شيئاً بدون تخطيط )
لابد أن هناك ثمة أهمية لموت الأعمى ، له حيز في الخطة الكونية ، هوس ...لكن موته ...هذه الميتة على بالوعة النجاسة ليس عبثاً ، قد يضيء الموت لي غياب لإحساس ، أعادتي للحياة .
الطاغية المتجرثم بالأجداد الذي لا يكل من شن الحروب هو الذي نفاه من العالم , لم يجعله يكمل دوره الثانوي الصغير أو البديل التافه في الحياة أنت تموت كي يعيش الانتهازيون ويجأروا بصوت غليظ نحن المناضلون، الحياة أيضا ليست ملكي ليست ملكك وإنما نحن ممثلون وما أن تنتهي المهزلة حتى نطرد بقسوة وهم يتقاسمون الأرباح والكرامة أنا وأنت اعتقد مزجنا معا ..أصبنا بوباء السأم من الحياة وفي الوقت ذاته لم يأتنا الموت , أنت تنتظر أن ترى أطفالك وأنا لا اعرف ماذا أريد، نحن أجساد فاقدة الفن ,آلات مكشرة بأسنان صفر ووجوه ممصوعة من الجوع وأنت حين صرت جثة أتمنى أن اتفسخ معك لنجسد حالة الخصاء الإنساني وتوقه للحرية نحن ننازع الخالق في الأبدية والجمال والسمو، أنت أسير جسد منهك من الجوع فلماذا تريد الأسر في قبر موحش كي يجدك منكر ونكير وبدون تعب وكأنك سجين في زنزانة .. الله نفخ فيك الروح والآن عادت بكل بساطة للكون ,لا اعرف بالضبط أين المشكلة (لا أجد حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها ) هكذا قال الله لأيوب ،الله خلقنا لنعيش ونتسيد الأرض مثل كل متسلط لا أن نسقط ضحية لموت مجاني وبالجملة, الجنة والخلود هي الطفولة لان الطفل لايفهم معنى الموت والاضطهاد النفسي ,الإنسان آلة قبيحة تسحق كل شيء حتى أخيه الإنسان مع العلم إن جدنا نبي وهو ادم . أنا لم أتحول بعد إلى كائن يهذي عن الموت والحياة وإنما أريد أن أضع هذه الملاحظة قبل كتابة الرواية : إن الإنسان يعتقد بأنه سيد الأرض بينما هو المدمر انه آلة قتل , الذئب اشرف منه . الضربان رائحته أفضل لأنها ضمن خطة وهدف . يجب أن لا ننسى حين أخذونا لتفجير الألغام كنا كائنات منتوفة الريش ومسلوقة بماء حار ولا نسمع إلا صوت المقص في عمق سيارة الريم التي بلون الحذاء بعد كتابة الرواية يجب أن ننتسب لعصابة أو حزب ما لان التكوين الانثروبولوجي لإنسان الجنوب تكوينا مكوّنا على جماعات حتى لو كانت عصبة أفكار, جماعة شعر أو قصة وإلا لا يقرأ احد لك , لا احد يفهم الواقع والإبداع, أنت تخوط في الواقع ليس أكثر... تذكر كنت حائرا بين الأجساد تدب في الجملون , حركة مثابرة على المشي كسرب نحل يدور في متاهة العبث, الدورة الأزلية حول البركة وحين ينفثا الم الضرس تسقط في الوحشة أبو حزب الدعوة يقول إذا تناسيت إنسانيتك والخالق تصبح مخبولا والصامت يقول إذا لم تتصرف بإنسانية فانك مخبول بلباس زيتوني ..
الأعمى يقول : ماهذه الورطة هم ذهبوا لموسكو وأنا سلموني للنظام .. أريد أطفالي وأنا أقول إن اللامبالاة فلسفة عظيمة تعلمتها من السهروردي اذا غاب الله فان الصدفة أبونا ولا يتغير هذا العالم إلا متى ما نقاتل من اجله طالما أنا حي فان الموت غير موجود وحين يحل ببساطة نحن غير موجودين أو نعلق لافتة تقول( مغلق) إذا كان الموت يعني غياب الإحساس لكن المشكلة أنا حي إذن هناك إحساس ما ....
( اللامبالاة تعني إني جزء من طبيعة )
(الانتظام بالنسبة لابيقور فوضيا)
موت الأعمى يعني ميلاد ثائر جديد انه النظام الكوني للأشياء , اكتشفت الآن إن غبائي أو داء الثول الذي أصابني هو ضرب من اللامبالاة السلام العقلي, هو جمود الحس واللامبالاة أمام الخطر ,إنه هدف عظيم يفوق قدراتي كانسان تحت التعذيب من لايملك إرادة الموت لايملك إرادة الحياة ,الموت ليس نهاية للجثث إنما هو انتقال النفس سجينة هذا المقر المظلم الكئيب الذي هو جسد الإنسان.. أمي استعدت شهور تسعة كي تقذفني لهذا العالم دون أن تأخذ رأي لأني ارفض الحياة إذا كانت غير مقبولة ..
- أنت شارب عرق !
- لا والله أنا لا اشرب عرق
كل الناس بالشعور يخافون القبر, شبح العالم السفلي انا دفنت مرة في مقبرة الحسن البصري جنب السياب لأني كسرت دماغ سباهي بدلا من يده دفنني الشاعر البحار مع الموتى .... القبور ، الدود هو الذي يمور بالحركة ويعلن عن حياة أخرى هذا الدود ينساب الآن فوق شبح العالم الفوقي ، لا تثير الرائحة العطنة اضطرابا ً في عقلي ، لأني أشمها ولأن الكل أموات ، أحتضنك أيها الأعمى لأنك بدون قلب وأغور في تجليات أعمق أعماق نفسي ، الهي ...كل سكان الكوكب لهم أصل واحد وبالتأكيد لنا مصير واحد ، في الجملون فزاعات تخيف الحياة وحين أنظر في الوجوه المشعرة تدب حركة خفية ملاصقة للحائط ، السرب يدور في متاهة , لم يقترب مني أي مجنون ، لم يساعدني أحد في رفعه لثقله العجيب والتصاقه بالأرض وحين خفت النداءات المجهولة ، مات الصدى ، الكائن بقائمين يتغوط على الأسمنت وفي بعض الأحيان وقوفا ً ، ثمة صمت مقدس ، قد يكون الموت سيدا ً للصمت ، كل الكائنات تقدسه ، الحيوانات بلا مبالاة ...المجانين ببلادة أحساس ، مجانين الجنوب المبرمجين على الخوف ، كيف أزيح الخوف إذا لم أمسح ملفات التأريخ كلها ، أقتلعها وأعيد الكتابة على الأدمغة من جديد ، نحن أبناء روبوت عظيم ، يجب تدمير هذا الجهاز أو الأقل رضّ شاشته .
أنت ِ تعرفين الأحزاب ، كمبيوترات تهذي ، حين كنت في التنظيم ، تنظيم قاعدته الأناقة إذا كنت مثقفاً ، أنا الوحيد الذي تتثبت به الوساخة لأني لا أستطيع الاغتسال في ذلك البرد بل وفي البيت لا يوجد حمام ، هو مرافق وحمام من بواري القصب ، أكره كل من يتأنق مثل داندي ، حين يحكّ الإنسان جلدته بليفة خشنة أكثر من مرة في الشتاء فاعرفي أن الوساخة في الأعماق ,مثلما كنت أستحم بجنون قبل زواجنا لأني أشم رائحة الموتى تلتصق بالأحياء لأن جزءاً ما من تكويننا ميتاً ..متفسخا ً,ماتت الرائحة فيما بعد لاغتسالي بالشب والبخور والأعشاب ..سألت الأعمى كيف تزلق جسدك بين الأجساد قال لي : مثل سمكة المزلق ، تعلمت أن أعود للنقطة التي أنطلق منها ، أنزلق على أجساد غريبة وبعد جهد وأستكشاف أصطدم بالحائط الأسمنتي ، أنطلق من جدران وأصدم بجدران والكل موتى لأنك لا تزلق بين الأحياء ، فكرت مع أناي التي تملأ البدن ، نحن نبصر لكن القلب أعمى ، وبدون صراخ تنضغط الناس على جدران لم يروها وثمة من يصرخ في الأثير ...زاوية ..زاوية ...نغور بين الأجساد ونصطدم بالجدران ..جدران ..جدران, ظلام الجنوب يجعل الجدران جداراً واحداً ، روايتي التي سوف أكتبها سأجعلها تعود لنفس النقطة التي انطلقت منها ...بدون أحساس بالتطور أو التغير ..ولماذا رواية ..الفن التشكيلي أفضل معبر عن النفس الإنسانية .
أرسمي دوامة أو مخروط إعصار واجعلي مني كائناً صغيراً يغور ويغور إلى أسفل قعر الدوامة ، حين يفقد السجين قواه تمتصه قوة ما للأسفل أجعلي للدوامة ألوانا حمرا وسودا صارخة .
أو ذلك التخطيط الذي وضعته من أجل نشر روايتي الواقع العجائبي
إنسان نحيف يلبس بزة أنيقة ويواجه زاوية سجن على يسارها قضبان واجعليه بدون رأس لأن النظام جعلنا بدون أدمغة في الواقع .
- أما مجنون أو شارب عرق ...حظي الأغبر ..
- أنت السبب : لماذا حرقتي الأوراق وقطع الكارتون التي كنت أكتبها حين كنت اعمل في المزارع ..أطير الزرازير
- الله أكبر ..هل كفرت ..فيها عيب. حطب للتنور في الانتفاضة ، هذا قبل أن نعمل في المزارع ألا تشعر بالعيب حين تكتب عني ما يسيء ..من دون الناس تطبل على التنكة وأصابك الطرش ..بذمتك هل هذه مهنة؟
- المشكلة أني أصمم على الكتابة على الأقل لأعرف من أنا ، سأنطلق من الظلام ,الظلام يزيل البدايات ، سأبدأ من سهام وحمار سباهي وبقرتنا الحمراء الرائعة واللاجئات الفلسطينيات والغجر والريسز الذي تحول إلى معسكر وسجن وأول أطلاقة جاءت من الغجر الذي تحول مخيمهم إلى معمل دواجن وبعد ذلك مخزن لدبابات الحرس الجمهوري الذي حافظت عليه الطائرات الأمريكية من القصف كي يقتلوا سباهي ...
- ترضى ..تزعل ...أنا ذاهبة لبيت أهلي !
- فقط أحدثك عن قلب الأعمى الذي وضعته في جيبي قبل أن يسحلوا الجثة لكن القلب تعفن بيساريع بيض تنساب بانتفاخ ينمو في الذيل ثم يسري ببدن اليسروع حتى الرأس وهكذا يدفع اليسروع جسده بهمة ونشاط وكالعادة ضربني عقيل بلكمة على وجهي وأخذ القلب ورماه في وسط بركة النجاسة ..ثم تبرز مثلي على الأسمنت وتحدثنا عن السياب والبياتي .
