أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كريم ثاني - يسوع قراءة و تحليل و نقد (10)















المزيد.....



يسوع قراءة و تحليل و نقد (10)


كريم ثاني

الحوار المتمدن-العدد: 4428 - 2014 / 4 / 18 - 08:27
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


أربعة أناجيل

يعتقد البعض ان الانجيل هو كتاب منّزل من الله على يسوع ، وهذا فهم خاطيء ، مرجعه الاول هو عدم الدراية الكاملة بمعنى كلمة انجيل ، فهي تعريب لكلمة يونانية الاصل ( ايفانجليون ) وتعني البشارة السارة ، او الخبر المفرح، وهذا الخبر هو ما كان يسوع يفعله ويعمل به .( اعمال الرسل 1 : 1)
فكلمة "إنجيل" فى العهد الجديد لا تعنى مطلقا مجرد كتاب ولكنها تعنى الرسالة التى نادى بها المسيح ورسله ويسمى فى بعض المواضع "إنجيل الله" (رو 1: 1 ، 1 تس 2: 2 ,9، 1 تى 1 : 11) كما يسمى "إنجيل المسيح" (مر 1: 1 ، رو 1: 16 ، 15: 19 ، 1 كو 9: 12 و18، غل 1: 7) ويسمى أيضا "بشارة نعمة الله" (أع 20: 24) وفى موضع أخر "إنجيل السلام" (أف 6: 15) وفى موضع أخر "إنجيل خلاصكم" (أف 1: 13) كما يسمى أيضا "إنجيل مجد المسيح" (2 كو 4: 4) والإنجيل هو المسيح فالمسيح هو موضوعه وغايته وجوهره لقد كرز هو به (مت 4: 23 ، 11: 5، مز 1: 14 ، لو 4: 18) وكرز به الرسل (أع 16: 10، رو 1: 15 ، 2: 16 ، 1 كو 9: 16) كما كرز به المبشرون (أع 8: 25).

فالإنجيل إذا هو رسالة الله وتعليم المسيحية والفداء فى المسيح يسوع ابن الله الوحيد وبواسطته وهو مقدم لكل الجنس البشرى وكما أن الإنجيل مرتبط تماما بحياة المسيح فسيرته وسجل أعماله والإعلان عما يهبه جميع هذه تجتمع فى هذه الكلمة الواحدة التى لا يمكن أن نقدم لها تعريفا أفضل مما قاله ملانكثون : "الإنجيل هو الوعد المجانى لغفران الخطايا من أجل المسيح" والتمسك بصلابة وعناد بأنه فى هذا الإنجيل لنا إعلان خارق للطبيعة ليتفق تماما مع روح البحث العلمى فالإنجيل باعتباره رسالة الخلاص الكاملة وباعتباره فعالا بقوة فى انسحاق القلب والإيمان والتبرير والتجديد والتقديس فإنه يتناول حقائق الوحى والاختبار.

الأناجيل فى التقليد الكنسى : إن مكان الأناجيل فى التقليد الكنسى راسخ أكيد إذ أن يوسابيوس يضع الاناجيل الأربعة بين الأسفار التى لم يدر حولها أى جدل فى الكنيسة ومن المعترف به أنه فى نهاية القرن الثانى كانت هذه الأناجيل الأربعة – منسوبة للكتاب الذين تحمل أسماءهم – متداولة فى كل المسكونة ومستخدمة بلا أى اعتراض فى كل الكنيسة كما كانت على رأس قوائم أسفار الكنيسة فى كل الترجمات وفى كل مكان كان يستخدمها الجميع ليس آباء الكنيسة (إيريناوس ، وترتليان وأكليمندس ، وأوريجانوس ... إلخ) فحسب بل استخدمها أيضا الهراطقة والوثنيون الذين كانوا ينسبونها أيضا الى تلاميذ المسيح


يحتوي العهد الجديد للكتاب المقدس ، على اربعة بشائر ( اناجيل ) وهي ( متى ومرقس ولوقا ويوحنا )
تحكي قصة يسوع المسيح ، وتنفرد هذه الكتب بالتأكيد على جانب متميز في حياة يسوع ، ولكن عندما تمتزج هذه الكتب الاربعة في رواية كاملة ومتوافقة ومتناسقة ، فاننا نجد فيها رؤى جديدة عن حياة المسيح ، وهذا التوافق يضم الاناجيل الاربعة في رواية فريدة مسلسلة زمنيا عن حياة المسيح على الارض .

اوحى روح الله القدوس ، ان يسجل كتّاب الاناجيل حياة المسيح على الارض من اربعة زوايا مختلفة ، تتكامل فيما بينها لتشكل صورة رائعة وفريدة لشخص السيد يسوع المسيح الفريد .

وسوف اتناول في كل مرة موجزا عن انجيل من الاناجيل سبب كتابته ، ولمن كتب

انجيل متى : (المسيح الملك )
الغرض : اثبات أن يسوع هو المسيح الملك السرمدي المنتظر
الكاتب هو ( متى أو لاوي ) يهودي ، جعل انجيله حلقة الوصل بين العهد القديم والعهد الجديد ، لانه يركز على اتمام النبؤات القديمة في شخص المسيح ، اظهر يسوع كملك الملوك . إن ميلاده المعجزي وتعليمه ومعجزاته وانتصاره على الموت ، كشفت عن حقيقة شخصه . ولذلك فيظهر المسيح بصورة واضحة في لغة هذا الانجيل بلقب ( ابن داود ) تعبير يتخلل الانجيل كله ، كما ان به ثلاثة وخمسين اقتباسا من العهد القديم ، وستا وسبعين اشارة اخرى منه ، ولم يكتب هذا الانجيل في تسلسل تاريخي ، فهدفه ان يظهر جليا ان يسوع هو المسيح المخلص المنتظر ، ولكن المأساة ان اليهود لم يعرفون عندما جاء ، لان ملكه لم يكن كما توقعوه .

انجيل مرقس : ( المسيح الخادم )
الغرض : تقديم شخصية الرب يسوع وعمله وتعاليمه كخادم ، فقد تمم يسوع بصفته المسيح نبوات العهد القديم بمجيئة الى الارض ، وهو لم يأت ملكا ظافرا بل جاء كخادم ، وقد ساعد البشر باخبارهم عن الله وشفائهم ، والاكثر من ذلك بذل نفسه ذبيحة عن الخطية فقام باعظم خدمة للانسان .
الكاتب : هو يوحنا مرقس ( يهودي ) ، وكتبه الى المؤمنين الرومان ، وهو اول ماتم كتابته من الاناجيل الاربعة ، ، وعلى الرغم من ان انجيل مرقس يسجل حياة المسيح الخادم ، ولذلك لم يذكر نسبه ، فلا احد يهتم بنسب خادم ، ولكنه يسجل من المعجزات أكثر مما يسجل أي انجيل آخر .

انجيل لوقا : ( المسيح ابن الانسان )
الغرض : تقديم وصف دقيقة عن حياة يسوع المسيح ن وتقديمه كابن الانسان الكامل والمخلص .
الكاتب ( لوقا وهو طبيب يوناني من المسيحيين الامميين ) وهو مكتوب للامم وللناس في كل مكان وزمان ( ثاوفيلس ومعنى الاسم محب الرب ) .
وهو اشمل الاناجيل فكاتبه كطبيب مثقف ومتعلم ومؤرخ متميز كان يهتم بالتفاصيل ، ويركز على علاقة يسوع بالناس وكيف انه اظهر اهتماما عميقا بهم وبالعلاقات الانسانية، واظهر عطفا وحنوا بالغا نحو المعوزين والمتألمين والخطاة ، ولم يرفض او يهمل احدا مطلقا ، كما ينبر على الصلاة والمعجزات والملائكة ، ويعطي المرأة فيه مكانة متميزة ، واهتمام يسوع بالرجال والنساء والاطفال والجميع .

انجيل يوحنا : ( المسيح ابن الله )
الغرض : الاثبات القاطع أن يسوع المسيح هو ابن الله ، وأن كل من يؤمن به سينال الحياة الأبدية ، ذلك لان يسوع هو الله المتجسد ، فهو يحيا الى الابد ، وقبل ان يبدأ العالم هو كائن وحيّ مع الله ، وسيملك الى الابد معه .
الكاتب : يوحنا ( ابن زبدي ) التلميذ الحبيب ، آخر من سجل الاناجيل بشكل متميز قائم بذاته، كما أن له أسلوباً خاصاً به، مما يجعله وثيقة متميزة بين أسفار العهد الجديد ولذلك فهو يكمّل الاستعلان الواضح بان المسيح هو ابن الله ، ولانه كلمة الله المتجسد فهو قادر على أن يعلن الله لنا بوضوح ودقة ، وينفرد الانجيل بتسجيل معجزات للمسيح دون غيره من الناجيل ( 8 معجزات ) كما انه لا يسجل سلسلة انساب يسوع او ولادته او طفولته أو التجربة أو التجلي .



المراجع المستعان بها :
كتاب التفسير التطبيقي
دائرة المعارف للكتاب المقدس

تاريخ الأناجيل الثلاثة الأولى :

سنتناول موضوع التواريخ التى ظهرت فيها الأناجيل الثلاثة الأولى وانتشرت عند الكلام عن كل إنجيل منها.

1- عودة الى التاريخ المبكر : يلزم القول هنا أن الرأى الآن يميل الى الأخذ بالتواريخ المبكرة عما كان شائعا حتى وقت قريب فكل الكتاب – ما عدا المتطرفين منهم – يقرون الآن أن الأناجيل الثلاثة الأولى قد كتبت فى حدود العصر الرسولى ويقول هارناك فى مقدمة كتابه عن لوقا مذكرا قراءه "أنه منذ عشر سنوات أصبحنا فى نقد المراجع القديمة للمسيحية نتراجع شيئا فشيئا الى التقليد" فقد كانت التواريخ التى يؤيدها سابقا هى أن مرقس كتب فيما بين 65 ، 70 م ومتى بين 70 ، 75 ولوقا بين 78، 93 أما رأى هارناك الأخير فيما يختص بتاريخ سفر الأعمال فهو أنه "يبدو الآن أنه قد ثبت – بلا أدنى ريب – أن كلا السفرين اللذين كتبهما هذا المؤرخ العظيم ، قد

كتبا والرسول مازال حياً (تاريخ الأعمال والأناجيل الثلاثة-124)، ولا شك أن لهذا أثر حاسم فى موقف النقاد. فإذا كان سفر الأعمال قد كتب فى أثناء حياة الرسول بولس (أنظر أع 28: 30)، فلا بد أن يكون الإنجيل الثالث قد كتب قبل ذلك. ويحتمل أن لوقا كان قد جمع كل مادته فى أثناء سجن بولس فى قيصرية، وإذا كان قد استعأن بالإنجيل الثاني، فلا بد أن مرقس قد كتب إنجيله فى تاريخ سابق، وبذلك يحدث أنقلاب ثورى فى تحديد تواريخ الأناجيل. والأمر الجوهرى المؤكد هو أن الثلاثة الأناجيل قد كتبت وأنتشرت قبل خراب أورشليم (70م)، وليس فى محتوياتها، ما يجعل الدفاع عن هذا الرأى صعباً.

2- المادة نفسها أقدم من ذلك : ويجب أن نذكر أيضاً أن المواد التى تتكون منها الأناجيل كانت موجودة من قبل أن تدون كتابة، ويجب أن تؤخذ هذه الحقيقة فى الاعتبار دائماً. كما أن سائر أسفار العهد الجديد تستلزم فاقتراض وجود هذه القصص عن حياة يسوع المدونة فى الأناجيل الثلاثة الأولى. ولقراء الأناجيل كل الحق فى أن يثقوا فى صدقها وكفايتها كوقائع حياة يسوع وما كان عليه وما قاله وما فعله، وهى تحمل فى طياتها أقوى دليل على صدقها.


**************
المصدر : دائرة المعارف للكتاب المقدس
لماذا أربعة أناجيل؟
1- لتقديم أربع شهادات مستقلة منفصلة تحمل الحقيقة.
2- لتقديم حياة المسيح من خلال كل رؤية، أربع صور لحياة شخص واحد. أربع أناجيل لأن المسيح جاء لأربع أجناس أو طبقات من الناس، أو لأربع مراحل من الفكر الإنساني: المرحلة اليهودية والرومانية واليونانية والمسيحية. فلو أن هذه الأناجيل لم تكفي هذه الأجناس، لكان بلا شك مزيد من الأناجيل. وفي كل العصور نرى الطبيعة اليهودية والرومانية والإغريقية تعاود الظهور بين الناس وفي الحقيقة تشكل طبائع الناس بينما الطبيعة والتوجهات المسيحية كذلك تظل بالضرورة نفس الشيء.
فالإنجيل الأول (إنجيل متى) أُعِدَّ لليهود، المسيح الملك المسيا المنتظر. فعرض لحياة وشخصية المسيح على الأرض جنبًا إلى جنب مع حياة وشخصية المسيا كما رسمها الأنبياء مبينًا المسيحية كتتمة وتكملة للشريعة اليهودية.
وكتب مرقس إنجيله الذي كان تبشير بطرس للروم. فهو يقدم شخصية المسيح ومهمته من وجهة نظر رومية كتفسير لفكرة القوة والعمل والشريعة الإلهية والغزو والسيطرة العالمية التي لابد أن تحتفظ بمغزاها القديم والإلهام الفعال الدائم في ساحات معارك الغازي القدير.
كتب لوقا إنجيله لليونان. فوضع أسسه بولس ولوقا بعد تبشير طويل بين اليونان ووضعا له الإطار الأكثر ملائمة ليتماشى مع قبولهم المسيح كإنسان إلهي كامل. إنه إنجيل المستقبل، إنجيل المسيحية التقدمية، إنجيل المنطق والثقافة الذي يسعى لكمال البشرية.
يوحنا، التلميذ المحبوب، كتب الإنجيل الرابع للمسيحي ليرشد ويدرب الذين اعتنقوا المسيحية ويدخلهم حياة روحية عالية

عن دائرة المعارف للكتاب المقدس :


أولاً : اسم الإنجيل ووحدته وصحته :

يأتى إنجيل متى أو الإنجيل بحسب رواية متى أول الأناجيل القانونية طبقاً للترتيب التقليدى ، وإن لم يكن فى جميع الحالات، وينسب هذا الإنجيل- حسب شهادة الكنيسة الأولى بالإجماع- إلى متى الرسول رغم أن عنوانه لا يدل بالضرورة على مصدره المباشر.

ولم تكن وحدة هذا الإنجيل وصحته محل تساؤل على الإطلاق فى العصور الأولى، وتثبت شهادة المخطوطات والترجمات وأقوال الآباء بالإجماع صحة الأصحاحين الأول والثاني على وجه الخصوص – أى قصة ميلاد يسوع من العذراء وطفولته- كجزء أساسى من الإنجيل منذ البداية، ولذلك فأن حذف هذا الجزء من إنجيل الإييونيين الهرطوقى ، لا أساس له ، ولا معنى.

ثانياً : قانونيته وكاتبه :

1- قانونيته : اعترفت الكنيسة الأولى بالأصل الرسولى لإنجيل متى، ووضعته بين الأسفار القأنونية بدون أى تردد أو شك ، واستطاع أوريجانوس أن يتحدث عنه فى بداية القرن الثالث، كأول " الإناجيل الأربعة التى لم تقبل كنيسة الله سواها، بدون أى نزاع" . ويمكن تتبع استخدام هذا الإنجيل عند الآباء الرسوليين ، وبخاصة فى رسالة برنابا حيث يقتبس من إنجيل متى (22: 14) قائلاً : "مكتوب" .

كان إنجيل متى مصدراً رئيسياً استقى منه يوستينوس الشهيد معلوماته عن حياة الرب يسوع وأقواله رغم أنه لم يذكر هذا الإنجيل بالاسم. ونجد أن الأصل الرسولى لإنجيل متى، ثابت فى كتابات يوستينوس لأنه جزء من "ذكريات الرسل" المسماة "بالأناجيل" والتى كانت تقرأ أسبوعياً فى اجتماعات المسيحيين. ومما يؤكد أنه هو إنجيل متى الذى بين أيدينا، وجوده بكل تأكيد فى الدياطسرون" لتاتيان تلميذ يوستينوس، كما أن شهادة بايياس مذكورة فيما بعد.

ويظهر الاعتراف القاطع بالإنجيل، فى الشهادات الواردة عنه والاقتباسات المأخوذة منه فى كتابات إريناوس وترتليان وأكليمندس الاسكندرى ، ومن وجوده فى القانون الموراتورى والترجمات الطليانية والبشيطة السريانية…وغيرها.

2- كاتبه: ذكر يوسابيوس نقلاً عما كتبه بايياس بعنوان: "تفسير كلمات الرب" . وبايياس هو أول من ذكر متى بالاسم على أنه كاتب هذا الإنجيل، وهذه هى كلماته : "كتب متى "اللوجيا" (الأقوال)، باللغة العبرية (الأرامية) وفسرها كل واحد حسبما استطاع" . ولا يمكن أن تكون إشارة بايياس هذه إلى سفر كتبه متى واقتصر فيه على أحاديث أو أقوال الرب يسوع، دون أن يذكر فيه شيئاً - او مع ذكر القليل – عن أعماله التى يزعم الكثيرون من النقاد أنه كانت توجد عنها وثائق هى اساس هذا الإنجيل الذى بين أيدينا، حيث أن بايياس نفسه يستخدم تعبير "اللوجيا" فى إشارة إلى القصة كلها كما يقول هو نفسه عند كلامه عن مرقس: "عن الأشياء التى قالها يسوع أو فعلها". ثم يخبرنا بوساييوس ايضاً أن متى بعدما كرز بين مواطنيه من اليهود، ذهب إلى أمم أخرى، بعد أن ترك لليهود إنجيلاً مكتوباً بلغتهم كبديل لخدمته الشفهية، ويؤكد إيريناوس وأوريجانوس شهادة بايياس بأن متى هو كاتب الإنجيل الأول، ويمكن اعتبار أن هذه الشهادة كانت هى العقيدة الراسخة فى القرن الثاني ، وأن الإنجيل كتب اصلاً بالعبرية. ومن هنا ينشأ السؤال عن العلاقة بين الإنجيل اليونانى القانونى الذى عرفه الآباء ، وبين ذلك الإنجيل الأصلى الذى كتبه متى بالعبرية.

ثالثاً : العلاقة بين الإنجيل اليونانى والإنجيل الأرامى :

والمؤكد هو أنه مهما كان هذا الإنجيل العبرى (الأرامى) ، فهو لم يكن الصورة الأصلية التى ترجم عنها الإنجيل اليونانى الذى بين أيدينا ، سواء بواسطة الرسول نفسه أو بواسطة أحد آخر كما يقول بنجل وتريش وغيرهما من العلماء. فإنجيل متى – فى الحقيقة – يعطى الأنطباع بأنه غير مترجم بل كتب أصلاً فى اليونانية ، فهو أقل فى عبريته -فى الصياغة والفكر- من بعض الأسفار الأخرى فى العهد الجديد، كسفر الرؤيا مثلاً . فليس من الصعب – عادة- اكتشاف أن كتاباً فى اليونانية من ذلك العصر مترجم عن العبرية أو الأرامية ، أو غير مترجم . وواضح أن إنجيل متى قد كتب اصلاً فى اليوناينة ، من أشياء كثيرة، منها كيفية استخدامه للعهد القديم، فهو أحياناً يستخدم الترجمة السبعينية ، وأحياناً أخرى يرجع إلى العبرية، ويظهر ذلك بوضوح فى الأجزاء 12: 18-21، 13: 14و 15 حيث نجد أن الترجمة السبعينية كانت تكفى لتحقيق غرض البشير ، لكنه – مع ذلك – يرجع إلى النص فى العبرية مع أنه يستخدم الترجمة السبعينية أينما يجدها وافية بالغرض.

والأدلة الخارجية على استخدام إنجيل متى أصلاً فى العبرية أو الأرامية، فى الكنيسة الأولى ، هى أدلة غير قاطعة ، فيوسابيوس يذكر خبيراً عن أن بانيتنوس وجد – فى حوالى 170م – بين المسيحيين من اليهود – ربما فى جنوب الجزيرة العربية – إنجيلاً لمتى فى العبرية، تركه هناك برثلماوس – وعندما كان جيروم فى سوريا منحت له الفرصة لرؤية مثل ذلك الإنجيل الذى وجده عند الناصريين ، والذى ظنه فى البداية من كتابة الرسول متى ، ولكنه صرح فيما بعد بأنه لم يكن كذلك ، بل كان "إنجيل العبرأنيين" الذى يسمى أيضاً إنجيل الاثنى عشر رسولاً أو إنجيل الناصريين وكان متداولاً بين الناصريين والأييونيين (انظر الأبوكريفا ) ، ولهذا فأن إشارات إيريناوس وأريجانوس ويوسابيوس إلى الإنجيل العبرى لمتى، يعتبرها الكثيرون من العلماء على أنها تشير إلى الإنجيل العبرى الذى كان يستخدمه المسيحيون من اليهود والذى كانوا يظنونه من كتابه البشير. وهكذا يظل إنجيل متى العبرى الذى أشار إليه بايياس (على فرض أنه وجد حقيقة ) ، لغزاً لم يحل بالوسائل المتاحة لنا الأن، وكذلك مسألة العلاقة بين النصين العبرى واليونانى. ويبقى هناك احتمال أن الرسول نفسه ، أو أحد الأشخاص تحت إرشاده (كما يقول جودت) كتب نسخة يونانية منقحة عن نسخة أرامية سابقة.

رابعا : تاريخ كتابة هذا الإنجيل :

هناك تقليد قديم – يكاد يكون مقبولاً من الجميع – بأن متى كتب إنجيله قبل الثلاثة الآخرين ( مرقس ولوقا ويوحنا ) ، وموضعه من أسفار العهد الجديد يدعم هذا التقليد . ويقول إيريناوس إنه كتب بينما كان بطرس وبولس يكرزان فى رومية . ويقول يوساييوس أن ذلك حدث عندما ترك متى فلسطين وذهب ليكرز للآخرين . ويذكر أكليمندس الإسكندرى أن الشيوخ الذين تعاقبوا الواحد تلو الآخر منذ البداية ، ذكروا أن الأنجليين المشتملين على سلسلتى نسب المسيح (متى ولوقا) قد كتبا أولاً ، وهذا ولا شك ضربة قاضية على النظرية الشائعة على أن إنجيل متى قد اعتمد على إنجيل مرقس ، مما يدعو الى رفضها . وعلى أى حال، من المؤكد أن هذا الإنجيل قد كتب قبل خراب أورشليم فى 70 م (أنظر مت 24: 15) . والتاريخ المرجح لكتابة هذا الإنجيل فى اليونانية هو العقد السابع من التاريخ الميلادى ، ويرى البعض مثل زاهن إنه قد كتب فى الأرامية فى 62م.

انجيل متى
المحتويات والغرض :

1- المحتويات وطبيعتها : يمكن تقسيم إنجيل متى من جهة المحتويات ، إلى ثلاثة أقسام رئيسية:

أ‌- مدخل يشتمل على مولد الرب وصباه (الأصحاحان الأول والثاني).

ب- خدمة يسوع فى الجليل (الأصحاحات 3- 18).

جـ- خدمة يسوع فى اليهودية وأورشليم التى أعقبتها أحداث الآلام والموت والقيامة (الأصحاحات من 19- 28).

