أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جوزفين كوركيس البوتاني - مكالمة لامرأة منسية















المزيد.....

مكالمة لامرأة منسية


جوزفين كوركيس البوتاني

الحوار المتمدن-العدد: 4348 - 2014 / 1 / 28 - 08:44
المحور: الادب والفن
    


أصر وهو يلهث عبر الهاتف بصوته الهادئ الممزوج باللهفة: "كيف حالك؟ ما أخبارك؟ كم أتمنى ان أراك.. آه كم افتقدك!.. لقد مضت على فراقنا سنين طويلة.. هل تذكرين أخر صيف أمضيناه معًا؟"
بقيت هي صامتة تحاول استعادة بعض مما نثره صوت هذا المتلكم الذي يبدو صوته مألوفًا.. فرجعت بذاكرتها إلى أخر صيف لها لتتذكر ماذا كانت تفعل. الصيف الماضي كانت برفقة اختها الصغيرة في المستشفى بعد ان أصيبت الأخيرة بشظايا من انفجار سيارة مفخخة عندما كانت في طريقها إلى العمل، وهو أمر أدى إلى بتر ساقيها في نهاية المطاف..
عاد صوت المتكلم يرن في أذانها من جديد ليأكد لها بأنها ستتذكره لا محالة وبأنه لن يفصح عن اسمه حتى تتذكره. وأضاف بلطف: "أتذكرين أخر أيام ذلك الصيف؟ أتذكرين حين كنا معًا؟"
بقيت هي صامتة تحاول الأستنجاد بذاكرتها لعلها تتذكر. فذاكرتها باتت مثل رمانة سقطت على الأرض لتتبعثر حباتها وتتناثر هنا وهناك.. وواصل المتكلم حديثه عبر الهاتف وبدأ يتحدث عن ذكريات سقطت من ذاكرتها اللعينة في بئر الزمن.. وكي تهدأ من انفعالها وتنهي هذه المهزلة، قالت له بطريقة مباشرة: "من المتكلم؟ هل لي بأسمك من فضلك؟ لعلك أخطأت الرقم- فأرقام الهاتف تتشابه إلى حد كبير في بعض الأحيان."
فصمت المتكلم المتألم وتنهد بحزن: "لا! أنا متأكد من انك أنت المطلوبة! ألست الست هناء؟ حاولي ان تتذكري صوتي.. حاولي ان تتذكري أخر صيف قضيناه معًا!"
ففكرت بقرارة نفسها: "آه.. إذن فهو يتحدث عن اخر صيف له هو وقد يكون منذ زمن بعيد.."
وبدأت تستجمع كلماته بدقة كمن يجمع صورة غير منسقة لفنان مشهور من تلك التي تنشر في المجلات الرخيصة، ويطلب من القارئ المبجل ان يخمن صاحب الصورة بعبارة تحتها تقول: "لمن هذه الصورة؟" وظلت تحاول جاهدة ان تتذكر المتكلم ولكن دون جدوى.. وفكرت مع نفسها: "آه.. لو سألوني ماذا أكلت اليوم لما تذكرت.. فما باله هذا يريد مني ان اعرفه وأنا لم أره منذ سنين.."
تنهدت وهي تلعن ذاكرتها التي لم تعد تسعفها.. ذاكرتها التي باتت أشبه بشاشة تلفاز عند انقطاع البث.. وهذا الغريب كمن يحاول إعادة البث..
قال الصوت عبر الهاتف: "هل تذكرين ثوبك الأزرق بأزراره السوداء والوشاح الأزرق بلون عينيك؟ أتذكرين يوم ذهبنا في نزهة نهرية وكيف أنعش رذاذ ماء النهر وجهك التعب يومها؟ وحتى السماء كانت زرقاء بلون النهر وبلون ثوبك.. آه.. كل شيء كان يومها أزرقًا.. أتذكرين؟ اتذكرين أخر أيام ذلك الصيف؟.."
ففكرت مع ذاتها: "عن أي صيف يتحدث هذا؟" وحالما بدأت تستعيد الصور من ذاكرتها، اتضح لها كل شيء فجأة! تذكرت المتحدث.. أنه صاحب المبادئ الثقيلة الذي علمها فن التخطيط لكل شيء عدا التخطيط لليوم الذي تركها فيه فجأة..
فقالت له بحيرة: "عجبي! كيف خطرت على بالك؟ من أين تتصل؟ ومن أين حصلت على رقمي بعد كل هذه السنين؟"
فأجاب بنفس اللهفة: "أتصل بك من سويسرا.. وبعد جهد مضني، تمكنت من الحصول على رقمك يا عزيزتي. والآن بعد ان تذكرتيني، أريدك ان تنطقي باسمي.. أريد ان اسمع اسمي بصوتك؟.. آه.. كم انا مشتاق إليك.. آه.. ألا زلت جميلة؟ ألا زالت عيناك بلون السماء كما تركتهما يوم تركت الوطن مجبرًا؟"
فأجابت والدهشة تسحقها وبتردد: "همام."
-"أجل! قوليها مرة أخرى يا هناء! هل تزوجتي يا هناء؟ أود سماع كل اخبارك."
فأجابت بتلعثم: " نصيبي مازال معلقًا.. حالي حال الألاف من نساء هذا البلد."
ففرح وحزن لاجلها في آن واحد. اعتقد بأنها كانت لا تزال بانتظاره بشوق ولهفة، واتضح بأن الأمر لم يكن كذلك. وانقطع الخط—مثله مثل اغلب المكالمات الواردة من الخارج—ولكن خط ذاكرة هناء استمر وبدأت تزيح الغبار واتضحت لها الصورة شيئًا فشيئًا.. أجل، إنه همام- الرجل الذي احبته يومًا بقوة.. يوم كانت ساذجة.. يوم ظنت بأن المرأة تولد مرة وتحب مرة وتموت مرة. ومن يومها وهي تموت ألف ميتة في اليوم وتنهض على قيد الحياة كل يوم لتواصل حياتها وهو غائب بعيد وغير مبالٍ بها.. مثله مثل عمرها الذي ذهب هدرًا دون أي معنى..