يهلل المجانين بغتة ,يلتصقون بحائط الاسمنت ,أصيخ السمع.. لا ذئب يعوي ...زاوية....زاوية ...يخيم على الجملون خرس هائل ...العيون المرمدة تتخاطف النظر ...كل العيون في لحظة ما تشنجت بوجهي ,ترقبني بصمت مريب, تلتقط النظرات يدي اليمنى وهي تخطف قلب الأعمى وتضعه في جيبي من المحتمل إن المجنون يدرك سرّ الموت ,احتمال مقبول ,إن الكل يرضخ لقدسية الموت ,قد يعني لهم توقف الإنسان عن المشي والصراخ ...نادى احد المختطفين بفروة عكشة : فوق الأشجار ...ووجدت نفسي اصرخ بصوت أجش ...فوق الأشجار.. الكائنات بنيران مختلفة وبدون إيقاع ,بعض المنغولين التي تصحبهم الأخت القبيحة اودن من المفروض أن ينادوا السماء : فوق الأشجار.. لكن الحنجرة تخرج للعالم صرخة غامضة غير مهضومة , وحده كان عقيل سيد زيارة يكشف عن عانة مشعرة وجسد قصير كحيوان الضب ينظر بوجهي صامتا ...أنا الآخر أعاني من القبض واتفقنا_أنا والشاعر _ إن اللبن الحامض هو الذي يسبب الحبسة ويجعل البراز أصابع بيض مبتورة ...تحدثنا عن السياب وسعدي يوسف والبريكان.. مرت ساعات ...أيام ...تحدثنا عن الفلسفة اليونانية ,دون ماء أو غذاء .. أريد أن اكتشف نفسي لماذا لم امرض أو أصاب بالجنون؟ لماذا لم أفكر بقتل جلاد أو رجل امن أو حتى جندي قوات خاصة؟ أو ....صدقيني أنا إلاه لا اقتل نملة لأني اسأل نفسي دوما أنا لست صانعها ...من أعطاني الحق بإزاحتها عن سطح الكوكب ...بعد أيام أربعة اقتحمنا الجلادون بالهراوات واقتادونا إلى سيارات ريم عسكرية ويمسكون بنا من يافوخ الكرة التي نحملها ...بعض الرؤوس لها لون وردي ...أخرى بلون البرص الأبيض واندهشنا لابيضاض الشعر من الصئبان..لكن قمل السجون ما أن تربت عليه بإصبعك بحكة خفيفة سرعان ما يتلاشى ....اضحك بصوت عال ...كل السجناء يمسكون أكواخ ذاكرتي بدون حمامات أو أفرشة تحت دفء الأوردة وفي بعض الأحيان يقفون على شرايين من مخاط مئات الآلاف يسكنون في الظلام الأسفل لأرضية الدماغ.
اعتقد إني إنسان ...لان الإنسانية التي انتمي إليها تضمني ومن المحتمل أنا العاقل الوحيد آو المجنون قليلا لكني في كل الأحوال أقف على قائمين مثل بني البشر ,واضحك بمرارة لان الفقراء لم يجدوا مكانا أفضل من أكواخ ذاكرتي .
الظلام نكسة في النظر ,الوعي,وكل نكسة يجب أن نعلقها برقبة إنسان يذبح كأضحية ويجب أن نحمل السلاح كي يمكننا النظر للإمام ,المستقبل بعيد بدون إطلاق رصاص مذنب يؤكد ويحدد الهدف...
أنا لا أطلق النار لأني لم اعش مثل القوس ليس له هدف سوى أن يطلق سهام الموت.
الموت حدث طبيعي ,مجرد صراع بين الأضداد ,بين الوجود والعدم ,العدم بالنسبة لي ليس الفناء وإنما فقدان الحرية.
ومن المستحيل اختفائي من العالم والغريب في الأمر أنا لا أخاف العودة إلى ذرات متطايرة أو مومياء تحنط في متحف ,الجلاد وحده يخاف الموت ...
الموت حد أو نهاية لكننا نفكر ما بعد النهاية والمفروض أن نفكر ما نفعل بالبداية واعني الحياة...
كل ثرثرة عن الحرية ليس لها معنى إلا إذا كانت الحياة الحقيقية...
أنتِ تعتقدين إن الموت حرية أي يتحرر العبد من آثام الحياة ويلاقي ربه وأنا أؤكد لك لا توجد حرية إلا بعيدا عن الموت.
جدنا ادم تحول الى انسان قابل للموت بسبب حريته في ارتكاب الخطيئة الموت والحرية عدوان لدودان.
كل وجود يميل بطبعه للفناء وكل حياة يكمن الموت فيها.
أقول لكِ الحق :نحن لم ننضج كفاية كي ندرك الموت لاننا لم نتخلص تماما من الحيوان ....
حين ينضج الإنسان يصبح الموت مشكلة رهيبة أما الحيوان الذي هو جدي أو جد جدي الألف لم يشكل له الموت مشكلة ...قال رسام:
الإنسان لا يستطيع التحديق في الشمس أو الموت
قال شاعر:
الجنس البشري هو الوحيد الذي يعرف انه سيموت
يقول عقلي:اسمع لغو وضجيج في الدماغ اعتقد إنهم سجناء التعذيب يبحثون عن الحرية ,الخلاص ,أطلقْ سراحهم .
قال فيلسوف:
إذا أردت أن تكون إنسانا عليك أن تعيش في قلب الخطر أناقض نفسي أيتها الزوجة حين أقول :
أنا آخر ما أفكر به بشكل صادق هو الموت لان الفعل الذي تثرثر عنه كثيرا لاتفعله أبدا ولأن الحرية تسبح في أعماقي فأني أفكر في الحقيقة بالحياة الوضيعة التي يعيشها البشر.
النظام يدفن الناس في مقابر جماعية لا لشيء سوى انه يدفن أكاذيبه في الحرية والاشتراكية ...صدقيني كي لا يذكره بها احد ....
كذب كذبة كبيرة ويرفض تصديقها
أنا الوحيد بين المجانين أثرثر في الموت لذا أجاهد على تجاهله في الحقيقة لم يكن يعني لي الموت وأنا متشبث بالقضبان.. أنتِ الآن تبسبسين بدعاء ,أتمنى أن تقدمي لي حلاً ..
السلوك الأناني الذي يتشبث بالحياة ولم يتح فرصة للأحزان أساسه حب الذات ,الموت ليس له معنى ما دمت ضمن الأنصار, ليس جدارا في الظلام نصدم به , إن ملاقاته على نحو ما هو عمل يقوم به الكائن
قال شاعر
الإنسان يكبت بقوة فكرة الموت
يقول جسدي:
إن موت أي إنسان يجعلني أتضاءل إلى جرذ
نحن نقول إن أبناء الجنوب حشرات ضارة بنظر الأمريكيين ,وان استخدام الأسلحة الكيمياوية ضدنا له( مردود اقتصادي) ويقلل من سعر التكلفة ,إنهم يؤلهون من يمتلك القوة ,يهولون من عظمة راعي المعزى كي يصبح عدوا مخيفا ويصدقون ما صنعوه ,يحترمون النظام الزيتوني ,ولا نعني – نحن العراقيين لهم شيئا .. قد يتألمون لحالنا وسرعان ما يتناسون الثغر المفتوح على الألم ويرقصون الجوبي ,لماذا غدرنا العالم في الواحد والتسعين ... هل حقيقة نحن مجرد ذباب ؟ العراقيون هم الذين يقتلون الآن.. يجب أن نشرم الحلق الذي يصفونه بالثغر الباسم ...ليس الحقد أو الجهل ,الجنون الجماعي العالمي هو الذي يسبب القتل ...كل قتل يدخل من فوهة الثغر ,ثغر لم يبتسم يوما وإنما يعلك اللبان السام ...وصاحب التمثال مجرد دمية يلهو بها حمار- هذا تفكير مسبق لعمل مشهد من فلم كارتون سوف تخرجه دائرة السينما والمسرح....
افترض أن احكي لكِ قصة فلم شمالي ..
قال لي صديق كردي بأنه احد الرجال الذي اقتحموا مديرية امن سليمانية وعثروا على أربعة عشر فتاة في سن الثالثة إلى سن الخامسة عشرة لا يجيدنّ التحدث باللغة الكردية ولا العربية وإنما لهجة لبنانية فلسطينية ولم يسمعن بإله اسمه الله وإنما النقيب محسن فقط يتفنن بالرقص والمضاجعة, أوراق الثبوتية لحاكم سليمانية انه غجري من قرية حدودية بين سوريا ولبنان وإسرائيل – أسألك سؤالا كيف لم تسمع فتيات باسم رب العالمين وكيف صار غجري يحمل جنسية اسرائلية حاكما عاماً من حزب البعث وعلى رؤوس الكرد.
- أنت تهذي
- أنا ابحث في الفنون من اجل كتابة رواية عن سيرة ذاتية ...ومن الغباء أن أقارن سيرتي بالواقع ...الواقع عجائبي فوق التصديق,الخيال وحده قابل للتصويت هذه بعض الجمل من روايتي(الواقع العجائبي)لماذا حرقتي مسودة الرواية من التنور وجعلتيني آكل من أجساد أبطال روايتي ..خبزك الأسمر ...اللعنة على حدبة التقاليد التي جعلتك تعتقدين أن فيها جملا تسيء إليك..أمراه لها احتياجات ..احتياجات! أن أجمل ما في الإنسان أن يحب أخيه الإنسان ويدرك في الوقت نفسه بأنه الحطاب الذي يهيئ لله الأرضية ,أرضة السجون في الوقت نفسه .
- حبوبي...انظر للأزواج والأطفال !
- نحن نحاول أن نتصنع السعادة على كورنيش التماثيل ,نحاول أن نتحدث بصوت عال أو نضحك, ضحكة رنانة وملابس نظيفة ,الزوج يتحرك بخفة أما الزوجة تجلس هادئة على المصطبة وعلى وجهها ابتسامة ترسم غمازتين على جانبي الوجه ...غمازتين من النفاق ,أكثر من النصف هنا يحاول أن يبيع جسده مقابل دنانير مطبوعة ,أنا وأنت فقط ...هنا ,نشعر بالسعادة لان النظام حاول أن يجعل منا أشياء وضيعة وفشل..نفرح لأنهم فشلوا و صاروا آلات قتل حتى وان ابتسموا فأن الابتسامة مرسومة بآلية..إنسان يفقد إنسانيته كيف يبتسم..أنت ترين القشور جميلة وأنا أرى الجوهر موتا وخرابا ,عيونهم مفتوحة مثل عيون الحيوانات الميتة ,مفتوحة لا أكثر,لا ترى شيئاً ...
- حبوبي..