أما من جهة طبيعة الإنجيل، فهو مثل سائر الأناجيل ليس إلا مختارات من التعليم الشفهى الضخم عن أعمال وأقوال المسيح، والذى كان منتشراً فى العصر الرسولى ودوائر الكنيسة الأولى . وقد اختيرت لغرض خاص وضعه البشير نصب عينيه ، ولذلك فأننا نجد فى إنجيل متى مادة كبيرة مما فى إنجيل مرقس ولوقا ، وأن كانت كمية غير قليلة منها لها صبغة خاصة فى إنجيل متى، مما قد يحير من يحاول التوفيق بين البشيرين ، مثلما فى أقوال متى عن التجربة ، وعن مجنون كورة الجدريين وعن الرجل الأعمى فى أريحا (4: 1-11، 8: 28- 34، 20: 29- 34) . كما يوجد فيه أيضاً الكثير مما ينفرد به مثل الأصحاحين الأول والثاني والأجزاء فى (9: 27- 36، 10: 15و37- 40، 11: 28-30، 12: 11و12و 15- 21و33-38، 3: 24- 30و36-52، 14: 28-31، 16: 17-19، 17: 24-27، 18: 15-35، 19: 10-12، 20: 1-1621: 10و11و14-16و 28-32، 22: 1-14، 23: 8-22، 24: 42-45، 25: 46، 27: 3-10و62-66، 28: 11-15). كما أن المواد غير مرتبة ترتيباً زمنياً بل بالحرى حسب ما بينها من تشابه . كما أن أحاديث وأمثال يسوع تروى متجمعة رغم أنها قيلت فى أزمنة مختلفة. المواد المتفرقة فى سائر الإناجيل – وبخاصة فى إنجيل لوقا- نجدها متجمعة فى متى، مثلما نرى فى الموعظة على الجبل (الأصحاحات 5-7) ، وخطاب إرسال التلاميذ (الأصحاح العاشر)، والأمثلة السبعة لملكوت السموات (الأصحاح الثالث عشر)، والويلات ضد الفريسيين (الأصحاح الثالث والعشرين)، والأحاديث الرائعة عن الأخرويات (الاصحاحأن الرابع والعشرون والخامس والعشرون) ، بالمقابلة مع الأجزاء المماثلة فى سائر الأناجيل.

2- الغرض : لا يوجد فى إنجيل متى عبارة واضحة تحدد الهدف الذى وضعه الكاتب نصب عينيه، كما يذكر الإنجيل الرابع مثلاً ( يو 20: 30و 31) ، ولكننا نستطيع أن نستخلص ذلك بسهولة من المحتويات العامة للإنجيل ومن بعض أجزاء معينة فيه ، فالرأى التقليدى الذى يقول إن متى كتب أساساً لإثبات أنه فى يسوع الناصرى تتحقق وتتم النبوات المختصة بالمسيا فى العهد القديم هو رأى صحيح تماماً بلا أدنى ريب ، فهذه الحقيقة التى ينطق بها استشهاد متى حوالى أربعين مرة ، باقتباسات من العهد القديم، حتى فيما يتعلق بالتفاصيل الصغيرة عن حياة المسيح ، مثل رجوعه من مصر (2: 15) ، لدليل قوى على هذه الحقيقة ، رغم أن بعض هذه الاستشهادات لها صفة التأويل كالكثير من استشهادات العهد الجديد بأقوال العهد القديم .


أما مسألة هل كتب الإنجيل أصلاً للمسيحيين من اليهود، أو لليهود غير المسيحيين ، فأمر قليل الأهمية ، حيث أن هذا الإنجيل - مثل رسالة يعقوب – كتب فى الفترة الأنتقالية التى لم تكن فيها المجتمعات المسيحية قد أنفصلت تماماً عن المجتمعات اليهودية ، بل كانوا مازالوا يعبدون معاً.

وهناك دلائل واضحة على هذا الغرض، من بداية الإنجيل إلى نهايته ، مثلما فى (مت 1:1) حيث يقدم الدليل على أن يسوع هو ابن إبراهيم الذى فيه تتبارك جميع قبائل الأرض (تك 12: 3) ، وابن داود الذى سيثبت ملكوت الله إلى الأبد (2 صم 7) . أما سلسلة نسب المسيح فى لوقا (لو 3: 23-38) فواضح من صبغتها الشاملة للبشرية ، أنها تهدف إلى إثبات أن يسوع هو فادى كل العالم ، لذلك ترجع به الى آدم أصل الجنس البشرى كله. ثم بما أن سلسلة نسب المسيح فى متى – كما هو واضح- هى سلسلة نسب يوسف باعتباره الأب الشرعى الذى تبنى يسوع ، وليست سلسلة نسب مريم – كما هى الحال فى إنجيل لوقا- فمن السهل جداً أن نستشف أن الهدف هو سد حاجة القارئ اليهودى ، فالراوية الكاملة فى إنجيل متى للموعظة على الجبل والتى لا تشتمل على البرنامج الجديد لملكوت الله – كما يقال احياناً – هى فى الحقيقة لا تحتوى أبداً على المبادئ الجوهرية للإنجيل، ولكنها التفسير العميق الصحيح للناموس، رداً على التفسير السطحى الذى كان شائعاً عند الفريسيين ، وهو ما دفع الرسول بولس الى القول : " فلماذا الناموس" لكى يوجه أنظار سامعيه إلى إنجيل النعمة والإيمان الذى كرز به المسيح (أنظر غل 3: 24) . كل هذا يبدو مفهوماً عندما نذكر أن هذا الإنجيل قد كتب أصلاً للقراء من اليهود. كما تتكرر كثيراً فى إنجيل متى عبارة "كما هو مكتوب " أو " كما قيل بالنبى" إتماما لنبوات العهد القديم ، وهو أمر بالغ الأهمية لليهود الذين كان العهد القديم هو لهم كل شئ ولكنه لم يكن أمراً ذا أهمية عند الأمم . نجد ذلك بالارتباط مع ولادة يسوع من العذراء وحمايته من هيرودس وعودته الى الناصرة (1: 22و 23، 2: 5و6و15و17و18و23). وخدمة يوحنا المعمدان (3: 3، 11: 10)، واختيار الجليل لتكون منطقة عمل يسوع (4: 14-25) ، فكانت خدمة يسوع تتميماً للناموس والأنبياء (5: 17)، وأساليبه الهادئة المتحفظة (12: 17-21)، وتعليمه وأمثاله (13: 35) ، ودخوله إلى أورشليم (21: 4و5و16) ، وإلقاء القبض عليه (26: 54) ، وخيانة يهوذا له (27: 9) واقتسام ثيابه (27: 35) وفى كل إنجيل متى – كما يقول البروفسور كوبل – يبدو " الخلاف الجوهرى بين المسيح والفريسية" ورداً على الأفكار الخاطئة عن المسيا ، وقيم التعاليم المعاصرة عند اليهود ، يختار متى تلك الحقائق من تعاليم المسيح وأقواله ، التى تبين المسيا الحقيقى والمبادئ الصحيحة لملكوت الله ، ومن هذه الناحية يمكن اعتبار الإنجيل دفاعياً وهجومياً فى هدفه ، حسبما يتفق مع الصور الحية التى يرسمها لعداوة اليهود المتزايدة للمسيح ولتعاليمه، تلك العداوة التى تبدو فى الجزء الأخير من إنجيل متى ، على نفس العنف الذى تبدو عليه فى إنجيل يوحنا ، فلا نجد فى موضع آخر مثل هذه التوبيخات للفريسيين وأساليبهم ، تنطق بها شفتا يسوع (مثل 9: 11-13، 12: 1-8، 15: 1-9، 16: 1-4، وفى نقاط محددة 5: 20، 9: 13، 23: 23 أنظر أيضاً 8: 12، 9: 34، 12: 24، 21: 43). ومن وجهة النظر هذه التى تحدد التناقض فى الآراء الفريسية الضيقة ، نستطيع أن نفهم تأكيد الكاتب على شمولية ملكوت يسوع (أنظر 3: 1-12، 8: 10-12، 21: 33- 44، 28: 18- 20) وهى أجزاء يظن البعض أنه يحدد فيها مناقضة الاتجاه السائد عند اليهود للإنجيل.

**********************

مشكلات العلاقة الأدبية بين الأناجيل الثلاثة الأولى :

وهى مشكلة تدور أساساً حول العلاقة الأدبية بين هذه الأناجيل الثلاثة ، فمحتوياتها – فى الكثير من الحالات – متشابهة حتى فى العبارات، مما يحمل على الظن بأنها أخذت عن مصادر مشتركة ، أو أنها أخذت عن بعضها البعض . ومن الناحية الأخرى فأن كل واحد من هذه الأناجيل الثلاثة ، فيه الكثير من الاختلافات عن الإنجيلين الآخرين، حتى إنه لا بد أن كلاً منها قد استخدم مراجع غير التى استخدمها غيره ، سواء كانت مراجع شفهية أو مكتوبة . وعلى العموم يمكننا القول أن المشكلة ليس لها إلا أهمية أدبية ، وليس لها أى أهمية بالمرة على ديانة العهد الجديد ، مثلما الأسفار موسى الخمسة بالنسبة للعهد القديم . كما أنه ليس ثمة أساس تاريخى لهذه المشكلة ، كما كان للأسفار الخمسة فى تاريخ إسرائيل . وليس من سبيل أمام العلماء لدراسة هذه المشكلة ، إلا بتحليل محتويات هذه الأناجيل والمقابلة بينها . وحيث أن التذوق الذاتى ، والأنطباعات الباطنية لها أثرها القوى فى تناول مثل هذه الأمور ، فمن غير المحتمل إطلاقاً – فى غياب أى دليل موضوعى – أن تحل مشكلة هذه الأناجيل ، على وجه العموم ، أو موضوع مصادر إنجيل متى على وجه الخصوص، حلاً يرضى السواد الأعظم من العلماء. والافتراض الذى يحظى الأن بأوسع قبول بين النقاد، هو نظرية "المصدر المزدوج" الذى يفترض أن إنجيل مرقس بصورته الراهنة – أو بصورة أسبق- والأصل المزعوم لإنجيل متى والذى يطلقون عليه اسم “Q” ، هما أساس الإنجيل الموجود بين أيدينا .

ويقولون –لإثبات ذلك – أن كل المادة القصصية – تقريباً - الموجودة فى إنجيل مرقس، توجد أيضاً فى إنجيل متى ، كما فى إنجيل لوقا أيضاً ، بينما الأجزاء الأكبر، وبخاصة الأحاديث المشتركة بين متى ولوقا - كما سبقت الإشارة- تشير إلى مصدر من هذا النوع استخدمه كل من متى ولوقا. وتظهر الصعوبة بشدة عندما تمتد المقارنة الى التفاصيل ومحاولة تفسيرها بالاختلافات فى التعبير والترتيب ، وأحياناً فى المفهوم فى كل إنجيل من الأناجيل.

ورغم المكانة التى بلغتها هذه النظرية ، فقد يكون الحل الحقيقى أيسر من ذلك ، فقد أخذ متى معظم الحقائق التى ذكرها ، من خبرته هو نفسه ومن التقليد الشفهى المتواتر، وحيث أن هذه الحقائق كانت قد أخذت صيغة ثابتة ، نتيجة لتداولها المستمر فى الكنيسة الأولى ، فأن هذا يكفى لتعليل التشابه بين إنجيل متى وإنجيل مرقس ولوقا بدون الحاجة إلى افتراض اعتماد أى إنجيل منها على الاثنين الآخرين، فالمشكلة كلها إذاً هى مشكلة ظنية وذاتية ، ولا تستدعى كل ما أثير أو كتب حول هذا الموضوع.
إنجيل يوحنا


أولاً – تمهيد :

1- الهدف من الإنجيل : للإنجيل الرابع شكل متميز قائم بذاته، كما أن له أسلوباً خاصاً به، مما يجعله وثيقة متميزة بين أسفار العهد الجديد ، فتوجد له :

أ- مقدمة فى الأصحاح الأول ( 1: 1-18) سنتكلم عنها فيما بعد .

ب- سلسلة من المشاهد والأحاديث من حياة يسوع، تصف شخصه وعمله، وترصد النمو التدريجي للإيمان أو عدم الإيمان عند سامعيه وعند الأمة ( 1: 19-12: 50) .

ج—قصة أكثر تفصيلاً للأحداث الختامية لأسبوع الآلام – وحديث الوداع مع تلاميذه(الأصحاحات من 13- 17 ) ، والقبض عليه والمحاكمات ، والصلب والموت والدفن ( الأصحاحات 18 ،19) .

د- القامة، وظهورات الرب المقام لتلاميذه فى يوم القيامة، وفى مرة أخرى بعد القيامة بثمانية أيام ( 20: 1-29) ، ثم فقرة تبين الغرض من الإنجيل وسبب كتابته ( 20: 30و31) .

هـ- ثم أصحاح تكميلي ( الأصحاح الحادي والعشرون) ، وهو يحمل جميع العلامات المميزة للإنجيل ككل ، مما يرجح أنه من نفس الكاتب، كما يرى لايتفوت وماير وألفورد ..إلخ، والبعض الآخر تلاميذ مثل زاهن يفضل اعتبار هذا الأصحاح من عمل أحد تلاميذ الرسول يوحنا . والآيتان الختاميتان ( 24و25) فى هذا الأصحاح هما : " هذا هو التلميذ الذى يشهد بهذا ، وكتب هذا . ونعلم أن شهادته حق. وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع".. وعبارة " نعلم أن شهادته حق " تبدو أنها شهادة من أولئك الذين عرفوا التلميذ شخصياً وأيقنوا من صدق شهادته ، ولم يمكن مطلقاً نقض هذه الشهادة المبكرة ، رغم كل الهجمات التى وجهت إليها، فقد تأيد معناها الواضح من الكثيرين من الكتَّاب الموثوق بهم . ويشير الفعل " يشهد " ( فى صيغة المضارع) إلى أن ذلك التلميذ الذى كتب الإنجيل ، كان مازال حياً عند كتابة هذه الشهادة .

1-زمن ظهور الإنجيل : أما فيما يختص بالزمن الذى ظهرت فيه كتابات يوحنا – بغض النظر عن الكاتب – فهناك الآن اتفاق متزايد فى الرأى على أنها ظهرت فى نهاية القرن الأول أو فى بداية القرن الثاني . وهذا هو الرأي الذى يعتنقه أولئك الذين ينسبون كتابة الإنجيل لا إلى كاتب مفرد بل إلى مدرسة فى أفسس استعانت بمادة تعليمية كانت موجودة، وجعلتها فى الصورة التى تظهر عليها الآن كتابات يوحنا، وكذلك الذين يقسمون الإنجيل إلى جزءين رئيسي وثانوي، من أمثال " سبيتا " . وسواء كان الإنجيل قد قامت بجمعه مدرسة من اللاهوتيين ، أو كان من عمل كاتب استخدم مادة كانت موجودة ، أو كان المحصلة النهائية لتطور لاهوتي لمفاهيم بولسية معينة ، فالإجماع – باستثناء عدد قليل – هو أن كتابات يوحنا قد ظهرت فى بكور القرن الثاني. وأحد هذه الاستثناءات البارزة ، هو " شميدل " وكذلك الأستاذ " فليدرر" . ويمكن أن نقدر " فليدرر" فى مجال البحث الفلسفي، أما فى مجال النقد، فهو كم مهمل . كما أن كتابات شميدل بخصوص هذا الموضوع، تسير بسرعة فى نفس هذا المنطق ، من عدم الأهمية .

وهكذا يمكن باطمئنان قبول حقيقة ظهور كتابات يوحنا فى أواخر القرن الأول، كمحصلة تاريخية صحيحة . والنقاد الذين كانوا قد عزوا ظهور هذه الكتابات إلى منتصف القرن الثاني أو تاريخ لاحق، قد راجعوا أنفسهم، وأقروا بظهور كتابات يوحنا فى أواخر القرن الأول . وهذا بالطبع لا يضع حداً للتساؤلات المتعلقة بالكاتب ومادة الإنجيل ومدى صحته ، وهى أمور يجب أن تدرس من وجهة نظر موضوعية، وعلي أساس الأدلة الخارجية والداخلية، ولكنه يمهد الطريق لمناقشة جادة لهذه الأدلة، ويضع حداً لأي جدل حول أمور من هذا القبيل.
ثانياً – الدليل الخارجي:

نقدم هنا موجزاً للدليل الخارجي للإنجيل الرابع فيما يتعلق بتاريخ كتابته وبالكاتب. أما من أراد معلومات أوفي، فليرجع إلي مقدمات شرح الإنجيل لجودت ووستكوت ولوثاردت وماير، ولكتاب عزرا أبوت عن "الإنجيل الرابع وكاتبه"، وإلي "زاهن" في "مقدمة العهد الجديد – جزء 3"، وإلي "ساندي" في كتابه "نقد الإنجيل الرابع"، وإلي "دراموند" في " طبيعة الإنجيل الرابع وكاتبه"، وكل هؤلاء وكثيرون غيرهم يدافعون عن نسبة كتابة الإنجيل ليوحنا . وفي الجانب الآخر يمكن الإشارة إلي كتاب "الديانة الفائقة" الذي ظهرت منه عدة طبعات، وإلي كتاب موفات "مقدمة العهد الجديد"، وكتاب بيكون "الإنجيل الرابع بين البحث والحوار"، وهي جميعها ترفض نسبة الإنجيل ليوحنا".



1- في نهاية القرن الثاني :

والدليل الخارجي، هو أنه في نهاية القرن الثاني، كانت الكنيسة المسيحية تمتلك أربعة أناجيل تستخدمها باعتبارها كتباً مقدسة تقرأ في الكنائس في العبادة الجمهورية، وتحظى بكل تقدير واحترام كأسفار مقدسة لها كل السلطان كسائر أسفار الكتاب المقدس القانونية، وكان الإنجيل الرابع أحد هذه الأناجيل، ويعترف الجميع أن كاتبه هو الرسول يوحنا. ونجد هذا الدليل في كتابات إيريناوس وترتليان وأكليمندس الإسكندري وكذلك في كتابات أوريجانوس. فأكليمندس يشهد عن معتقدات وممارسات الكنيسة في مصر والبلاد المجاورة لها، وترتليان عن كنائس أفريقية، أما إيريناوس – الذي كان قد تثقف في أسيا الصغرى، وأصبح معلماً في روما ثم أسقفاً في ليون في بلاد الغال (فرنسا) – فيشهد عن معتقدات الكنائس في تلك البلاد. ولم تكن هذه العقيدة محل تساؤل قط، حتى إن إيريناوس لم يحاول أن يقدم تبريراً لها. ولا يمكن إسقاط الدليل المستمد من إيريناوس وأكليمندس وغيرهم، علي أساس رغبتهم في إسناد أسفارهم المقدسة إلي الرسل، فليس هذا إلا مجرد زعم لا يمكن أن يؤخذ علي محمل الجد. ربما كان هناك مثل هذا الاتجاه، ولكن في حالة الأناجيل الأربعة، ليس ثمة دليل علي أنه كانت هناك ضرورة لذلك في نهاية القرن الثاني، بل هناك دليل واضح علي اعتقاد الكنائس – قبل نهاية القرن الثاني بكثير – بأن إنجيلين من الأناجيل الأربعة، قد كتبهما رسولان، وأن الإنجيلين الآخرين قد كتبهما رفيقان للرسل.



2- إيريناوس – ثاوفيلس :

وتتضح أهمية شهادة إيريناوس من الجهود المكثفة التي بذلت للتقليل من شأنها. ولكن كل هذه المحاولات تبوء بالفشل أمام مركزه التاريخي وأمام الوسائل التي كانت تحت يده لتأكيد معتقد الكنائس، فقد كانت هناك حلقات الربط الكثيرة بين إيريناوس والعصر الرسولي وبخاصة لارتباطه ببوليكاربوس، وهو بنفسه يصف تلك العلاقة في رسالته إلي فلورنيوس، الذي كان أيضاً تلميذاً من تلاميذ بوليكاربوس، ولكنه انحرف إلي الغنوسية التي يقول عنها: "إنني أتذكر أحداث ذلك الزمان بأكثر وضوح عن أحداث السنين الراهنة، وذلك لأن ما يتعلمه الأولاد ينمو بنمو عقولهم، ويصبح ملتصقاً بها، حتى إنني أستطيع أن أصف المكان نفسه الذي كان يجلس فيه بوليكاربوس المبارك، عندما كان يتحدث، وسيره جيئة وذهاباً ، وطريقة حياته، وهيئته، وأحاديثه إلي الناس، وقصصه عن مقابلاته مع يوحنا الرسول وغيره ممن رأوا الرب".

ولا نستطيع أن نقول كم كان عمر إيريناوس في ذلك الوقت، ولكنه كان – بلاشك – في سن يستطيع فيها أن يستوعب الانطباعات التي سجلها بعد ذلك ببضع سنين. وقد استشهد بوليكاربوس في 155 م، بعد أن قضي 86 سنة في الإيمان. وهكذا كانت هناك حلقة واحدة فقط بين إيريناوس والعصر الرسولى. ولقد كانت هناك حلقة ربط أخري، في علاقته ببوثنيوس الذي سبقه في أسقفية ليون. كان بوثنيوس رجلاً متقدماً جداً في العمر عندما عندما استشهد، وكان يلم بكل تقاليد وتراث كنيسة بلاد الغال. وهكذا نري أن إيريناوس – عن طريق هذين وغيرهما – كانت له الفرصة لمعرفة معتقدات الكنائس، وما يسجله ليس شهادته الشخصية فحسب، بل التراث العام للكنيسة.

ويجب أن نذكر مع إيريناوس، ثاوفيلس (أحد المدافعين عن المسيحية – 170 م) ، فهو أقدم كاتب يذكر القديس يوحنا بالاسم ككاتب للإنجيل الرابع. ففي اقتباسه لفقرة من مقدمة الإنجيل، يقول :" وهذا ما نتعلمه من الكتب المقدسة، ومن كل الناس المسوقين بالروح القدس، والذين من بينهم يوحنا .. " . ويقول جيروم إن "ثاوفيلس هذا وضع كتاباً في اتفاق الأناجيل الأربعة".

ومن إيريناوس وثاوفيلس، نقترب من منتصف القرن الثاني حيث نجد " الدياطسرون "لتاتيان ، الذي لسنا في حاجة إلى ذكر الكثير عنه ، "فالدياطسرون" هو أيضاً "اتفاق البشائر الأربعة"، وقد صدر قطعاً قبل 170 م، وهو يبدأ بالآية الأولي من إنجيل يوحنا، وينتهي بالآية الأخيرة في خاتمة هذا الإنجيل.

3- منتصف القرن الثاني:

لقد كان تاتيان تلميذاً ليوستينوس الشهيد (جستين مارتر)، وهذه الحقيقة وحدها تجعل من الأرجح أن "ذكريات الرسل" التي يستشهد بها يوستينوس كثيراً، كانت هي التي جمعها تلميذه – بعد ذلك – في "الدياطسرون". أما أن يوستينوس عرف الإنجيل الرابع، فهذا يبدو واضحاً، ولكننا لا نستطيع مناقشة هذا الموضوع هنا. ومتي ثبت ذلك، فمعناه أن الإنجيل الرابع كان موجوداً في حوالي 130م.

4- إغناطيوس :

وهناك دليل يجعلنا نعود بالإنجيل الرابع إلي 110م. "إن أول أثار واضحة للإنجيل الرابع، علي فكر ولغة الكنيسة، نجدها في رسائل إغناطيوس (حوالي 110م)، وهي أثار لا يمكن أن يخطئها أحد، وذلك واضح من تلك الحقيقة، أنه كثيراً ما يستخدم اعتماد إغناطيوس علي يوحنا، دليلاً ضد أصالة رسائل إغناطيوس" (زاهن في مقدمته – المجلد الثالث – 176). ويمكنا استخدام هذا الدليل الآن بكل ثقة منذ أن برهن لايتفوت وزاهن علي أن هذه الرسائل وثائق تاريخية. فإذا كانت رسائل إغناطيوس قد تشبعت بنغمة وبروح كتابات يوحنا، فمعني هذا أن هذا النمط من الفكر والتعبير، كان سائداً في الكنيسة في زمن إغناطيوس. وهكذا نري أنه في بداية القرن الثاني، كان هذا النمط المتميز من الفكر والقول "المنسوب إلي يوحنا" سائداً في الكنيسة.

وهناك دليل آخر علي صحة هذا الإنجيل، لا يلزمنا إلا الإشارة إليه، وهو استخدام الغنوسيين له، فقد أثبت دراموند أن الفالنتينيين والباسيليديين قد استخدموا هذا الإنجيل.

