أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي (55)















المزيد.....

منزلنا الريفي (55)


عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .


الحوار المتمدن-العدد: 4548 - 2014 / 8 / 19 - 17:25
المحور: الادب والفن
    


تأملات أنثروبولوجية (1)

المقبرة

تحت الظلال الوارفة لأشجار الجبوج الشائخة، والمتغورة جذورها في طبقات الأرض السحيقة، تجلس كل عاشوراء نسوة في عيونهن الدموع، وفي قلوبهن الأسى، يجددن صلتهن بعالم الأموات، يحملن في أياديهن التين المجفف، أو عناقيد التمر مرفوقة بالخبز الساخن، يوزعنه على أطفال المدرسة، وعلى بعضهن البعض . تعود القبور إلى عهد سحيق، بعض منها اختفى، والبعض الآخر مرتب ببعض الأحجار المهترئة، أما القبور الحديثة فهي محددة بالآجور والإسمنت، لكن الكل بدأ يهترئ، باستثناء واحد مرمم بالزليج، على رأس بعض القبور يوجد حوض صغير، دائري الشكل، تسكب فيه النسوة بعض المياه اعتقادا بأن الميت يشرب كالأحياء، هناك من يسكب المياه من أجل العصافير التي تعشش على أغصان الأشجار كالبوم والعقبان والدوري، فبشربها تنزل رحمة تخفف من حساب الموتى الذين يلاحقون ويتابعون على أفعالهم في عالم الأرض . تحمل النساء قارورات لسكب الماء على القبور، فالماء هو رمز الحياة، هو أداة لتجديد الصلة لحياة الأموات في الأحياء، تجلس بعض النسوة على شفا القبر، تحدث صاحبه بكل الأحداث، تخوض حوارا معه، يبقى هذا الحوار في حقيقة الأمر حوارا مع الذات، إنه بحث عن الذات في الآخر الميت، لكنها فرصة للهروب والانفلات من الذات نحو الآخر، فرصة لتأمل تجربته، إنه استباق المصير الذي ينتظر الذات، هنا تتحدد تراجيدية الحياة عارية أمام الذات وهي تتأمل الآخر، فتتهاوى الدموع التي لا تجد لها ردا...إن الدموع اعتراف صريح أن العدم هو مآل الإنسان، ليس هناك عالم آخر، وإلا لماذا هذا الاحتقار الذميم الذي يطال الإنسان ؟؟ قبور اختفت، قبور افترستها الضباع، وأخرى جرفها الوادي، وإذا كان الإنسان مكرما، فلماذا عبثية هذه القبور وهواميتها ؟؟ إن الثعبان الذي يصفر في أعلى الشجرة أحسن ألف درجة من أجمل قبر في هذه المقبرة !! تتعالى أيها الإنسان في الأخير تجد نفسك محشورا في قبر وضيع تفترسك الديدان .
في بني كرزاز، ينطلق فعل الموت من نقطة مركزية، سرعان ما يتعمم بشكل دائري، إن الحدث ينطلق على شكل نواح مرفوق باللطم والرطاوة والنتف والندب، والتعري في بعض الأحيان كما كان يحصل قديما، مدعوما بكلمات : وااااهي مي فين مشيتي وخليتينا على سبيل المثال . لكن كلما توسع إلا وقلت حدته، إلا أنه في بعض الأحيان يشارك الدوار بأسره في طقس الموت . الرجال يبكون في الهامش، بينما النسوة يدخلن في المعمعة حاملات شفرات صدئة، ويشرعن في تمزيق وجوههن، يذهبن صوب الفرن الطيني، ويشرعن في التمرغ على الرماد، وفي الندب، وفي نتف شعرهن بعنف متوحش . تنسى المرأة القروية كل شيء، تقاوم الحدث مهما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وبالتالي تذرف الدموع الساخنة، تسكب الدماء الفوارة، وتعنف جسدها حد الإذلال، تكسر القيم كالفتات، وتدوس على العادات نشدانا للحياة المعتملة في الكيان .
يغسل الميت من طرف الأقارب، أو الفقيه، لكن في اللحظة التي يؤخذ فيها صوب المقبرة، ترتعش وجوه من أجل ذلك، وتأبى هذه اللحظة الفارقة، إنه ذهاب دون إياب، خروج دون دخول، فراغ دون ملء، وجود يعمره العدم...يرحل الميت نحو المقبرة، يصلون عليه في حفل تنكري إيذانا بخروجه من عالم ودخوله إلى عالم آخر....لا يتذكرونه إلا في المناسبات، ففي الذكرى تذكر، وفي المرآة رؤية، وفي الغياب حضور ...
