أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكي - التكون التاريخي لتخلف أمريكا اللاتينية















المزيد.....


التكون التاريخي لتخلف أمريكا اللاتينية


محمد عادل زكي

الحوار المتمدن-العدد: 4762 - 2015 / 3 / 29 - 00:46
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    



عادةً ما يجري تقسيم تاريخ أمريكا اللاتينية إلى أربع مراحل: المرحلة الأولى (1492– 1542) وهي مرحلة الغزو والاستعمار. المرحلة الثانية (1542–1810) وهي مرحلة المستعمرات. المرحلة الثالثة (1810– 1824) وهي مرحلة الكفاح من أجل الاستقلال السياسي. المرحلة الرابعة (1824وحتّى الآن) وهي مرحلة الحياة السياسية المستقلة. ومن الواضح أن التقسيم على هذا النحو هو تقسيم سياسي بالدرجة الأولى؛ ولأن ما ننشغل به هو الاقتصاد السياسي للرأسمالية؛ فسوف نعتنق تقسيماً مختلفاً نسبياً، إذ سنقسم، ضمناً، تاريخ أمريكا اللاتينية إلى مرحلتين: الأولى: مرحلة ما قبل هيمنة الرأسمال. والثانية: مرحلة هيمنة الرأسمال. ولتكوين الوَعي بملامح المرحلة التاريخية الَّتي شهدت مولد التاريخ الأوروبي الحديث، على جماجم ملايين البشر، وتبلور عصر النهضة، بإبادة قارة واستعباد الأخرى؛ فيتعين أن نتزود منهجياً بالأتي:
1- الوعي بالعدوانية المباشرة للرأسمال الأوروبي الاستعماري (الإسباني والبرتغالي في مرحلة أولى) على مجتمعات الاقتصاد المعاشي (بكل خصوصيته، وحضارته المدهشة: الإنكا، والأزتك) في أمريكا اللاتينية. فحينما وصل الغزاة لم يكن السكان الأصليون، ومنذ آلاف السنين، يعرفون لا الملكية الفردية للأرض ولا ملكية العقارات بوجه عام، إلا ان مفهوماً واضحاً لديهم عن لملكية الجماعية للأراضي؛ فقرار الإنتاج يتخذ بشكل جماعي، وتوزيع المنتج، حتى ما كان نتيجة القنص والصيد، يتم بشكل جماعي. والنقود، والأرباح، والرأسمال، هي من قبيل الأمور غير المفهومة على الإطلاق! فالتبادل، مع ندرته، كان يتم عن طريق المقايضة. والذهب، إله الأوروبي الغربي، لم يكن يستخدم سوى في بعض الحُلي وبعض الأدوات والمصنوعات البسيطة. ولم يرق هذا المعدن حتّى إلى منزلة وسيط التبادل لدى المايا أو الإنكا أو الأزتك أو غيرهم في أرجاء أمريكا اللاتينية قبل مجيء المستعمر الَّذي يعبد هذا المعدن! أما هؤلاء الغزاة، عَبدة الذهب، فهم قادمون من مجتمع التجارة والأرباح والمضاربة والتبادل النقدي المعمم، ولكنهم، مع الغزو، لم ينقلوا التنظيم الاجتماعي والاقتصادي الآخذ في التشكل في بلادهم الأوروبية وباقي أرجاء العالم الحديث، أيْ لم ينقلوا نمط الإنتاج الرأسمالي الناشيء؛ إنما نقلوا جميع نظم الاستغلال الهمجية البالية، إذ نشأ الإقطاع بكل قسوة العبودية في المستعمرات، في نفس الوقت الَّذي تحلل فيه الإقطاع في العالم الوسيط، وانزوت فيه العبودية في الأعمال المنزلية، وبعض الأجزاء اليسيرة المتفرقة من العالم المعاصر!