5- يوحنا الشيخ :

ولكي نقدر علي نحو صحيح، قوة الدليل السابق، يجب أن نذكر – كما سبق أن لاحظنا – أنه كان هناك كثيرون من تلاميذ يوحنا في أفسس، يعيشون في القرن الثاني، أساقفة مثل بابياس وبوليكاربوس، والشيوخ الذين يذكرهم إيريناوس كثيراً ، ويكونون سلسلة متصلة تربط بين زمن كتابة الإنجيل والنصف الأخير من القرن الثاني. وهنا يبرز السؤال الذي أثير مؤخراً بصورة واسعة حول حقيقة شخصية "يوحنا الشيخ" المذكور في وثيقة بابياس الشهيرة، والتي يحتفظ لنا بها يوسابيوس. فهل كان هناك – كما يري الكثيرون – اثنان يحملان اسم يوحنا : الرسول والشيخ؟ أم كان هناك شخص واحد فقط؟ فإن كان شخصاً واحداً فقط، فهل كان هو ابن زبدي؟ ويوجد اختلاف كبير في وجهات النظر حول هذه النقاط، فيظن هارناك أن "الشيخ" لم يكن هو ابن زبدي. ويشك ساندي في ذلك. ويعتقد موفات أن يوحنا كان هو الشيخ الوحيد في أفسس. أما زاهن ودوم تشابمان (يوحنا الشيخ والإنجيل الرابع –سنة 1911) فيعتقدان أيضاً أنه كان هناك يوحنا واحد فقط لمناقشة في أفسس ، هو يوحنا بن زبدي. ولا نري ضرورة لمناقشة الموضوع هنا، لأن التقليد المتواتر ، الذي ربط هذا الإنجيل بالرسول يوحنا في المدة الأخيرة من إقامته في أفسس، تقليد واضح وقوي، وليس ثمة أساس جدي للشك في إقامته في أفسس في ذلك الوقت.

6- الخلاصة:

إن النظرة العادلة إلي دليل الخارجي، لابد أن تبين أنه دليل قوي، بصورة غير
عادية ، فمن النادر جداً أن نجد البرهان القاطع علي وجود كتاب ما وتأثيره في غيره من الكتابات، بهذه الصورة، في وقت قريب جداً من زمان نشره مثلما نجد في حالة الإنجيل الرابع. إن تاريخ نشره هو نهاية القرن الأول، ولا يمكن أن يتأخر عن بداية القرن الثاني. فهناك دلائل واضحة علي تأثيره في رسائل إغناطيوس. كما أن رسالة بوليكاربوس (الأصحاح السابع) تقتبس من رسالة يوحنا الأولي. وفكر وأسلوب الإنجيل الرابع كان لهما أثرهما الواضح في كتابات يوستينوس الشهيد. علاوة علي ذلكن إن إنجيل يوحنا منسوج مع الأناجيل الثلاثة الأخري في "الدياطسرون" لتاتيان. وقد اقتبس منه وفسره الغنوسيون. وفي الحقيقة نجد أن الدليل الخارجي علي التاريخ المبكر للإنجيل الرابع ونسبته إلي يوحنا الرسول، دليل قوي، سواء في مداه أو في تنوعه، لا يقل عن أي دليل لأي سفر آخر من أسفار العهد الجديد، وأعظم جداً من أي دليل علي أي عمل من الأعمال الكلاسيكية.

ولن نتناول هنا تاريخ الجدل حول نسبة هذا الإنجيل ليوحنا، فباستثناء طائفة "ألوجي" الغامضة (الذين عزوا الإنجيل إلي كيرنثوس) في القرن الثاني، لم يرتفع صوت يتحدي نسبة كتابة هذا الإنجيل إلي يوحنا، حتي نهاية القرن السابع عشر، ولم يبدأ هجوم خطير حتي القرن التاسع عشر (برتشنايدر في 1820، وستراوس في 1835، ووايس في 1838، وبوير ومدرسته في 1844 وما بعدها، وكيم في 1865.. إلخ) . وقد صد الكثيرون من العلماء الآخرين هذه الهجمات بقوة (أولشوزن، تولوك، نياندر، ابرارد، بليك ... إلخ). وقد تبني البعض – بصور ودرجات مختلفة – افتراض أساس رسولي للإنجيل، مع اعتباره من إنتاج يد أخري متأخرة (فيزايكر ورينان وغيرهما). ومن هنا اتسعت دائرة الجدل، في تعنت متزايد من جانب المعارضين لأصالة وصحة الإنجيل، ولكنهم قوبلوا بنفس القوة والعزم من جانب المدافعين عنه.

ثالثا – خصائص الإنجيل والدليل الداخلي :


1- الخطوط العريضة للهجوم والدفاع : لقد تعرض الدليل الخارجي للإنجيل الرابع للنقد، ولكن – قبل كل شئ – تقوم معارضة نسبة كتابة الإنجيل إلي يوحنا وحجيته التاريخية، علي أسس داخلية، فيشدد المعارضون علي التباين الواسع – والمعترف به – في الأسلوب والطبيعة والمنهج، بين الإنجيل الرابع والأناجيل الثلاثة الأولي، وعلي ما يزعمونه من صبغته الفلسفية (عقيدة الكلمة – "اللوجس") ، وعلي أخطاء ومتناقضات مزعومة، وعدم الاضطراد في القصة .. إلخ.

أما الدفاع عن الإنجيل فيقوم عادة علي أساس إبراز أهداف الإنجيل المتنوعة، وتفنيدا لمبالغات في الاعتراضات السابق ذكرها، وإثبات أنه بطرق كثيرة، يكشف كاتب الإنجيل عن شخصية، وأنه هو الرسول يوحنا. فقد كان – علي سبيل المثال – يهودياً من سكان فلسطين ملما بطبوغرافية أورشليم .. إلخ، كما كان رسولاً، وشاهد عيان، " والتلميذ الذي كان يسوع يحبه" (يوحنا 13 : 23،20 : 2، 21 : 20و7)، والشهادة المسجلة فيه (21 : 24) من الذين عرفوا الكاتب إبان حياته، لهي شهادة بالغة القيمة في هذا المجال. وبدلاً من تتبع هذه الخطوط المعروفة (انظر في هذا الخصوص : جودت ولوتهاردت، وستكوت، أبوت، دراموند .. إلخ، في مؤلفاتهم السابق ذكرها). سيتجه بحثنا هنا إلي برهان علي أساس دراسة شاملة حديثة .

2- افتراضات نقدية لا مبرر لها : إن دراسة كتابات يوحنا بصفة عامة، والإنجيل الرابع بصفة خاصة، قد طرقت بسبل متعددة، ومن وجهات نظر متنوعة. وأحدى أكثر هذه الطرق شيوعاً – في المؤلفات الحديثة – هي التي تزعم أن إنجيل يوحنا هو نتاج الفكر المسيحي حول الحقائق المذكورة في الأناجيل الأخرى ، وأن هذه الحقائق قد طورتها خبرة الكنيسة، فهي إذاً تعكس فكر الكنيسة في نهاية القرن الأول أو بداية القرن الثاني – فيفترضون أنه في ذلك الوقت – وقد أصبحت الكنيسة بصفة رئيسية كنيسة من الأمم – قد تأثرت كثيراً بالثقافة اليونانية الرومانية، حتي انعكس هذا علي تاريخها، وهكذا تحول تراثها الأصيل ليتلاءم مع البيئة الجديدة، ويزعمون أننا نرى في الإنجيل الرابع أبلغ عرض لنتائج هذه العملية. ويبدأ بيكون الموضوع بالرسول بولس وتأثيره، ويتابع ذلك حتى يصل إلي القول بقيام مدرسة من اللاهوتيين في أفسس هي التي أخرجت كتابات يوحنا، وأن فكر الكنيسة قد استراح لهذا العرض الجديد للمسيحية (انظر كتابه عن "الإنجيل الرابع بين البحث والحوار"). إن ما يراه هذا النوع من العلماء في الإنجيل الرابع، إنما هو أفكار هيلينية في صيغة عبرية، بعد أن تحولت حقائق الإنجيل لتكون مقبولة عند الفكر اليوناني.

ويأتي آخرون إلي الإنجيل الرابع ولديهم افتراض مسبق بأن القصد منه هو أن يقدم للقارئ صورة مكتملة عن حياة يسوع، باستكمال وتصحيح أقوال الأناجيل الثلاثة الأخرى، وتقديم المسيح في صورة تشبع الاحتياجات الجديدة للكنيسة في بداية القرن الثاني، بينما يري آخرون هدفاً جدلياً في هذا الإنجيل، فمثلاً يرى فيه "ويزساكر" هدفاً جدلياً قوياً ضد اليهود، ويقول: "هناك الاعتراضات التي أثارها اليهود ضد الكنيسة بعد أن أكتمل انفصالها، وبعد أن مر تطور شخص مسيحها في أهم مراحله .." (العصر الرسولي جزء 2 – ص 222). ويتوقع المرء أن عبارة بمثل هذه القوة، يجب أن تستند إلي بعض البراهين وأن نجد بعض الأدلة التاريخية عن قيام جدال بين اليهود والكنيسة، غير ما يرونه في الإنجيل الرابع ذاته، ولكن ويزساكر لا يقدم شيئاً من ذلك ، سوى القول بأنها مواضيع جدلية بين مدارس فكرية مختلفة، وإنها بصورتها الراهنة ليست إلا مفارقات تاريخية. ولكننا نعرف من الحوار بين ستينوس الشهيد وتريفو اليهودي، الموضوعات التي تناولها الحوار بين اليهود والمسيحيين في منتصف القرن الثاني، ويكفي أن نقول إن هذه الموضوعات – كما يخبرنا يوستينوس – كانت تتعلق بصورة رئيسية بتفسير العهد القديم، وليست تلك الموضوعات التي يناقشها الإنجيل الرابع.

ولعل أكثر الافتراضات إثارة للدهشة فيما يتعلق بالإنجيل الرابع، هي تلك التي تعتمد علي افتراض أن القصد من الإنجيل الرابع هو الدفاع عن تعليم مسيحي عن الأسرار كان قد ازدهر في بدء القرن الثاني. وطبقاً لهذا الافتراض، قد أرسي الإنجيل الرابع تعليماً عن الأسرار جعلها في موقع فريد كوسيلة للخلاص.
ونحن لا نعلق كثيراً عن وجهة النظر هذه ، لأن التفسير الذى يرى تعليم الأسرار فى الإنجيل الرابع ، تفسير لا أساس له ، فهذا الإنجيل لا يضع الأسرار فى مقام المسيح ، كما يزعمون . وأخيراً ، فإننا لا نجد حجة مقبولة للذين يؤكدون أن الإنجيل الرابع كتب لجعل إنجيل يسوع أكثر قبولا عند الأمم ، والحقيقة هي أن إنجيل متى كان أكثر الأناجيل قبولاً عند الأمم ، فقد اقتبسوا منه واستشهدوا به أكثر من سائر الأناجيل . ففي كتابات الكنيسة الأولي ، اقتباسات من إنجيل متى تعادل كل الاقتباسات من باقي الأناجيل مجتمعة . ولم يبرز الإنجيل الرابع إلى المقدمة فى الكنيسة المسيحية إلا عندما ثار الجدل حول شخص المسيح ، فى القرن الثالث.

3 - الهدف الحقيقي للإنجيل – والنتائج : عندما نعود إلى الإنجيل نفسه بحثاً عن الهدف منه، نجد الجواب بسيطاً واضحاً ، إذ يقول كاتب الإنجيل مؤكداً : "وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب فى هذا الكتاب . وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه" (يو20 : 31و30) ، وإذا سرنا وراء هذا الدليل الواضح ، وطرحنا كل الافتراضات التى تزخر بها المقدمات والتفسيرات وتواريخ عصور الرسل وما بعدها ، لوجدنا الكثير من المفاجاءات :

أ – علاقته بالأناجيل الثلاثة الأولي : هناك فروق كثيرة بين هذا الإنجيل والأناجيل الثلاثة الأخرى ، ولكن ما يثير الدهشة حقاً ، هو تلك الحقيقة ، أن نقاط الالتقاء بين هذه الأناجيل والإنجيل الرابع قليلة جداً . فبينما يقول جميع النقاد – الذين أشرنا إليهم سابقاً – إن الكاتب أو المدرسة التى جمعت كتابات يوحنا ، مدينة للأناجيل الثلاثة الأخرى بكل الحقائق الواردة فى الإنجيل الرابع تقريباً ، نجد أنه فيما عدا أحداث أسبوع الآلام ، لا توجد سوى نقطتين فقط من نقاط الالتقاء ، تظهران فيه بوضوح ، هما إشباع الخمسة الآلاف ، والمشي على البحر (يوحنا 6 : 4-21) . أما شفاء ابن خادم الملك (يو 4 : 46-53) فليس هو نفسه شفاء خادم قائد المئة (فى متى ولوقا) ، وحتى إذا افترضنا تطابق الحادثتين ، فيكون هذا هو كل ما عندنا فى الإنجيل الرابع عن أحداث خدمته فى الجليل ، ولكن هناك خدمته الأولي فى اليهودية وفى الجليل التى بدأت قبل أن يلقي يوحنا المعمدان فى السجن (يو3 : 24) وهو ما لا يوجد ما يقابله فى الأناجيل الثلاثة الأخرى . فلا يكرر نقل المعلومات التى يمكن جمعها من الثلاثة الأخرى ، بل يسير على نهج خاص به وينتقى من الأحداث ما يريد ، ويقدمها من وجهة النظر الخاصة للإنجيل ، كما أن له مبدأه الخاص فى هذا الانتقاء أو الاختيار ، وهو المبدأ الذى ذكره فى الفقرة التى سبق أن اقتبسناها . فالمشاهد التى يصورها والأعمال التى يحكى عنها ، والأقوال التى يرويها والتعليقات التى يقدمها الكاتب ، كل هذه موجهة نحو هدف مساعدة القراء على الإيمان بأن يسوع المسيح هو ابن الله ، كما أن الكاتب يقرر أن نتيجة هذا الإيمان هى أن تكون لهم حياة باسمه.

ب – الزمن الذى يغطيه الإنجيل : وعلينا – استرشاداً بالمبدأ الذى ذكرناه – أن نعود للإنجيل ، وأول شيئ يستلفت نظر القارئ هو الزمن القصير الذى تغطيه أو تشغله المشاهد التى يصفها الإنجيل . ولنأخذ ليلة تسليمه ويوم الصلب ، فنجد أن الأمور التى حدثت والأقوال التى قيلت فى ذلك اليوم – من غروب الشمس إلى غروبها (أى يوم كامل) – لا تشغل أقل من سبعة أصحاحات من الإنجيل (من 13-19) . وعلاوة على الأصحاح التكميلي (الأصحاح الحادى والعشرين) ، هناك عشرون أصحاحاً فى الإنجيل تحتوى على 797عدداً ، وهذه الأصحاحات السبعة تحتوى على 257عدداً ، أى أن أكثر من ثلث الإنجيل كله تستغرقه أحداث يوم واحد.

ونعلم مما جاء فى سفر الأعمال ( 1: 3) أن الرب المقام ظل يظهر للتلاميذ مدة أربعين يوماً، ولكن يوحنا لا يسجل كل ما حدث فى أثناء هذه الأيام، بل يسجل فقط ما حدث يوم القيامة ، وما حدث فى يوم آخر بعد ذلك بثمانية أيام ( الأصحاح العشرون) ، أما الأحداث التى سجلت فى الأناجيل الأخرى، فتتوارى كقضية مسلم بها، ولا يسجل سوى الآيات التى حدثت فى هذين اليومين، وهو يسجلها لأن لها أهمية خاصة بالنسبة للهدف الذى كان أمامه، وهو أن يؤمنوا بحقيقة أن يسوع هو المسيح ابن الله. وإن سرنا فى أثر الدليل المقدم لنا فى الإنجيل، فإننا نندهش لقلة الأيام التى تم فيها أى شئ. وعندما نقرأ قصة الإنجيل الرابع نجد كثيراً من الإشارات عن مرور الوقت، وعبارات كثيرة دقيقة عن التواريخ، ونعلم من الإنجيل أن خدمة يسوع قد استغرقت – على الأرجح – ثلاث سنوات، ونستنتج هذا من عدد الأعياد التى حضرها فى أورشليم ، كما أن لدينا بعض ملحوظات عن الوقت الذى قضاه فى السفرات، ولكن ليس لدينا معلومات عما حدث فى أثنائها ، وقلما تذكر الأيام التى حدث فيها أي شئ، أو قيل فيها أي حديث. ولكنه يذكر لنا بكل دقة أنه: " قبل الفصح بستة أيام أتى يسوع إلى بيت عنيا حيث كان لعازر" ( يو12: 1)، وبالنظر إلى هذه الأيام الستة لا يحدثنا إلا عن العشاء وعن حادثة دهن مريم لقدمي يسوع بالطيب، والدخول إلى أورشليم وزيارة اليونانيين، وعن وقع هذه الزيارة عند يسوع . كما أننا نرى ما انطبع فى فكر البشير عن عدم إيمان اليهود ، ولكنا لا نعرف ما هو أكثر من ذلك . ونحن نعلم أن أموراً كثيرة جداً قد حدثت فى تلك الأيام ، ولكنها لم تسجل فى هذا الإنجيل . ولم يسجل لنا شيئاً عن اليومين اللذين مكثهما فى الموضع الذى كان فيه عندما بلغه خبر مرض لعازر ، وقصة إقامة لعازر هى قصة يوم واحد (الأصحاح الحادى عشر). والأمر كذلك أيضاً مع قصة شفاء الأعمى ، فقد تم الشفاء فى يوم ما ، وما ثار من جدل حول أهمية ذلك الشفاء ، هو كل ما سجله عن يوم آخر (الأصحاح التاسع) . وما يسجله فى الأصحاح العاشر هو قصة يومين . وقصة الأصحاحين السابع والثامن – ويقطعهما الحاد4 العرضي عن المرأة التى أمسكت فى ذات الفعل – هى قصة لا تستغرق أكثر من يومين . وقصة إطعام الخمسة الآلاف والحديث الذى أعقبها (الأصحاح السادس) هى قصة يومين أيضاً . وليس من الضروري الدخول فى تفصيلات أكثر ، ومع هذا فإن الكاتب – كما لاحظنا - دقيق جداً فى ملحوظاته عن الوقت ، فهو يلاحظ الأيام ، وعدد الأيام التى يتم فيها عمل ما ، أو التى قيل فيها حديث ما . ونحن نذكر هذه الملحوظات التى قد تكون جلية أمام كل قارئ يهتم بها ، نذكرها أساساً بهدف إثبات أن الإنجيل – بكل وضوح وجلاء – لا يقصد ولم يقصد مطلقاً أن يقدم قصة كاملة عن حياة المسيح وأعماله . وهو يقدم لنا – على أكثر تقدير – معلومات عن عشرين يوماً من بين أكثر من ألف يوم هى مدة خدمة الرب . وهذا وحده كاف لنقض فكرة الذين يتناولون الإنجيل الرابع ، كما لو كان مقصوداً منه أن يحذف أو يكمل أو يصحح الروايات المذكورة فى الأناجيل الثلاثة الأخرى ، فواضح تماماً أن هذا الإنجيل لم يكتب لهذا الغرض .

ج-سجل شخصي : يذكر الإنجيل بكل وضوح أنه استرجاع لذكريات الماضي ، لشخص كانت له صلة شخصية بالخدمة التى يصفها ، فالنغمة الشخصية واضحة فى الإنجيل من بدايته إلى نهايته ، فهي موجودة حتى فى المقدمة لأنه فى الآية التى يعلن فيها الحقيقة العظمى عن التجسد ، يستخدم الصيغة الشخصية "رأينا (نحن) مجده" (يو 1 : 14) ، ويمكن اعتبار هذا الفكرة الأساسية للإنجيل كله . وفى كل المشاهد الواردة فى الإنجيل يعتقد الكاتب أن فى جميعها أظهر يسوع مجده وعمَّق إيمان تلاميذه . فلو سألنا يوحنا : متى عاين مجد الكلمة المتجسد ؟ لكان جوابه : فى كل المشاهد الموصوفة فى الإنجيل . فإذا قرأنا الإنجيل من وجهة النظر هذه ، نجد أن الكاتب كان له مفهوم عن مجد "الكلمة" المتجسد يختلف تماماً عن المفهوم الذى ينسبه إليه النقاد . إنه يرى مجد "الكلمة" فى حقيقة أنه "تعب" من السفر (يو4 : 6) ، وفى أنه صنع من التفل طيناً وطلي به عيني الأعمى (يو9 : 6) ، وفى أنه بكى عند قبر لعازر (يو 11 : 35)، وفى أنه انزعج فى نفسه (يو 11 : 38) ، وأنه يمكنه أن يكتئب ويحزن حزناً لا يعبر عنه كما حدث بعد مقابلته لليونانيين (يو12 : 27) . لذلك فهو يسجل كل هذه الأشياء ، لأنه يعتقد أنها متناغمة مع مجد الكلمة المتجسد . إن التفسير السليم لا يمكن أن يتجاهل هذه الأمور ، بل يجب أن يعتبرها جزءاً من مجد الكلمة المعلن.

فالإنجيل إذاً بكل وضوح هو ذكريات شاهد عيان ، ذكريات شخص كان موجوداً بنفسه فى كل المشاهد التى يصفها ، ولا شك أن هذه الذكريات كثيراً ما كانت تجعله يتأمل فى معنى ودلالة ما يصفه ، فكثيراً ما كان يتوقف ليقول كيف أن التلاميذ – وهو واحد منهم – لم يفهموا فى ذلك الوقت معنى بعض الأقوال ، أو دلالة بعض الأعمال التى عملها يسوع (يو 2 : 22 ، 12 : 16.. إلخ) . وفى بعض الأحيان لا نكاد نميز بين كلمات السيد وبين تعليقات يوحنا ، ولكننا أيضاً كثيراُ ما نقابل نفس الظاهرة فى الكتابات الأخرى ، ففى الرسالة إلى أهل غلاطية ، مثلاً يكتب بولس عما واجه به بطرس فى أنطاكية : "… إن كنت وأنت يهودى تعيش أممياً لا يهودياً فلماذا تلزم الأمم أن يتهودوا" (غل 2 : 14) ، وبعدها بقليل ينتقل إلى التعليق على الموقف . ويستحيل علينا أن نحدد أين ينتهى الحديث المباشر ، ومتى يبدأ التعليق . وهكذا الأمر فى الإنجيل الرابع ، ففي الكثير من الحالات ، يستحيل علينا أن نقول أين تنتهى كلمات يسوع وأين تبدأ تعليقات الكاتب . وهذا ما نراه – على سبيل المثال – فى الحديث عن شهادة المعمدان فى الأصحاح الثالث . فلعل كلمات المعمدان تنتهى بالعبارة : "ينبغـى أن ذلك يزيـد وأنـي أنا أنقص" (يو 3 : 30) ، أما ما بعدها فقد يكون تعليق الكاتب على الموضوع .