- كانت هنا أشجار دفلى الورد ,تومان العبد يعزف الناي من انفه ويرقص لأطفال البصرة , يحمل اللافتات والرايات..لا..ليست مظاهرة وإنما إعلان لأفلام الكرنك والحمراء ,أبو رزيقه يغني..عنتيكه..عنتيكه..دايخ وأريد سويكه....وعقيل سيد زيارة يقف على صخرة مرمر كانت على الجرف ويلقي قصيدته بعد أن يسكر ... يابصرة العشق من مثلي حباك هوى ,أما عبد الحسن الشذر فتظل صرخته في الأذان ...لا أمان لكم يأهل الكوفة ,خميس العبد...أو مرجان العبد يلف رأسه بعمامة كركدن مثل القذافي ..يجلس مثل شهريار ...نثرثر وهو صامت ..ثم يقول مرجان ...لا ينفع الكلام ,لا توجد نكتة تستحق أن نضحك من اجلها ...اعزفوا لي ,طبلوا على التنكه ...لحن الهيوا وفي بعض الأحيان يقول النوبان.. يفرش يديه ...يسافر بعيداً حين يخفق بذراعيه ويغوص في ظلام التأريخ ..وأردد كعادتي..صمت مرجان العبد آخرة الليل وصفق بأجنحته السود وطار في الظلام.. وبعد لحظة صمت:
- لماذا نتصنع السعادة هنا – الكل هنا يدور في فلك مرسوم له لا يستطيع الإفلات ,أنا واثق ,لم تجبني الزوجة .. غرقنا في بؤس غامض ..
- احبك ...لك رائحة حليب أمي ..هي رائحة حين ترضعين عبد الباقي ولو ان اسمه عبد الباقي ...أب غير مقتنع باسم ولده ...كارثة
- نستطيع تغير اسمه
- بعد أن نعالجه من الإسهال وسوء التغذية نغير اسمه, أنا مثلك أريد التمتع بهذا العيد ...أنا الذي أقنعك بالمجيء...وبدون أن أعي اصطدمت عيناي بجسد التمثال الهائل ..
- كنت اعتقد إن الأشجار ما زالت هنا ..أنا أحب الأشجار.. سرحت عيناي على مقبرة النخيل على الضفة الثانية من شط العرب الآن ...تاهت نظراتي في الأفق ...فوق نخيل التنومة .. تمنيت أن أصيح بأعلى صوتي ..فوق الأشجار ...
- هل تعلمي ما الذي يسكن فوق الأشجار أنا أقول لك ,الأفق.. السماء ...الحرية...هل تذكرين الخروف الذي ذبحوه في يوم زواجنا
- وما علاقة الخروف بالأشجار
لا اعرف كيف استطاعت الزوجة أن تشق لها فسحه من السخرية وتكركر بضحكة..
- خروف فوق الشجرة مثلا ..
اخفت البسمة في العينين
- الخروف المسكين الذي ذبحه أبي كفدية ...أو فدائي تطوع إجباريا بروحه من اجلي في يوم الزواج ...لم ازدرد لقمة منه لأني رأيته يتوسل بثغاء يهد قلوباً من حجر ,لكثر ما توسلت أمام الموت ,أنا العريس الذي يجب أن يذبح الحيوان من اجله,أنا لا أنسى تلك النظرة التي قالت لي بأني أقذر حيوان على الأرض ..هل تذكرين الليلة الأولى حين شربت المرق وأكلت الزلاطة ...أنا اعرف ...كنت مندهشة كيف لا آكل من كبد الحيوان ,في الحقيقة أنا الحيوان الفدائي الأضحية المذبوح أو القربان من اجل العرسان الحمير.
- حمير؟
- نعم حمير ...يرسلوهم للموت في الجبهة أو لقتل إخوتهم في الشمال أو الجنوب وعندما يأتي الواحد منهم بأجازة يسرد قصص البطولة وكأنه كان يحارب الاستعمار ...هو لا يعلم بأنه خرقة قماش يلفونه مع آلاف الخرق بانتظار مصيرها في المزبلة...

جدار واحد ...هل تعتقدين بأننا نعود لنفس النقطة التي انطلقنا منها ..هل تعتقدين إننا نستكشف البداية كي ننطلق ثانية ...لا اعتقد ...العميان لا يستكشفون وإنما يعودون فقط ...الاستكشاف بالنسبة لهم رحلة في المجهول ...روايتي التي سوف اكتبها سأجعلها تعود لنفس النقطة التي انطلقت منها ...هي مجرد عودة ...لا تعني شيئا ..مثل دبيب السجناء الذي لا يكل حول بركة النجاسة ...أيضا ...سأنطلق في الظلام ...الظلام يزيل الألوان ويجعل البدايات وحادة ...سأبدأ من سهام وياسمين وحمار سباهي وبقرتنا الحمراء الرائعة والفلسطينيات والغجر وسجن الريسسز وأول أطلاقة في الانتفاضة التي أطلقها الغجر من تلك الدبابات للحرس الجمهوري الذي حماه الأمريكيون ...اعني معمل الدواجن في الزبير, جسدي الآن يعلو فوق التمثال ,انه التسامي ,.التصوف الثوري جعل مني( الاه) لا يسجن ,أنا خالق الحياة للموتى ,أنا احمل نفحة الله في روحي الصغيرة ,الكل تخلى عن الله والحق فأين العيب إذا صرت بديلاً ...كل إنسان هو بديل في الحقيقة
- سعيد ...ترضى...تزعل...أنا ذاهبة لبيت أهلي.
- أرجوك ..أنا أريد إن أقول لكِ فقط إن قلب الأعمى وضعته في جيبي حين جاء الجلادون وسحلوا الجثة ...لكن القلب تعفن بيساريع بيض تنساب بانتفاخ ينمو في الذيل ثم يسري ببدن اليسروع حتى الرأس وهكذا يدفع اليسروع جسده بهمة ونشاط وكالعادة ضربني عقيل بلكمة على وجهي_ ضربة شاعر_ وأخذ القلب ورماه في وسط بركة النجاسة ..تقيأ عقيل وأخذ يتغوط مثلي على الاسمنت ويحدثني عن السياب والبياتي وبقينا عدة ساعات ,إليتانا مكشوفتان دون أن تثير أنظار احد أو رجال الأمن سوى بعصات أقدام االمجانين الذين يجوبون الأرض بدون جدوى.
كنا نتحدث بالفلسفة ...أرسطو وابيقور وزنون ...تأكدت إن الموت قانون عادل لأنه ينتمي لقوانين الطبيعة ...العالم منظم كونياً ومازال في طور التكوين ..نتحسس أن هذا العالم شرس وغريب لأننا في مرحلة المخاض ...التحول من بدائية البدو لعالم المدينة الشرس ...التحول الجهنمي الذي حرمنا الأمن والالتصاق بالعالم .. كنا في الريف ننسجم مع الماء والنخلة ...والآن فقدنا الانسجام والاتحاد مع كائنات الكون كله...بل فقدنا المعنى الواضح للوجود ...ذلك الوعي الفطري حول العالم ...كون واحد ..وثمة جذور للإنسان في الطبيعة ...فقدنا كل شي ..نعيش الآن بانعزالية وتوحش تحت إقطاع نفسي ...أنين المجانين يصطدم بسقف الجينكو ويعود غائصا في وحل بركة الغائط ...تأكدت إن العقل موهبة الإنسان ...الموهبة تكمن في قدراتي أن أكون غبيا وجامد الحس ولا مباليا كي لا أصاب بالجنون, جمود الحس هدف عظيم لا يمكنني الوصول إليه ببساطة إلا في حالة الربوبية.
كنت مزنجرا بصدأ لا يجلوه إلا (كاغد جام) ...هذا الجلو في جيبي ولكن كيف اهرب ...كيف اثقب البالونة وأنفّس عن الحبيس الخزين...أرجوك أكملي القراءة ليس لي لسان يتحدث ...وإنما لسان يئن بهواء الرئة...الريح التي تهب على فوهات قادة الحرب صراخ نساء ثكالى ...نواح مترملات ...حفرتي الهائلة...ورّة نمل عملاق ...وعلى الأسلاك رجل اقرع بملابس مدنية ...مقطوع الساق ...يداه تحتضنان الأسلاك , نورس على وشك الطيران ...الرصاص خطوط من الصوت تمر فوق رأسي بخيط دخان ...تهتز الأرض بتوتر لا يملّ ولا يفتر ...هجوم مدفعي حسب الخطة الهجومية العراقية سقطت السدة... تطايرت أشلاء البشر وأخشاب الملاجئ ...كنت أدخن في الحفرة وقلبي يلبط كسمكة في الماء ...تارة أرى جنود بقمصان سود ولحى يخترقون الأسلاك .. يعتلون المرتفعات ...وتارة أرى الجنود العراقيين يساقون للإمام وخلفهم جنود بقبعات سود وخضر ..والشمس حمراء يسيح دمها على أطراف الغيوم ...سنان حمر حادة ... (أغرب ما حدث في التأريخ ..جاؤوا بنا لنفجر الألغام كي يهجم الجيش العراقي لكن الصدفة جعلت الجيش الإيراني هو الذي يهجم لا توجد خطة ولا بطيخ ..) نزعت أسمالي وتمشيت عاريا .الليل هدوء حذر ...لا وميض يفزع الظلام ...لا اسمع صوت طلقات ,أنفي هو الذي يشم رائحة الموتى خلعت ملابس عسكرية من جندي لا اعرف من أي فريق هو ...أنا الغريب عن الجميع في معارك شرق البصرة 86 ...قمصلة صخرية اللون ...خوذة بلاستيكية ...كلاشنكوف نصف أخمس وقلادة من الألمنيوم ..وطلع البدر..وعرفت سر توقف الهجوم ....الليل الدامس والقمر, مشيت على ارض عجوز سبخة ...لايثبت عليها حتى بسطالي الروماني ...احذر نباتات الأرض الحديدية ...يخيل إلي تحت كل كومة تراب لغم بانتظار تحرره من وعائه الخاكي الشبيه بعلبة جبن كرافت...عفريت في جزء من الثانية يرسم دائرة من نار ودخان بعلو شجرة ....رأيت رفيقي الذي لا اعرف اسمه سوى الأشجار ...يحتضن أشجارا من أشواك حديدية ...سحبته من يده اليمنى ...يالهي كم يحب الأشجار؟ ...ها هو يتشبث بها ...لا اعرف بالضبط سر القوة الخفية التي جعلتني أمعطه واسمع صوت إنعتاق ملابسه الرثة ....تمزقها ...كل الملابس تعشقت بالأسلاك ...سحبته عاريا ...بدون رحمة ...هو الوحيد الذي دفنته في الحفرة و دون أن ادري نمت فوق جثمانه .. في الصباح الباكر...رأيت الشمس الصفراء من فقر دم نزفته نهار أمس وثمة جنود عراقيين يلمسون أعضائي, لم افزع ...فقط ...ضحكت عاليا...ضحكتي أدهشت الجنود ..لا أعرف لماذا ضحكت؟
ومن بين كائنات شبيه بالبشر ...كائنات تمشي على قدمين وملفوفة السواد استطعت أن أميز زوجتي لانثناءات جسدها المغزلي والطفل المضموم للصدر تحت العباءة وبشراسة لم أعهدها من قبل ...قد تكون الجذور الذكورية للجنوب هي التي جعلتني اسحل الزوجة وهي تداري خجلها من سلوك غريب استبدّ بي أمام الناس ...كانت مبحلقة العينين وفاغرة الفم حين قلت يجب أن أكمل حكايتي.. أنتِ الكائن الوحيد الذي يجب أن يسمع ولا اعرف لماذا غنيت بموال حزين يسمعه المارة بصوت أجش ...راحوا اليردوني وردهم /أريد اشفع بما املك وأردهم /ذبل مثل ما كان اهو زاهي وردهم ....يشفع الجلي اللي عمله عليّ ...ثم أعدت الغناء ثانية ولا اعرف كيف تذكرت سهام وفي عيني دموع انبثقت من كل الجهات.. تهزز يا قبر وانثر ترابك /ما هو عزيز الروح هل نايم ترابك ولم أكن اعني إن سهام في مقبرة سيد احمد وإنما هي مدفونة في قلبي الذي هو بحاجة إلى من يهزّه بجنون وينفض عنه الغبار ...بكيت...واندهشت الزوجة ...لم أكن سكرانا ...وكل تصرفاتي تدل على عدم اتزان ...