آه.. كم أحبته وكم كان يشبهها بلون عينيه وقامته المديدة وشعره المجعد- حتى ان أكثر الناس ظنوا بأنه أخيها من كثر الشبه.. وتذكرت يوم خيّرها بالذهاب معه خارج البلد أم البقاء، ولسذاجتها بقيت وكل ظنها بأنها كانت ستموت لو انفصلت عن الوطن.. خصوصًا عن مدينتها كركوك.. واما هو، فأجبر على الهرب يوم فر من الجيش خوفًا من الإستشهاد حيث كان وحيد أهله، والحرب وقتها كانت تطحن كل رجال البلد دون استثناء. وهاهو يعود ليفك خيوط ذلك الجرح من جديد لأنه ذكّرها بذلك الصيف الذي دفنته السنين. انتابها شعور فظيع بالندم لأنها لم تتبعه يومها- ربما لأنها تعدت الأربعين والقطار فاتها.. فماذا تفعل والوطن استنزف كل رجاله- فمنهم من استشهد ومنهم من وقع في الأسر ومن فُقِد.. والباقين، نصفهم فروا خارج البلاد والنصف الآخر محبط تم الإجهاز عليهم بأسم الوطنية.. أجل، لهذا السبب لم تتزوج هي وليس بسبب انتظارها له كما توهم عبر الهاتف. كيف تنتظره وهو الذي لم يسأل عنها منذ غادر الوطن ولو حتى من باب الصداقة..
وبعد إبحارها في كل تلك الذكريات لدقائق، لعنت المكالمة التي لم تكن على البال أبدًا. وقبل ان تواصل ما كانت تفعله في البيت، رن الهاتف من جديد وجاء صوته معتذرًا عن انقطاع الخط وأخذ يكمل حديثه: "حسنًا يا هناء، حدثيني عنك.."
-"بعد كل تلك السنين، تدّعي بأنك تفتقدني؟ أين كنت يوم احتجتك بشدة؟ أحولتك الغربة إلى أمير نائم استيقظ فجأة من سباته ليتذكر بأن له حبيبة في مكان ما؟ أنا لم اكلمك كل هذه السنين، أولاً لأنني اردت ان انساك. وثانيًا، لم أكن اريدك ان تسيء الظن وتعتقد بأني اتصل بك لأجل بضعة دولارات." قالت بتذمر وصمتت لبرهة ثم أسترسلت:
-"على كل حال، لنضع العتاب جانبًا فلكل منا ظروفه الخاصة. هيا، حدثني انت عن احوالك واخبارك. هل تزوجت؟"
-"لا يا هناء. الزواج هنا ليس مهمًا، وانت لا زلت تعشعشين في رأسي كعصفور ودود. انت وكركوك لم تفارقا مخيلتي ابدًا.."
فقاطعته: " ولكن انا نسيتك بحق والذنب ليس ذنبي لأن ظروفي كانت أقوى مني. أستغرب بأنك لازلت محتفظًا بي في ذاكرتك في الوقت الذي ظننت بأنك لم تعد ترغب بوجودي في حياتك."
-"لا ألومك. أنت محقة، ولكن اتسأل لماذا لم تتزوجي حتى الآن؟"
-"السبب بسيط: الوطن أباد كل رجاله ولذا فترى البلد يعج بالنساء العازبات- هذا ناهيك عن الأرامل والمعوقات. فالمفخخات لم تترك لنا سوى شيوخ متعبون ومراهقون يحلمون بالفرار خارج البلد. قل لي كيف أتزوج ونحن على هذه الحال؟ هل أتزوج مراهقًا كي أتحول إلى أم تخاف عليه؟ أم أتزوج شيخًا لاصبح له ممرضة في حالة خفر دائمة؟"
وبعد صمت قصير، عادوت الكلام قائلة: "ما علينا.. دعنا من كل هذا. لا أريدك ان تخسر نقودك- أعرف بأن المكالمات الدولية غالية عندكم كما تدّعون- لذا فحدثني عنك انت وعن أمورك.. هل تعمل في مجال اختصاصك كمحاسب؟"
-"نعم يا حبيبتي. أعمل في مجال عملي- فكما تعلمين، أختصاصي مرغوب به هنا. وأنت يا هناء، ماذا عنك؟ هل توظفت أم لا؟"
-"لا. لازلت عاطلة برغم شهادتي العالية في مجال المحاسبة، لأن في كركوك كان "الشريط الإحصائي" يتحكم بالوظائف، وبما انني رفضت تصحيح قوميتي، رفضوا تعييني بدورهم. ولكن بعد السقوط، تغيرت الأمور كثيرًا واستطعت ان اعمل في منظمة إنسانية كمحاسبة، علمًا بأن المنظمة لم تكن إنسانية وإنسانيتها لم تكن سوى حبرًا على ورق.."
-"ولكن، ألا تفكرين في الزواج حاليًا يا هناء؟"
-"لا. إطلاقًا يا همام" قالت بصوت حاسم. ثم صمتت لبرهة وواصلت من جديد: "كما تعلم، الساعة البايولوجية بدأت عدها التنازلي.."
-"ولكن المرأة عندنا تبدأ حياتها بعد الثلاثين!"
-"عجبي يا همام.. تقول "عندنا" وكأنك اصبحت واحدًا منهم.. ألم تعد تنتمي إلينا أم ماذا؟.."
-"بعمري كله لم انفصل عنكم ولكن بات لدي وطنان: وطن أعيش فيه وآخر يعيش فيَّ..سبع سنين وأنا اتسكع من بلد لآخر بمرارة حتى استطعت ان احصل على الإقامة؛ وحتى إقامتي لازالت غير مستقرة لأنها غير قانونية. كل شيء في حياتي غير شرعي: زوجتي غير شرعية. طفلي غير شرعي. أوراقي غير شرعية. كنت انت الإنسانة الشرعية الوحيدة في حياتي يا هناء، ولكن يبدو بأن رجوعي سيكون متأخرًا.."
واستمر يثرثر بلهفة لأكثر من ساعة ووعدها بأنه سيزورهم في القريب لأنه مشتاق لها وللأهل ولكركوك الغالية حتى انقطع الإتصال الهاتفي من جديد. وأما هي، فأغلقت سماعة الهاتف محاولة ان تعيده إلى قلبها الخالي، غير ان الظروف التي مرت بها كانت كفيلة بنسيان همام والعمر الماضي وحتى نسيان أتفه الأشياء في حياتها. ومع ذلك، زرعت تلك المكالمة بصيص أمل صغير في حقلها الجدب وبدأت تنظر للغد نظرة ود.. وبعد ساعة أو أكثر من التفكير بالحوار الذي دار، أطفأت بريق الأمل وهدأت من روعها معتبرة الأمر في النهاية مجرد لهفة مغترب وهذيان محموم من بلاد الغربة لا أكثر..