ويجب أن يكون من الواضح أنه من المؤكد تاريخياً أن أوروبا لم تكن أكثر تطوراً أو تقدماً من الحضارات الأخرى في عام 1500، بل كانت أوروبا الأشد تخلفاً والأكثر بلادة! إن الاستعمار النهبوي هو الوحيد القادر على تفسير نهضة أوروبا. وبفضل الموقع الجغرافي الَّذي احتلته القارة الأوروبية تمكنت سُفن الغزاة، عَبدة الذهب، من بلوغ العالم الجديد. ولكن، كيْ تفرغ شحنات البارود في قلوب السكان الآمنين، وتملأ بدلاً منه الذهب! وفي المستعمرة؛ فبحصول الصراع الجدلي بين رغبة الغزاة المحمومة في الأرض الشاسعة، والذهب، ومجابهة السكان الأصليين(4)، الَّذين كانوا في الأصل مالكين لشروط تجديد إنتاجهم، تبدأ العملية التاريخية (الدامجة) للأجزاء المستعمرة في الكل الرأسمالي الناشيء. تزامنت هذه العملية مع ضخ المزيد من قوة العمل (المستوردة، المقتنصة) من خلال تجارة سيطر عليها آنذاك التاج الإسباني والتاج البرتغالي، وتبعهما في ذلك في ما بعد باقي القوى الاستعمارية الأوروبية. بصفة خاصة فرنسا وإنجلترا وهولندا. يتعين هنا الوعيْ بمجموعة من الأحداث الجوهرية، ففي الفترة 1688- 1815، اشتبكت فرنسا وإنجلترا في سبع حروب، كان من أهم أسبابها على الإطلاق، التنافس في المستعمرات، وفرض السيادة والهيمنة على البحار، وكانت كلما نشبت حرب بين دولتين في أوروبا، امتد لهيبها إلى ما وراء البحار، واشتعلت نيران الحرب كذلك في المستعمرات.
2- الوعيْ بالهمجية والقسوة والبشاعة الَّتي اقترنت بالحقبة الإستعمارية وفجر الرأسمالية المشرق! فعلى سبيل المثال كان عدد سكان المكسيك في عام 1519 نحو 25 مليون نسمة، انخفض هذا العدد إلى مليون وتسعمائة ألف مع حلول عام 1579! وكيْ يبلغ ذروة انخفاضه مع عام 1629 حين بلغ مجموع سكان المكسيك نحو مليون نسمة! أيْ أن عملية الإبادة، الَّتي تمت في مئة وعشرة سنة، قضت على 24 مليون مكسيكي تقريباً! وفي منطقة الكاريبي، على سبيل المثال أيضاً، انخفض عدد السكان من 5,850 مليون نسمة في عام 1492 إلى نحو 1,960 مليون نسمة في عام 1825.
كتب ماركس:"ان اكتشاف مناجم الذهب والفضة في أمريكا، واقتلاع سكانها الأصليين من مواطنهم واستعبادهم ودفنهم أحياء في المناجم، وبدايات غزو ونهب الهند الشرقية، وتحويل أفريقيا إلى ساحة محمية لصيد ذوي البشرة السوداء، إن ذلك كله يميز فجر عهد الإنتاج الرأسمالي، وإن هذه العمليات الرغيدة هي العناصر الرئيسية للتراكم الأوَّلي".
