|
المُغتسلة
الصديق بودوارة
الحوار المتمدن-العدد: 4809 - 2015 / 5 / 17 - 19:18
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
العصر العباسي ، وبغداد العتيدة تضج حياةً وحيوية وتموج بالازدهار من كل جنس ولون واتجاه ، وتمتليء بالآراء والثقافات والمذاهب ، وتنساب في أزقتها جموع البشر من كل بلاد الدنيا ، ويزدحم فيها كل شيء ، لكن "ابو نواس" يقتطع لخياله ضيعةً ساحرة متخلياً عن ما سواها لأهل بغداد ، مبدعاً معنى احتجنا إليه بعد ألف ومئتي سنة من موته ، لعل معنى أبي نواس يعبر عن ما عجزنا عنه الآن . "أبو نواس"، يبدعُ أبياتاً من ذهب ، سماها النقاد بعده بإسمٍ يليق بها ، إنهم يطلقون عليها اسماً مثيراً للجدل ، يسمونها "المغتسلة" ، ويبتعدون بنا بعض الشيء عن رائعة "ابن النحوي" الشهيرة ، "المنفرجة" ، لعلنا نستدل بالموعظة أن الطريق الى الفرج سيكون سالكاً فقط اذا قادنا إليه الحياء . إن "أبي نواس" يلمح بطرف عينه مشهداً يستفز شاعريته العظيمة ، فيصور المشهد بعدسة فائقة الجودة ، قبل أن يُبدع الغرب في صنع الكاميرات ، ليشركنا معه في إثم التلصص ، لكنه يمنحنا بالمقابل كنزاً نحن بأمس الحاجة إليه الآن ، لعلنا نصف حالاً يؤرق منامنا ، بينما يتمتع أبو نواس بنومه الطويل . إن الشاعر المدهش يتلصص على جاريةٍ تستحم ، فيصف ما يراه : (( نضت عنها القفميصَ لصب ماء .. فورّد وجهها فرطُ الحياء )) هذا ما أريده الآن ، فهل ينبغي لي أن أشكر " أبي نواس " ؟ أم يتوجب عليّ أن أدخل الآن في صلب الموضوع ؟ " الحياء" ، ذلك الإحساس الذي راود جارية أبي نواس منذ ألف سنة ، لماذا لا يراودنا الآن ، ونحن نصنع ما صنع بأنفسنا ووطننا ومستقبل أجيالنا بعد مئات السنين ؟ حياءُ جارية "أبي نواس" ، ما أحوجنا إليك الآن ، فهل من أملٍ يدلنا عليك ؟ لعلنا نتوقف عن ما نحن فيه ؟ "مغتسلة" أبي نواس ، لا تشبهنا في شيء ، إنها فقط تغتسل مثلنا ، فعل الاغتسال هو وحده المشترك بيننا ، لكنها تغتسل بالماء الطاهر النظيف ، بينما نغتسل نحن بالأثم الدنس المدنس ، ما أبعد الفارق بين اغتسال واغتسال . ثمة فارق آخر بين المشهدين ، هناك الخجل ، مغتسلة أبي نواس تشعر بالخجل ، لكننا لم نعد نشعر بشيء . لا خجل فيما نفعله الآن ، كلنا تحولنا الى طغاة مقتدرين ، حتى الإيدلوجيا التي اعتنقها البعض منا ، بدل أن تطهرهم الايدلوجيا ، دنسوها هم ، وبدل أن ترتقي بهم مباديء الانتماء إلى منهج بعينه ، قاموا هم بالنزول إلى هذه المباديء إلى حضيض الممارسة الوحشية لمفهوم السيطرة والاجتياح ، فتحول أتباع الايديولوجيا إلى قطعان غير مروضة تنبت لها الأنياب وتتربص على أطراف أصابعها المخالب . هذا عن "ذئاب الشوارع " المؤدلجة ، فماذا عن مهندمي السياسة وباعة الكلام المنمق ؟ هل يطلبون هم أيضاً العون من مغتسلة أبي نواس ؟ تلك التي ورّد وجهها فرط الحياء منذ ألف سنة أو يزيد ؟ نعم ، اعتقد أن الجواب هنا بنعم كبيرة ، فلا حياء عند أحدٍ الآن ، لأن الساسة المبتدئون باعوا ماء الحياء بلا تردد ، وبكل خيبة الأمل نقلت لنا الفضائيات جلسات اجتماعات بيزنطية لنزاعات مجالس الحكومات المتعاقبة السورية ،وهم ينتخبون الرؤساء ويتنازعون مناصب أعضاء التشكيلات السياسية ،بينما يحصد الموت الفقراء في مدن الشام المنكوبة . وشاهدنا اليمن تُقاد إلى الخراب بينما أصبع "عبدالملك الحوثي" تتجول بين وجوه المشاهدين مهددةً متوعدة ، وبينما يناور "عبدالله صالح" ويخادع ويخدع ، في الوقت الذي يمضغ فيه البؤساء في صعدة وعدن وصنعاء القات والظلم والفقر والعوز . وها نحن في ليبيا ،نتأمل جحافل النشطاء السياسين ووجوه وزراء المناصب السيادية ، ونواب الشعب ، وأعضاء لجنة الدستور ، وهم يمارسون سياسةً متمهلة خجولة ، لاتعبأ بوضعٍ في منتهى الصعوبة وبشر يفقدون معالم بشريتهم كل يوم . وبعيداً عن اتهامات الغرب بالتآمر ، ها نحن نتآمر على أنفسنا ، من سوريا الى اليمن مروراً بليبيا ، نحن نتآمر على وجوهنا ، ونتآمر على منازلنا ، ونتآمر على حدودنا ، ونتآمر على موارد ثروتنا ، ونتآمر على بنية بلادنا التحتية ، ونتآمر على بقاء دولنا من الأساس . إننا نتآمر على كل ما يتعلق بنا ، لكننا لم نشعر بعد بذرةٍ من ذلك الخجل الذي شعرت به جارية أبي نواس ذات يوم . لكن الغرب ايضاً يتآمر ، ويستنفر الدنيا من أجل قطةٍ عالقة في أعلى شجرة ، لكنه ينام عميقاً قبل أن يتحرك من أجل آلاف البشر الذين يحصدهم الرصاص . الغرب يصدّر لنا الموت ذبحاً لكي ينام قيلولته هادئاً خالي البال ، ويجهز لنا السلاح لكي لا تتوقف عندنا الحروب ، ويصدر لنا الذخيرة بأرخص الأسعار لكي لا تتوقف مصانعه عن العمل ، ولا يهمه بعد ذلك كم جثةً ستمتليء بها شوارعنا ، مادامت خزائنه قد امتلأت بالمليارات . الغرب أيضاً لا يشعر بالخجل يا جارية أبي نواس القديمة . فمن غيرك يشعر به الآن ؟ هذا هو حالنا مع الخجل ، لكن مشهد أبي نواس مع جاريته لم ينته بعد ، إنه يواصل سرد تفاصيل ما يراه ، فكيف هو مشهد أبي نواس ؟ (( فغاب الصبح منها تحت ليلٍ .. وظل الماءُ يقطر فوق ماءِ )) هذا ما سمح لي المعقول باجتزاءه من هذه الأبيات ، لكني وجدت ما يملأني بالوجع في هذا البيت بالذات . أن يغيب الصبح تحت ليل ، أن يتمطى الظلام بسواده ليحجب نور الفجر ، ويرمي بالشمس المنيرة إلى حيث لا يراها أحد ، فإذا استمتع أبو نواس بهذا المشهد في زمانه فإننا لا نشعر تجاهه الآن الا بالحزن يمزق فينا كل شيء . أن يغيب صبحنا الآن ، أن يملأ العبث شوارعنا ، وأن تتشوه بالقسوة صدور الرجال ، وأن تزدهر في تواريخنا مواسم البشاعة والقبح ، وأن يتلوث حاضرنا بكل هذا الدم ، وأن يصبح الموت سهلاً ومباحاً ومشروعاً وفي متناول يد الجميع . الموت ليس فعل انتاج وحركة ، إنه فعل سكينة وعدم ، كل انسان يمكنه أن يضع حداً لحياته هو أو حياة غيره ،ليس في الموت ابداع ، وليس في الموت ابتكار ، لهذا ، فإن البشاعة كلها تكمن في أن يصبح إنتاج الموت هو كل ما نجيده ، وأن