وسمعت من يقول لي اكتب ؛قلت اكتب ماذا ؟
سباهي :الزب يصنع أوادم
- .أريد كلمة نظيفة غير سوقية أم انك تطبق نظرية تروتسكي
الوحيد الذي ضحك بصوت مسموع دون أن ينطق كلمة واحدة .. أسمعهم بصوت خفيف..حي..أفواههم تفتح على اتساعها ...تصير دوائر ..وعرفت أني أصبت بالطرش ,صرخت عاليا ...راصد مدفعي / مدفعية 120 ...
أعطوني قرابية ماء وصمون ومثلثات جبن 0 أحد الجنود ساعدني على الوقوف وقادني إلى مرصد المدفعية ...أيتها الزوجة ...هكذا عدت جندياً بطلاً ...مثالياً في الدفاع عن الوطن ...وفي الخط الأمامي ...تأكدت الآن إن الضحكة هي التي خلقت الإنسان.
اضحك من كل شيء يسكن كالفقراء في أكواخ ذاكرتي ..الذي لا امنحه مفقود ...كل مفقود تائه في غيهب التأريخ المظلم ...مظلم تحت شمس حارقة ...الظلام نكسة في النظر ...الذاكرة ...الوعي ...كل نكسة يجب أنذ نحمل من اجلها السلاح كيف يمكننا النظر إلى الأمام ...المستقبل بعيد بدون إطلاق نار...الأرض المخددة بتجاعيد مومس عجوز ...تحت ضوء القمر تصبغ وجهها الرمادي السبخ ببقع دماء ووميض أفواه مدافع ....مدافعنا ...مدافعهم....الكل يطلق النار ...رأيت بضعة جنود بقيادة ملازم جنوبي يأمرهم رائد في فوج لواء 45 بالنزول إلى القارب في حافة المرصد المطلّ على بحيرة الأسماك ...اسمع الرائد يصدر أوامره بالتنزيل من القوة والقدر ...الملازم يائس.. خروف مقدم للأضاحي ...احد الجنود احتج لكن الرائد هدده بإعدامه وخيانته ...يندفع القارب وسط ماء رمادي ...قنبرة تنوير تفتق الظلام .الماء سطح لامع صقيل مشوه بثآليل الأسلاك الشائكة ...وجوه الجنود الخمسة مبحلقة للأمام والمجداف ركن مشلول على دوسة القارب ...العيون تبحلق ...ترتمي على أحاديات تفزع الظلام بخطوط حمر ...احد الجنود يرمي بجسده للماء ...على بعد عدة أمتار ...جاثوم الخرس يشلّ الألسنة ...الجنود يقتلون بجلستهم الخائفة....دون صوت ...أو حراك ...وينفجر لغم يقطع عضو ما في جسد الجندي العالق بالأسلاك ...يصرخ ...يصرخ...رغم طرشي اسمع صراخه...لا ناصر أو مغيث ...أطلاقات نار متبادلة بين الضفتين ..ثم يصمت كل شيء على ما يبدو نحن لم ننضج كفاية كي ندرك الموت ...الساذج ...المتخلف ...البدائي ...الخروف ...لا يشكل له الموت مشكلة ...فقط ..من يحس بفرديته ..بإنسانيته يشكل له الموت قضية ...قررت الهرب ...حين توقف طاهر حبيب بعجلة خزان الماء ..قلت له...الهرب لان العدو على وشك الهجوم ..قال لي اقفز في الخزان ولو ان نصفه مليء بالماء , تسيل الكائنات الشبيهة بالبشر,كائنات تمشي على قدمين وملفوفة بالسواد, ,الزوجة تحاول أن تداري خجلها من سلوك استبد بعقلي الملتاث وجسدي الواهن ,تتشبث بجسد الطفل اللين وتبحلق بعينين لا تستطيعان الفهم ,الفهم الناضج كتينة حمراء على وشك أن تنقسم إلى نصفين ,وبتصميم قلت( يجب أن أكمل حكايتي ,أنت الكائن الوحيد الذي يجب أن يسمع ....) وأناخني خرس غريب ...لقد نسيت الحكاية ..لقد نسيت الحكاية ...لا اعرف أين انتهيت وفي ذهني انطباعات .مجرد انطباعات إنثالت على لساني بدون رابط معلن... أيها الظلام فكر كثيرا وطويلا قبل أن تغتالني لأني مزجت الأجساد والأرواح وأرسلتها للنور ,رأيت عيني الزوجة مبحلقتين ,أردت أن أجهض ما وصلت إليه وقلت : كيف لا يهتز الجسد لوحده على الإيقاع ..دق الطبول ..الموسيقى ..هو جسدي ..من لحم ودم هل أنا تمثال ؟وحين صغرت عيناها أجبرت على الحكي بصوت خافت .
مشهد مخيف حين ترى الإنسان يذوي كخروف مريض ,تراه يموت وتشم تعفنه البطئ ,الأعمى هو الوحيد الذي تصالح مع الموت ولم يشعر بالفصام...أما أنا .. كنت اعتقد بأني نكرة ,خارج العالم ,مجرد حيوان طويل الأطراف يتشبث بالقضبان ثم اكتشفت إن النكرة هو الوحيد الذي يصمم على التفكير ويناضل من اجل عالم أفضل ,كنت أتمنى أن يأخذوني معهم للإعدام ,اشعر بالخزي,تزاحم خيانات عديدة للإنسان ,أريد فقط أن اخرج من هذا الجملون ,بأي ثمن ,لا استطيع كسر القضبان ,بعد الموت لا تأتيني بشيخ عجوز فيه رائحة الموتى يقرأ على جسدي الذي يدين نظاما كاملا آية أو آيتين مقابل عشرة دنانير ثم ادفن تحت التراب للأبد ,ثمة مؤامرة بين حفار القبور والشيخ الديني وديدان التعفن في الظلام ,اكره المؤامرات ,ألا تفهمي ما أريد قوله: ( أخاف فقط من جهلي بما يمكن أن يؤول الإنسان إليه بعد الموت ...أخاف المجهول ,أتمنى أن ترمي جثتي هنا قبالة التمثال لأني أعاني الإحساس الخبيث باللامعنى ,افترض معنى بعد موتي على أمل أن تتحلل أجزاء جثتي وتأكل الأسماك نتف منها أو يمتص عرق نخلة أو جذر بردي ...أي نبات,المهم أن لا تأكلني الديدان البيض في الظلام وكأني معاقب في الجحيم ...أريد أن تسبح جثتي في عمق الماء بحرية لم أتمكن من نيلها في الحياة ,أنت ترين كم هو مأساوي وجنوني هذا الافتراض ,هذا السجن احمله في أعماقي ,حتى جرو الكلب الذي قتلته في الطفولة ينبح في الكوابيس ثم يعوص ويعوص ...أنا لماذا نزلت من الجبال بعد ثلاثة شهور ,هربت من الهور بعد عشرين يوماً ,كنت على وشك أن انخرط ببكاء مرّ ,وبالصدفة ,انخرط عبد الباقي بأولى كركراته فيما ترسم الزوجة على وجهها علامات وتطبق أصابعها على الإذنين كالمعزاة أو القردة ,وبالصدفة انقشعت الغشاوة عن عقلي المكبل بالتشنج والجنون وانفثأ غسيل الدماغ الذي أتقنه النظام وشعرت بالمحبة لدرجة الجنون لكل إنسان ,لجاري الرفيق صاحب الملابس الزيتونية ,امتد الحب لكل حيوان...لكل شجرة...حشرة أو حجرة ...أما الجلاد لا اشعر إني اكرهه أو أحبه ...انه غير موجود.
فشلت كلٌ آلة النظام في دفعي للوضاعة واحتقار الإنسان.. البندقية التي هربت بها من الأهوار هي التي احتفظ بها الآن ,هل تذكرين حين أخفاها عمي في باريات السقف وسلمني نادماً للرفيق عزيز الحاج حبيب في العفو...يضحكني عزيز الآن حين شعر أن له أهمية عظيمة وظل يناديني ...خالي...خالي...خالي البندقية التي احتفظ بها ليس لقتل رجال النظام ,هي موت مؤجل ..لكن لا اعرف لمن ,من المحتمل إني احتفظ بها لقتلي إذا حاول النظام سجني مرة أخرى...
كنا نشتري الروب والقيمر من معدية عجوز فاجأتنا بسؤال ذكي ينمّ عن طيبتها ومحبتها لنا ...حين قالت انتم أناس طيبون وشرفاء لكن لماذا يقولون انتم تتبادلون.. تتبادلون الزوجات وضد الله وبرأسها أومأت لجهة ما ,بعد أن ذهبت العجوز صمم الضابط الشاب الذي تدرب في اليمن الديمقراطية أن نستبدل موقعنا بالموضع البديل ...وحين خاطب المسؤول الحزبي العجوز صاحب النظارة الطبية : (عرفوا بأننا شيوعيون ) لكن المسؤول قال يجب إقناع أهل الهور بأننا شرفاء مثلهم نصوم ونصلي ..يجب أن ندفعهم للثورة...نحن بحاجة لقاعدة شعبية تأفف الضابط حين تشمم رائحة الخطر والغباء ,تشاجر الاثنان ,الضابط يقول إن العجوز تحذرنا أما المسؤول الحزبي يقول : عن طريق هذه العجوز سأتصل بأهالي الهور أما أنا انتظرت الليل وهربت في نوبة الحراسة بالمشحوف ...
لان الضابط من آل خيون أي من بني أسد الجبايش وهو يعرف أهالي الأهوار جيداً....
لم اعرف عن الأنصار شيئاً حتى هذه اللحظة ,لا اعتقد إني ثائر حقيقي,أقنعت نفسي وأنا في عشيرة العلوان في قضاء المدينة إن بضعة ثوار لا يمكنهم تغير نظام وخاصة أن المسؤول الحزبي يحاول أن يقنعنا إن الاتحاد السوفيتي يرسل الأسلحة لبغداد لأسباب سياسية عالمية,اعتقد إن طائرات الميغ وصواريخ سكوت هي التي قتلتهم في أنفال الجنوب هور صليل.