د – ذكريات شاهد عيان : "هكذا نجد أن الإنجيل هو ذكريات شاهد عيان للأحداث الماضية مع انطباعاته عن معنى ما مر به من اختبارات . لقد كان موجوداً فى المشاهد التى يصفها . لقد كان موجوداً فى دار رئيس الكهنة" ، وكان حاضراً عند الصليب ويشهد بحقيقة موت يسوع (يو 18 : 15 ، 19 : 35) . وإذ نقرأ الإنجيل نلاحظ مقدار التأكيد الذى يضعه على كلمة "يشهد" ومشتقاتها ، فهو يستخدم هذه الكلمة كثيراً (يو 1 : 19و8و7 ، 3 : 33و26و11 ، 5 : 31 ، 12 : 17 ، 21 : 24 … إلخ) ، وهو يستخدمها هكذا لتأكيد الحقائق التى عاينها . وفى هذه الشهادات نجد ربطاً غير عادي بين فكر رفيع وقوة ملاحظة دقيقة . ففى وقت واحد ، يحلق البشير عالياً من عالم روحى ويتحرك فى يسر وسهولة بين أثمن وأسمى عناصر الاختبار الروحي ، مستخدماً كلمات عادية ، ولكنه يضمنها أعمق المعاني عن الإنسان والعالم ، مما لم يخطر من قبل فى فكر إنسان . وتجتمع فى كتاباته العجيبة أسمى درجات التصوف مع الإدراك العملي المفتوح العينين . وفوق كل شيء تدهشنا روعة إحساسه بالقيمة العظمي للجانب التاريخي ، فكل معانيه الروحية لها أساس تاريخي ، وهذا واضح فى رسالته الأولي وضوحه فى الإنجيل ، حيث نراه رائعاً جلياً . وبينما كان اهتمامه الأصيل أن يشد انتباه قارئيه إلى يسوع وعمله وكلمته ، فإنه – دون قصد – سجل تاريخ حياته الروحية ، وشيئاً فشيئاً ونحن نطالع الإنجيل مندمجين فى روحه ، نجد أننا نسير فى موكب نهضة روحية عظيمة ونتابع نمو الإيمان والمحبة فى حياة الكاتب ، إلى أن تصبح هذه هى النغمة السائدة فى حياته كلها . فمن ناحية نجد أن الكتاب رؤية موضوعية عظيمة عن حياة فريدة ، وقصة إعلان ابن الله لشخصه، وإعلان الآب فى يسوع المسيح ، إلى أن تصل إلى غايتها عبر التطورات المتضاربة من الإيمان والشك عند الذين قبلوه وعند الذين رفضوه . ومن الناحية الأخرى نجد فيه عنصراً ذاتياً فى قلب الكاتب ، حيث يخبرنا كيف بدأ الإيمان وكيف نما وتقدم حتى وصل إلى معرفة ابن الله . إننا نستطيع أن نستجلي الأزمات المتنوعة التى اجتاز فيها ، والتى عن طريقها – وهو يجتازها على التوالي – حصل على اليقين الذى يعبر عنه بمثل هذا الهدوء ، فهي التى أمدته بالمفتاح الذى به استطاع أن يكشف عن سر اعلانات يسوع للعالم . إن انتصار الإيمان الذى يرسمه لنا ، قد اختبره فى داخل نفسه أولاً ، وهو ما تتضمنه تلك العبارة الرائعة ذات الدلالة العميقة : "رأينا مجده" (يو 1 : 14).

هـ – إيضاح لذكريات الماضي : ويتأكد الإنجيل تأكيداً قاطعاً ، بالتأمل فى طبيعة "التذكر" بوجه عام ، فالقاعدة العامة للتذكر هى أننا عندما نتذكر شيئاً ما أو حادثاً ما ، فإننا نتذكره بكل كلياته مع كل الملابسات المصاحبة له ، وعندما نخبر الآخرين به ، فعلينا أن نختار ما يلزم لتوضيح المعنى الذى نريده . والطبائع غير الفنية ليس لها القدرة على الاختيار ، بل تصب كل ما يخطر على البال (كما يقول شكسبير) . إن أروع خصائص التذكر نجدها بوفرة فى الإنجيل الرابع ، وهى تقدم لنا برهاناً قائماً بذاته على أنه بقلم شاهد عيان . ولا يتسع المجال أمامنا هنا إلا لذكر أمثلة قليلة . لاحظ أولاً تلك الملحوظات الدقيقة عن الوقت فى الأصحاح الأول ، والملحوظات الخاصة عن كل شخصية من التلاميذ الستة الذين قابلهم يسوع فى الأيام الأربعة الأولي من خدمته . ولاحظ الصورة التى يسجلها من أن نثنائيل كان تحت التينة (1 : 50) ، ثم ملحوظة وجود أجران الماء الستة فى قانا الجليل حسب عادة اليهود فى التطهير (يو 2 : 6) . ويمكن أن نشير فى هذا الخصوص إلى الملحوظات الجغرافية التى وردت كثيراً فى سياق القصة ، والتى تبين معرفة وثيقة بفلسطين ، وإلى الإشارات العديدة للنواميس والعادات والمعتقدات والاحتفالات الدينية اليهودية ، والتى يعترف الجميع الآن أنها تدل على دقة الكاتب وتصويره الرائع للأحداث . إن هدفنا الرئيسي هو أن نسترعى الانتباه إلى تلك الأمور العرضية التى ليست لها أهمية رمزية ، ولكنها سجلت لأنها من الملابسات التى تداعت فى الفكر عند تذكر الحادث الرئيسي . وهو يرى أيضاً "الغلام" صاحب الأرغفة الخمسة من الشعير والسمكتين (يو 6 : 9) ، ويتذكر أن مريم جلست فى البيت بينما هرعت مرثا لتقابل الرب عندما اقترب من بيت عنيا (يو 11 : 20) ، ويذكر لعازر وهو يخرج مربوط اليدين والرجلين بأكفان القبر (11 : 44) ، وترتسم أمامه صورة حية لحادثة غسل أرجل التلاميذ (13 : 1-5) ، وكذلك التصرفات والأقوال التى صدرت عن التلاميذ فى تلك الليلة المليئة بالأحداث . وهو مازال يرى مسلك الجند الذين جاءوا للقبض على يسوع (18 : 3-8) ، ويتذكر سيف بطرس وهو يلمع فى الظلام (18 : 10) ، ومشاركة نيقوديموس فى دفن يسوع ، وأنواع وأوزان الحنوط التى أحضرها لتحنيط الجسد ( 19 : 38-40) . ويتحدث عن العناية الواضحة فى طي الثياب الكتانية ، وكيف كانت موضوعة فى القبر الفارغ (20 : 4-8) . هذه بعض اللمسات الحية فى هذه الذكريات ، والتى لا يستطيع أن يذكرها بهذه الدقة والروعة إلا شاهد عيان ، وإذ يلقى البشير نظرة إلى الوراء ، يذكر المشاهد المتنوعة ، وكلمات السيد بكل كمالها كما حدثت ، ويختار تلك اللمسات الحية التى تحمل علامة الصدق لكل القراء.

و – نتائج : هذه اللمسات من الواقع الحى تبرر القول بأن كاتب هذا الإنجيل يصور المشاهد من واقع الحياة ، وليس من خياله . وهو إذ يلقي نظرة على تاريخه الروحي الشخصي ، يتذكر بصورة خاصة تلك الكلمات والأعمال التى قام بها المسيح والتى حددت مسار حياته الخاصة وقادته إلى يقين الإيمان الكامل ومعرفة ابن الله . ويمكن فهم الإنجيل من وجهة النظر هذه ، ويبدو لنا أنه لا يمكن فهمه عن أى طريق آخر دون تجاهل كل الظواهر التى أشرنا اليها على سبيل المثال . وعندما ننظر إلى الإنجيل من وجهة النظر هذه ، نستطيع إهمال الكثير من المناقشات المستفيضة حول احتمال تغير موضع بعض الأصحاحات (كما يزعم سبيتا وآخرون) . وعلى سبيل المثال ، لقد ذُكر الكثير عن الانتقال الفجائي فى المشهد من الجليل إلى اليهودية عندما ننتقل من الأصحاح الرابع إلى الأصحاح الخامس ، والانتقال الفجائي المماثل فى العودة إلى الجليل (يو 6 : 1) ، وقد وضع الكثير من المقترحات ، ولكنها كلها تنبع من افتراض أن تذكر الأحداث الماضية يجب أن يكون متصلاً ، وهو غير الواقع . وبينما يحتمل جداً أنه كان هناك تتابع فى ذهن الكاتب ، ولكن هذا لا يضطرنا إلى التفكير فى تغير موضع بعض الأصحاحات ، وإذ نأخذها كما هى فى الإنجيل، فإن الأدلة المختارة – سواء حدثت فى اليهودية أو فى الجليل – تشير فى كل الأحوال إلى نوع من التقدم . وهى – من ناحية – تعبَّر عن مجد يسوع الظاهر ، ومن الناحية الأخرى ، عن نمو الإيمان وتطور عدم الإيمان . وهذا يفتح أمامنا مجالاً جديداً للاعتراض والتساؤل ، وهو ما سنتناوله الآن :

رابعاً – التقدم والتطور فى الإنجيل : إن الاعتراض الرئيسي الذى يتردد بإلحاح ضد وجهة النظر القائلة بنسبة الإنجيل الرابع إلى الرسول يوحنا ، هو أنه ليس به أى تقدم أو تطور أو نقطة تحول أو أى شيء يعادل فى أهميته – مثلا – اعتراف الرسول بطرس فى قيصرية فيلبس (مت 16 : 13-17) . كما أنهم يزعمون أن هذا ينطبق أيضا على شخصية يسوع ، حيث يبدأ الإنجيل بعقيدة اللاجوس "الكلمة" ثم لا يحدث فيها أى تقدم من البداية إلى النهاية ، وكذلك فيما يتعلق بموقف التلاميذ ، إذ يزعمون أنهم يبدون فى هذا الإنجيل على نفس الدرجة من الإيمان بأن يسوع هو المسيح ، من البداية إلى النهاية . ولكن الحقيقة على العكس من ذلك تماماً ، فكلما تقدمنا فى الإنجيل – كما سبق أن قلنا – نجد مجد الرب يظهر بصورة متزايدة باستمرار ، وأن التلاميذ يتقدمون إلى إيمان أعمق ، كما أن عدم إيمان الذين يرفضونه، يزداد وضوحاً ورسوخاً إلى أن يصبح رفضاً مطلقاً . والمتأمل الدقيق المتأني يرى ذلك بكل جلاء.

1-صورة يسوع فى الإنجيل : ويتخذ الاعتراض على الصورة التى يرسمها هذا الإنجيل ليسوع ، أشكالاً متنوعة ، يحسن أن ندرس كلاً منها على حدة :

أ – الغياب المزعوم للتقدم فى شخصية يسوع : فأول كل شيئ ، يؤكدون أنه لا يوجد فى الإنجيل الرابع أى تقدم فى شخصية يسوع ، كما لا يوجد شيئ من الإشارات التى نجدها فى الأناجيل الثلاثة الأولي عن الأفاق التى تتسع باستمرار ، ولا إشارة إلى أن معنى وغرض وغاية دعوته كانت تزداد وضوحاً بمرور الأيام . وهناك إجابتان على هذا الزعم : الأولي هى أنه فى سلسلة من المشاهد من حياة يسوع منتقاة للهدف المحدد المذكور فى الإنجيل ، لا يلزم أن نطلب تاريخاً متصلاً لخدمته ، فقد تم اختيار تلك المشاهد بكل دقة لبيان حدة بصيرته النفاذة إلى أعماق الطبيعة البشرية ودوافعها ، وقوته على الشفاء إشفاقاً على الناس ، وسيطرته على الطبيعة ، وسلطانه المطلق على الناس وعلى العالم . والأمر الثاني هو أنه حتى فى الإنجيل الرابع توجد إشارات إلى نقطة تحوُّل فى خدمة الرب يسوع حين أعلن المعنى الكامل لخدمته (على سبيل المثال ، عند زيارة اليونانيين فى الأصحاح الثاني عشر ) . وسوف نرى فيما بعد أنه ليس صحيحاً أننا نجد فى هذا الإنجيل ، ولا فى الأناجيل الثلاثة الأخرى أيضاً ، أن يسوع قدم نفسه علانية على أنه المسيا ، منذ البداية.

ب – استقلال يسوع المزعوم : وشبيه بما سبق ، الاعتراض على تاريخية الإنجيل لأنه يقدم يسوع دائما على أنه يوجه مسار حياته بنفسه ، متعاليا على الناس ، ورافضا أن يتأثر بهم ، ويعتقدون أن هذا نتيجة سيطرة فكرة اللوجوس فى مقدمة الإنجيل . والرد على هذا هو أنه لا يوجد فى الحقيقة أى اختلاف جوهرى بين موقف يسوع فى هذه الناحية فى الأناجيل الثلاثة الأخرى ، وإنجيل يوحنا ، ففيها جميعها يتصرف بسلطان . فهو يستطيع أن يقول فى الأناجيل الثلاثة الأولي "أما أنا فأقول لكم" (مت 5 : 32و28و22 …إلخ) ، وفيها أيضاً يعلن أنه معلم الحق المطلق ، والمخلص ، وصاحب السلطان ، والديان لجميع الناس . وفى هذا الخصوص لا يوجد أى شيئ جديد من هذه الناحية فى الإنجيل الرابع . حقيقة أنه قال : "ليس أحد يأتى إلى الآب إلا بي" (يو 14 : 6) ، ولكنه قال أيضاً : "تعالوا إلي … وأنا أريحكم" (مت 11 : 28). وهكذا نجد أن دعوى السلطان على الناس ، قائمة فى كل الأناجيل . كما نرى أيضا فيها جميعها ، يسوع يقدم الولاء والخضوع والطاعة للآب ، وليس الإنجيل الرابع بأقلها فى ذلك ، بل بالحري أكثرها وضوحاً : "لأن أبي أعظم منى" (يو 14 : 28) ، والأقوال التى ينطق بها هى أقوال الآب ، والأعمال التى يعملها هى أعمال الآب (يو 5 : 20و19 ، 7 : 18و16 … إلخ) ، "هذه الوصية قبلتها من أبي" (يو 10 : 18). وهكذا نرى فى كل الأناجيل نفس الشخص الواحد غير المتغير المملوء نعمة.

ج – عدم إمكانية إدراك "فكرة اللوجس" : وهناك اعتراض آخر يهدف إلى إثبات أنه من السهل إدراك أن هذا الإنجيل لا يمكن أن يكون من عمل "رسول بسيط" ، وهو اعتراض يبدو قوياً فى ذاته ، وكذلك لأهمية الشخص الذى يثيره ، إذ يقول "ويزساكر" (فى كتابه : "العصر الرسولي") : إنها لمعضلة ، أن تلميذ الإنجيل المحبوب ، الذى جلس على المائدة بجوار يسوع، يمكن أن يبلغ إلى اعتبار أن كل اختباراته الماضية كانت حياة مع "كلمة الله المتجسد" . من المستحيل تصور أي قوة للإيمان والفلسفة تبلغ من العظمة حداً تختفي معه ذكريات حياة واقعية ، لتحل محلها تلك الصورة العجيبة لشخص سماوي . يمكن أن نفهم أن شخصاً مثل بولس – الذى لم يكن قد عرف يسوع ، ولم يتقابل معه كإنسان – يمكن أن يعترض على أقوال شهود العيان عن الشخص السماوي ، مما يجعله يستبدل الظهورات الأرضية ، بالمسيح الذى هو روح ، وأن الإيمان يجب أن يسمو به فوق الصورة الأرضية التى لم تكن سوى مجرد مرحلة ، ولكن هذا ما لا يمكن تصديقه عن رسول بسيط مثل يوحنا ، وهنا فصل الخطاب (الجزء الثاني –211 )) . ومن السهل أن نقول : "إن هذا ما لا يمكن تصديقه عن رسول بسيط" ، ومع هذا فإننا نعلم أن هذا الرسول البسيط قد آمن أن يسوع قد قام من الأموات وأنه ارتفع رباً ومخلصاً ، وأنه جلس عن يمين الله ، وأنه رب على الكل (أع 2 : 22-36) . وإن كنا نسلم بأن الكنيسة الأولي قد آمنت بهذه الأمور ، فليس من السهل أن نقول إن الخطوة التالية التى نجدها فى الإنجيل الرابع لا يمكن تصديقها . وفى الواقع إن اعتراض ويزساكر ليس موجهاً ضد الإنجيل الرابع ، بل هو موجه بنفس الدرجة ضد المسيحية بعامة ، فإذا كان المسيح هو هو كما تتحدث عنه الأناجيل الثلاثة الأولي ، وأنه هو هو كما كانت الكنيسة الأولي تعتقد فيه ، فإن المفهوم الأساسي للإنجيل الرابع يكون صادقاً مفهوماً . وإذا كانت المسيحية صحيحة ، فالإنجيل الرابع لا يضيف جديداً إلى صعوبة الإيمان ، بل بالحري يقدم أساساً ثابتاً لإيمان عقلاني.

2-عقيدة اللوجس فى المقدمة : من المناسب هنا أن نتكلم بشيء من التفصيل عن عقيدة "اللوجس" نفسها وما تضفيه على صورة المسيح فى هذا الإنجيل . ومن الواضح أن أعظم اهتمامات كاتب الإنجيل الرابع كانت حياة السيد الشخصية ، كما عرفها عن قرب معرفة يقينية. كانت هذه الحياة التاريخية الحقيقية ، هى كل شيء بالنسبة له ، ففيها أمعن التفكير وأطال التأمل ، وقد جاهد ليجعل مضمونها حقيقة واقعة تزداد باستمرار وضوحاً أمامه هو أولا ، ثم أمام الآخرين أيضاً . وكيف يمكنه أن يجعل حقيقة تلك الحياة واضحة جلية للجميع ؟ وماذا كانت علاقة ذلك الشخص بالله وبالإنسان وبالعالم ؟ يحاول يوحنا فى مقدمته أن يبين من كان يسوع ، وماذا كانت صلته بالله وبالإنسان وبالعالم . هذا الشخص الحقيقي الذى عرفه وأحبه واحترمه ، كان أعظم وأكبر من الظاهر لعيني المشاهد العادي ، بل وأكثر مما كان ظاهراً لتلاميذه . كيف يمكن توضيح ذلك ؟ واضح من الإنجيل أن الشخص التاريخي يأتي أولاً ، ثم بعد ذلك تأتى محاولة توضيح حقيقة الشخص . وما المقدمة إلا محاولة التعبير بدقة عن مجد هذا الشخص . وعقيدة "اللوجس" لا تهبط كثوب من الخارج على الشخص التاريخي ، ولكنها محاولة لوصف ما بدأ يوحنا يدركه من الحقيقة الجوهرية لشخص يسوع . إن ما أمامنا هنا ليس مجرد نظرية فكرية ، وليس محاولة لاستنباط نظرية عن العالم أو عن الله ، ولكنها محاولة للتعبير بلغة مناسبة عما يراه الكاتب الحقيقة العظمي . وعلى هذا فلسنا فى حاجة إلى البحث عن تفسير لعقيدة "اللوجس" عند يوحنا فى فكر هيراقليتس ، أو فى نظريات الرواقيين ، أو حتى فى نظرية "اختيار الأفضل" عند فيلو . إن أفكار هؤلاء الناس أبعد ما تكون عن جو الإنجيل الرابع . لقد سعي هؤلاء وراء نظرية عن الكون ، أما يوحنا فقد سعي لتوضيح مضمون حياة شخصية تاريخية . وفى المقدمة يعطينا صورة لتلك الحياة ، ويختار كلمة ملأها بأقوى المعاني ، المعنى الذى احتوى أعمق تعاليم العهد القديم وأسمي أفكار معاصريه . وتعليم الرسول بولس فى الرسائل التى كتبها وهو فى السجن – بخاصة – تقترب جداً من تعليم الإنجيل الرابع ، ولذا فليس من الصواب أن نأتي بعقيدة "اللوجس" لتفسير الإنجيل الرابع وشرحه ، وأن ننظر إلى كل وقائع الإنجيل على أنها مجرد توضيحات لهذه العقيدة ، بل الصحيح هو عكس ذلك تماماً ، لأن عقيدة "اللوجس" ليس لها كيان أو واقع حي بعيداً عن الحياة الشخصية التى كانت ظاهرة أمام الرسول . فالمقدمة إنما تمثل ما وصل يوحنا إلى رؤيته عن حقيقة الشخصية التى عرفها تاريخيا ، وهو يقدمها بصورة جامعة مانعة – مرة واحدة – فى المقدمة ، ولا يشير إليها بعد ذلك مطلقا فى الإنجيل . ويمكننا أن نفهم تعليم "اللوجس" عندما ننظر إليه فى ضوء هذه الوقائع المسجلة فى الإنجيل ، تلك الوقائع التى أعانت القديس يوحنا على معاينة مجده ، ولا يمكننا أن نفهم هذه الوقائع إن كنا ننظر إليها فقط على أساس أنها إيضاحات نظرية فلسفية مجردة . وبالإيجاز ، إن الإنجيل الرابع إنجيل
واقعي ، وليس إنجيلاً تجريدياً ، إنه ليس تطوراً لنظرية أو محاولة إثباتها ، ولكنه محاولة لرسم صورة لشخصية واقعية ، للتعبير بكلمات مناسبة عن دلالة تلك الشخصية كما أصبح يوحنا يراها.

3-نمو الإيمان وتزايد عدم الإيمان : وكما هو الحال مع شخصية يسوع ، هكذا الأمر مع الزعم بعدم نمو إيمان التلاميذ ، فالفحص الدقيق يثبت أيضاً أن هذا الاعتراض لا أساس له .

أ - الاعترافات المبكرة : وهنا يقولون إننا نعرف الخاتمة منذ البداية ، ففى الأصحاح الأول يطلق على يسوع مرتين اسم "المسيا" (يو 1 : 45و41) ، ويوصف مرتين بأنه "ابن الله" (1 : 49و34) ، ويشير إليه المعمدان فى هذه المرحلة المبكرة على أنه "حمل الله الذى يرفع خطية العالم" (1 : 29) ، كما يشيرون إلى حديثه مع نيقوديموس (يو 3 : 1-21) ، وإلى اعتراف السامريين (يو 4 : 42و41) ، وأحداث أخرى مشابهة ، لإثبات أنه فى هذه المرحلة المبكرة من خدمة الرب يسوع ، كانت مثل هذه الاعترافات غير محتملة ، بل بالحري مستحيلة. ولكننا نلاحظ أن هذه الاعترافات جاءت نتيجة إعلانات خاصة من يسوع للأشخاص الذين أدلوا بهذه الاعترافات ، وأن هذه الإعلانات هى التى هيأت الجو النفسي لهذه الاعترافات، وهذا واضح فى حالة نثنائيل . وليس الاعتراض على شهادة يوحنا المعمدان اعتراضا لا يمكن دحضه ، لأن المعمدان طبقاً لما هو وارد فى الأناجيل الثلاثة الأولي ، قد وجد الشهادة له فى الأصحاح الأربعين من إشعياء ، حيث وجد نفسه ، ووجد إرساليته ، فوصف نفسه كما نرى فى الإنجيل الرابع بالقول : "أنا صوت صارخ فى البرية ، قوَّموا طريق الرب كما قال إشعياء النبي" (يو 1 : 23 ، انظر أيضاً مت 3 : 3 ، مرقس 1 : 3و2)، كما نقرأ أيضاً "أما يوحنا فلما سمع فى السجن أعمال المسيح ، أرسل اثنين من تلاميذه ، وقال له أنت هو الآتي أم ننتظر آخر" (مت 11 : 3و2) ، فأجابه يسوع بما جاء فى الأصحاح الحادي والستين من إشعياء ، فقد كانت هذه فى نظر يسوع هى العلامات الحقيقية لملكوت المسيا . وهل
إنجيل مرقس


أولاً : إنجيلنا الثاني :

من المحتمل أن يكون ترتيب الأناجيل فى العهد الجديد كما هو بين أيدينا ، راجعا إلى الاقتناع المبكر بأن هذا هو الترتيب الذى كتبت به الأناجيل ، ومع هذا ، لم يكن هذا هو التريب فى جميع الأحوال. وقد قام التساؤل حول الترتيب عندما حلت المخطوطات المجلدة (وهى الشكل الحالى للكتاب) محل الدرج المطوى . وقد أنتشر هذا التغيير فى القرن الثالث الميلادى . وقد رأى أوريجانوس بعض المجلدات بالترتيب الآتى: يوحنا – متى – مرقس – لوقا. ومن المحتمل أن يكون ذلك راجعاً إلى الرغبة فى إعطاء الرسل مكان الصدارة . ويمكن اعتبار ذلك الترتيب والترتيب الشائع فى وقتنا الحاضر هما الترتيبان الرئيسيان . الأول بحسب أهمية الكاتب ، والثاني بحسب الترتيب التاريخى . والترتيب الأول ترتيب مصرى ولاتينى أما الترتيب الثاني فتؤيده معظم المخطوطات اليونانية والفهارس والآباء وكذلك السريانية القديمة.