يتعين إذاً البحث في دور الغزو الاستعماري الأوروبي (الإسباني والبرتغالي تحديداً، في مرحلة أولى) في دمج الاقتصادات المستعمَرة ذات الاكتفاء الذاتي، أيْ الإنتاج خارج فكرة التداول النقدي، في اقتصاداتها المستعمِرة كأحد الأجزاء التابعة. فلقد ظل الإسبان، عقب استقرارهم في جزر الهند الغربية، يرسلون البعوث الاستعمارية لاستكشاف شواطيء أمريكا الوسطى، حينما سمعوا عن بلاد في الغرب، يكثر فيها الذهب، والفضة بكميات لا تحصى؛ فعهدوا إلى حملة صغيرة بقيادة كورتيز لغزو هذه البلاد، المكسيك حالياً، الَّتي كانت موطن قبائل ذات كنوز هائلة وحضارة رائعة وديانات وفنون راقية. إنها حضارة الأزتك، الَّتي أبيدت ومسحت من على خريطة العالم! وحينما سمع الإسبان عن بيرو، وهي موطن قبائل أخرى ذات كنوز وحضارة لا تقل فى روعتها عن الأزتك؛ إنها حضارة الإنكا؛ أعدوا حملة بقيادة بيزارو للاستيلاء عليها، وتَحكي المراجع المختلفة في هذا الشأن أن أهل تلك البلاد أهل سلام وسلم وسكينة، يَملكون مِن الذهب مالم يخطر على بال أوروبي واحد؛ حتّى أن ملك الإنكا، أتاهوالبا، افتدى نفسه لما أسر، كما يُروى، بملء الحجرة الَّتي كان فيها ذهباً، ولكنه لم يدع كي يمضي في سلام، إنما تم تقديمه إلى المحاكمة بتهمة عبادة الأوثان وارتكاب الزنا! وأعدم في 1533.
3- الوعي بالكيفية الَّتي تم من خلالها فرض الزراعة الأحادية على أغنى أراضي قارة أمريكا اللاتينية وأخصبها وأوفرها إنتاجاً: البرازيل، وباربادوس، وجزر سوتابنتو، وترينداد وتوباجو، وكوبا، وبورتوريكو، والدومينيكان، وهاييتي، الأمر الَّذي كَوَّن تاريخياً بلداناً كالإكوادور على سبيل المثال، يتوقف مصير سكانها على تقلبات الأسعاالأسعار العالمية للبن أو الكاكاو، أو الموز! هنا يجب الوَعيْ أيضاً بالكيفية الَّتي تمت من خلالها عملية تعميق هذا الشكل مِن الزراعة من خلال هيكلة اقتصادات بلدان القارة على نحو يخدم، بإخلاص، اقتصادات الأجزاء الاستعمارية؛ بجعل بلدان القارة مورداً دائماً للمواد الأولية. الحال الَّذي أفضى، بعد استنزاف التربة، إلى استيراد المواد الغذائية؛ فالأرض آلت ألا تنتج سوى المحصول الواحد، المحصول الاستعماري: سكر، كاكاو، مطاط، بن، قطن؛ وهو الأمر الَّذي تزامن مع نشوء المزرعة الاستعمارية (اللاتيفونديات) وتبلور الطبقات الاجتماعية المكونة تاريخياً في ركاب الرأسمال الأجنبي (الإسباني والبرتغالي والإنجليزي والفرنسي والهولندي، ثم الأمريكي كأمتداد للهيمنة الإستعمارية الأوروبية) ومن هنا نشأت أرستقراطية السكر، وأوليجارشية الكاكاو، كما ظهر أثرياء الغابة (المطاط) وأباطرة البن. ولسوف تنهض هذه الطبقات، في ما بعد، بتأدية دور البطولة المطلقة من خلال الأرباح الَّتي تجنيها بفعل القانون الموضوعي للقيمة، في تدعيم بنية الخضوع والهيمنة، وتكريس عوامل التخلف التاريخي لدول القارة. فتلك الطبقات الَّتي تربّت في كنف المستعمر وتلقت تعليماً استعمارياً راقياً لا توجه (ولا يمكن على هذا النحو أن توجه) هذه الأرباح إلى الحقول الاستثمارية الوطنية، بل يعاد ضخها في نفس العروق... إلى الخارج!