بعد خمس سنوات حدثت طبيبا من أهالي هذه القرية وأوصاني مهدداّ : ابتعد عن الانتفاضة لأنها تحولت إلى لعبة بأيد خفية.
قلت للزوجة:
كل الانشقاقات تقوي الأحزاب وتنقيها من الشوائب, انشقاقات الأنصار هي صراع الفدائي ضد الحزبي,الثوري ضد السياسي,وكل حزبي خلفه يهرول من عشرين إلى خمسة وعشرين رجلا أو امرأة,الحزبي قرين الثرثرة خلف نظارته الطبية لقصر النظر من كثرة القراءة لا من معاينة الواقع .
قالت الزوجة:
- الله يرحم والديك..يا أنصار..يا دعوة.. يا ش...انظر هذه فرقة حزبيه أو جيش وضعوه في الكورنيش...أخاف أن يسمعنا احد.
اسمعيني:من كان يعيش بواقع مظلم بل في قلب الظلام لا يهمه أبدا إذا عاد للظلام ,ومن المحتمل إني فقدت الإحساس بالحياة الرائعة ,اللامبالاة,حين عدت قرداّ معلقاّ بالقبضان, تأكدت إن الذي يؤمن بالموت يؤمن بتطور الحياة ,بالتغير..الإنسان نحته فنان عظيم كبير من فضاء صلصالي مائع , الكائن يأتي من تراب ويعود لتراب,من رحم مظلم إلى قبر مظلم, من أم إلى أم ,الأعمى لم يعد للتراب بل تركوه يئن ويداه متشبثتان بالقضبان ,مرت بضع ساعات وجاء جلادون يتبادلون نكات جنسية بلهجة جنوبية ,امتعضت وجههم الكونكريتية وتأففوا من رائحة الشيوعي المغموس بالنجاسة,احد الجلادين رمقني بنظرة ثابتة ,اسمعه يقول لسيد القطيع :وهذا الشاذي لكن الآخر لم ينظر بوجهي .. ثمة صوت نحيف انبعث من فم كائن وقف تحتي متكئا على القضبان
- سيدي هذا كله خراء ينجس فرشة السيارة مرت لحظة دون أن أنتبه لمرورها وسمعت دوي أطلاقات نار,صوت الاطلاقات أوقعني للأرض ,دوي الاطلاقات اشد رعبا من الموت نفسه ,انكفأت الكائنات ملتصقة بالحيطان وازداد وجيب قلبي من الخوف,الاطلاقات في جسد الشيوعي أما الدوي فجر راسي ,الخوف يسري بجسدي كالرعشة ...الإنسان ليس شجاعاً دوماً وإنما ثمة شيء في لحظة ما يجعله يواجه الرصاص ,يدي ترتجف حين رأيت ذلك الثقب الواسع والعظام البيض النحيفة النافرة من الصدر,عظام ناصعة البياض لم أر قطرة دماء تلون الثقوب ...لاطلاقات المسدس ثقوب سود بحجم جذوة سيجارة وللبندقية فوهات تنفر فيها العظام عن اللحم المفروم ,أوتار عضلات متقطعة بلون ازرق,الشرايين بلون وردي ,ثمة أطلاقة كسرت كتف اليد اليسرى مخلفة عضلات ضامرة بلون جوزي,الجسد البشري يتلون بألوان عدة,الموت يمسح التجاعيد من وجوه الموتى ويجعلهم أطفالا بوجوه رضع بريئة ,لم اصدق انه ميت ,ثمة تناغم بين جسده النحيف وروحه المنهكة ,لم أعد افهم الموت ,الذي استوعبته .. إن الجسد سجن لضمير الثائر وحين يتعفن الجسد تحلّ روحه في ضمائر أخرى,لم يمت ثائر واحد وتحول للفساد ,الثائر كائن بشري يسعى للموت,الروح والجسد كائن واحد,وحين حاولت قلب جثته بدافع الفضول سمعت الشيوعي الأخير يطنّ في الذاكرة: (أنت فوضوي متصوف وفي جذورك هوس ,ويهمس في إذني رجل الدعوة : (إذا كان حب الناس في جذوره إن تكون شيوعيا فأنا أتمنى أن أكون كذلك ,مثلك ,نعم ...حبيبي الله لكني أحب الناس أيضا,وتستقر عيناي في عينه وسرعان ما يشيح النظر ,اعتقد انه يجاملني أو يهادن مجنونا مثلي وتنفتح بطني : لا ماء ولا غذاء ...لو كانت تجربتي مفهومة لما حدثت نفسي أبدا ,لم استوعب ما حدث ...هذا بالضبط هو الذي يجعلني أثرثر ما حييت ,أنا لا أريد أن اسرد ما جرى وإلا لحدثتك عما جرى لي في الشعبة الخاصة ,شهور عشرة وأنا معصوب العينين واليدان موثقتان للخلف ,ابحث في القوى الخلاقة في ذلك الجنون الثوري ,لا أريد أن اعكس تصوراتي ....أفكاري , وإنما ابحث عن شيء لا تفهمه ذاتي ولم يهضمه عقلي ...من أنا ؟ من أكون بالنسبة لي ؟هل في أعماقي رؤية ما ...جذوة ستبعث نار المعرفة فيما بعد ...أو الفن ...سأكتب رواية أو شهادة توثيق ...الرواية الوثائقية أفضل تأريخ....
لن استخدم الشعر ,الشعر يحلق كالفراشة فوق واقع نجس ,سأعبر عما أريد قوله بلغة تستوعب ما جرى وبرصد ذهني وشعوري في زمن ما ,اللغة عاجزة ...معقدة بل منزوية تحت جثة الشيوعي الأعمى ,جثة بدون دماء,بضع قطرات ليس لها لون احمر وإنما لون مزيج مشمع ,سائل ما ...اللغة لا تستطع التعبير عن دماء الجثة...مهما حاولت,سأستخدم الخيال ,الخيال وحده يكشف ما جرى,لكن الخيال يبتعد عن الوثيقة ويصنع له لغة خاصة, يفترض واقعاً وأكون أنا الجامع ,لست الخالق وإنما الجامع الذي يجمع أشتات الموتى ويعيدهم للحياة كي يتحدثوا ويعيشوا الحياة كما ينبغي أن تعاش, تخيلي إن إنسانا ما يقتل إمامك دون أن تنبثق من جروحه قطرات دم ,حتى هذه اللحظة لا يمكنني أن افهم ,جثة بدون دماء ,وحين رفعت الجثة وجدت الكبد والقلب والأحشاء مفرومة ,القوى الخفية الاحتياطية ما زالت كامنة في الجثة ,مشكلتي هي كيف استوعب إن لجثة الشيوعي شكلاً رمزيا لكل الجثث التي نادى بأسمائها صاحب السجل الكبير,لأنها موغلة في النحافة كالجثة التي احملها ,هم يقولون جسدا لأن الدماء ما زالت في عروقك وأنا أقول جثة ...
- من هم الذين يقولون ؟
- إبطال روايتي ,السجناء الذي نادى بأسمائهم ملاك الموت صاحب السجل الكبير ,الأعمى يشبهني تماما لأني في رواية الأفاعي نفخ عربيد في وجهي وأعماني فترة طويلة وحين تراجعت للوراء دهست عظام حية ميتة فانتفخت كف رجلي اليمنى وصرت نحيفا ولا استطيع الجري واللحاق بكل بني البشر الذين يهرولون بدون هوادة وبدون رحمة للأمام ,لصعود الرابية ,المشكلة إني لا أنظر ما في البعيد ...اعني للأمام وأهديت روايتي إلى قصيدة العازر لخليل حاوي مع مقدمة صغيرة للمؤرخ توينبي
- أنا لا افهم
- يجب أن تفهمي أنا لست الخالق ...أنا الجامع ومشكلتي تكمن في ....,يجب جمع الواقع بلغة الحياة اليومية والعادية,أنا مضطر للبحث عن لغة تستوعب ما جرى وسيجري ,عدت للطفولة ,استضفت ماضيا وتسلقت جدران الواقع المر والصعب ,لغة الحفاة والمعذبين ,لغة المشرط في تشريح الجثث,في الحقيقة إن البلاغة رائعة وأنيقة وأطلقت ضحكة عالية ....ولجمال البلاغة أجد الجملة دائما متكبرة وفارغة المعنى ,البلاغة لشعراء الدكتاتور أما نحن الحفاة ....ليس لنا إلا لغة الحياة المحكية....أنا الكائن الوحيد الذي يجب أن يحكي وان يؤدي رسالته في البوح وإذا وجدت جملة مفهومة على النسق اللغوي العربي الممل من ثرثرة المداحين والرثائيين فاعرفي إنها جمل فارغة المعنى ,مجرد حشو في سندويشة إعلام الأنظمة ,اللغة كالشطرنج ,رقعة تدور عليها حرب فكرية ,واقعية,لا يمكن أن تحدث في الواقع الجنوني لان اللامعقول ليس مستحيلا في العراق وإنما صار المعقول هو المستحيل لهذا السبب ندرك قوانين اللعبة فقط ,أنا مجرد جندي صغير على تلك الرقعة, جندي جنوبي ,الملك يرقص الجوبي في عاشوراء أو يعبر الفرات سباحة بجسد يشبه التمساح ,الوزير أكرش يرسل البيادق للموت.. يجمعنا مثل الأرقام :ثلاثة بيادق مقابل فيل من العدو ,النتيجة هي التعادل لأننا نقدم وجبات دسمة للموت ,كان يجب أن يكون تعداد الثوار بنصف عدد قوات الحرس والجيش الشعبي والاستخبارات و...........و.........و.... أنت لا تستمعي ..............
لأنه لا يوجد حقد في وعيك ,الذي لا يستمع كائن بدائي ,يشبهني أنا المعلق كالقردة على القضبان.