وتوجد بعض الاختلافات فى هذين الترتبيين ، فالترتيب الأول قد يكون هكذا يوحنا – متى – لوقا – مرقس أو متى - يوحنا – مرقس – لوقا ، أو متى - يوحنا – لوقا – مرقس والثاني قد يكون : متى - مرقس – يوحنا – لوقا . ونلاحظ أن مرقس لم يوضع أولاً أبداً ، وعندما يوضع مرقس بعد لوقا فلا بد أن اعتبار الزمن قد أفسح المجال أمام عامل الطول.

ثأنياً : المحتويات والمميزات العامة :

1- المجال : يبدأ الإنجيل بخدمة يوحنا المعمدأن ينتهى بإعلأن القيامة ، أن استبعدنا الاثنتى عشرة آية الأخيرة ، التى تذكر ما حدث بعد القيامة من الظهورات وإرسالية التلاميذ والصعود وملخصاً موجزاً عن خدمة الرسل . وهكذا نجد أن حدوده تنطبق على ما ذكره بطرس (أعمال الرسل 10: 37-43) فلا يذكر شيئاً عن الخدمة الأولى فى اليهودية . ويكاد الإنجيل يقتصر على خدمة يسوع فى الجليل وأسبوع الآلام مع ما حدث فى أنتقاله من الجليل إلى أاورشليم (الأصحاح العاشر).

2- المادة المتميزة فى إنجيل مرقس : والمواضيع التى ينفرد بها مرقس هى ما جاء فى الأصحاح الرابع (4: 26- 29) عن البذار التى تنمو سراً ، وفى الأصحاح الثالث (3: 21) عن مخاوف أقربائه وفى الاصحاح الثامن (8: 22-26) عن الأعمى ، وفى الأصحاح الثالث عشر (13: 33-37) عن البواب والسهر ، وفى الأصحاح الرابع عشر (14: 51) عن الشاب الهارب . وبالإضافة إلى هذا ، هناك الكثير من الكلمات الحية التى تضفى لمعاناً على المواضيع الأخرى . ورواية مرقس أو فى غير قليل من الأحداث المشتركة بين الأناجيل ، مثلما فى موضوع موت يوحنا المعمدان (6: 14-29) ، والأكل بأيدى غير مغتسلة (7: 1-23) ، والغلام الذى كان يصرعه الروح النجس (9: 14-29) ، وحوار أحد الكتبة معه (12: 28-34) وهناك من مثل هذه الأجزاء ما يكفى لإثبات أن كاتب الإنجيل لم يعتمد اعتماداً كلياً على البشيرين الآخرين.

3- اقتباسات : مما يسترعى النظر أن متى فى كثير من الفصول ، يجذب الأنتباه إلى أن يسوع قد أكمل النبوات ، بينما نجد أن مرقس لا يقتبس سوى مرة واحدة من العهد القديم ويضع هذا الاقتباس فى صدر إنجيله . والجزء المقتبس من إشعياء يظهر فى الأناجيل الأربعة ، أما الجزء المقتبس من ملاخى ، فلا يذكر إلا فى إنجيل مرقس فقط ، على الرغم من وجود تلميح لهذا الجزء فى إنجيل يوحنا (3: 28) . وهذه الحقيقة وحدها يمكن أن تعطى أنطباعاً خاطئاً عن موقف هذا الإنجيل من العهد القديم . ومع أن مرقس نفسه لا يقتبس سوى هاتين العبارتين ، إلا أنه يقدم يسوع كمن يفعل ذلك كثيراً ، وفى هذه الناحية ليس الفرق بينه وبين متى كبيراً ، فهو يذكر 19 اقتباساً بالمقارنة مع 40 اقتباسا يذكرها متى، 17 اقتباساً فى لوقا، 12 اقتباساً فى يوحنا – وثلاثة من هذه الاقتباسات التسعة عشر، لا توجد فى مكان آخر من العهد الجديد ، وكل الاقتباسات فى العهد الجديد هى 160 اقتباساً ، وعليه فلمرقس من الاقتباسات نصيب طيب . وإذا أخذنا فى الاعتبار الإشارات إلى العهد القديم ، الصريحة والضمنية ، فإن النتيجة لا تتغير كثيراً ، فيذكر وستكوت وهورت (فى كتابهما : العهد الجديد فى اليونانية) لمتى 100 استشهاد ، ولمرقس 58 ، وللوقا 86 ، وليوحنا 21 ، ولسفر الأعمال 107 ، وهكذا نرى أن مرقس أيضاً يستند إلى العهد القديم باعتباره كلمة الله الموثوق بها . ويذكر سويت (فى كتابه: مقدمة العهد القديم فى اليونانية – 393) ، أنه فى تلك الاقتباسات المشتركة بين الإناجيل الثلاثة الأولى ، تستخدم عادة الترجمة السبعينية ، بينما تستخدم العبرية – على الأغلب – فى الاقتباسات الأخرى (وهناك مثال طيب لذلك فى مرقس 7:7 حيث تظهر الترجمة السبعينية فى العبارة : "باطلاً يعبدوننى" ، وهى صياغة مقبولة للنص العبرى ، أما عبارة " وهم يعلمون تعاليم هى وصايا الناس فهى فى العبرية أصحَّ منها فى الترجمة السبعينية ) أما الثلاثة الاقتباسات التى ينفرد بها مرقس فهى (9: 48، 10: 19، 12: 32).

4- سفر الأعمال العظيمة : والأعمال تشغل جزءاً كبيراً من إنجيل مرقس فهو إذا إنجيل الأعمال ، فيسوع يعمل وحياته حياة النشاط المتدفق . إنه يسرع من عمل إلى عمل آخر بنشاط وتصميم . وترد كلمة للوقت 42 مرة فى إنجيل مرقس بينما لا يستخدمها متى إلا سبع مرات ولوقا مرة واحدة وفى أربع عشرة مرة من هذه المرات بالمقابلة مع مرتين فى متى (ولا مرة فى لوقا) ، تستخدم هذه الكلمة فى الإشارة إلى النشاط الشخصى ليسوع . وعلى هذا فليس غريباً أن يتغاضى عن السنوات الأولى التى خلت من الأحداث (قارن يوحنا 2: 11) ، وليس غريبا ايضاً أن تكون المعجزات أكثر عدداً من الأمثال . ويقول وستكوت (فى مقدمة لدراسة الأناجيل – 480- 486) أن مرقس يذكر تسع عشرة معجزة وأربعة أمثال ، بينما يذكر متى 21 معجزة و15 مثلاً ، ولوقا 20 معجزة و19 مثلاً ومن المعجزات ينفرد مرقس بذكر اثنتين ، كما ينفرد بذكر مثل واحد . كما يسجل البشير مرقس أعمال المسيح أكثر مما يسجل أقواله . وهذه الحقائق تقدم لنا نقطة التقاء أخرى مع حديث بطرس (أع 10: 37-43) ، فهى أعمال خير وإحسان (أع 10: 38) ولها دلالات قوية (أع 2: 22، أنظر مرقس 1: 27، 2: 10 إلخ).

وفيما يلى المعجزات التى سجلها مرقس :

الروح النجس (1: 21-28) ، المفلوج (2: 1-12) ، اليد اليابسة (3: 1-5) ، تهدئة العاصفة (4: 35- 41) ، مجنون كورة الجدريين (5: 1-17) ، ابنة يايرس (5: 22-24و35-43) ، والمرأة نازفة الدم (5: 25-34) ، إشباع الخمسة الآلاف (6: 35-44) ، وإشباع الأربعة الآلاف (8: 1: 10) ، المشى على الماء (6: 48- 53) ، ابنة المرأة الفينيقية السورية (7: 24: 30) ، الاصم الأعقد (7: 31-37) ، الأعمى (8: 22-26) ، الغلام الذى به شيطان (9: 4-29) ، برتيماوس الأعمى (10: 46-52) ، شجرة التين التى يبست (11: 20- 24) ، القيامة (16: 1-8) ، والمعجزات الثلاث الأخيرة فقط هى التى حدثت فى اليهودية.

5- العامل المعلم : ومع أن كل ما سبق صحيح فإن مرقس لم يصمت عن الحديث عن يسوع كمعلم . كان يوحنا المعمدان كارزاً (مر 1: 4و7) وكذلك كان يسوع كارزاً يواصل رسالة يوحنا ويوسعها ، وكثيراً ما يذكر عنه أنه كان يعلم (مثلاً فى 1: 21، 2: 13، 6: 6 إلخ) ، وتتكرر كلمة "يعلم " فى إنجيل مرقس أكثر مما فى أى إنجيل آخر . وهناك إشارات تلفت النظر إلى أصالة أقواله وأساليبه وشعبيته ، فقد كان معلماً لا مثيل له (مرقس 1: 22، 4: 1و 2و33، 11: 27-12: 37 وبخاصة 12: 34). وقد ذكرت إحدى المعجزات بصورة خاصة لإظهار حقيقته وسلطاته (2: 10) . ولم تكن معجزاته بدافع حنوه وشفقته فحسب ، بل كانت أيضاً للإعلان عن شخصه (5: 19و20، 11: 21-23) . ولم يكن هو معلماً فقط ، لكنه اهتم كذلك بإعداد الآخرين ليكونوا معلمين (3: 13و 14، 4: 10و 11) . ولا يقل مرقس وضوحاً عن متى فى لفت النظر إلى تلك الحقيقة وهى أن يسوع – فى مرحلة معينة من خدمته – بدأ يعلم الجموع بأمثال ثم يفسر الأمثال لتلاميذه (4: 2-12) . ومع هذا فمرقس لا يذكر منها سوى أربعة فقط . مثل الزارع (4: 1-20) ، ومثل البذار التى نمت سراً (4: 26-29) ، ومثل حبة الخردل (4: 30-32) ، ومثل الكرامين (12: 1-12) . وعدد الأحاديث -الطويلة إلى حد ما- وكمية التعليم ، لأكبر مما يظن البعض ، فالأصحاحان الرابع والثالث عشر يكادان يبلغان فى الطول ، الأقوال الواردة فى متى ، ويطابقان ما جاء فى الأصحاح الثالث عشر والأصحاح الرابع والعشرين من متى على الترتيب وفى مرقس (7: 1-23، 9: 33-50، 10: 5-31 و39 – 45 ، 12: 1-44) نجد أقوالا كثيرة ، فإن كان يسوع عاملاً ، فقد كان على الأكثر معلماً ، وكانت أعماله تمهد لأقواله أكثر مما تمهد اقواله لأعماله . وكانت تعاليمه تنساب طبيعية حسب المناسبات والظروف . لقد عمل وعلَّم ، ولأنه عمل ما علم فقد استطاع أن يعلم بتأثير وفاعلية ، فكلا اعماله وأقواله تعلنان عن شخصه.

6- تفاصيل نابضة بالحياة : هناك الكثير من التفاصيل النابضة بالحياة ، ويذكر مرقس أعمال يسوع وتحركاته (7: 33، 9: 36، 10: 16) ، وعن نظراته المستطلعة (5: 32) ونظراته فى الصلاة (6: 41، 7: 34) ، وفى الاستحسان (3: 34) ، والمحبة (10: 21) ، والتحذير (ليهوذا بصفة خاصة 10: 23) ، والغضب (3: 5) ، والحكم على الأمور (11: 11 ). كما يجوع يسوع (11: 21) ويطلب الراحة فى موضع خلاء (6: 31) ، وينام على وسادة فى مؤخر السفينة (4: 38) ، ويشفق على الجموع (6: 34) ، ويتعجب من عدم إيمان الناس (6:6) ويئن ويتنهد على عمى الشعب وأحزانهم (7: 34، 8: 12) ، ويحزن لقساوتهم (3: 5) ، وينتهر حزيناً – الفكر الخاطئ لبطرس كما ينتهر فى غيط غيره تلاميذه الخاطئة ومطامعهم الأنانية (8: 33، 10: 14) ، ويبين مرقس أن معجزات الشفاء كثيراً ما كانت فورية (1: 31، 2: 11و12، 3: 5) ، واحياناً تمت شيئاً فشيئاً أو بصعوبة (1: 26، 7: 32-35 ، 9: 26- 28) ، كما لم يستطع مرة أن يصنعها " بسبب عدم إيمانهم (6: 5و6) . ويحدثنا مرقس فى لمسات نابضة بالحياة ، عن سلوك الناس ومدى تأثرهم بما كان يسوع يقوله ويعمله . كانوا يأتون بمرضاهم عبر الشوارع ، ويحولون الساحات إلى مستشفيات (1: 32) ، ويزحمونه يحتكون به عند شاطئ البحر (3: 10) ، ويعبرون عن دهشتهم لأنه كان يكلمهم بسلطان (1: 22) ، وبقوة (2: 12) ، ويخاف التلاميذ خوفاً عظيماً من سلطانه على البحر (4: 41) ، ويدهش التلاميذ والآخرون وينزعجون لنظرته الغريبة وهو يسير متوجهاً إلى أورشليم وإلى الصليب (10: 32) . وهناك الكثير من التفاصيل الحية الرائعة ، مثل "كان مع الوحوش" (1: 13) ، " وكشفوا السقف " (2: 4) ، وكان هو فى المؤخر على وسادة نائما (4: 38) ، ووصف مجنون كورة الجدريين (5: 4) ، والجموع المتكئة على العشب فى ثيابهم الملونة الزاهية كبستان من الزهور على سفوح الجبال الخضراء (6: 39) . والتفاصيل الأخرى التى يتميز بها مرقس هى الأسماء (1: 29، 3: 6، 13: 3 ، 15: 21) ، والإعداد (5: 13، 6: 7) ، والوقت (1: 35، 2: 1 ، 11: 19، 16: 2) ، والمكان (2: 13، 3: 8 ، 7: 31، 12: 41 ، 13 : 3، 14: 68 ، 15 : 39) . وهذه كلها تدل على أنها ملحوظات شاهد عيان ، فهى مرجع حاسم . كما أن الإشارات الجغرافية تدل على أن الكاتب كان يعرف تماماً المعالم الرئيسية للبلاد وبخاصة أورشليم وما حولها .

ثالثاً : النص :

أهم المشكلات المتعلقة بالنص هى ما يختص بالجزء الأخير من الأصحاح السادس عشر (16: 9-20) ، فيرجون وميللر وسالمون يعتقدون أنه نص أصيل ، ويفترض ميللر أنه إلى هذه النقطة ، قد سجل مرقس بصورة عملية أقوال بطرس ولسبب ما كتب الأعداد من 9-20 بناء على معلوماته هو ، ولكن معظم العلماء يعتبرونها غير مرقسية أصلاً ، ويعتقدون أن العدد الثامن ليس هو الخاتمة الملائمة ، ولو أن مرقس كتب خاتمة ، فلا بد أن هذه الخاتمة قد فقدت ، وأن الأعداد من 9-20 التى تضم تراثاً من العصر الرسولى ، قد ضيفت بعد ذلك – وقد وجد "كونيبير" فى مخطوطة أرمينية إشارة إلى أن هذه الأعداد كتبها أريستون الشيخ الذى يقول إنه أريستون تلميذ يوحنا ، الذى يتحدث عنه بايياس وعلى هذا فإن الكثيرين يعتبرونها صحيحة ، والبعض يقبلونها على اعتبار أن الرسول يوحنا قد خلع عليها سلطانه وهى بدون شك ترجع الى نهاية القرن الأول ، وتؤيدها المخطوطات الإسكندرانية والأفرايمية والبيزية وغيرها ، مع كل المخطوطات المتأخرة المنفصلة الحروف ، وكل المخطوطات المكتوبة بحروف متصلة ، ومعظم الترجمات وكتابات الآباء . وكانت معروفة عند ناسخى المخطوطتين السينائية والفاتيكانية ، ولكنهم لم يقبلوها.

ومن الممكن أن يكون الإنجيل قد أنتهى بالعدد الثامن، وهذا الوقف المفاجئ ، يدل على أنه يرجع إلى وقت مبكر عندما كان المسيحيون يعيشون فى جو القيامة فكان يعتبر خاتمة مناسبة الإنجيل "العبد المتألم" ، فالعبد يأتى ويتمم عمله ثم يرحل ، فلا داعى للبحث عن نسبه أو تتبع تاريخه اللاحق.

رابعاً : اللغة :

1- صفتها العامة : يستخدم مرقس اللغة اليونانية الدارجة التى كانت شائعة فى ذلك العهد، والتى كان يفهمها الناس فى كل العالم الرومانى ، لقد كانت – بكل تأكيد- لغة الشعب "المعروفة والمقروءة من جميع الناس" ، ومفرداته خالية من الكلمات الفنية التى لا يستخدمها إلا العلماء ، كما أنها خالية من الكلمات السوقية . لقد استخدم مرقس لغة نظيفة نابضة بالحياة والقوة ، موجهة مباشرة إلى الطبقة المتوسطة.

2- المفردات : يبلغ عدد المفردات فى إنجيل مرقس (فى الأصل اليونانى) 1.330 كلمة ، منها ستون كلمة أسماء أعلام ، وتسع وسبعون كلمة ينفرد مرقس باستخدامها (فيما يختص باسفار العهد الجديد) ، ومائتا كلمة وثلاث كلمات لا توجد إلا فى الأناجيل الثلاثة الأولى ، وخمس عشرة كلمة فى إنجيل يوحنا ، وثلاث وعشرون كلمة فى كتابات الرسول بولس (بما فيها الرسالة إلى العبرانيين) وكلمتان فى الرسائل الجامعة (واحدة فى يعقوب والثانية فى بطرس الثانية) ، وخمس كلمات فى سفر الرؤيا . ونحو ربع الكلمات التسع والسبعين التى ينفرد بها مرقس ، هى كلمات غير بليغة ، بالمقابلة مع السبع فى لوقا ، وأكثر من السبع قليلاً جداً فى متى . كما يذكر هو كنز ثلاثاً أو و ثلاثين كلمة أو عبارة غريبة غير شائعة .

وثمة دلائل لغوية على أن الكاتب كانت ثقافته فى صباه أرامية ، ويبدو ذلك فى استخدامه كلمات أرامية أكثر مما فى متى وضعف ما فى لوقا أو يوحنا ، وأهمها طليثا قومى (5: 41) ، افثا (7: 34) ، وبوانرجس (3: 17).

3- الأسلوب : أسلوب إنجيل مرقس بسيط جداً ، ويتكرر حرف العطف "الواو" كثيراً ، وهو يخلو تماماً من العبارات البليغة الطنانة . والأسلوب القصصى موجز محكم ، وأحياناً نجد تكرار المعنى فى عبارات مختلفة منعاً من كل إيهام (كما فى : 32، 2: 25، 5: 19) ، وأمثالها وهى خاصية مميزة لأسلوب مرقس . أما الوصف فنابض بالحياة بصورة عجيبة ، يبرزها بشدة ، استخدامه لصيغة الفعل فى المضارع 151 مرة ، مقابل 78 مرة فى متى ، وأربع مرات فى لوقا ، وذلك فى غير الأمثال حيث أن مرقس لا يستعمله مطلقاً فى الأمثال ، بينما يستخدمه متى 15 مرة ، ولوقا خمس مرات . ويستخدم يوحنا صيغة الفعل المضارع 162مرة (أكثر قليلاً من مرقس) ، ولكن مرقس يضفى على استخدامه له تنوعاً وحيوية بأنتقاله السريع بافعاله بين الأزمنة المختلفة.

4- اللغة الاصلية : إن خلاصة ما نستجمعه من أقوال الآباء هى أنه كتب اأصلاً فى اليونانية ، وترجمات هذا الإنجيل تمت نقلاً عن اليونانية لا إليها ، فقد كانت اللغة اليونانية هى اللغة المستخدمة فى كل العالم الرومانى ، وبخاصة فى الرسائل ، فكتب بولس لأهل رومية باليونانية ، ويونانية إنجيل مرقس تحمل طابع الأصالة ووحدانية الكاتب.

ولقد ظن البعض أنه كتب أصلاً فى اللاتينة وليس من سند لذلك سوى بعض الإشارات فى القليل من المخطوطات وفى الهرقلية والبشيطة السريانية . وقد نتج ذلك خطأ عن الاعتقاد بأنه كتب فى رومية ، أو عن أفتراض أن عبارة ("مترجم بطرس") تعنى أن مرقس كان يترجم أقوال بطرس إلى اللاتينية.

ويدافع "بلاس" عن أن إنجيل مرقس قد كتب أصلاً فى الأرامية معتقداً أن لوقا- فى الجزء الأول من سفر الأعمال- قد أستقى من مصدر أرامى ، وأن هذا المصدر هو ما سجله كاتب الإنجيل الثاني ، وعليه فإنه قد كتب الإنجيل الثاني فى الأرامية ، ولكن الرد الحاسم على هذا الرأى هو تفسيره للكلمات الأرامية القليلة الموجودة فى الإنجيل.

خامساً : الكاتب :

1- الدليل الخارجى : إن الدليل الخارجى على كاتب هذا الإنجيل، هو ما جاء فى كتابات الآباء ، وفى المخطوطات القديمة . وأهم ما جاء فى كتابات الآباء ، ما يلى :

أ- بايياس : فى أسيا الصغرى فى حوالى 125م – (كما يقتبس ذلك يوساييوس): "وهذا ما قاله الشيخ أيضاً: إذ أصبح مرقس مترجماً لبطرس ، كتب بتدقيق كل ما تذكره (أو سجله) عن ما قاله أو ما عمله المسيح، ولكن بغير ترتيب، لأنه لم يسمع الرب قط، ولم يرافقه، ولكنه التصق فيما بعد – كما قلت- ببطرس الذى اعتاد أن يصوغ تعليمه حسب الحاجة (حاجة سامعيه) ، ولكن ليس من قبيل وضع رواية مرتبة لأحاديث الرب ، ولذلك فأن مرقس لم يخطئ فى كتابته بعض الأمور كما تذكرها، لأنه اهتم بأمر واحد وهو ألا يحذف شيئاً من الأمور التى سمعها وألا يزيف شيئاً فيها".



ب- يوستينوس الشهيد : فى فلسطين والغرب فى حوالى 150م- (فى حواره مع تريفو اليهودى): " وعندما يقال أنه (المسيح) قد أطلق على واحد من الرسل اسم بطرس، وعندما يسجل هذا فى "ذكرياته" مع هذه الحقيقة الأخرى، وهى أنه قد أطلق على ابنى زبدى لقب "بوأنرجس" أى أبنى الرعد…إلخ".

جـ-إيريناس: فى أسيا الصغرى وبلاد الغال أى فرنسا (حوالى 175م – كما يقتبسه يوسابيوس): "بعد أن ألبس الرسل قوة الروح القدس، وأعدوا تماماً لخدمة الكرازة لكل العالم ، أنطلقوا إلى أقاصى الأرض يبشرون بالإنجيل، فذهب متى شرقا إلى من هم من أصل عبرأنى وبشرهم بنفس لغتهم، اللغة التى كان قد كتب بها إنجيله، بينما ذهب بطرس وبولس غربا وكرزا وأسسا الكنيسة فى رومية ، ولكن بعد رحيل هؤلاء سلَّم لنا مرقس تلميذ بطرس وترجمه، الأمور التى كرز بها بطرس ، مكتوبة" .

د- أكليمندس الإسكندرى : (حوالى 200م) : "كانت المناسبة التى كتب فيها إنجيل مرقس كما يلى: بعد أن كرز بطرس علناً بالكلمة فى روما، ونادى بالإنجيل بالروح القدس، توسل كثيرون من الحاضرين لمرقس كواحد من الذين تبعوا بطرس زمناً طويلاً ويذكر كل ما قاله، أن يدون لهم ما تكلم به بطرس. وبعد أن كتب مرقس الإنجيل قدمه للذين كانوا قد توسلوا إليه. وعندما نما ذلك الى علم بطرس لم يعترض عليه ولم يشجبه".

