أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمود الزهيري - نفسية النص _ الفصل الأول _الموروث وأسر العقل















المزيد.....



نفسية النص _ الفصل الأول _الموروث وأسر العقل


محمود الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 4315 - 2013 / 12 / 24 - 16:34
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


نفسية النص*

تأليف : محمود الزهيري

الفصل الأول

الموروث وأسر العقل


في مقدمة كتابه " معالم الإسلام " يبدأ المستشار محمد سعيد العشماوي , برؤية لعلماء التربية , أري أنها رؤية مفتقدة عن عمد في عالمنا العربي الإسلامي , المتخوف لدرجة الرهاب من الذهاب لنظريات علمية تؤسس لحاضره , وتستشرف مستقبله , ومن ثم وقع في أسر المفاهيم الجاهزة ؛ فيقول : يري علماء التربية أنه من الخطأ الشديد أن يدرس الصبي , حتي سن الثانية عشرة ــ أية نصوص لشخصيات مشهورة تاريخياً , لأن ضخامة الإسم المشهور تشل العقل عن الفهم الصحيح , وتغل الإرادة عن الفحص النزيه , ومن ثم فإنه يعد من الأفضل تكوين ملكة الفهم الصادق , وتمكين قدرة الفحص السوي عند هؤلاء الصبية , من خلال مناهج التحليل analizing , والمقارنة comprehention , حتي إذا استوت لهم هذه وصح لهم ذاك , إكتسبوا قوة عقلية لايشلها نص مهما يكن وضعه , ولايحدها اسم أياً كانت شهرته . (1)

وهذا هو الواقع في عالمنا العربي الإسلامي , المثقل بالتلقين , والحكي والقصص سواء مازخر به التراث الشعبي والأدبي والديني , إذ للبطولة شأن فوق العقل , وأعلي من القدرة , وأعتي من الجبروت والطاقة الإنسانية , فكانت حياتنا مليئة بالأساطير والخرافات الشعبية , أو المعجزات الدينية , وخوارق العادات البشرية التي كان يأتي بها الأبطال وتقع صرعي بين أياديهم الخارقة , لدرجة أننا لم نكن لنهتم بالقصص والأساطير والخرافات وماترمز إليه , بقدر ماكانت تبهرنا شخصية البطل في القص الشعبي أو الأسطورة , أو المعجزات وخوارق العادات , التي كنا نحلق بعقولنا الغضة الطرية في آفاق من الخيال , ونتمني أن نكون أبطالاً لتلك القصص أوالأساطير الخرافية , بل كنا نتخيل أنفسنا أصحاب نبوات ورسالات سماوية مؤيدة بالقدرة وطلاقة المشيئة , أو هكذا كانت تدور عقول أطفال لم تتدرب في مدارج التحليل , والمقارنة , لتسأل وتنتج مفاهيم جديدة , وإنما هي عقول شاخصة وفقط لشخص البطل في القص الشعبي أو الأسطورة الخرافية , وإذ أذكر فأذكر ما كنا نقتدي به في الطفولة بشخصية الزعيم جمال عبد الناصر , في مرحلة الطفولة البريئة في بدايات عقد الستينات , والسبعينات من القرن الماضي , فكنا نتحدي أنفسنا وأقراننا بشخصية جمال عبد الناصر , في مقدرتنا علي تسلق نخلة , أو شجرة الجميز , أو عبور جدول مياه قفزاً من شط الجدول للشط المقابل , ونقول لبعضنا : " يبقي أبوه جمال عبد الناصر , من يقفز مسقة المياه لشطها الأخر " وقس علي ذلك ضروب عديدة من الأمثال , لدرجة أننا كنا نصاب بالجروح أو السحجات والكدمات الشديدة , وكنا أحياناً نعرض حياتنا لبلوغ نهايتها , لمجرد أن يكون أباءنا " جمال عبد الناصر " , ومن هنا نلمح مدي نفوذ شخصية " جمال عبد الناصر " في أنفسنا البريئة , وعقولنا الغضة , وأحلامنا المسكونة بشخصية " جمال عبد الناصر " , لدرجة أن صارت هذه الشخصية ملازمة لجيل بأكمله , ويكررها للجيل التالي , من غير أن يكون لدينا معرفة شبه كاملة بعقلية أو فكرالزعيم جمال عبد الناصر , حتي نتمكن من القدرة علي التحليل والمقارنة بينه وبين غيره من الشخصيات الأخري.

إذا كان هذا عن شخصية من البشر , وفعلت معنا مافعلت من أسر للعقول , وحب في القلب وتأثر المشاعر والوجدان , فكيف يكون الأمر مع الأمور الخاصة بالإيديولوجيات والعقائد الدينية , وهذا إذا كان يجوز في تدريس الأدب , إلا أنه وحسب : " إذا كان هو الواجب والصحيح في تدريس النصوص الأدبية للصغار , فإنه يكون من الأوجب والأصح في تدريس المتون التي تتصل بالمعتقدات والمباديء التي تتعلق بالشرعيات , خاصة وأن هذه المباديء وتلك المتون , تُتناقل عادة , شفاهاً , وسماعاً , دون توثيق او تحقيق أو تدقيق , فتتداخل فيها الأخطاء البشرية وتتخالط مع التراثات الشعبية , ومن ثم تصبح هذه وتلك من صميم الإعتقاد الذي يشل العقل عن أي فحص , ويغل الإرادة دون تمحيص .