*كتبت بتاريخ الرابع من آب من عام 2007



#جوزفين_كوركيس_البوتاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثقوب
- هجرة جماعية
- لوحة رسام وأوراق لعب مبعثرة
- يقال وعلى ذمة من قال
- الدخيل
- بين وبين
- لحظات مدفونة
- رسالة من محاربة في خندق لا تعرفه
- مسك الختام
- إلى صديقي الوفي: القلم
- عطور الذاكرة
- طفلة الزقاق القديم
- لحظات مكسورة- الجزء الثالث
- لحظات مكسورة- الجزء الثاني
- لحظات مكسورة
- أشهد بأنني امرأة ساقطة
- حكاية ياسمين
- مرادفات
- أزهار منثورة
- غرفة السيد ناجي


المزيد.....




- مصر.. الفنان محمد عادل إمام يعلق على قرار إعادة عرض فيلم - ...
- أولاد رزق 3.. قائمة أفلام عيد الأضحى المبارك 2024 و نجاح فيل ...
- مصر.. ما حقيقة إصابة الفنان القدير لطفي لبيب بشلل نصفي؟
- دور السينما بمصر والخليج تُعيد عرض فيلم -زهايمر- احتفالا بمي ...
- بعد فوزه بالأوسكار عن -الكتاب الأخضر-.. فاريلي يعود للكوميدي ...
- رواية -أمي وأعرفها- لأحمد طملية.. صور بليغة من سرديات المخيم ...
- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جوزفين كوركيس البوتاني - مكالمة لامرأة منسية