وايضاً: "ولما كان الرومانيون مفتونين بالنور الذى سطع على عقولهم من أحاديث بطرس، لم يقنعوا بمجرد السمع وإعلان الحق الحى، بل أسرعوا يلتمسون بإلحاح من مرقس- الذى إنجيله بين أيدينا، وكان من أتباع بطرس- أن يسجل لهم كتابة التعليم الذى قبلوه مشافهة، ولم يكفوا عن إلحاحهم، حتى أقنعوه برأيهم، وهكذا كانوا سبب كتابه الإنجيل المسمى "بإنجيل مرقس" ، ويقال أنه عندما علم الرسول- بإلهام الروح القدس- بما حدث، سر باهتمام الناس بذلك وأمر بأن يُقرأ ما كتب فى الكنائس" .

هـ- ترتليان : من شمالى أفريقيا (حوالى 207م): يتحدث عن سلطان الأناجيل الأربعة فيقول أن اثنين منها كتبهما رسولان، والأثنين الآخرين كتبهما رفيقان للرسل، "بما فيهما ما نشره مرقس، لأنه يمكن أن يعزى لبطرس الذى كان مرقس مترجماً له".

و- أوريجأنوس: فى الإسكندرية والشرق (حوالى 240م) : "والإنجيل الثاني لمرقس الذى كتبه تحت إرشاد بطرس الذى يقول عنه فى رسالته الجامعة (مرقس ابنى) " (1 بط 5: 13).

ز- يوساييوس القيصرى: من قيصرية (حوالى 325م): "ومع أن بطرس لم يشرع- لفرط التواضع – فى كتابة إنجيل، فأنه مع هذا قد ذاع منذ البداية أن مرقس- الذى كان قد أصبح من أتباعه الحميمين الملازمين له – قد سجل مذكرات بأحاديث بطرس عن أعمال يسوع" ، و"فى الحقيقة أن الذى يكتب هذا هو مرقس، ولكن بطرس هو الذى يشهد، لأن كل ما فى مرقس أنما هى مذكرات أو تسجيلات لأقوال بطرس".

ح- أيفانيوس : من قبرص (حوالى 350م): "وبعد متى مباشرة، إذ أصبح مرقس من تابعى القديس بطرس فى روما، أوكلت إليه كتابة إنجيل، وإذ أكمل عمله، أرسله القديس بطرس إلى مصر".

ط- جيروم : فى الشرق والغرب (حوالى 350م ) : "أن مرقس- تلميذ بطرس ومترجمه- كتب بناء على طلب الإخوة فى رومية إنجيلاً مختصراً طبقا لما كان قد سمع بطرس يرويه. وعندما بلغ بطرس ذلك ، وافق عليه وأمر أن يُقرأ فى الكنائس".

كما ذكر أيضاً: " ... فقد كان عنده تيطس مترجماً، تماماً كما أن بطرس المبارك كان له مرقس مترجماً، والذى كتب إنجيله ، فقد كان بطرس يروى ومرقس يسجل".

وفى مقدمة تفسيره لإنجيل متى : "والثاني هو مرقس، مترجم الرسول بطرس وأول أسقف لكنيسة الإسكندرية، الذى لم ير الرب يسوع بنفسه، ولكنه سجل بكل دقة – أكثر مما يترتب – أعماله التى سمع معلمه يكرز بها".

ويجب أن يضاف إلى كل هذا ، ما جاء بالوثيقة الموراتورية (وهى جذاذة صغيرة، ترجع إلى حوالى 170م) التى تقدم لنا قائمة بأسفار العهد الجديد مع كلمة موجزة عن كل كاتب . وقد فقد ما جاء عن متى ومعظم ما جاء عن مرقس ، ولم يبق عن مرقس سوى عبارة مقتضبة.

أن الأسماء المذكورة بعاليه، تمثل كنائس القرون الثاني والثالث والرابع، كما تمثل فى الواقع كل ركن من أركان العالم الرومانى . وواضح جداً أن الرأى الشائع هو أن مرقس كتب إنجيله الذى أعطانا فيه – أساساً– تعليم بطرس .

وليس ثمة سبب معقول يدعو إلى الشك فى أن أنجيلنا الثاني هو المشار إليه فى كل هذه الأقوال. والأربعة الأناجيل التى بين أيدينا، هى بكل تأكيد ، الأربعة التى ذكرها إيريناوس وتاتيان . وقد أثبت "سلمون" فى مقدمته أن يوستينوس الشهيد وبابياس ومعاصريهما – سواء من قويمى العقيدة أو غنوسيين- قد قبلوا نفس هذه الأناجيل الأربعة ، وإشارة يوستينوس إلى اللقب "يوانرجس" تؤيد ذلك فيما يتعلق بإنجيل مرقس، حيث أنه هو فقط الذى ذكر هذا اللقب (مر 3: 17).

وواضح أيضاً – بنفس الدرجة – من هذه الأقوال ، أن إنجيل مرقس – فى جوهره- هو لبطرس، فمرقس يدعى تلميذاً وتابعاً ومترجماً لبطرس . ويرجع أوريجانوس فى هذا الخصوص إلى قول بطرس: "مرقس ابنى " (1 بط 5: 13) . وكلمة "تلميذ" تفسر نفسها ، وكذلك كلمة "تابع" التى لا تعنى مجرد رفيق فى السفر، أما كلمة "مترجم" فأقل منهما وضوحاً ، فيرى البعض أنها تعادل كلمة "مترجم" بمعناها المعروف ، أى أن مرقس إما ترجم أقوال بطرس الأرامية إلى اللغة اليونانية للمسيحيين الهيلينيين فى أورشليم ، أو أنه نقل أقوال بطرس اليونانية إلى اللغة اللاتينية للمسيحيين فى رومية (سويت وغيره) ، ويرى البعض الآخر – كل القدماء ومعظم المحدثين (مثل زاهن وسلمون) – أنها تعنى "مفسراً أن مرقس سجل كتابة ما علَّم به بطرس شفاهاً.

ولا توجد أى إشارة صريحة إلى أن مرقس نفسه كان تلميذاً ليسوع، أو أنه كان شاهد عيأن لما سجله، بل إنه يبدو من عبارة بابياس أنها تؤكد عكس ذلك، ومع ذلك فأن تلك العبارة قد تعنى ببساطة أنه لم يكن شخصياً تلميذاً ليسوع ، وليس أنه لم يره على الإطلاق.

والوثيقة الموراتورية غير واضحة ، فقد فهمت عباراتها المتقطعة بصور مختلفة ، ويرى" زاهن " أنها تعنى : " …فى بعض الأحداث (فى حياة يسوع ) كان موجوداً ، فقام بتسجيلها" ، ويقول "تشيز" وآخرون أن المعنى هو أن مرقس – الذى يحتمل أنه هو الشخص الذى قد قالوا عنه أنه لم يكن ملازماً لبطرس باستمرار – كان حاضراً عند إلقاء بطرس لبعض أحاديثه فقام بتسجيلها "ويعتقد "تشيز" أن العبارة التالية للعبارة السابقة ، والتى تتعلق بلوقا تدعو إلى الاعتقاد بأن مرقس ولوقا لم يريا الرب، ولكن لعل الذى كان فى ذهن الكاتب هو بولس وليس مرقس، ولكن هذا التفسير يضعف- إلى حد ما- من ارتباط مرقس ببطرس.

ويمكن اعتبار شهادة الآباء وجزة فى عنوان الإنجيل فى أقدم المخطوطات ، وهو " بحسب مرقس " ، وهى تشير إلى الكاتب وليس إلى مصدر معلوماته ، وإلا لكان من الضروري أن تكون " بحسب بطرس " ، ولهذا أهميته فى إلقاء الضوء على شهادة التاريخ بالنسبة لكاتب الإنجيل الأول، حيث تذكره كل المخطوطات " بحسب متى " .

2- الدليل الداخلي : ويقدم لنا الدليل الداخلي الكثير لتأييد هذا وليس العكس، وأن بطرس كان من ورائه، مما يتفق مع الحقائق التالية :

أ- إن التفاصيل الحية السابق الإشارة إليها ( ثانياً –6 )، لابد أنها جاءت عن شاهد عيان .

ب- يمكن فهم بعض التعبيرات المحيرة فى قوائم الأسماء على أساس أنها ترجمة مرقس لما جاء على لسان بطرس كما فى مرقس (1: 29)، فلعل بطرس قال: " وعدنا للمنزل ورافقنا يعقوب ويوحنا ". وكذلك فى مرقس (1: 36) بالمقابلة مع وصف لوقا ( لوقا 4: 42و43)، مرقس (3: 16)، (13: 3) .

جـ- هناك فقرتان (مر9: 6 ، 11: 21) تصفان فكر بطرس الشخصي، وبعض الفقرات تذكر أحداثاً قد لا يذكرها إلا بطرس، كما فى مرقس (14: 37و66-72، 16: 7 ،وكذلك 7: 12-23 في ضوء ما جاء في أعمال 10: 15) .

د- ترتيب الأسماء فى مرقس (3: 7) يناسب وجهة نظر بطرس الجليلي، أكثر مما يناسب وجهة نظر مرقس الذى كان من أورشليم : الجليل – اليهودية – أورشليم – أدومية – صور – صيداء . إن هذه الإشارات البسيطة غير المتكلفة، لخير دليل على أن هذه لغة واحد رأى بعيني رأسه ، ويتحدث عن مشاعره الشخصية .

هـ- ويكتب مرقس – بصفة عامة، مثلما يكتب متى – من وجهة نظر الاثنى عشر، أكثر مما يكتب لوقا. كما أن مرقس يكتب – أكثر مما يفعله متى – من وجهة نظر الثلاثة الذين كانوا أكثر التصاقاً بيسوع ( انظر مرقس 5: 37 مع مت 9: 32- حيث لا يشير متى بأي إشارة إلى الثلاثة) ، كما أن الترتيب غير العادي للأسماء فى الفقرة المقابلة لها فى لوقا (8: 51)، يدل على أن يعقوب كان مصدره الأساسي. وواضح أن لغة مرقس (فى 9: 14) هى لغة واحد من الثلاثة، وقد تكون عبارة لوقا كذلك أيضاً ، ولكنها ليست كذلك فى متى، والمقارنة بين ما جاء فى إنجيلي متى ومرقس، وما جاء فى إنجيل لوقا ( 9: 51-18 :14) يدعم هذا الرأي .

و- التوافق بين ما جاء فى إنجيل مرقس مع ما أوجزه بطرس فى حديثه فى بيت كرنيليوس (أع10: 37-41 ) .

ز- يتفق هذا الإنجيل مع صفات بطرس، فقد كان سريع الانفعال أكثر منه متأنياً، وعاطفياً أكثر منه منطقياً. وعند مثل هؤلاء الناس ، ليس للحوار أهمية كبيرة ، بل الأعمال هى الأهم .

وقد يبدو أن مما يغض من هذا كله، أن الأحداث الثلاثة المثيرة فى حياة بطرس والمذكورة فى إنجيل متى، وهى : المشي على الماء ( مت14: 28-33) ، وموضوع الجزية (17: 24-27) ، والكنيسة ومفاتيح الملكوت (16: 16-19)، لا يرد لها ذكر فى إنجيل مرقس ، ولكن ليس ذلك إلا مجرد لمسة من الكياسة والوداعة ونكران الذات، نتيجة رفقته وارتباطه بيسوع ، فنحن نرى يوحنا – فى إنجيله – يخفى نفسه بصورة مشابهة، فهؤلاء الأشخاص أكثر ميلاً إلى ذكر الأمور التى تلقى الضوء على ضعفهم. والمرة الوحيدة التى يذكر فيها متى أسماء الاثنى عشر، يطلق على نفسه لقب " العشار" (مت 10: 3) ، وهكذا " لا يظهر بطرس مطلقاً فى دور بارز فى إنجيل مرقس إلا عندما يتلقى التوبيخ" ( بيكون ) .

أما فيما يختص بكتابة مرقس لإنجيله ، فالدليل الداخلي يبدو ضئيلاً ، فهو كالباقين – لا يبرز نفسه،ومع هذا ، فإن أي تلميحات – مهما كانت ضئيلة – تصبح بالغة الأثر .

ولعل هناك شيئاً له أهميته، فيما يراه" زاهن " فى أن وصف يوحنا بأنه " أخو يعقوب "، إعلان – عن غير قصد – لحقيقة أن اسم الكاتب كان " يوحنا " ( يوحنا مرقس ) . علاوة على ذلك ،هناك فقرتان أخريان أكثر وضوحاً وتدعم إحداهما الأخرى: فقصة الشاب التى وردت فى مرقس ( 14: 51) تبدو بملامح مختلفة عن باقي أحداث الإنجيل ، ولكن لو كان مرقس نفسه هو ذلك الشاب ، فإن ورودها يصبح مفهوماً ، وفى هذه الحالة يكون من المحتمل أن العشاء قد أقيم فى منزله ، وأن العلية هى نفس المكان الذى ذكر فى الإصحاح الثاني عشر من سفر الأعمال ، ومما يدعم هذا الرأي الوصف الكامل للعلية الوارد فى إنجيل مرقس، وبخاصة كلمة " معدة " ، وهى لمسة طبيعية يتردد فيها صدى ارتياح ربة البيت عندما ترى أن كل شئ قد أصبح معداً للضيوف ، ويبدو هذا مؤكداً عند مقارنة مرقس ( 14: 17) بما يقابله فى إنجيلي متى ولوقا ، ففى متى ( 26: 20) نقرأ: " ولما كان المساء اتكأ مع الاثنى عشر " ، وفي لوقا ( 22: 14) : " ولما كانت الساعة اتكأ والاثنى عشر رسولا معه " ، بينما يقول مرقس : " ولما كان المساء جاء مع الاثنى عشر " ، وهذه العبارة لأخيرة تمثل تماما لغة واحد من أهل البيت يرى يسوع والاثنى عشر وهم يقتربون من المنزل. وما أروع ملاءمة عبارات : " والتلاميذ .. الاثنى عشر " ، " والاثنى عشر رسولا" ، " والاثنى عشر" للبشيرين متى ولوقا ومرقس على الترتيب. ومثل هذه الظواهر التى تأتى دون تخطيط ( إلا من الروح القدس الذى أوحى بها إليهم ) ، هى التى لا يمكن أن تكون قد أضيفت مؤخراً ، وتصبح أقوى برهان على صحة القصة وتاريخيتها ، وسنتناول وجهات النظر المعارضة فيمنا يلي :

سادسا – المصادر : رأينا أنه طبقاً لشهادة الآباء ، كانت كرازة بطرس وتعليمه ، هما – على الأقل – المصدر الرئيسي ، وأن الكثير من معالم الإنجيل تؤيد هذا الرأي . وقد رأينا أيضاً أسباباً دقيقة ، ولكن لها وزنها ، تدفعنا إلى الاعتقاد بأن مرقس نفسه قد أضاف القليل . وهل نحن فى حاجة إلى البحث عن مصادر أخرى ، أم أن البحث سيؤدى بنا إلى تحليل تعليم بطرس ؟

يعتقد " وايس " أن مرقس استخدم وثيقة مفقودة الآن كانت تضم أساساً أقوال يسوع يطلق عليها فى الكتابات المبكرة " اللوجيا " أى الأقوال، وكان يرمز لها بالحرف " سا " ولكنها تعرف الآن بالحرف “ Q ” ، وقد أيده فى هذا مؤخراً، ساندى وستريتر . وقد حاول هارناك والسيرجون هوكنز وفلهاوزن إعادة إنشاء “ Q ” على أساس ما لا ينتمى لمرقس فى متى ولوقا ، أما " ألن" فيستخلصها من متى فقط معتقداً أن مرقس أيضاً يحتمل أن يكون قد أخذ أقوالاً قليلة منه . والبعض يفترض مصدراً معيناً للأصاح الثالث عشر، ويعتبره ستريتر وثيقة كتبت بعد سقوط أورشليم بزمن وجيز، متضمنة أقوالاً قليلة مما نطق به يسوع، وقد أدمجها مرقس فى إنجيله. ويفترض بيكون وجود مصادر أخرى شفهية كانت أو مكتوبة، لأجزاء صغيرة من الإنجيل، وسماها بالرمز “X” ، ويزعم أن الكاتب الأخير لإنجيل مرقس ( ويرمز له بالرمز R ) ليس مرقس، بل شخصاً من مدرسة بولس من نوع راديكالي .

وحتى يكون حكمنا سليماً، فإن الكثير يتوقف على مفهومنا لأسلوب يسوع والرسل فى التعليم. فالتعليم والكرازة ليسا مترادفين، ويلخص متى الخدمة المبكرة فى الجليل فى الكلمات : " يعلم، ويكرز ، ويشفى " ( مت 4: 23) ، ويعطينا مادة ذلك التعليم كما تأثر بها. وإن كان مرقس يسجل كمية أقل منها، إلا أنه يتحدث عنها أكثر مما يتحدث متى أو لوقا . وواضح أن يسوع قد أعطى للتعليم مكانة عظيمة ، كما أنه قد خصص جزءاً كبيراً من الوقت لتعليم الدائرة الداخلية من التلاميذ . ولم يكن ذلك التعليم موسعاً ولكنه كان مكثفاً، وقد التزم بالموضوع الحيوي، موضوع ملكوت الله . ولابد أنه قد كرر الحديث عنه مراراً، ولم يتردد في أن يكرر الدروس التى تعذر فهمها على التلاميذ المختارين أنفسهم. والتعليم بالتكرار أمر شائع معروف، وكلمة " يعلم" ( أى عن طريق الحوار، بالسؤال والجواب ) تدل على ذلك . ويستخدم بولس نفس الكلمة عن التعليم اليهودي ( رو2: 18) ، ويستخدمها لوقا عن التعليم المسيحي (لو 1: 4) .

والجديد فى تعليمه ، لم يكن فى الأسلوب بقدر ما كان في المحتوى وفى السلطان وفى القوة المعجزية المصاحبة ( مر1: 27). ويقيناً لم يكن يكرر الكلام باطلاً، وكان اهتمامه الأعظم بالروح، فلم يكن – بكل تأكيد – مهتماً بالشهرة بالأصالة والإبداع، أو بالثروة أو الموارد المتنوعة ، لقد كان اهتمامه متجهاً إلى تعليمهم الحق بقوة تجعلهم مؤهلين بصفاء ذهني ةتعاطف روحي لتعليم الآخرين . والله فى عنايته – وهو يعطف على الجميع، ولكن كثيراً ما تعترضه رادة البشر الذاتية – حر فى إتمام عمله الكامل، وفى جعل كل الأشياء تعمل معا لإتمام قصده، وهكذا تجرى وتنشأ ظروف، ويظهر أشخاص من كل لون على المسرح ، مما يستلزم دروساً جديدة وأمثالاً حية وشرحاً للحق فى ملئه، فى توازن سليم وتأكيد قاطع ومنظور صحيح .

وهكذا أعلن قبل موته – الصفة العامة لذلك الملكوت ومبادئه وتوقعاته. وهكذا أعد السدى ( الخيوط الأساسية ) للأناجيل ، وكان الجوهر والمادة والشكل العام واحد لكل الاثنى عشر، ولكن كل واحد منهم – من موقع شخصيته المستقلة – رأى جوانب خاصة وتأثر بتفاصيل معينة ، فلم يستطع أي واحد منهم أن يستوعبها جميعها إذ لم يكن فيهم من يماثل المعلم في عظمته . وكم كان يكون غريباً لو أن أحداً منهم لم يكتب شيئاً من ذلك ! إن رمزي وسالمون وبالمر على حق في إحساسهم بأنه ربما قد كتب شئ قبل موت يسوع، ولعل متى كُتب ما ورد فى ذهنه ما قدمه لنا ما كان فى المرجع الذى يرمز إليه هارناك بالرمز“ Q ” ، ولعل يوحنا ويعقوب فعلا نفس الشئ وأمدا لوقا بمرجعه الرئيسي . ولكن سواء كان قد كتب فى ذلك الوقت أو لم يكتب، فإن الحقيقة الأساسية التى يجب أن نذكرها هى أن المادة جميعها بكل تفاصيلها ، كانت قد استقرت فى أذهانهم ، وأصبحت – نتيجة الاتصال والتشاور المستمرين – ملكاً مشتركاً بينهم جميعاً . إنهم لم يفهموا كل شئ فى البداية ، فلم يفهموا مثلاً – قيامته من الأموات، ولكن الكلمات كانت قد استقرت فى الذاكرة ، والأحداث التى تلتها ، أوضحت معناها .

وجاءت بعد ذلك أحداث موته وقيامته ، وظل لمدة أربعين يوماً فى ظهورات متكررة، يعلمهم الأمور المختصة بملكوت الله ، ويفسر لهم الأمور المتعلقة به فى كل الكتب، وبخاصة حتمية موته وقيامته، وكانت هذه لحمة ( الخيوط المستعرضة فى نسيج ) الأناجيل. ومع هذا لم يكونوا متأهبين للعمل، لذلك يعدهم بروحه القدوس، الذى سيكون جزءاً رئيسياً من عمله، أن يذكرهم بكل ما قاله لهم ، وأن يرشدهم إلى جميع الحق ويخبرهم بأمور آتية ، وعندما يحل عليهم الروح القدس ينالون قوة للشهادة له .

إن مفهوم الرسل عن عملهم – يشير إليه بطرس – إلى حد ما – عندما أصر على أن من المؤهلات التى لا يمكن التغاضى عنها، فى خليفة يهوذا ، هى أن يكون قد اجتمع معهم كل الزمان منذ بدء خدمة المسيح وحتى نهايتها حتى يكون ملماً بأقوال المسيح وأعماله . ومنذ يوم الخمسين فصاعداً، كرسوا أنفسهم – بصورة بارزة - للتعليم، والألوف الذين تجددوا فى ذلك اليوم، كانوا يواظبون على تعليم الرسل. وعندما قامت المشكلة بين اليهود واليونانيين ، تم اختيار السبعة الشمامسة ، لأن الرسل لم يكن فى إمكانهم أن يتركوا كلمة الله ويخدموا موائد . ولعل الحاجة الماسة إلى هذا العمل ، كانت أحد أسباب بقائهم فى أورشليم عندما شتت الاضطهاد الكثيرين من أعضاء الكنيسة ( أع8: 2) ، وهكذا ظلوا على صلة وثيقة سنوات عديدة ، ليس خلال النزاع بين العبرانيين واليونانيين فحسب، ولكن حتى قبول كرنيليوس الأممى وصحبه بواسطة بطرس، وهو ما أقرته الكنيسة فى أورشليم . ولعلهم ظلوا هكذا حتى انعقاد المجمع فى أورشليم (أع15) الذى رفض الاقتراح القائل بلزوم الختان للخلاص . وفى أثناء هذه السنوات ، كانت أمامهم فرصة واسعة للحوار المتبادل، كما أن أهمية التساؤلات التى واجهتهم ، اضطرتهم إلى الاستفادة – إلى أقصى حد – من هذه الفرصة. إن ولاءهم ليسوع – ولاء الشهداء – جعلهم يبادرون إلى تحدى أى شئ تبدو فيه شبهة الإساءة أو سوء الفهم لتعليم سيدهم. وكل ما جاء فى سفر أعمال الرسل عن مداولاتهم فى الأزمات الخطيرة ، يثبت ذلك بصورة قاطعة. ويشيد لوقا بنجاحهم فى تعليم الآخرين ، وحرصهم على دقة التعليم ، عندما يتكلم عن " الأمور المتيقنة " أي الحق الذى لا شك فيه، " وصحة الكلام الذى علمت به" ( لو1 :1و4). وهكذا نرى أن تفسير يسوع للكتب لهم بعد قيامته ، وخبرتهم مع يسوع طوال هذه السنين ، وإرشاد الروح القدس لهم ، هى أساس كتابة الرسل للإنجيل .