تدور الدنيا ,تدور الأجساد حولي وأنا كاللولب ,قد يكون مجرد دوار لأني اشعر بالغثيان ,وارتفع صوتي كمن احدث نفسي الأخرى ,ما الذي يجعلني انزل من تلك القضبان التي أدمنت التشبث بها ,تعشقت فيها ,صحيح إن النائب ضابط يطلق عليَ كلمة الشمبانزي أبو الهول .. أنا لا اعرف كيف علم بتلفظي ياللهول ...ياللهول ...ياللمصيبة كلما يأخذونني للتعذيب – لكني كنت أتنفس وارى أعالي الأشجار , يلذ لي الصياح :فوق الأشجار .. أو البكاء بألحان شجية نحن نسميها عويل ...أنت تعلمين إن صوتي قبيح مثل صوت ألوز ...نعم ...هناك ...كل الأصوات مهما كانت قبيحة كانت أصوات معبرة لأنه لا يسمعك احد ,يوم القيامة , كنا محشورين والكل يهذي ,هل تعتقدين أنا مثل المجانين :أرجوك ...قد أكون مضروبا قليلا في الدماغ ...الأعصاب ...يداي ترتعشان ,يدي اليمنى تنشال وتنحط لوحدها ,يداي خارج السيطرة ,العينان تستطيلان كعيني معزى وحسب قولك كعيني الخروف ,أنت دائما تقولين إن عينيك مخيفتان في الغضب على الرغم من صغرهما يدوران في المحجرين كعيني مجنون وتنفسك يصير نصف تنفس وتشخر ...صراخك الغاضب مبتور,بالتأكيد هو ليس ثغاء أغنام وإنما لا اعرف ما ذا بك ...عيناك تستطيلان ,أقول لك :هذا ليس أنا وإنما الآخر الذي يعيش معي ...الآخر الذي ربته بل أنجبته السجون ,أنا اعرف فقط إني أعاني من هستيريا دائمة ,انهيار عصبي شبيه بانهيار المدمنين حين لا يعثروا على مخدر أو كحول ,أرجوك ...لا تندمي لأنك تزوجت إنسانا مثلي ,صحيح إن انهيار عموم الحركة الثورية عام 1988 وبعدها الانتفاضة جعلتني أشذ كالمنحطين خلقيا,جارتنا العجوز أم رسول اتحارش جنسيا معها واحلم أن أضاجعها ....أو طفلتها التي لم تنضج بعد ,هل تعرفين لماذا يشذّ الإنسان أنا أجيبك: عندما يرى كل الذي بناه وناضل من اجله انهار وسقط في اللاجدوى ,أما حين تزوجتك اختفى الشذوذ بل احتقر نفسي لماذا فعلت أو في أحلام اليقظة انغمرت في الانهيار,أنت تعرفين كم أنا إنسان محب وعطوف ....حتى البقة في الليل لا أدعها تحط على وجهك أو وجه عبد الباقي ,من سماه عبد الباقي ؟أبوك السبب ,إذا مات عبد الباقي سأكره عمي للأبد ...وقد لا اكرهه ,.من المحتمل إن الله يحبه ويأخذه للسماء أفضل من لبس الخاكي والوقوف بالاستعداد أمام الأسياد وبعد ذلك التعذيب ثم الموت ...ببساطة ,باختصار ,بإيجاز شديد هذه هي حياة عبد الباقي في ظل النظام الزيتوني ...لكننا معمل الدواجن .....؟ نفرّخ لان الحروب تحتاج الحطب ...نحن الحطب إذا لم تأكلنا نار الحرب تأكلنا أرضة السجون ...الهي ....أنا مجنون بحب السجناء ,احترامهم .. نعم ...تجمعهم الحماقة ...وليس الذكي هو من يقتل أصحاب اللباس الزيتوني وإنما من يدافع عن نفسه ,آخر سلاح ضد الدكتاتورية هو البندقية ...بندقية اليأس ...الكل مريض بالنفاق لأننا كائنات مريضة, بطون تربى ديدان الإسكارس في المعي ...,البندقية التي احتفظ بها ليس لقتل العدو وإنما لتخويفه أو لاستعادة الثقة بنفسي وكأن عشرة من الأنصار يجلسون معي ...يحرسونني... أو هي لقتلي لأني سأطلق النار حتى يقتلونني ...لأني حين اقتل احدهم يأخذوك أنتِ ويأخذ شيوخ التسعين فصلا أو ديّة بأمر الدكتاتور , نحن لا نمتلك المال .. أنا غير مستعد أن أتحمل سجن ساعة وحدة أو مثلما يقول الغجر اضربني بالكيبل ساعة ولا تسجنني ليلة كاملة ...الله ....الغجر ...عشت معهم ...اللعنة (البندقية تختزن موتا...الله اعلم لمن ...تعلمت من السجون أن لا اظلم أحدا ....ويوما ما سأنال الحرية ...من المؤكد سيجنونني ثانية لأني العميل رقم واحد أو عشرة.. يسألوني عن الاطلاقة التي مزقت أمعائي في الانتفاضة ... والأمن لا بد أن يعمل ...النظام ماكنة....تعصر....تسحق....تسجن....تقتل....في الحقيقة يجب أن نفكك هذه الآلة ...يجب أن اقتل ...أن أسهم في تقطيع أوصال الإخطبوط لكني على ما يبدو أصبت بالرهاب...الجبن ...خائن الشعب يبتدئ بامرأة ...أنا لا اعني أنت ...أنا اعني الخائن ...الذي لم يكمل المسير ...إن منتصف الطريق حماقة ... والخائن يبتدئ بامرأة ...أية كانت ...هو يعتقد بسبب حاجته الجنسية وإنما هو هروب وإخفاء الرأس ...لو لم أتزوجك لطاردت العجوز أم رسول إلى آخر بقعة من العالم ...اضحكي ...أنا أريدك أن تضحكي ...عجوز ...أي انهيار هذا ...جنون ...أنا لم أتقبل الحياة بهذه الليقة فكيف أتقبل الموت ,أسير بالمقلوب ,خطوتي مع الجميع ودربي اسلكه وحيدا أنا بحجم البعوضة لكني أطن وأزعج فرقة حزبية كاملة...ضابط امن المنطقة سيد ضياء ...لأنه كان صديقي في يوم ما كلما يراني يقول .... ما زلت تلعب بذيلك ...أنا أريد أن أحميك من نفسك....
لا سيد و بطيخ ...هو عبد للنظام .وسيد العبيد عبد في قرارة نفسه هكذا قال شاعر من هذا الزمان.
- بين الحين والآخر تستشهد بالشعراء وأنت تكره الشعراء
- أقدسهم في السبعينيات ...شعراء الحاضر ينافقون السلطة في تهويمات غير مفهومة ...غير شاعرية ...كرفض للسلطة ...حتى النواب شعره شتائم طفل بوجه شرطي
- صدقني ياسعيد ...لم استطع أن أفهمك في كل شي ء ...تناقض نفسك ...تبرز سلوكك ...والأغرب في الأمر أنت أطيب إنسان بل واشرف ...ومحب وحنون ...ابتسمت قائلاً :
- هذا يعني إني مزدوج الشخصية وأنت كذلك ...نحن نجسد إنسان التسعينات
- أنا !
- نعم ...تبرر سلوكك واشرف إنسان....
- الآن ...حبوبي ...تتحدث مثل البشر ...هكذا ابتسم ...قبل قليل ذبحتني سباهي المومياء والنصف الحي و.....
وصمتت فجأة حين علا صوت خروج الطفل ....استبدلت حفاظته وهمست بألم :
- أطباء البصرة لا يدخلون الطفل مستشفى إلا إذا كان على وشك الموت ,كل شيء مجاني ...لكنهم يفكرون بالحاصل ...بالفلوس ...حتى أتصير ... معميل للعيادة أو مستشفى خاص وهمست لنفسي :
الكل يبحث عن معميل و يعطيه رقماً ,صار الإنسان لأخيه الإنسان رقماً حي دفان المقبرة يحمد الله لأنه رزق بعشرة موتى ....وأرتفع صوتي ....احدث اللااحد ....أيها الإنسان حتى بعد الموت لا تكفّ عن كونك رقماً ....
انتصبت كالتمثال وفزعت الزوجة من حركة يدي :
- لاتخافي ...أنا ادرس الملاحظات التي ستكون مسودة الرواية هي مجرد انعطافات .... انطباعات....حديث عالق في الذاكرة
الكائن المتخلف يتموه بالخبل حتى لا يحاسب
الكائن الجبان يختفي خلف مرض مفتعل مثل أمراض القلب وارتفاع ضغط الدم, الكائن الهرم يموت في حقيقته قبل أن يتوقف قلبه عن النبض ...يتفكك جسده ...قطعة بعد قطعة لذا يتقبل الموت بدون احتجاج
اغلب الناس موتى في الأصل ,جثث تمشي على قوائم لذا يرسلهم الدكتاتور للموت دون أن يحتج احد
المجنون وحده لا يفهم معنى الموت ويرعبه الألم كالحيوانات
ولو صرخ جلاد الآن: زاوية....زاوية ....لا يهرب احد لأن الجميع مضغوطون على جدران لم يروها , كتبت قصة الماء في كل مكان واردد مع نفسي قول احد الشعراء الماء فوقهم الماء تحتهم لذا جعل البسطاء يكرهون الماء والنخل والسدرة جرفوا بساتين النخيل وجعلوا الأنهر مجار بل نست الأنهر أسماءها, المفروض أن امسح من الرواية الماء والأشجار لان القارئ لا يجد علاقة بين التعذيب والماء والشجر... خلقوا في رأس الإنسان عيونا واسعة لأسماك زينة ,تحدق ولا ترى ,لأن الرأس أجوف.. شاشة الرهاب تخرج للوجوه والتماثيل أجساما ,يجب أن لا ارضخ للقارئ, لان فصامه عن الأرض والتاريخ والأديان ..جعلوه إنسانا تائها بدون هوية, أنا أحب الأشجار ...اعبدها لهذا السبب قتلوا الأشجار ووضعوا التمثال اعتقادا منهم بأني سوف اعبد التمثال ....
يجب عدم الاستهانة بالجهود الجبارة التي خطفت الكركرة من أفواه الأطفال وجعلت وجوه الكبار كئيبة ...
كل الذين يسيرون بهمة يقنعون أنفسهم بأنهم في واجب مهم ثم يكتشفون بأنهم يمشون بلا هدى ,في طريق العودة يجب التركيز على الخطى المتثاقلة.. الذي يحترم الطبيعة يعتبر قرويا متخلفاً
إذا كنت قاسيا في ضربك للحيوان أو في قتله فأن البشر ستهابك, جهود مدروسة جعلت القمر كرة صفراء بدون الق .
كلما تضحك أمي يتحول الضحك إلى سعال خانق ,أن نخرج من دائرة الألم والمرض ولو بابتسامة نكتشف هول أمراضنا....
التمثال يظل كئيبا وواجما بوجه اربد كلما تبادل أبوان مع أطفالهما نكات حتى لو كانت مبتذلة ...البصري حين يخرج صباحا من باب بيته يتلفظ بدون وعي ....أعوذ بك من شر بني ادم قبل أن يقول أصبحنا وأصبح الملك لك نحن نعاني من اضطهاد طبقي وفكري وعرقي وخلقي ولوني لان ضابط الأمن قال لي : إن الله يعطي جوزا للذي لايملك أسنانا لأنه فكر أن يخطف زوجتي, حبي للفقراء جعلني أصادقهم في لحظات بينما لا أتمكن أن أصادق غني متعجرف حتى لو جلست معه سنة كاملة ,كل إنسان يمكنه أن يصادقني واكسب ثقته في دقائق ,الإنسان الذي يحتقرني لابد أن يكون حقيرا....
واجهت الموت بأشكاله المختلفة لذا لا أخاف أن تكرهني الزوجة ,أحاول في كل يوم إبعاد شبح المومياء وسهام واللاجئات والواقف الذي ينتظر والنصف حي ....وأحارب بكل قوة أن لا أتذكر الأعمى.....الموت خط احمر أحاول في كل مرة أن أخطو فوق الخط .....لم يسعفني الحظ بعد ....عندما ابحث أجد وعندما أصغي لا اسمع إلا نعيق الغربان.
لا يهمني ما يقوله الناس عني بعد أن اجتزت خطوط وضاعتهم أريد أن افهم نفسي وهم لم يتحوا لي فرصة للفهم .