حتى التسعينات، كان الكرزازيون يزورون بانتظام المقبرة، فتحمل النسوة الحناء، ويشرعن في فعل الحناء للقبور، أعتقد أن تلك الصلة بين عالم الأموات والأحياء تجد تعبيرها في الحناء، فهي ذات لون أخضر الذي يحيل على الحياة، وبالتالي هي دعوة لإحياء الميت في الأحياء، بمعنى خلق صلة، وربط علاقة معه. تجلس كل امرأة جانب القبر، وتشرع في تجيير بنائه بالحناء، ففي أعلى القبر تتخيل أنها تحني الرأس، وفي الأسفل تتخيل أنها تحني الرجلين، وتحس أن صاحبة القبر هادئة، مطمئنة البال، تسلم لها رجليها ورأسها بعفوية كما كانت في السابق في عالم الأحياء. إن النسوة يفعلن ذلك وفي اعتقادهن أن الميت حي، صحيح أنه ما عاد يتحرك، لكن هناك ما يجعله يتحرك في الخيال، ففعله وحركته وكلامه...مازال ينضج في الخيال، أكثر مما كان وهو على قيد الحياة، فكلما غاب الإنسان عن نفسه حضر في الآخرين، وبما أن الميت غائب في نفسه، فإن أثره حي في الآخرين يعتمل، ويشيد صروحا من الخيال.
المقبرة مكان مقدس في الاعتقاد المحلي، فخلال زيارتها ترتدي النسوة اللون الأبيض إيذانا بالطهرية والصفاء، ولكن حينما يزور المرء المقبرة، يعثر بين القبور على الروث والغواط، حتى الأموات تلازمهم هذه الأشياء العفنة، بل أكثر من ذلك يجتازها البشر، وترعى فيها الحيوانات، ويلعب فيها أطفال المدرسة، وفي حواشيها يتبولون، ويتغوطون، إن ما يطال الميت، يطال الحي، فهذا الأخير تتغوط عليه الدولة بضروب الإهمال والتهميش، فهذا الطفل الذي يلعب في المقبرة لم يجد أين يلعب، إنه يهرب من سجن المدرسة التي تفتقد للماء والكهرباء والمرحاض والملاعب صوب المقبرة . هروب من موت إلى موت، كيف يعقل أن تبنى مدرسة إلى جانب مقبرة ؟ شخصيا من خلال دراستي بمدرسة بنت عبو القروية، كان المعلم يبرحنا ضربا إذا لم نحفظ جيدا السور القرآنية الحافلة بالتهديد والوعيد، كنت أستحضر الفلاقة إلى جانب مواكب الموتى التي تتهاطل يوميا على المقبرة. لم نكن نتعلم في المدرسة الحياة. الموت هم يومي، فبمجرد أن نخرج من المدرسة حتى نتوجه صوب المقبرة، هناك نرى الميت محشورا في الكفن، كنا نقترب من مراسيم الدفن، نؤدي صلاة الجنازة واقفين، ننسل بين الجموع، فنعاين قبرا محفورا في باطن الأرض، قبل وضع الميت، يضع حفارو القبور أوراق الدوم الخضراء لكي تبعث حية معه يوم القيامة، يبتهل الفقيه بعض التمتمات، يحشر الميت في القبر، وبعدها يهيلون التراب والحجر إيذانا بالوداع الأخير. في المساء يحدثنا المعلم عن سؤال الملكين، وبعد برهة يتقمص هذا الدور سائلا إيانا ما إن كنا قد حفظنا أم لا، فيشرع في إبراحنا بالعصا في حالة إذا لم نحفظ كما يفعل الملكان، إنها دروس الموت، وفي زرع التلقين والخوف، والخنوع والإحناء، وغير بعيد عن المقبرة يوجد المسجد، ففي كل لحظة نسمع الآذان متلفعا برداء اليأس، وخطب الجمعة معتمرة الإخراس، وابتهالات الفقيه لابسة النفاق، في فحواها تجد العذاب والنار والتهديد والوعيد والسعير والجهاد...كنا نموت يوميا ...هذه هي مدرسة الموت. كانت تحيط بها متاريس للحيلولة دون انقشاع نور الحياة، لكن ذلك التين المجفف ربما كان يقودنا إلى الحياة. غير أن هذه الأخيرة كانت تخترقها صرخات النسوة اللواتي يضرجن بالدموع حزنا على فقيدهن، وخصوصا تلك المرأة التي مازالت ماثلة أمامي وهي تحاول إخراج زوجها الميت من المقبرة، إنه نداء الحياة الثاوي في كيانها..منذ ذلك العهد هجرت المقبرة من طرف الزوار، ولم يعودوا يحضرون إلا في المناسبات، أذكر ذلك الملتحي الذي أتى فجأة، وتفرقع على الزوار مرددا عليهم سورة التكاثر، فجمعت النساء الحناء، ورحن بلا رجعة، فتركن المقبرة يلفها الصمت الذي يغتصبه نعيق البوم بين لحظة وأخرى .

عبد الله عنتار / 19 غشت 2014 / بنسليمان – المغرب



#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رحلة بطعم الهدر
- قريتي العائمة
- أولى المحاولات
- رحلتي أنا و زيزو : بحث عن المواطنة الضائعة
- هارب من المنفى
- سطوة الأفول
- لا تثق فيهن
- البون الذي ينزف دما
- فلتكبري في حلمي
- منزلنا الريفي (54)
- إسفين على جرحي الثخين
- لأن عيوني ماتت
- أرحل مضارعا السماء
- منزلنا الريفي (53)
- في انتظار اللحظة التي يبكي فيها العصفور
- منزلنا الريفي (52)
- راحلتي
- الشفق الراحل
- منزلنا الريفي (51)
- منزلي توقد بالنار


المزيد.....




- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي (55)