وكان بطرس هو القائد المعروف بين هذه الجماعة ، وقد عمل أكثر من أى شخص آخر ، لتحديد القالب الذى صيغت فيه تعاليم ما بعد القيامة . ويخبرنا لوقا أن كثيرين قد حاولوا تسجيلها ، وهو نفسه في كتاباته الموجزة عن أحاديث بطرس ، يرسم خطوطها العريضة . وقد أخذ مرقس – بناء على طلب المسيحيين فى روما، وبموافقة بطرس – على عاتقه تقديم قصة وافية بالغرض ، وقد أثرت فى النتيجة ، حقيقتان معينتان : أولاهما هى طبيعة الناس الذين كتب إليهم ، الثانية – كما يفترضون – وجود “ Q ” أى مجموعة الأقوال التى سجلها متى، وكان من الطبيعي بالنسبة له، أن يكمل أكثر مما يكرر هذا الموجز الرسولي . وبالإضافة إلى ذلك ، حيث أن “ Q ” قدم – بصفة رئيسية – الجانب الأخلاقي أو الجانب الناموسي للمسيحية ـ فإن الإضافة يجب أن تقدم الجانب الإنجيلي فيها، وهكذا تصبح تكملة له . هذا التقديم وحاجات الناس الذين يكتب لهم بصفة خاصة، تجعل من اللازم أن يضيف شيئاً من صميم المادة التعليمية – شفوية كانت أو مكتوبة – غير الواردة في “ Q ” . وهكذا يبدأ مرقس إنجيله، بالقول : " بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله " ، فهو يقدم يسوع مكرساً نفسه للموت من أجل خطايانا ، ثم قيامته من بين الأموات، فهذا هو الإنجيل . ويبدأ يسوع خدمته بدعوة الناس أن " يتوبوا ويؤمنوا بالإنجيل " . وإنجيل مرقس مكتوب من وجهة نظر القيامة، ويقدم قصة الآلام وقصة الخدمة فى هذا الإطار المحدد . ولعله فى نفس الوقت ، كتب متى للمسيحيين من اليهود، وجمع بين الجانب التبشيري من التعليم وبين ما ذكره فى “ Q ” ، مع الإضافة أو الحذف حسبما يتفق مع هدفه ، وقام لوقا بعد ذلك بخدمة مماثلة للمسيحيين اليونانيين .

إن السؤال الوحيد الخطير عن صحة الإنجيل وسلامته ، إنما يتعلق بالأعداد الاثنى عشر الأخيرة – كما سبقت الإشارة – ويرى البعض أن مرقس (1: 1-13) ، يماثل ما جاء فى مرقس (16: 9-20) ، ولعل الجزء ين قد أضافتهما نفس اليد، ولكن بما أن المفردات والارتباطات هى الحجج الرئيسية ضد أصالة الجزء الأخير ، فإنه فى كلا هذين الأمرين ، ترتبط مقدمة مرقس( 1:1-13) بالموضوع الرئيسي للإنجيل . كما ليس ثمة سبب كاف لإنكار أن الأصحاح الثالث عشر، هو رواية صادقة لما قاله يسوع. وما يزعمه "وندلنج" عن وجود ثلاث طبقات يمكن تمييزها، لثلاثة كتَّاب مختلفين ، هم المؤرخ والشاعر وعالم اللاهوت، لم يعد يجد قبولاً. وباستثناء الأعداد الختامية ، لا يوجد ما يدعو إلى افتراض حدوث أى مساس بوحدة الإنجيل ، أكثر من افتراض قيام مرقس نفسه بإضافة مبكرة أو متأخرة ، وأقوى نقطة فى هذا الخصوص، هى عدم ذكر لوقا للجزء المدون فى إنجيل مرقس (6: 45-8: 26) ، ولكن هوكنز يقدم أسباباً أخرى لذلك .

سابعاً – تاريخ ومكان كتابه الإنجيل : هناك انقسام شديد فى الأقوال القديمة عن تاريخ كتابة هذا الإنجيل، فالبعض يرجعون به إلى السنة الأربعين بعد الميلاد، والكثير من المخطوطات ترجع به إلى عشر سنوات أو اثنتى عشرة سنة بعد الصعود، ولكن سويت يرفض ذلك ، باعتباره يعود إلى تقليد خاطئ بأن بطرس بدأ خدمته فى رومية فى السنة الثانية لحكم كلوديوس (42م)، كما يرفض رأى يوحنا فم الذهب ( الذى تؤيده بعض المخطوطات القديمة ) القائل بأنه كتب فى الإسكندرية ، على أساس أن ذلك خطأ نتج عن العبارة التى ذكرها يوسابيوس عن ذهاب مرقس إلى مصر وتبشيره هناك بالإنجيل الذى كتبه ، فهو يقول ذلك مخالفاً الأدلة القوية الكثيرة على أنه كتب فى رومية فى زمن قريب من زمن استشهاد بطرس. كما أن هناك تعارضاً بين إيريناوس كما يفهم عادة – وبين سائر الآباء ، لأن إيريناوس – كما يبدو – يجعل ذلك بعد موت بطرس ، بينما جيروم وأبيفانوس وأوريجانوس وأكليمندس الإسكندري ، يقولون بوضوح إن ذلك حدث فى حياة بطرس . ولكن ليس من اللازم أن نحمل كلام إيريناوس على هذا المحمل ، فقد يكون قصده أنه كتب فى حياة بطرس، ولكنه نشر بعد موته. وقد رأى كريستوفورسن (1570م) ذلك ، مؤيداً رأيه بافتراض أن الكلمة هى “ ékdosin” أي " تسليم أو حبس "بدلاً من كلمة “éxodon” أي " خروج " التى تروى عن إيريناوس . وقد اعتقد جريب ومل وآخرون أن إيرناوس لم يشر إلى موت بطرس ولكن إلى رحيله من روما فى رحلة كرازية، ولكننا إن أخذنا كلمة “éxodon” بهذا المعنى ، فمن الأفضل أن نفهم منها الرحيل من فلسطين أو سوريا بدلاً من الرحيل من روما. وبالتأكيد يبدو أن عبارة إيريناوس من أن الرسل أصبحوا مهيئين تماماً لخدمة التبشير ، تشير إلى أنهم كانوا يتأهبون لترك فلسطين. ثم يردف بالقول بأن متى ومرقس ، كتب كل منهما إنجيله . ويقرر يوسابيوس بصراحة أن متى بدأ فى كتابة إنجيله " عندما كان على وشك أن يغادر فلسطين ، ليذهب إلى شعوب أخرى" . ويحتمل جداً أن نفس الأمر ينطبق على مرقس. ولو كانت الحقيقة هي أن الرومانيين فى قيصرية أو أنطاكية قد طلبوا من مرقس أن يكتب لهم الإنجيل ، لكان من السهل أن نفهم كيف تحول الموضوع كله فى زمن إيريناوس ، إلى رومية .

ولو قبلنا وجهة النظر هذه ، لكان من غير المحتمل أن يكون ذلك قبل انعقاد المجمع فى أورشليم والأحداث المذكورة فى الرسالة إلى أهل غلاطية (2: 11-15). والحقيقة هى أن العهد الجديد يذكر أن الرسل قد غادروا أورشليم قبل ذلك ، وكلن ليس من المحتمل أن يكونوا قد تجاوزوا سوريا. وعلى أى حال ، فإنه فى وقت حدوث النزاع فى أنطاكية ، لم يكن لديهم الوضوح الكامل عن العلاقة بين اليهود والأمم فى الكنيسة، أى لم يكونوا " مهيئين تماماً لخدمة الكرازة فى كل العالم" . ولكن أليس من المحتمل أن عبارة بولس القوية عن خطورة الخطأ الذى وقعوا فيه، قد حسمت فعلاً المشكلة فى أذهان القادة ؟ فإن كان الأمر كذلك، وإن كانوا فى بصيرة وغيرة جديدتين ، يعودون إلى خدمة الكرازة فى كل العالم، فإن ذلك كان يمكن أن يهيئ فرصة طبيعية وثمينة لكتابة الإنجيل . وعليه قد تكون قيصرية أو أنطاكية هى مكان كتابة الإنجيل، وأن لا يكون تاريخ الكتابة قبل 50م. هذه هى خلاصة الشهادة القديمة. أما الرأي الحديث فيما يتعلق بالتاريخ، فقد امتد واتسع كثيراً عن الرأي القديم ، فبوير وستراوس اضطرا – تحت ضغط ميولهما ونظرياتهما الخيالية – إلى تحديد زمن كتابة الإنجيل فى القرن الثاني الميلادي ، ويميل النقد الحديث ميلاً قوياً إلى تحديد التاريخ فى الستينات من القرن الأول، وعلى الأخص فى أواخر الستينات ، مستندين فى هذا إلى بعض التلميحات المذكورة فى الإنجيل نفسه من ناحية ، ومن الناحية الأخرى على علاقته بإنجيلي متى ولوقا . والتلميحات التى يرجعون إليها عادة هى المذكورة فى مرقس (2: 26)، وفى الأصحاح الثالث عشر أيضاً. فالشاهد الأول يذكر الهيكل بصورة توحى بأنه كان مازال قائماً ، ولكن ليس لهذه العبارة هذه الدلالة إلا متى كانت الجملة الموصولة إضافة توضيحية من مرقس. أما الأصحاح الثالث عشر فله دلالة أقوى ، لأنه لو أن أورشليم كانت قد سقطت من قبل ، لما تغاضى عن الإشارة إلى هذه الحقيقة .

ويمكن أن نذكر لمحتين بسيطتين أخريين ، فعدم ذكر الأناجيل الثلاثة الأولى حادثة إقامة لعازر ، وعدم ذكر اسم مريم فى حادثة دهن يسوع بالطيب ، يرجحان تاريخاً مبكراً حين كان ذلك غير مقبول بالنسبة للعائلة ، وعندما نشر الإنجيل الرابع ، من المحتمل أنهم لم يكونوا أحياء. كما أن وصف يوحنا بأنه أخو يعقوب (5: 37) قد يعود بنا ايضاً إلى زمن مبكر عندما كان يعقوب أكثر الأخوين شهرة وتقديراً .

والعلاقة بين الأناجيل الثلاثة مرقس ومتى ولوقا ، لها أهميتها ، وبخاصة إذا ثبت الاعتقاد الواسع الانتشار بأسبقية مرقس . أما التاريخ الأكثر احتمالاً لسفر الأعمال فهو 62م، كما يبدو من ذكر إقامة بولس سنتين فى رومية ، ولا شك فى أن أنجيل لوقا كتب قبل أعمال الرسل، ولعله كتب فى قيصرية فى حوالي 60م ، الأمر الذى يلزم معه أن نرجع بإنجيل مرقس إلى الخمسينات من القرن الأول .

إن الاعتراض الكبير على مثل هذا التاريخ المبكر هو التفصيلات الكثيرة المذكورة عن خراب أورشليم . ولقد أثار " أبوت" وآخرون اعتراضات أخرى عديدة ، لكنها ذات وزن ضئيل بل وتافهة فى معظمها ، والمشكلة الأساسية هى أن قبول تاريخ مبكر عن عام 70م ، معناه الاعتراف بأن الحديث كان نبوة وليس تاريخاً، ونكران ذلك – وبخاصة لمؤمن بالمسيح – هو حكم مسبق لا أساس له . كما أن إنكار وجودها فى هذا الفصل معناه اتهام لوقا- وهو المؤرخ المدقق باعتراف الجميع – بأنه يعزو ليسوع عبارات لم يقلها .

والرغبة الشديدة فى تحديد تاريخ كتابة إنجيل متى بعد عام 70م، يرجع إلى نفس السبب ، ولكن ما يجعل المشكلة أكثر تعقيداً هنا، كلمة " وللوقت " (مت24: 29)، فالبعض يعتبر ذلك برهاناً إيجابياً على أنه قد كتب قبل خراب أورشليم ، بينما يرى البعض الآخر
( ألن وبلومر ، مثلاً ) بأن ذلك يحول دون افتراض تاريخ متأخر كثيراً عن عام 70م، ويعتبرون أن عام 75م هو أقصى تاريخ ممكن . ولكن اليس من الممكن أن المسيح كان يتحدث هنا كنبى ، ولم يقصد أكثر من أن الحديث العظيم التالي ، الذى يمكن مقارنته بالهزيمة النهائية لليهودية ، هو عودته الشخصية، وأن القصد الإلهي يسير قدماً من الحادثة الأولى إلى الثانية . ولم يقل العهد الجديد مطلقاً إن المجيء الثاني يمكن أن يحدث في ذلك الجيل ، وعليه فليس ثمة سبب كاف فى حديث المسيح فوق جبل الزيتون ، يدعو إلى الرجوع بتاريخ كتابة لوقا أو متى إلى زمن متأخر عن 60م، وإذا كان مرقس سابقاً لهما، فإنه على هذا يرجع إلى الخمسينات .

ثامنا – تاريخية السفر : اعتبر العقليون القدامى – أمثال باولوس – غيردون إنكار نسبة الإنجيل لمرقس – اعتبروا العناصر المعجزية ، سوء فهم للوقائع . ولأن استراوس قد اعتبرها أسطورية، فإنه اضطر إلى افتراض أنه يعود

إنجيل لوقا


أولاً : النص : تشهد المخطوطات القديمة الخمس الرئيسية (السينائية- والإسكندرانية والفاتيكانية والأفرايمية والبيزية) بسلامة نصوص إنجيل لوقا ، ويؤيدها فى ذلك سائر المخطوطات القديمة الأخرى وكذلك الترجمات القديمة العديدة فى اللاتينية والقبطية والسريانية، كما أن الكثير من النسخ المكتوبة بالخط المتصل، وكذلك اقتباسات الآباء منه فى كتاباتهم تؤيد ذلك.

ثأنياً : قأنونيته: يقول "بلامر" (فى تعليقة على إنجيل لوقا): " من الثابت أنه فى النصف الثاني من القرن الثاني، كان هذا الإنجيل معترفا بصحته كسفر موحى به، ومن المستحيل إثبات أنه لم يكن معترفاً به من قبل ذلك بكثير". ويقول يولخر (فى مقدمته): " يتفق القدماء بالإجماع على أن الكاتب هو لوقا تلميذ بولس، الذى ذكره فى رسالته إلى فليمون (24) ، وفى الرسالة الثانية إلى تيموثاوس (4: 11) ، ويدعوه "الطبيب الحبيب" فى الرسالة إلى كولوسى (4: 14) . والمرجح أنه كان من "أنطاكية" . ووجود الإنجيل الثالث فى الوثيقة الموراتورية (170م) أمر له اهميته الكبيرة، كما أن تاتيان قد استخدمه فى كتابه "الدياطسرون" (170م) باعتباره أحد الأناجيل الأربعة المعترف بها. والحقيقة الثابتة هى أن ماركيون (140م) حاول استخدام هذا الإنجيل بطريقة مشوهة تتفق مع آرائه اللاهوتية، كما استخدمته ايضاً جماعات أخرى من الهراطقة مثل الفالنتينيين، كما كتب هيراكليون شرحاً له. ويقتبس منه إيريناوس (فى نهاية القرن الثاني) كثيراً ويقول أنه كما لا توجد سوى الجهات الأربع الرئيسية، كذلك لا توجد سوى الأناجيل الأربعة. وهى وأن كانت حجة ضعيفة فى ذاتها، ألا أنها شهادة قوية على اعتراف الكنيسة منذ البداية بالأناجيل الأربعة ، التى إنجيل لوقا واحد منها. ولسنا فى حاجة إلى الاستشهاد بوجود هذا الإنجيل فى النسخ السريانية والترجمات اللاتينية الأفريقية التى ترجع إلى القرن الثاني، وكذلك فى الترجمة القبطية المنفية التى ترجع إلى زمن مبكر، وقد ذكره واقتبس منه الكتَّاب المسيحيون الأوائل، مثل يوستينوس الشهيد (150م) وكتَّاب الآباء الاثنى عشر (حوالى 140م). وسلوس (160م) وإنجيل بطرس (القرن الثاني) ، والرسالة إلى ليون وفينا (177م) ، والديدياك (القرن الثاني ، وأكليمندس الاسكندرى (190- 202م) ، وترتليأن (190- 220م) . ولا نستطيع الجزم بوجود اقتباسات من إنجيل لوقا فى كتابات أكليمندس الرومأنى وإغناطيوس وبوليكاريوس ورسالة برنابا، ولكن أكليمندس الرومانى وإغناطيوس وبوليكاريوس يقتبسون من سفر الأعمال. ولا شك اطلاقا فى أن الإنجيل الثالث كان مستخدما فى الكنائس فى بكور القرن الثاني ، وليس من السهل تحديد متى بدأ استخدامه إذ ليس لدينا سوى معلومات قليلة عن القرن الأول.

ولأن هذا الإنجيل لم يكتبه أحد الرسل، كان لذلك أثره فى ترتيب وضع الإنجيل بين أسفار العهد الجديد فى بعض القوائم التى وصلتنا ، ولكن أغلب المخطوطات والترجمات القديمة تضعه فى نفس موضعه المعروف لنا الأن. وأن كان الترتيب الغربى (متى – يوحنا – لوقا – مرقس) موجوداً ايضاً فى النسخة البيزية ، وفى الكثير من المخطوطات اللاتينية القديمة، والترجمات القوطية والدستور الرسولى . ولعل ذلك نتج عن الميل إلى وضع الأسفار التى كتبها الرسل مع بعضها وأولاً فى التريب . وفى اللاتينية القديمة يوضع لوقا فى المرتبة الثانية (يوحنا – لوقا- مرقس- متى) ، بينما فى النسخة السريانية الكيورتونية يأتى لوقا آخر الأربعة . وفى النسختين المكتوبتين بالخط المتصل والمرقومتين 90، 399 ، يأتى لوقا فى المرتبة الثانية. صورة المخطوطة السينائيةمن لو19: 13-20: 34

ثالثاً : الكاتب : المراجع الأولى التى تذكر اسم لوقا بالتحديد ككاتب للإنجيل الثالث، تنتمى إلى أواخر القرن الثاني، وهى : القانون الموراتورى (ويحتمل أن يكون كاتبه هو هيبوليتس) وإيريناوس وترتليان وأكليمندس الإسكندرى وقد ذكرنا من قبل أن يولخر يصرح بالقول بأن القدماء يتفقون بالإجماع على أن لوقا هو كاتب الإنجيل الثالث . ولم يكن من عادة الكتَّاب فى بداية القرن الثاني، أن يذكروا اسم كاتب الإنجيل الذى يقتبسون منه ، فليس من العدل إذاً أن نتخذ من صمتهم عن ذلك حجة او دليلاً على جهلهم باسم الكاتب، أو على أنكارهم أن الكاتب هو لوقا. ويقول "بلامر" أنه لا يوجد فى النقد الكتابى ما هو أثبت من تلك الحقيقة وهى أن لوقا هو كاتب الإنجيل الثالث.

وهناك إجماع على أن هذا الإنجيل يقدم لنا وجهة نظر الرسول بولس ، ويشير كاتب سفر الأعمال بجلاء إلى الكلام الأول أو السابق الذى وجهه إلى ثاوفيلس (أع 1:1)، وهو نفس الاسم الذى وجه إليه لوقا الإنجيل (لو 1: 4) . أما النقاد الذين يقرون بكتابه لوقا لسفر الأعمال ، ولكنهم ينكرون كتابته للإنجيل ، فلا يمكنا أن نعول على ما يقولون.

ويلخص "بلامر" الموضوع فى ثلاثة افتراضات :

1-أن كاتب الإنجيل الثالث هو كاتب سفر الأعمال .

2- كان كاتب سفر الأعمال رفيقاً لبولس .

3- أن هذا الرفيق هو لوقا.

ولقد اثبت هارناك بكل دقة ومهارة (فى كتابه عن أعمال الرسل) أن الخصائص اللغوية لإنجيل لوقا موجودة فى كل أجزاء سفر الأعمال بما فيه الأجزاء التى يستخدم فيها ضمير المتكلمين (نحن ، ونا).

رابعاً : المصادر :

إن مشكلة التوافق بين الإناجيل الثلاثة الأولى (أنظر ما جاء عنها سابقاً) لمن أصعب المشاكل فى مجال نقد العهد الجديد، ولكن إنجيل لوقا يقدم لنا نتائج مرضية:

1- وحدته : متى قبلنا أن لوقا هو كاتب الإنجيل، لا يبقى هناك أدنى شك فيما يختص بوحدة الإنجيل وصحته وإنجيل لوقا الموجز الذى استخدمه ماركيون ، لا ينقض صحة الإجزاء التى حذفها من الإنجيل، فقد حذفها لأهداف عقائدية يريد اثباتها . وما أثبته ماركيون من هذا الإنجيل له أهميته فى مجال نقد النص، مثلما للاقتباسات الكثيرة التى ذكرها سائر الكتَّاب الأوائل ونسخة ماريكون لا تقلل مطلقاً من أهمية إنجيل لوقا.

2- منهج لوقا : لقد صرح لوقا بمنهجه فى مقدمته الرائعة البليغة (1: 1-4) ، فهنا نرى لمحة من شخصية الكاتب ، وهو ما لا نجده فى إنجيل متى ومرقس ، وإن كنا نراه فى لمحات عابرة فى الإنجيل الرابع . ولكنا هنا نجد الكاتب يأخذ القارئ موضع ثقة ويكشف عن موقفه ومؤهلاته للقيام بهذا العمل العظيم ، فهو يكتب كمعاصر عن الماضى القريب، وهذا النوع من أعسر الكتابات التاريخية فى تفسيره ، ولكنه فى الغالب من أهمها ، فهو يكتب عن "الأمور المتيقنة عندنا" التى حدثت فى زمننا . وكما سبق القول ، لا يدَّعى لوقا أنه كان شاهد عيأن لهذه الأمور" ،فكما نعلم، كان لوقا أممياً ومن الظاهر أنه لم ير يسوع فى الجسد ، فهو يقف فى مكان خارج الأحداث العظيمة التى يسجلها . وهو لا يخفى اهتمامه الشديد بهذه القصة ، ولكنه يذكر أيضاً أنه يكتب بروح المؤرخ المدقق. أنه يريد أن يؤكد لثاوفيلس هذه الأمور "لتعرف صحة الكلام الذى علمت به" ، ويقرر أنه قد تتبع أو فحص "كل شئ من الأول بتدقيق" ، وهو ما يجب على كل مؤرخ صادق . ومعنى هذا أنه حصل على مقتطفات من مصادر مختلفة ومحصها وسجلها فى قصة مترابطة "على التوالى" حتى يعرف ثاوفيلس تماماً التتابع التاريخى للأحداث المرتبطة بحياة يسوع الناصرى . وحقيقة أن " كثيرين قد أخذوا بتأليف قصة فى هذه الأمور" لم تمنع لوقا عن العمل . بل بالحرى دفعه ذلك العمل "رأيت أنا أيضا " لكتابه تاريخه عن حياة يسوع وعمله كما جمعه من بحثه ، ولم يكن الزمن قد بعد به عن الجيل الذى عاش فيه يسوع ومات . فقد كان أمراً بالغ الأهمية عنده كأحد أتباع يسوع المثقفين ، أن يتتبع أصل هذه الدعوة التى قد أصبحت حركة عالمية، وكان قادراً على الوصول إلى الحقائق لأنه تقابل مع شهود العيان ليسوع وعمله كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداماً للكلمة ". لقد كانت هناك فرصة واسعة أمام لوقا خلال السنتين اللتين قضاهما مع بولس فى قيصرية (أع 24- 26) ليقوم بدراسته وابحاثه الدقيقة ، فقد كان عدد كبير من أتباع المسيح ، مازالوا أحياء (1كو 15: 6) وكانت هذه فرصة ذهبية للوقا ، كما كان عنده القصص المكتوبة التى "كان كثيرون قد أخذوا " فى كتابتها . ولا شك فى أننا ننتظر أن نرى فى إنجيل لوقا كتاباً مشابهاً لسفر الأعمال فى الأسلوب والمنهج ، مع غرام المؤرخ بالدقة والترتيب ، ومع استيعاب الكاتب واستفادته من كل ما سمع وقرأ ، ولا يمكن أن نتوقع من مثل هذا الكاتب أى تهاون أو عدم مبالاة ، بل نتوقع منه المزج الذكى بين ما جمعه من مواد ليجعل منه عملاً فنياً متكاملاً.