أحاول أن اجعل الزوجة تكره النظام دون أن تجهد وتبحث في سر الاقتناع (المرء حريص على ما منع ) حين اهرب من قضبان السلطة سأصدم مع قضبان أخرى ,قضبان غير مرئية , جميع من كان معي في السجن حتى لو كان مجنوناً يتذكر حكمتي الشهيرة ,والحكمة التي تؤكد بحوثي في علم الانثروبولوجيا ,نحن الآن في مرحلة التبغيل لأن احد الجنود احتج على السجان وخنقه من البلعوم أو الزردوم مع علمه المسبق بأنه سوف يقتل ,بمعنى أدق انتحر – حكمتي تقول إن الشعب تحول من مرحلة الحمار الذي يساق بالعصا والذئاب التي تعوي ...زاوية ..زاوية .. إلى مرحلة البغل الذي يحتج لأن البغل هو الوحيد الذي ينتحر ...مرحلة البغل أكثر تطورا من مرحلة عرب أبو صابر ....إذن هناك تطور ....سنتطور إلى مرحلة الحصان الذي يهرب بسرعة اكبر أو مرحلة عرب الله كريم عندما أتذكر عرب أيوب ,أتذكر عرب الجب
عندما أتذكر سباهي أتذكر المومياء التي صنعتها منه كعاهة حتى يفلت من الموت في الجبهة ,المشكلة أنا حين أتذكر سباهي أتذكر حماره الذي يدور حول نفسه ودائما اسأل نفسي هل ندور نحن حول أنفسنا أو ندور في دائرة من فراغ.
كلما انظر للسماء أتمنى أن أنادي بأعلى صوتي فوق الأشجار ,هربت الكثير من الناس للخارج لكني لم أفكر يوما بالهرب ,لا لأني أحب وطني وإنما أخاف أن انفيه في بلدان العالم أو اجلس في سيارة ولا افهم التعليقات الساخرة من أفواه الركاب ,لكني ما زلت اعتقد أن الحرية هربت للخارج مع الذين نبتت لهم أجنحة وهاجروا ...الشرفاء الطيور....كل الذين هاجروا أو هربوا لا يعودون ما دام الدكتاتور يعرض نفسه على شاشة التلفزيون بدلا من الفلم العربي .
الإنسان الذي عاش في جنوب العراق يأسف لأنه عاش الزمن الحلزوني في هذه البقعة من العالم ...
أنا مثل نبتة الطماطم تحفظ بذورها لسنة أخرى لتزداد رداءة ,لا فائدة من وصف التعذيب ولا يمكن لأي كاتب في العالم أن يرصد ما يجري من تزيف في عقله وجسده ولا يوجد قارئ واحد يمكنه التصديق بما جرى ....بجدية عصية على الفهم ,يحاول السجين أن يستفيد فيها لكني على ما يبدو ... أشذ عن الآخرين ,الرأس الذي احمله ليس له علاقة بجسدي, يعمل بذكاء ودقة تخطيط وبرمجة ....تمكن من استعادة الذاكرة التي فقدها نتيجة الإبرة المخدرة بعد أن يزبد فمي جراء الكهرباء وإلحاحه على القراءة لكن برمجة دماغي لا اعرف لماذا تستعيد الأحداث بين أعوام 82و86 , أما عام 89 مفقود تماما ....لا اعتقد اني كنت فيه على قيد الحياة ...الأعمى الذي أحاول أن أتجنبه في كل مرة يلح على ذاكرتي , أن أستعيده للحياة قبل اختفائه من سطح الكوكب وبعد موته بيوم واحد ....
كالتمثال أشير بيدي
فرغت الزوجة ,اسمعها تقول ....أتريد أن اشتري لك كوب ماء ,شاي هل تريد شخاطة ؟...
جسدي بنحافته ,سوء تغذيته ,الكيبلات التي تركت خطوطاً من حروق ,الأصابع المشوهة, تمزق أعصاب المعصمين من التعليق ,مخرجي الذي جرح من ثلمة فوهة الزجاجة ,جسدي صار وعاء غريباً عني لم اعتد عليه بعد ....
- أرجوك ...أرجوك...من حقي أن امزح بهذا العيد
- حياة ...ليس ذنبي ...أنت اخترت الجلوس على هذه المصطبة المشؤومة تحت هذا التمثال صراخ المعذبين ما زال يطبل في رأسي ,رأسي كرة منفوشة الشعر أو الصوف , نعجة في قطيع ,نعجة قادرة أن تثغو ,أنا في هذه اللحظة ما زلت أشبّه نفسي في عينيك ...أتأكد ...هل أنا عاقل أم مجنون ...هل أنا إنسان ....لا يمكنني التصديق أن جسدي في السجن يصبح جسداً آخرا ,جسدا مهملا في سوق السكراب حياتي كلها مجرد حلم أو هلوسة ,الواقع صنعه الكبار قبل أن أولد ...سأكتب رواية وأنا اعرف مسبقاً لا أحد يقرأ وحتى لو قرأ فأنه مجرد فأرة كتب يستهلك ورقاً دون أن يشبع ...لان الفأرة لاتأكل وإنما تقرض فقط ,أنا اعرف بأنك تستنكرين قبل الكتابة لأنك متأكدة بأن الإنسان الذي شبع من القتل والجوع إلى حد التخمة لا تنفعه القراءة ,لا تعني له الثقافة شيئاً لأن تردي نوعية الغذاء لا تمد دماغه بالطاقة اللازمة للاستيعاب ...أنا الآخر مدنس بالخوف ,الإرث المتراكم من العنف والإحباط يمنعني من الإبداع، جملتي اللغوية لا تشبه الجملة الرائعة في قصص بداية الثمانيات ،عقل الجنوبي ينقسم إلى نصفين ,خوف وجوع ,.جوع غذاء وجنس أيهما تختار تفشل ,أنا الكاتب .. أنا الضحية الوحيد ...أيها الشيوعي الأعمى لو انتصرنا لأصبحنا أقبح جلاديَن في التأريخ ,بدون أن نعي لكن الله جعلنا مظلومين ,أنت متَ واسترحتْ وأنا هائم اثغو عن عالم منسي ...كيف تأخرت الثورة بنا الأننا صغار! ولم تتهيأ لنا جوازات أم إننا ارتكبنا الأخطاء ...هم ...هم فوق الأخطاء ....اختبئوا في بهادينان وحلبجة وناونوزك والكل قال أنا مثقف واعمل في الإعلام ....أنا اعرفهم ..واحداً ..واحداً ...نحن نريد الثورة وهم يريدون الاختفاء في الجبال ...يتآمرون في الكهوف ...يطلقون على هذا الـتأمر بالنضال السري وأنا اسميه التقية ...ابن الجنوب لا يفهم التقية لان الروح جزعت من الاضطهاد ,كل منا يتمنى أن يكون له فم واسع وبمكبرة صوت ويعلن احتجاجه حتى تبح الحنجرة ...الوضوح ....عار الوضوح جعلني شمبازي بائس ,قردة تتعشق بأبواب السجون ،كائنات للبيع في أسواق منظمات حقوق الإنسان العراقي ,كائنات فقدت بدائيتها معبئة بأفكار جنونية ,جسدي خزانه للايدولوجيا ,الجندي الذي فضل تهمة اللوطية على البقاء في الجبهة صار خزينة للمتعة ,مرافق غير صحية لغزارة السائل المنوي ,سمعته يحمد الله على إعدام الجميع ولأول مرة منذ أيام يمدد ظهره على الاسمنت دون أن ترفع فخذاه على كتفي احد الجنود ,ملّ التوسل والتألم ....وبلغ أقسى ما يصل إليه الإنسان من وضاعة حتى مخرجه احتج وخرج ورديا كالأنبوبة المنتفخة ..الكل يقذف ويقذف خارج الزمن أو يدور حول نفسه في الإحداثيات الصفر لإنسانية الإنسان.
لم يتحوا للإنسان فرصة,أن يتأمل أو يفكر ,سواء يختار الآخرة أو أهداف الدنيا النبيلة, لم يكن هناك اختيار , يمشي الإنسان على قوائم أربع إلى حتفه ,جعلوا الإنسان ينسى انه إنسان ,كائن أو قارض كبير أو ....أنا الكاتب الجامع أو المجنون العاقل الوحيد الذي سأعيدهم للحياة ,أنت النصف حي ,الملغى سقفه الأعلى...انطق....انطق يا كردي....انطق...انطق....
لا اعرف كيف امتدت يدي اليمنى ورفعت النصف حي وبدون أن انحني لالتقاطه من الأرض السفلى ,يد واحدة تلتقط إنسان هو بالتأكيد ليس حشرة وإنما كائن ما ,لم يمضغ الطعام منذ أسابيع , قلت له لماذا أنت في السجن صامت...وضحكت بصوت عال...كل كردي في العالم حين يتكلم العربية يؤنث الرجال وصوته يدغدغ إذني بارداً ...هادئاً ...هم الذين جاءوا بنا للسماوة ووضعونا في مخيمات ,غرف من طين ...نشوى في الصيف ...سمك مسقوف ...سموم عرب حارة ...أنا لم أذق البطيخ والرقي أو المكسرات منذ أن كنت طفلا...
نفذ صبري وارتجفت يدي اليمنى تهز جسده من الوسط ...تفكر بالطعام أنت لماذا في الناصرية؟ ..اعني مسكوك هناك ...أجابني بصوته البارد ابحث عن أختي ...سمعت أن الأمن أو هذا الذي يلبس زيتوني يغتصب نساء قرى الكرد في مجمعات هكذا قالت لي كردية مسكوها مع سائق شاحنة وكانت معه حتى تصل الشمال ...لم تكن تعرف كلمة عربية إلا الشمال....الشمال....تريد أن تصل حتى لو على ساقيها ....لكن عرب كلب اغتصبها في الطريق ثم سلمها للسيطرة ...