4- الوَعيْ بدور متطلبات عملية دمج الأجزاء المستعمَرة في الاقتصادات المستعمِرة، كأحد الأجزاء التابعة، في قلب الميزان الديموجرافي في معظم أجزاء القارة وهو الأمر الَّذي معه يتعين الوعيْ بطبيعة نمط الإنتاج الَّذي استخدمته الاقتصادات المستعمِرة في سبيل انهاك الاقتصادات المستعمَرة وتصفيتها مادياً، وسلبها لشروط تجديد إنتاجها. ونمط الإنتاج الَّذي استخدمته القوى الاستعمارية إنما يحتاج (لتمحوره حول السخرة والعبودية) إلى قوة عمل وفيرة، أكثر من وسائل الإنتاج (مواد العمل وأدوات العمل) ولذا سيكون من الضروري أن تقوم قوى الاستعمار الأوروبي بضخ نحو 8 مليون عبداً (إنسان) أفريقي إلى مناطق البرازيل وغرب الانديز وجيانا في الفترة من 1550 وحتّى 1850 بعد أن قضى الاستعمار على السكان الأصليين. تركز هذا الضخ في معظم جزر الكاريبي ومناطق زراعة القصب ومناجم الذهب ومزارع البن. الأمر الَّذي أفضى إلى تكوّن طبقة (الكريوليس) الَّتي ستنهض بدور هام في سبيل ترسيخ الهيمنة الاستعمارية حتّى بعد تولت شطر القارة الأفريقية ابتداءً من النصف الثاني من القرن الثامن عشر؛ فلقد كرس الاستقلال في بداية القرن التاسع عشر تحويل السلطة إلى أيدي الملاك العقاريين والبورجوازية الكمبرادورية. عقب ذلك استمر التحويل وتدعيمه على امتداد القرن إزاء تكثيف التبادلات مع المتروبول الجديد، بريطانيا العظمى.
5- الوعيْ بالكيفية التاريخية الَّتي بمقتضاها أمست القارة اللاتينية للأوروبيين عالماً جديداً بما تحمله الكلمة من معنى؛ إذ تبين سجلات الأشخاص المرخص لهم بالذهاب إلى الهند الغربية أسماء وحرف كثير من أصحاب الحرف والصنّاع المهرة، ونستطيع أن نستخلص من تحليل هذه السجلات، وما تضمنته من حرف ومهن، الأحوال الاجتماعية المعقدة الَّتي كانت تتزايد في المجتمعات المدنية الآخذة في التطور، ليس في الأجزاء المستعمِرة فحسب، إنما في الأجزاء المستعمَرة كذلك. فمن الَّذين رخص لهم بعبور الأطلنطي في الفترة من عام 1509 حتّى عام 1517: مزارع، وبغّال، وتاجر، ومحترف فلاحة بساتين، وصيدلي، وأربعة من صانعي الأحذية، وصانع آلات قاطعة، ومتخصص في أعمال السباكة، وفاحص معادن، ونجار، وحلاق، وحفار، وحائك ملابس، ونقاش، وحداد، وصانع أحذية، وصانع جوارب، وصانع عربات، وصانع فضيات، وصيرفي، وصانع شموع، وصانع معدن، وخياط، وجراح خلع أسنان، وراعي غنم، وزارع فاكهة، وثمانية بنائين، وخراطين، وخزافين، وصناع صهاريج، ومطرزين، وحدادي أقفال، وخبازين، وصانعي أحذية.
6- من المهم أن نعلم أن الغزاة، عَبدة الذهب، قد نهبوا، من بوليفيا وبيرو والمكسيك والهند الغربية والبرازيل وتشيلي، في الفترة الممتدة من 1545 حتّى1800 نحو15173,1مليار ماركاً من الفضة، ونحو4572 مليار ماركاً من الذهب. وتكمن أهمية معرفة هذه الجرائم في فهم الكيفية الَّتي تحققت من خلالها عملية هيمنة قوانين حركة الرأسمال.