تصبح ثقافة الكراهية هي كل نتاج مصانع أفكارنا الآن . الموت ليس فعل حركة وتجدد ، ما يصنع الابتكار والتجدد والحركة هو فعل الحياة ، هو أن ننتج الأفكار ، وأن نصنع التجدد ، وأن نبني الأوطان وننشيء الدول ، لا أن نهدمها بلا حساب . هذه هي الموعظة ، وهذا هو الصبح الذي ينبغي أن لا يغيب تحت الليل ، وهذا هو المعنى الذي لا يجوز لنا أن نقتله ظلماً وعدواناً بحجة التغيير والحرية والانعتاق . عري قديم ، مارسته جارية حسناء منذ ألف سنة ، فصّوره شاعر مدهش كما هو : (( نضت عنها القميصَ لصب ماء .. فورّد وجهها فرطُ الحياء )) وعري حديث ، نمارسه نحن الآن ، ولكن بلا دهشة أبي نواس ، وبلا خجل نحس به . كلها معانٍ نشاهد الآن عريها ، تماماً كما شاهد أبو نواس عري جاريته الحسناء ذات يوم ـ غير أنها أحست بالخجل فورد الحياء وجهها ، بل أنه شدّد على أنه الحياء في أشد حالاته بعد أن وصفه بفرط الحياء ، بينما نصر نحن على عرينا الفاضح من قيم الانتماء الى مجرد وطن ، تماماً كما تعرت ذات يوم جارية ابي نواس ، ولكن ، دون أن نشعر مثلها بالحياء !!
#الصديق_بودوارة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شيطان أبوهم يبقى إيه
-
يد .. في وجه الوطن
-
ميم
-
مأزق الحوثيين
-
لعبة شارلي ابيدو
-
مجلس أمن الجثث
-
القداسة .. بذيل قرد
-
الدم الرخيص .. جداًً !!
-
سوق متعة الكذب !!
-
مطلوب غاندي .. ليبي !
-
متاهة الحقائق الضائعة
-
ثورة صباحي أم دولة السيسي ؟!!
-
أحزان الولاية الرابعة
-
أوكرانيا .. الربيع الميت !!
-
الماليزية .. وأختها الليبية !!
-
دروس الثورة الثانية (1)
-
نهاية العصر الأردوغاني !!
-
كلاب -كيم جونغ- !!
-
المترهلون
-
ثور بشار الأبيض
المزيد.....
-
شاهد رد مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي عن مقتل أطفال
...
-
مصادر تكشف لـCNN كيف وجد بايدن حليفا -جمهوريا- غير متوقع خلا
...
-
إيطاليا تحذر من تفشي فيروس قاتل في أوروبا وتطالب بخطة لمكافح
...
-
في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشارالمرض
...
-
لماذا تحتفظ قطر بمكتب حماس على أراضيها؟
-
3 قتلى على الأقل في غارة إسرائيلية استهدفت منزلًا في رفح
-
الولايات المتحدة تبحث مسألة انسحاب قواتها من النيجر
-
مدينة إيطالية شهيرة تعتزم حظر المثلجات والبيتزا بعد منتصف ال
...
-
كيف نحمي أنفسنا من الإصابة بسرطانات الجلد؟
-
واشنطن ترسل وفدا إلى النيجر لإجراء مباحثات مباشرة بشأن انسحا
...
المزيد.....
-
الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي
/ رسلان جادالله عامر
-
7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة
/ زهير الصباغ
-
العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني
/ حميد الكفائي
-
جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023
/ حزب الكادحين
-
قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية
/ جدو جبريل
المزيد.....
|