وعندما رآني هذا الكردي أهزه بعنف ... اتسعت عيناه ، فمه يصير دائرة ,لاتعنيني حياة الكرد بشيء ...أريد أن اعرف ما الذي جاء بك للحارثية ؟عرب ..هم مزقوا حنجرتي لأنهم يعتقدون بأني اهرّب العرب للشمال أو عندي تنظيم ما على ضفاف الهور .لأني صامت لا اعرف بماذا أجيب ...آخ عرب ...آخ ....أنت لماذا تفعل هكذا بأخيك ابن الشمال ......؟ تأثرت من كلمة أخ...حيث اعتقدت دائما أنها مشتقة من أخ....تألمت ..تألمت ...في وكدي أن ابكي لأنها ذكرتني بالأخ ...وفي شده الحزن ،فككت أصابع يدي فهوى النصف حي من علو ولم اسمع له صوت يشهق بعد ذلك....بحثت في الأسفل ,رأيت المومياء يشبه الضفدعة ...وبكل الكرة الذي أكنه لهذا الإنسان القُمة انتشلته مثلما ينتشل لسان الضفدع حشرة وقبل أن ارفعه قرب وجهي ...صرخت كم أكرهك ياسباهي ؟...أنت لماذا خلقك الله ...أنا اعرف إن اصغر مخلوق قد يكون له شأن ...لان الله يضع سره في اضعف خلقه ولا اعتقد أيضا قد يضعه فيك ...أنت نكرة ..الذي يعذبني هو انك ...اعتقد سوف لن تحاسب في الآخرة ...لأننا في الانتفاضة حين ضرب الأمريكيون معمل الدواجن ...فكرنا أن نجلب الطحين المخلوط بالدم اليابس والعظام المطحونة من معمل دواجن الريسز ،الجوع كافر ...نعم الطريق المؤدي للكويت مقابل الزبير ...هل تذكر حين جلسنا في الصباح ووجدنا الدواجن في كل الطرقات .....ومن الجوع دخلت علينا في البيوت.... وكان شتاء وثمة مطر اسود، أطلق عليك جنود القوات الخاصة النار من دبابات نظيفة محمية تحت سقوف الجينكو ..بعض الآليات لم تضمها السقوف، أنا متأكد أن الأمريكيين لم يضربوا الدبابات لسبب ما .......حافظوا عليها كي يسحقنا الدكتاتور ,ويصمت العالم، وحين اقتربنا من الطحين أطلقوا عليك النار.......هل تعرف بأنك أول شهيد في الانتفاضة شر البلية ما يضحك ,أنت الذي حاولت اغتصاب ياسمين الفلسطينية وأنت تعلم بأنها وأخواتها والجدة سكنوا معنا ....صارت أختي ...لماذا لم تدافع عنها في ليلة الجمعة تلك ,الليلة التي سبقت أول سباق خيول في ريسز الدريهمية وتركت العرب السكارى من كل حدب وصوب يغتصبون نساء فلسطين بعد أن اكتظ حي الطرب بطالبي المتعة....تركوا اللاجئات بدون حماية .ذلك الفلسطيني العجوز الذي اوثوقوه ..واغتصبوها حتى الموت .....أنت جبان ياسباهي ....أبي الحكواتي ضربوه على رأسه وفقد الوعي وإذا بلسان سباهي ينطق ...وأنت جبان ...لمجرد ضربك الأسود هربت ...خفت أن يستفرخك ...وأطلق سباهي ضحكة عالية ....كادت تعيدني إلى ذلك الإنسان المفزوع من الكيبلات والمصاب بالرهاب من أصحاب الألبسة الزيتونية لكني استجمعت قواي الخفية وتذكرت بأني الجامع المصحح ...قلت له...كنت طفل ....مجرد طفل... لكني لم اسمع إلا لغة بذيئة ..إنسان مجبول على البذاءة والوضاعة ...حتى أنا ...أنا صانع العاهات للجنود ...حين سكرنا قرب قبر هذا السياب وكعادتي حين اسكر (فول) ارمي البلوكة الكونكريت على اليد اليسرى لمن يريد كسر يده ,أنت الوحيد ارتجفت من الخوف ...على الرغم من تشبث عقيل سيد زيارة بأطرافك لأنك ارتجفت إصابتك العاهة في دماغك، الخوف يشل الإنسان ....لكن سباهي ,في اللحظة الأخيرة ,وقبل أن أفلته من يدي أجابني بجملة غريبة ...وأنت من الذي كنت تريده من أختي سهام ...كنت أراقبكم ...رأيتها مرة تلهو بفحل الحمار وتمرغه على فرجها وإذا بالحمار وبنترة ينتعض فيها الزب واخترق فرجها ....صحيح إذا قالوا الزب يصنع اوادم...وأخذت اصرخ بصوت افزع المارة على الكورنيش :- أنت كذاب.. كذاب وبذيء ,الله جبلك على البذاءة ...بصقت عليه,حاولت الزوجة التعلق بساقية المدلاتين ...لكني لا اكف من البصاق بوجهه ...أنت قتلت بالصدفة وإذا بالمومياء يقول :أنا أجسد نظرية تروتسكي ...إذا تحدث الناس ببذاءة هذا يعني أن هناك من سلب كرامتهم وتذكرت أني الجامع الذي يجب وبجهود أن لا يكره مخلوقاته التي يصنعها على الورق لذا أفلته.....
_ لا اعرف من صاح بي _ الأعمى ...الأعمى...

لم تكن بي رغبة أن أكمل استجواب المحشورين معي في ذلك السجن ...فهمت من أسئلة عديدة...إن السجون امتلأت ,أبو غريب لا يسع بعد ذلك وهم بحاجة لمن يفجر الألغام في شرق البصرة وهكذا حشروا بانتظار القيامة ...الجندي الذي يسميه الجميع بالواقف الذي ينتظر عرفت انه أصيب بكآبة انفصامية جعلته يلمّ أغراضه من الأسمال بانتظار لحظة الفرج ...والفرج لا يأتي لذا ظل ينتظر متشنج الأعصاب ...متوتر ...لايعي بما يدور حوله سألت رجل الدعوة قال :انه يضمّ روحه للسيد الصدر أما الشيوعي الأخير أجابني بدون تفكير..التعذيب يفوق قدراتي كانسان ..وباغتني شعور غريب ..من الذي خطفني ....انتشلني ...من الذي ميز ما كان ملقى في كتلة مختلفة ,غير مميزة على الأرض ...الكتلة الهائلة المزيج , مزيج لا يخترق ...بل كذب ...كل الفلاسفة يتاجرون باللسان ...اللغو ....صرخت بصوت افزع النوارس وطارت محلقة ...لا اعرف بالضبط بماذا كنت أهذي ...يتراءى لي بأني كنت انادي ...مطر ...مطر شاشة ...عّبر بنات الباشا ...وانظر بيأس لضفة الشط المقابلة ...لا أحد يردّ أو يناجي صدى صوتي المبحوح ..لا أمان لكم يا أهل الكوفة .. دائرة غير مكتملة للبشر تختفي من الخلف وأنا اصرخ : فوق الأشجار ,الآن فقط أطلقت سمو النفس الخبيئة تحت ركام الوضاعة, تخيلت نفسي طيراً فوق الأشجار ...أو كائناً ما يشبه الإله ,الإله الذي يجسد الحرية ,رأيت نفسي أتطاول بجسدي التمثال عالياً في السماوات ,أعظم ما يكون السمو,الفرح العميق في الحرية ,صرخت بدون إيعاز: زاوية ..زاوية ...و لم يهرب كائن أو حتى طير ما ... تحدثت بصوت آت من أعماق سحيقة لسجين ما وقد يكون إله...انتم لا تهربون لأنكم لم تروا الجدران التي سوف تنضغطون عليها وسيل الكيبلات على الظهور, أنا ...أنا الحرية ...أنا فوق الأشجار ...انتم لاتفهمون السر الخفي الذي جعل أدنى كائن على الكوكب في تلك السجون الوضيعة والتي فيها اليسروع أفضل من الإنسان ... أي عظمة تجعل من اليسروع إلها...وبكل ذلك الهوس ناديت الملائكة النورانية على الضفة الأخرى ... أنا لا انظر للإنسان من ثقب إبرة ،هذه ليست سيرة اله ذاتية بل سيرة كل الآلهة لأني كائن استعصى على الموت ،كلما يقترب منه ملاك الموت يلوذ هاربا ،أعيش على حافة الموت ..حافة الحياة ،إلا تعتقدين بأني كائن سماوي ،ما الذي يحدث إذا تطاول جسدي أو مجرد بروز صغير على هذا الكوكب وصار جبلا يعلو فوق الغيوم بالنسبة للنمل البشر ..أرجوك ..هل تنقلب الدنيا ،صرخت ثانية :زاوية ..زاوية..ولم يهرب احد وتأكدت أن الجميع موتى بل أن لهم وجوه نظيفة كوجوه البشر وقمصان بنصف ردن وأربطة عنق ولكن ثمة بروزات غريبة تمتدّ من بطونهم ..رؤوسهم ،بروزات تدل على كائنات لا تشبه البشر ، على ما يبدو هي أعماقهم الحقيقة ,هذا أعزكم الخالق يشبه( كلب) وذاك يشبه (خنزير) ..وهذا كائن أنيق, انتهزت البروزات فرصة حين مرّ من تحتي وصار كائنا لا يشبه كل طفيلي في العالم ,في هذه اللحظة توقفت ..رفضت أن أصير إلها لكائنات أعماقها ليست بشرية وصرخت :أين الإنسان... ولكن ثمة أيد تبحث في جيوبي ..تبحث في أعضائي .... ثلة من رجال شوارب 8 شباط تحيط بجسدي ...قفزت من فوق المصطبة ...وضعت لساني بين فكيّ على الجهة اليمنى وضربت الحنك بكل ما املك من جنون بقاعدة التمثال ...هاج الألم في اللسان وانبعثت من فمي زهرة دماء وصرخة عالية من فم زوجتي تشق السماء ...ما كان يجب أن أثرثر ...اعترف بما جرى ...أبدا .. لأن الزوجة صرخت بصوت آت من أعماق النفس البشرية حين رأت لساني يمتد كلسان أفعى استطال منكسراً على الجهة اليسرى ..لم تخرج الكلمة بعد ذلك من فمي لبضعة شهور هل تدركين معنى الجنوب ...إنها الوضاعة ...جنوب الجنوب .. لا يوجد إلا الموت قرارة الوضاعة وأنا أدور في دائرة الجنوب ..هذا الفراغ المتجدد أو المتوالد من وضاعة النظام وأي إنسان يفكر أو يحلم ...بالتأكيد يتمنى أن ينبثق من الفراغ ويسموا إلها.



#سعيد_حاشوش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- درب الفيل
- ستة أيام لاختراع قرية لعلي عباس خفيف
- معرض الفنان عبد الرزاق سوادي .....الفطرة الفنية
- قراءة في المختارة لجمان حلاوي ....عاصمة الزنج
- المختارة
- ازاحة الاقنعة
- عبد الحليم مهودر في ظل استثنائي... مدينة الانهار
- قراءة في مجموعة (اللوحة) القصصية لمجيد جاسم العلي
- ادباء بصريون : (شواهد الاشياء لباسم الشريف... شواهد الماء)
- (أصوات أجنحة جيم ) لجابر خليفة جابر....رفيف الأجنحة الراحلة
- كتاب ( طريدون ) القصصي ...رواية حديثة
- قراءة في مجموعة علاء شاكر رجل في عقل ذبابة : تطويع اللغة ومر ...
- لاأحد يشبه المسيح
- أدباء بصريون.... ناصر قوطي .. العمق المنفرد
- ادباء بصريون...عبد الحسين العامر في مرزوك ...الإيقاعات الضائ ...
- أدباء بصريون...حارس المزرعة لنبيل جميل .... عبثية الإنسان ال ...
- أنفلونزا الصمت..للقطراني قصص قصيرة جدا
- أدباء بصريون ... لعنة ماركيز لضياء الجبيلي .. رواية عجائبية
- أدباء بصريون... قراءة في رواية - علي عباس خفيف - (عندما خرجت ...
- أدباء بصريون .... محمد خضير بين التشيؤ والمثيولوجيا


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد حاشوش - التمثال