فقد استقبلت أوروبا ثروات، هي بالأساس أدوات دفع، غير مسبوقة تاريخياً. الأمر الَّذي انعكس على الوظائف الَّتي تؤديها النقود في الحياة اليومية في داخل الأجزاء المستعمِرة، فقد زادت كمية النقود في نفس الوقت الَّذي نشطت فيه التجارة عبر بحار ومحيطات العالم الحديث، وتمكنت أوروبا من الوصول إلى مراكز التجارة البعيدة شرقاً وغرباً.
في الوقت نفسه، الَّذي بدأ فيه التراكم الرأسمالي، بدأت الاكتشافات المعرفية والمخترعات العلمية، وأصبحت النقود تلعب دوراً تعدى الاكتناز إلى الرأسمال. الرأسمال الَّذي يستخدم من أجل الإنتاج. وهو الأمر الَّذي تطلب البحث عن قوى الإنتاج الأخرى. فالرأسمال موجود بكثافة عالية، وأدوات العمل يجري اختراع المزيد منها وتطويرها بوتيرة متسارعة. يتبقى مواد العمل أَيْ المواد الخام. حينئذ تكون المستعمرات المورد الرئيسي لهذه المواد مثل السكر والمطاط والبن والموز... إلخ. يجب إذاً الوعيْ بطبيعة التراكم الرأسمالي على الصعيد العالمي وحقيقة التكون التاريخي لاقتصاد المبادلة النقدية المعممة في أوروبا في القرن الخامس عشر، هذا التكون التاريخي الَّذي تم من خلال التواطؤ بين الرأسمال التجاري (عقب تبلوره الطبقي والاجتماعي) والسلطة المعبرة عن فكرة الدولة القومية الساعية إلى تحطيم الاصطفائية الَّتي نهض عليها نمط الإنتاج الإقطاعي، والمتجهة نحو الانسلاخ من الجسد اللاتيني وذلك حتّى آواخر القرن السابع عشر، ثم توسع الرأسمال الصناعي حتّى أوائل القرن الثامن عشر، والَّذي تزامن مع هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي في طريقه إلى خلق السوق العالمية وتدويل الإنتاج من خلال أنماط مختلفة للتقسيم الدولي للعمل والتغلغل في هياكل المجتمعات المتخلفة مشكلاً بذلك أجزاء للاقتصاد الدولي بمستويات مختلفة من التطور. فأضحت أجزاء متقدمة، وأمست أجزاء متخلفة، بالمعنى العلمي لا الأخلاقي للتخلف.
7- الكيفية التاريخية الَّتي تبلور من خلالها التاريخ النقدي "للهيمنة" الأمريكية في القرن التاسع عشر، بعد سلسلة متصلة من العلاقات الجدلية بين القوى الأوربية(15) المتصارعة (هولندا، إنجلترا، فرنسا، روسيا، النمسا، المانيا، إيطاليا، بروسيا، الدولة العثمانية) وانتهاءً بالحرب العالمية الأولى الَّتي خرج منها الاقتصاد الأوروبي حطاماً، بينما خرجت الولايات المتحدة الأمريكية كأغنى وأقوى دولة رأسمالية في العالم، يزيد مجموع أرصدتها الذهبية عن مجموع الأرصدة الذهبية الَّتي تملكها روسيا وفرنسا والمانيا وبريطانيا، وكأن الحرب لم تفعل شيئاً سوى تحريك التراكم، أيْ نقل ثروات أمريكا اللاتينية من أوروبا إلى الولايات المتحدة. هنا ينبغي أن نعي الظروف التاريخية الَّتي سادت في القرن التاسع عشر، والَّتي تمكن الذهب من خلالها من إرساء الأثمان المعبّر عنها بعملات وطنية مختلفة نظير سلع تم إنتاجها في أماكن متفرقة من العالم وفي ظل ظروف إنتاجية مختلفة.