4-قصة الطفولة فى الأرامية : يبين القسم الأول من هذا الإنجيل (1: 5 –2: 52) مدى أمانة لوقا ودقته فى استخدام ما جمعه من مادة ، وأن كان "فلهاوزن" يسقط هذين الأصحاحين من نسخته لإنجيل لوقا على أساس أنهما غير جديرين بالاعتبار ، ولكن هذا نقد جامح يبلغ حد الشطط ، ولا ينبنى الا على مزاعم لا أساس لها ، ولا يبرره ما فعله ماركيون الذى يبدأ إنجيل لوقا بالأصحاح الرابع ، ويعتقد "رايت" (فى تعليقه على إنجيل لوقا) أن هذا الجزء هو آخر ما كتب من هذا الإنجيل وأن كان يقر أنه بقلم لوقا نفسه. ويدافع "رايت" بشدة عن أن لوقا استقى إنجيله كله من مصدر شفهى، ولا يقبل مطلقاً النظرية القائلة بأن لوقا أخذ إنجيله عن وثيقتين أو أى مصدر مكتوب ، ويقول – وهو محق فى قوله هذا- أن لوقا أخذ معلوماته التى سجلها فى هذين الأصحاحين من مصادر خاصة، فلم تكن هذه المعلومات تشكل جزءاً من الإنجيل الشفهى المتداول. ومتَّى يذكر قصة الميلاد من وجهة نظر يوسف، بينما تتوارى مريم حسب العادات الشرقية (رايت)، أما لوقا فيروى القصة من وجهة نظر مريم، ويحتمل جداً أن لوقا قد قابل مريم نفسها فى السنوات 57- 59 (أو 58- 60) ، كما أنه –ولا بد – قابل بعض أصدقاء مريم الذين كانوا يعرفون الوقائع الحقيقية الدقيقة، فقد ذكر لوقا بوضوح : أن مريم كانت "تحفظ جميع هذه الأمور فى قلبها" (3: 51) ولم تكن تصرح بها إلا لمن كانوا موضع ثقتها المتعاطفين معها. ولا يمكن إنكار قصة لوقا عن الميلاد العذراوى على أسس افتراضية، فالصيغة السامية الدقيقة لهذه القصة برهان قوى على صحتها حيث أن لوقا كان يونانياً، ولا نعلم هل عرف لوقا الأرامية أو لم يعرفها ، وأن كان هذا محتملاً حيث أنه صرف سنتين فى فلسطين ، ولا نعلم أن كانت هذه المعلومات قد وصلته مكتوبة (لاحظ بصورة خاصة ترنيمة مريم وترنيمة زكريا ) أو مشافهة. ولا يمكن أن ننسب لرجل يونانى اختراع هذه القصة عن الميلاد وهاتين الأنشودتين، وجميعها تنطق بالصدق والحق فى أنسجام مع البيئة العبرية والحياة العبرية، فبعد أن يذكر لوقا بحثه الدقيق كمؤرخ، وكيف تتبع كل شئ بتدقيق، بسرد قصة ميلاد يسوع، فهى أول ثمار بحثه التاريخى الدقيق.

4- علاقة لوقا بإنجيل مرقس : لقد تقابل لوقا ومرقس فى رومية (كو 4: 10 و14، وفليمون 24)، ولعلهما تقابلا فى فلسطين أيضاً ، ولكن هل كان قد رأى إنجيل مرقس قبل أن يكتب إنجيله؟ وهل كان إنجيل مرقس إحدى القصص الكثيرة التى وقع عليها نظر لوقا؟ ينكر "رايت " أن لوقا عرف إنجيل مرقس كما هو بين أيدينا، ويقول أنه من المحتمل أنه عرف، عن طريق السمع، رواية أولية لإنجيل مرقس، وليس إنجيل مرقس مكتوباً فى صورته الحالية، ويرى أن أفضل دليل على ذلك هو تلك الحقيقة أنه من بين 223 قسماً فى مرقس، لا يوجد منها 54 قسماً فى لوقا، ولكن أغلب النقاد المعاصرين يرون أن كلاً من متى ولوقا كان لديهما إنجيل مرقس مع غيره من المراجع – فمتَّى- أن كان قد استخدام إنجيل مرقس - قد سار فى الأصحاحات الأولى، على ترتيب موضوعى جامعاً بين مرقس ومصدره الآخر أو مصادره الأخرى، أما لوقا فقد سار على ترتيب مرقس تماماً فى ذلك الجزء، بل وفى كل الإنجيل تقريباً (فيما عدا الجزء من 9 : 51-19: 27، فهناك مشكلة خاصة بهذا الجزء) ولكنه فى خطوطه العريضة ينهج نهج مرقس. ولكن لا يمكن القول بأن لوقا - لو أنه استخدام إنجيل مرقس- قد حاكاه محاكاة ساذجة، بل ترك طابعه على كل حادثة، كما اختار منها ما يتفق مع هدفه. وليس من السهل دائما أن نقول ماذا كان دافعه، ولكن من الخطأ أن نظن أن لوقا قد سجل اعتباطاً كل حادثة وجدها فى مختلف الوثائق، أو كل رواية بلغت مسامعه، فهو يذكر فى مقدمته ما معناه أنه قد أنتقى ما سجله من بين الكميات الضخمة من المعلومات، ونسجها كلها فى قصة متماسكة مرتبة. ويقول هارناك (فى كتابه "دراسات فى العهد الجديد- أقوال يسوع" – 13) أن موضوع مرقس "قد عولج بدقة علمية" وأن لوقا قد استخدم إنجيل مرقس كأحد مراجعه، وهناك مؤلفات كثيرة عن اتفاق البشيرين تبين مدى التطابق بين لوقا ومرقس.

5-أقوال يسوع أو “Q” : ويدور جدل كثير حول الأجزاء المشتركة بين متَّى ولوقا، ولكنها لا توجد فى مرقس، وهى عادة تختص بأحاديث يسوع. وأكثر النظريات قبولاً الأن هى أن متَّى ولوقا قد استخدما إنجيل مرقس ، وكذلك مجموعة الأقوال، التى يطلقون عليها “Q” وهى (الحرف الأول من كلمة ألمأنية معناها: المصدر) ، ويمكن قبول هذه النظرية باعتبارها مجرد فرض من الفروض، ولكن لا يمكن اعتبارها حقيقة ثابتة، فهناك علماء كثيرون، مثل زاهن وأرثركار، يدافعون بشدة عن أن إنجيل متَّى هو أقدم الإناجيل، بينما يدافع فلهاوزن عن أن إنجيل مرقس هو أسبقها وأنه أسبق من الأقوال “Q” . ونهاية المطاف للأبحاث النقدية هى وضع “Q” فى نفس المستوى مع إنجيل مرقس، فحيث يذكر متى ولوقا أموراً لا توجد فى مرقس بالأغلب كما يزعمون – أنها مأخوذة عن “Q” وعلاوة على ذلك، لعل “Q” كان يحتوى على أشياء لا تذكر فى متى ولا فى لوقا، ولكن لو أن لوقا قد استخدم مرقس و “Q” حقيقة ، فأنه لم يكن مجرد ناسخ، فأن مسألة التشابه فى الأناجيل الثلاثة الأولى، لا يمكن حلها على أساس أنها مجرد نقل عن وثائق سابقة ، فهناك حرية واضحة فى استخدام كل المواد المتجمعة ، سواء كانت مكتوبة أو شفهية، كما كان الكاتب يذكر وجهة نظره وتفسيره للأحداث . لقد صاغ الكاتب الوقائع بلغته هو ، ولم ينقلها كما هى. والخلاصة هى أن الكثير من النقد الموجه للأناجيل هو من قبيل محاولة المستحيل ، لأن الكثير من الاختلافات لا يمكن إسنادها إلى أى مصدر. ويعبر "رايت" عن ذلك فى عبارة محكمة: "إذا كنا نرى فى إنجيل يوحنا أن فكر البشير يعكس أقوال ربنا فى هذه الصبغة الرائعة ، فأنه يمكننا أيضاً أن نرى الأمر نفسه فى صياغة إنجيل لوقا، وهو أقرب ما يكون إلى اسلوب يوحنا منه إلى إنجيل متى ومرقس "، وفى الحقيقة هذا هو ما يجب أن نتوقعه ، والاعتراف الصريح بهذا الرأى ، يدل على تقدم كبير فى النظرية النقدية عن التشابه بين الأناجيل الثلاثة الأولى.

6- مراجع أخرى : توجد مادة كثيرة فى لوقا (9: 51- 18: 14) لم يسجلها أحد سواه، وهناك أقوال مختلفة شبيهة ببعض ما سجله متَّى أو مرقس فى مناسبات مختلفة عن تلك التى ذكرها لوقا، كما أن بعض الأحداث شبيهة بما ذكره متَّى ومرقس. وثمة نظريات مختلفة بخصوص هذا الموقف من لوقا. فبعض النقاد يعتقدون أن لوقا- فى هذا الجزء- وضع كمية ضخمة من المعلومات كان قد أرجأ تسجيلها- كما يقولون- ولم يكن يعرف أين يضعها، بدون مراعاة أى ترتيب . ولكن يدحض هذه النظرية ما سجله لوقا نفسه من أنه "قد تتبع كل شئ من الأول بتدقيق" وأنه يكتب "على التوالى" (1: 3و4) ولابد أن نؤمن بما يقوله لوقا حيث أنه ليس ثمة ما يناقضه، فمن المألوف عن المبشرين الجائلين- كما كان يسوع- أن تحدث لهم نفس الاختبارات والأحداث فى مختلف نواحى البلاد، وأنهم كثيراً ما يرددون أقوالهم الأثيرة عندهم، فالمعلمون يعيدون – كل سنة - الكثير من أقوالهم للفصول المختلفة. وفى الواقع أننا نجد فى هذا القسم من إنجيل لوقا أروع الفصول (أمثال السامرى الصالح، والابن الضال، والفريسى والعشار….الخ) : "وكلما تأملنا فى هذه المجموعة من الفصول كلما أنبهرنا بها، أنها زبدة الإنجيل، ومع ذلك (وهذا وجه الغرابة)، فأن لوقا وحده هو الذى يسجلها" (رايت- فى قاموس "المسيح والأناجيل "- لها ستنجز) ويطلق عليها رايت اسم "المجموعة البولسية " ، ليس لأن بولس هو مصدر هذه المعلومات، ولكن لأن هذه الأصحاحات تبدو فيها روح بولس التى تحتضن كل العالم. وهذا صحيح ولكن يسوع قد أحب كل العالم، ولعل لوقا قد تجاوب بشدة مع هذا الجانب من تعاليم يسوع لأنه وجده واضحاً فى بولس. لقد كان إنجيل متَّى - فى نظرته – أقرب إلى الفكر اليهودى، ومرقس لم يذكر إلا القليل من أقوال المسيح. ويجب ملاحظة أن هذه المادة الخاصة تنتشر فى كل الإنجيل تقريباً ، ويسمى "بورتون" (فى "بعض مبادئ النقد وتطبيقها على مسألة التشابه فى الأناجيل الثلاثة ") هذه المادة الخاصة فى لوقا (9: 51-18: 14) " بالوثيقة البيبرية " ، ولا نعلم – بالطبع – شيئاً عن مصدر هذه المادة، وسواء أخذ لوقا عن مرجع أو أكثر، فأنه – كما فى كل مكان آخر- قد وضع طابعه عليها جميعها ، بينما احتفظ بشكل عجيب بروح يسوع . ويقول "بورتون" أن الأجزاء الأولى من لوقا والتى لا توجد فى سائر الأناجيل (وهى 3: 7- 15و 17 و18، 4: 2-13 و30، 5: 1-11، 6: 21-49، 7: 1-8: 3) ترجع إلى وثيقة أسماها " الوثيقة الجليلية " بينما يفترض "رايت" أن "مقتطفات مجهولة المصدر" هى المرجع الذى أخذ عنه لوقا ما سجله مما لا يوجد فى مرقس أو فى “Q” أو فى كتابات بولس أو فى الوثيقة البيرية. على أى حال، فكلمات لوقا نفسه تحذرنا- يقيناً - من تضييق الخناق حول المراجع التى استخدمها ، " فالكثيرون " قد تعنى عشرة مراجع أو أكثر، ولكن ما يمكننا أن نقوله باختصار هو أن كل ما وصل إليه النقد فى هذا الموضوع، أنما قد أثبت حقيقة ما ذكره لوقا نفسه عن أسلوب بحثه كمؤرخ مدقق ، واستخدامه بأمانة ما تجمع لديه من مادة.


خامساً : جدراته بالثقة : يشكك بعض النقاد- مثل هارناك – فى دقة لوقا كمؤرخ وبخاصة فى سفر الأعمال أكثر منه فى الإنجيل، ولكن السير وليم رمزى (فى كتابه لوقا الطبيب) يدافع بقوة عن دقة لوقا وأمأنته ضد تشكيك هارناك، وهو تشكيك قد ضعفت حجيته حتى عند هارناك نفسه فقد عاد وراجع نفسه.

ولكن الإنجيل لم يسلم من الهجوم ، وأهم نقطة تعرضت للنقد فى إنجيل لوقا- باستثناء قصة الميلاد التى يزعم بعض النقاد أنها أسطورة- هى التعداد المذكور فى لوقا (2: 1و2)، فحتى النقاد الذين أقروا – عموماً - بدقة لوقا ، حسبوه قد وقع فى الخطأ وخلط بين الاكتتاب الذى حدث فى عهد كيرينيوس فيما بين السنتين السادسة والسابعة بعد الميلاد، عندما جاء كيرينيوس بعد نفى أرخيلاوس، لإجراء الاكتتاب ولجمع الضرائب ، مما أثار سخط اليهود (أع 5: 37)، فلم يكن معروفاً أن كيرينيوس قد حكم سوريا قبل تلك المرة، كما لم يكن معروفا إجراء أى اكتتاب فى عهد أوغسطس قيصر، وكانت الحجة ضد لوقا قوية، ولكن السير رمزى (فى كتابه: هلى ولد المسيح فى بيت لحم؟ ص 227) أثبت أن النقش الموجود فى تابور- ويوافقه على هذا "مومسن" وغيره من الثقاة- يثبت أن كيرينيوس "حكم سوريا مرتين واليا عليها من قبل أوغسطس العظيم" ، فقد كان قنصلاً فى السنة الثانية عشرة قبل الميلاد، ولذلك فبعثته الأولى، كانت – ولا بد – بعد ذلك التاريخ . كما أثبت السير رمزى ايضاً من البرديات أن الدورة بين كل اكتتاب فى الدولة الرومانية، والاكتتاب الذى يليه، كانت أربعة عشر عاماً (وهناك الكثير من السجلات عن هذه التعدادات منذ عام 20 م وما بعدها)، ويقول أن الاكتتاب الأول جرى بأمر أوغسطس فى السنة الثامنة قبل الميلاد ، وكان مأذوناً لهيرودس – كملك تابع للقيصر- أن يجريه حسب العوائد اليهودية ، وليس حسب العوائد الرومانية ، والأرجح أن الاكتتاب تأخر بضع سنوات فى الولايات، وهكذا ثبتت دقة لوقا وأمأنته بصورة رائعة.

وكذلك خرج سفر أعمال الرسل من اتهام النقاد برئ الساحة تماماً بطريقة عجيبة، وهكذا أصبحت الثقة فى لوقا كمؤرخ، وطيدة جداً عند المؤهلين لمعرفة الحقائق – لقد تعرض لامتحانات وإختبارات صعبة ، ولكنه خرج ظافراً ، حتى أنه ليعتبر مصدر ثقة حتى فى الأمور التى مازالت لم تتحقق تماماً.

سادساً : الخصائص : كان لوقا شخصية متعددة الجوانب أكثر من سائر البشيرين، فلقد كان يونانياً، مسيحياً وطبيباً ورحالة، ذا نظرة شاملة للعالم، عطوفاً مثقفاً، ذا طبيعة شاعرية، روحياً، فناناً، واسع الفكر، ومقدمته هى أبلغ قطعة يونانية فى العهد الجديد ، أما باقى الأصحاح الأول والأصحاح الثاني فلهما صبغة سامية أكثر من سائر الأجزاء ، وتبدو بوضوح قدرته الأدبية على الكتابة ، وهو لا يكثر فقط من استخدام العبارات الطبية المألوفة فى الدوائر الفنية، ولكنه يبدى أيضاً اهتماماً ملحوظاً بالمرضى والمصابين، كما يبدو فى العدد الكبير من معجزات الشفاء التى سجلها ولم يكن اهتمامه بالفقراء ناتجاً عن أنحياز إبيونى ضد الاغنياء، ولكن عن عطف إنساني على المكروبين . وتأكيده على الجأنب الإنساني من عمل يسوع ليس نابعا من أنكار إيبونى للاهوت المسيح ، ولكن من تقديره العميق لثراء الحياة الإنسانية " لابن الله".

هذا التنوع والثراء فى مفرادات لغته ، دليل على اطِّلاعه الواسع واختلاطه بأعلى المستويات فى عصره. وقد كتب سفريه باللغة الدارجة، ولكنها اللغة الدارجة الرفيعة لأنسان متعلم له طابع أدبي متميز. ويظهر مزاجه الشاعرى فى احتفاظه لنا بالأنشودتين العذبتين لمريم ولزكريا ، وفى الأمثال الرائعة التى نطق بها يسوع فى الأصحاحات العاشر والخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، فهو يرويها فى مهارة وجمال نادرين. كما كان لوقا مغرماً بإظهار عطف المسيح على النساء والأطفال. كما أنه تحدث عن الصلاة أكثر من سائر البشيرين كما يبدو اهتمامه بالفرد فى تقديمه سفريه لثاوفيلس وتعاطفه مع كل العالم يتفق مع تعليمه وتراثه الثقافى ، ولكن يعود جزء كبير من ذلك –ولا شك- لرفقته للرسول بولس، فهو ينظر إلى يسوع من وجهة نظر عالمية شاملة، فلم يكن عليه أن يتخلص من تلك المحدوديات الفريسية الضيقة التى تلازم إنساناً شبَّ فى فلسطين . إنه لمن المفرح أن يكون لنا مثل هذا السفر الجميل الذى يقول عنه "رينان" أنه أروع كتاب فى العالم، يروى لنا قصة نشأة المسيحية من وجهة نظر يونانى، فهو يقف خارج سياج اليهودية، ويستطيع أن يرى بأكثر وضوح علاقات العالم ومصيره من هذه الحركة الجديدة. وعند لوقا، يسوع هو مخلص العالم بكل تأكيد، والخطية هى خطية الجنس البشرى كله وليست خطية اليهود فحسب.

وهكذا نجد إنجيل لوقا يتفق فى نقاط كثيرة مع بولس ويوحنا وكاتب الرسالة إلى العبرانيين ، فى الأسلوب والنظرة الشاملة. بينما أسلوب لوقا المتميز ظاهر فى كل كتاباته ، إلا أنه لا يقحم ذاته أو يعلن عن نفسه، فهو يتوارى خلف الصورة الرائعة التى يرسمها ليسوع فى ألوان زاهية لا تشحب أبداً.

سابعاً : تاريخ كتابته :

لا داعى إطلاقاً لتحديد تاريخ كتابة إنجيل لوقا فى القرن الثاني كما زعم بوير وزيلر على أساس أنه استخدم إنجيل ماركيون، حيث أن من المعترف به الأن من الجميع هو أن ماركيون هو الذى استخدم إنجيل لوقا وليس العكس. كما يزعم البعض أن لوقا استعان بتاريخ يوسيفوس مما يجعل تاريخ كتابته فى نهاية القرن الأول، ولكن هذا رأى متطرف، وكما أثبت هارناك (فى كتابه تاريخ المسيحية) ، فإن من المقطوع به بالإجماع تقريباً أن لوقا لم يستخدم تاريخ يوسيفوس، وأن إنجيل لوقا- بكل يقين – قد كتب قبل سفر أعمال الرسل (أع 1:1) وفى حياة الرسول بولس ، وبخاصة إذا اعتبرنا أن (1 تى 5: 18) هى اقتباس من لوقا (10: 7) وهو ما لا يمكن الجزم به، ولكن من الحق، أن التعليل الصحيح لهذه النهاية الفجائية لسفر الأعمال بعد سنتين فى رومية (أع 38: 31) هو أن لوقا قد أنهى كتابه فى ذلك الوقت كما يعتقد السواد الأعظم من العلماء، وهارناك نفسه يعترف بأن سفر الأعمال قد كتب فى بداية العقد السابع من القرن الأول ، ويقول : "أنه لمن الثابت الأن- فوق كل شك- أن كلا الكتابين التاريخيين العظيمين قد كتبا فى حياة الرسول بولس" . ويقول البعض- مثل بارتلت وبلومر وساندى ورايت وغيرهم- أنه كتب فى سنة 80 م على أساس أن ما ذكره لوقا (1: 1-4) عن بحثه وتقصيه يتضمن استعأنته بقصص لم يكن ممكناً أن تكتب إلا بعد فترة طويلة من الدراسة، ولكنها حجة لا أساس لها، فليس ثمة سبب لاعتبار أن إنجيل مرقس، و “Q” . وقصص الطفولة وسائر المراجع التى أشار إليها فى مقدمته، لم تكن متداولة فى فلسطين فى العام الخامس والخمسين من الميلاد ، بل أن "ألن" يكتب : " إننى لا أرى داعياً لاعتبار أن إنجيل مرقس الأصلى فى الأرامية ، لم يظهر قبل عام 50م ".

والحجة الثانية لتحديد تاريخ متأخر ، تبنى على ما جاء فى الإنجيل : "ومتى رأيتم أورشليم محاطة بجيوش" (لو 21: 20) بالمقابلة مع "رجسة الخراب" (مرقس 13: 14). إنه اختلاف دقيق، حتى أن بعض النقاد يرون أنه يرجع إلى أن لوقا كتب بعد خراب أورشليم، ولكن من المحتمل (كما يقول ماكلين) أن لوقا هنا يفسر التعبير العبرى المذكور فى مرقس، لقرائه من الأمم ، وعلاوة على ذلك – كما أثبت بلومر- أن لوقا (21: 5- 36) لم يسجل واقعة خراب أورشليم كتاريخ قد حدث ، ولم يغير أقوال المسيح "بالهروب إلى الجبال" إلى الهروب الى "بلاد فى شمال بيريه" التى هرب إليها المسيحيون فعلاً ، بالإضافة إلى تلك الحقيقة وهى أن سفر الأعمال لا يذكر شيئاً عن رسائل بولس مما يدل على كتابته فى وقت مبكر. وهكذا نرى أن كل هذه دلائل على كتابته فى تاريخ مبكر. ولا نعلم على وجه اليقين أين كتب لوقا إنجيله، ولكن التاريخ المبكر يقع فى أثناء وجوده فى قيصرية (كما يقول بلاس وميكاليس وترسك)، ولكن لا يمكن الجزم بهذا .
ثامناً : تحليل الإنجيل :

1-1: 1-4 المقدمة

2-1: 5-2: 52 ولادة وطفولة يوحنا المعمدان ويسوع

3-3: 1-4: 13 بداية خدمة يسوع

4-4: 14-9: 6 الخدمة فى الجليل

5-9: 7-50 الأنصراف من الجليل

6-9: 51-19: 28 الخدمة فى اليهودية وبييرية

7-19: 29-21: 37 ختام الخدمة الجهارية فى أورشليم

8-الأصحاحات 21- 23 النهاية الأليمة

9-أصحاح 24 قيامة المسيح
________________________________________



#كريم_ثاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يسوع قراءة و تحليل و نقد (9 )
- يهود مزراحيون
- تصورات الاديان الشرقية لفكرة الالوهية
- يسوع قراءة و تحليل و نقد (7 )
- يسوع قراءة و تحليل و نقد (5)
- يسوع قراءة و تحليل و نقد ( (4
- يسوع قراءة و تحليل و نقد ( 1 )
- هل هناك كائنات خارج الارض
- الاسرائليات روايات
- هل المسيح يهودي الاصل
- منبع الكتب المقدّسة الأساطير


المزيد.....




- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!
- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كريم ثاني - يسوع قراءة و تحليل و نقد (10)