ولم يكن من الممكن للذهب أن يؤدي هذه الوظيفة إلا ابتداءً من تداوله كنقود في داخل الاقتصاد الرأسمالي القومي الأكثر تطوراً والَّذي كان في سبيله للسيطرة على الجزء الأكبر من المعاملات الدولية: الاقتصاد البريطاني. وتمكن قاعدة الذهب الدولية بدورها الرأسمال البريطاني من تأكيد هيمنته داخل الاقتصاد العالمي، وهي هيمنة استمدها من تفوق الإنتاجية النسبية للعمل عمقاً ومدى، وبفضل هذه الهيمنة يصبح الاسترليني، العملة الوطنية البريطانية، سيد العملات دولياً، ويمكن أن يحل محل الذهب لعملات بلدان أخرى تخضع لهيمنة الرأسمال البريطاني.
وهكذا تحل هيمنة رأسمال أحد البلدان على الصعيد الدولي محل سلطة الدولة على الصعيد القومي، وتمكن هذه الهيمنة عملة الرأسمال المهيمن من القيام في المعاملات الدولية بدور النقود الدولية، سواء كانت هذه العملة تستند إلى الذهب أو لا تستند، وإن يكن من الضروري أن تبدأ فترة سيطرتها التاريخية، بحكم تاريخية النقود، بالاستناد إلى الذهب.
ويكون من الطبيعي، كما كتب د. محمد دويدار، عند انتقال الهيمنة من رأسمال قومي إلى رأسمال قومي آخر أن ترث عملة المهيمن الجديد وظيفة النقود الدولية حالة بذلك محل عملة الرأسمال الَّذي فقد هيمنته على الاقتصاد الرأسمالي الدولي. وذلك هو ما حدث في فترة الحربين العالميتين عندما فقد الرأسمال البريطاني هيمنته على الاقتصاد الدولي (تاركاً الاقتصاد الدولي كي يقسم عدة كُتل نقدية)؛ فقد ظهر الرأسمال الأمريكي كي يفرض هيمنته، ولكي تأتي الحرب العالمية الثانية لتؤكد الهيمنة الجديدة الَّتي تفرض جميع تبعاتها في الفترة التالية للحرب.
8- كما يتعين التقدم خطوة إلى الأمام، تاريخياً، ومِن ثم منهجياً، بالبحث الواعي في دور الشركات الأجنبية العملاقة، دولية النشاط، ورساميلها القومية في تعميق التخلف والتبعية في أجزاء القارة المختلفة كمورد رئيسى للمواد الأولية، من دون أيْ مشاركة من هذه الأجزاء في عملية التجارة في أيْ مرحلة من مراحلها (الإنتاج، التسويق، التوزيع، التخزين،...)، مع الحفاظ دائماً على إثارة القلق في أسواق تلك المنتجات، حفاظاً على التحكم في أسعارها العالمية وإمكانية التلاعب بها. وتعتبر شركات النفط العالمية الكبرى من أقدم الشركات دولية النشاط في هذا الشأن.
9- وإذ ما اتخذنا من النفط أداة فكرية تنقلنا نوعياً من التحليل المنهجي لتخلف القارة اللاتينية إلى محاولة تكوين الوعي بطبيعة العلاقات الاقتصادية الراهنة على الصعيد العالمي، من خلال فهم الدور الَّذي يلعبه النفط على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي في عالمنا المعاصر (الرأسمالي)، فإنه يتعين الوعي، إنما الناقد، بثلاث أفكار رئيسية:
- الدور التاريخي للنفط في تثوير الإنتاج الزراعي والصناعي بل والخدمي، على الصعيد العالمي، وبصفة خاصة في الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالي العالمي المعاصر، وما استصحب ذلك من صراع محموم على الزيت متزامن مع تطوير متسارع في الهياكل الصناعية، ومن ثم تطوير عمليات الإنتاج من أجل السوق الدولية بوجه عام، بعد تقليص الدور الَّذي كان يلعبه الفحم، ابتداءً من النصف الأول من القرن العشرين.
- الوَعيْ بطبيعة النفط، وقيمة استعماله، كسلعة محولة، ويُعد فعل التحويل هذا في ذاته شرط تحقق تلك القيمة (البنزين، المازوت، زيوت التشحيم، الكيروسين، البتروكيمياء،... إلخ). الأمر الَّذي يستلزم الوعي بأدوات تحويله، ومن باب أولى يوجب الوعيْ بأدوات إنتاجه (صوراي الحفر ومواسيره، ومصاطبه"البحرية والبرية"، والروافع، والمناضد، والدورات، والكلابات، والحفارات، والمضخات، والمحركات، والأنابيب، والمصافي... إلخ) وإذ ما أضفنا إلى ذلك الوسائل المساعدة (النقل مثلاً) فإنه يمكن افتراض إفتقار الأجزاء المتخلفة للسيطرة على شروط تجديد إنتاج النفط.
- تلعب الشركات دولية النشاط، والرأسمال الخاص بوجه عام الدور الأكثر أهمية؛ ويتبدى مدى نشاط الشركات دولية النشاط بوضوح حينما نعلم أن مصر، على سبيل المثال، تفتقر إلى السيطرة على شروط تجديد إنتاجها من النفط، لأنها تعتمد على هذه الشركات في جُل مراحل العملية الإنتاجية ابتداءً من تقنية البحث والتنقيب والإستخراج، ومروراً بأدوات الإنتاج ومواد الإنتاج. وانتهاءً بالتسويق ووسائل النقل ومعداته. والأجزاء المتخلفة حالها حال جُل البلدان المصدرة للنفط لا تشارك، بشكل فاعل، إلا بقوة العمل، في أَية مرحلة من مراحل إنتاجه (الكشف، التنقيب، الاستخراج، التكرير، التصنيع، النقل) فالتقنية أجنبية، والآلات أجنبية، والمواد أجنبية، ومعدات الشحن والتفريغ أجنبية، وسفن النقل أجنبية! ولا تقدم الأجزاء المتخلفة المنتجة للنفط (بدقة: المنتج لها النفط) إلا قوة العمل!



#محمد_عادل_زكي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تاريخ ضائع
- التبادل متكافيء
- أرسطو (المنطق، والقانون، والاقتصاد)
- محاضرات مدرسة الإسكندرية (6)
- محاضرات مدرسة الإسكندرية (5)
- المدرسيون: من الإقطاع إلى الثمن العادل
- من أجل الزيت!
- نهاية الاقتصاد السياسي: من العلم إلى الفن التجريبي
- من الاقتصاد السياسي إلى الاقتصاد
- مدرسة الإسكندرية للاقتصاد السياسي: المحاضرة الأولى
- ماتت شيماء
- جدول محاضرات الدورة العلمية السادسة
- مدرسة الإسكندرية للاقتصاد السياسي
- من ريكاردو إلى ماركس عبر قانون القيمة
- العصور الوسطى: تعليق على المصطلح
- محاضرات مدرسة الإسكندرية (4)
- محاضرات مدرسة الإسكندرية (1)
- محاضرات مدرسة الإسكندرية (2)
- محاضرات مدرسة الإسكندرية (3)
- الفكر الاقتصادي عند أرسطو


المزيد.....




- في اليابان.. قطارات بمقصورات خاصة بدءًا من عام 2026
- وانغ يي: لا يوجد علاج معجزة لحل الأزمة الأوكرانية
- مدينة سياحية شهيرة تفرض رسوم دخول للحد من أعداد السياح!
- أيهما أفضل، كثرة الاستحمام، أم التقليل منه؟
- قصف إسرائيلي جوي ومدفعي يؤدي إلى مقتل 9 فلسطينيين في غزة
- عبور أول سفينة شحن بعد انهيار جسر بالتيمور في الولايات المتح ...
- بلغاريا: القضاء يعيد النظر في ملف معارض سعودي مهدد بالترحيل ...
- غضب في لبنان بعد فيديو ضرب وسحل محامية أمام المحكمة
- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكي - التكون التاريخي لتخلف أمريكا اللاتينية