يضاف إلي ذلك أنه في حين لايتعدي النص الأدبي نطاق الفهم العادي , فإن المتن الإعتقادي والمبدأ الشرعي ينفذ إلي صميم الشعور ويستقر في كوامن الفكر , فيشل العقل عن الفهم , وبالتالي يغله عن الفحص , فيقع في التسليم الذي غالباً مالايتضمن المعتقد نقياً , أو حتي دون لبس , وبغير تخليط أو تغليظ .( 2 )

التربية العقلية والنفسية حتماً تتأثر بهذا النوع من التربية التلقينية للشخوص السياسية , والشخوص الدينية , حتي تكون مهيأة عن عمد , وسبق إصرار لإرتكاب جرائم ضد العقل الإنساني ليصير منقاداً طيعاً يستعصي علي العصيان أو مجرد التفكبر والبحث في المدلول لأي أمر أو نهي , لتستكمل الوصاية علي العقل كل حلقاتها , فيصير العقل طيعاً منقاداً ذليلاً مهاناً في الصورة الحقيقية المخفية , أما الصورة الظاهرة , فيكون معها هذا العقل متسماً بالإيمان والطاعة , ومستعداً للتضحية بروحه من أجل الله ودين الله , وهذا حسب المفاهيم الدينية , وكذا يصير عقلاً ثورياً إيديولوجياً راغباً وطامحاً للتضحية بنفسه من أجل الوطن , حسب مفردات الإيديولوجيا السياسية , ويمكن القياس علي هذا النموذج بنماذج عديدة متكررة في التاريخ العربي الإسلامي , من غير أن يكون لعقل الفرد دور في نيل درجة الشهادة , أو الحصول علي مرتبة البطولة , وفي كل الحالات يغيب العقل , وتتحطم أدواره علي عتبات مفاهيم نصوص صنعها من هم خارج إطار عقل المتلقي !!

علي هذا المنوال يمكن الـتأسيس للدولة المركزية الشمولية المتسمة بالإستبداد والطغيان والفساد , بدعاوي دينية , أو سياسية تبتعد عن القيم العليا المشتركة للإنسان بصفة عامة , ويبزغ دورها في التأسيس لهذه القيم عبر تسيد المفاهيم التي يصنعها أفراداً بشخصية الزعيم القائد الملهم الموهوب , أو الحافظ الفقيه المحدث التقي الورع , فيتوجب في تلك الصنفين أن تكون له طائعاً مجيباً بلا سؤال , أو حوار , لأن الطاعة واجبة أو متوجبة , ليصير الأفراد متبعين لعقائد وإيديولوجيات سواء كانت وحي السماء أو صناعة الأرض , لا أن يكونوا مشاهدين لها عبر مشاهدات الواقع , ومن ثم ينعدم دور العقل في التطور والإبداع , ويرتقي فقط إلي مقام الإتباع !!

ولنعرض مثالاً لذلك لكي نتمكن من التقريب بين التلقين والتفكير , ومشاهدة الفارق ببسالة عقلية مفرطة في البساطة , فغالبيتنا تعود أن يسأل عن معاني بعض المصطلحات , كالشيوعية , والراسمالية , أو الدينية , والعلمانية , والحرية والديمقراطية :" فلنحاول , الأن , أن نغير طريقة البحث , فعوضاً عن أن نقول : ((ماهي الحرية " و" ماهي الديمقراطية " ؟ )) نتساءل :
هل هناك مايعادي الحرية ؟
وماهي أضداد الديمقراطية ؟ فربما وصلنا إلي نقطة إيجابية بطريقة سلبية . لكن هذه النتيجة لن تعطينا تعريفاً , وإنما ستقربنا من المفهوم العام للفظتين . فلنحاول العمل علي تحديد كل منهما في ترابطها مع الأخري .
الديمقراطية هي النظام المخالف للحكم المطلق ويعد حكماً ديمقراطياً كل حكم لايستبد فيه بالسلطة فرد أو طائفة . هكذا تصان حريات الأفراد من العبث والإستغلال .

والحريات لايراد منها النزعة الفردية , لأن الحريات شخصية من أصلها . فالشخص يتعدي الفردية لتحقيق القيم الإنسانية المشتركة , ويهدف للتكامل داخل المجتمع .

فالديمقراطية, علي هذا , نظام عام يفسح المجال لكل الإمكانيات , أمام كل شخص , إنها النظام الذي يخولنا ( بصفتنا أشخاصاً ) الوسائل الناجعة لكي نحيا ( في وعينا وفي سلوكنا ) القيم العليا المشتركة .

فليست الديمقراطية . إذن , غاية في ذاتها , بل ممر للتعالي " الإنتقال من فرد منغلق علي ذاته , إلي شخص يتفتح بإستمرار نحو جميع إمتداداته المادية والمعنوية , والفكرية .
أما الحريات , فهي كل نشاط يقترب من هذا القصد , إنها , إذن , وسائل من بعض الوجوه , كالديمقراطية . ( 3) ولما كانت " دينامية العقل تعتمد علي مجموعة من المقومات الهامة , منها حرية القبول والرفض ( الشك ) , ذلك أن مايقدم أمام العقل من عناصر خبرية لاتكون ملزمة للعقل الحر بأن يتناولها بإقامة العلاقات التفاعلية فيما بينها , بل هو يقبل مايريد أن يقبله ويرفض مايريد أن يرفضه , كذلك فإن من خصائص العقل أنه لايعرف الكلمة النهائية أو الإنتهاء إلي موقف حاسم نهائياً , فما يصل إليه من نتائج لايستحيل إلي معتقدات مطلقة , بل يظل مطروحاً للفحص والدراسة والتطوير والتعديل والتغيير ."(4)

والتربية العقلية والنفسية علي منوال التلقين لشخوص دينية , أو ثقافية وسياسية , في سن مبكرة تساعد علي هدم آليات العقل , وأقصاء دوره بعيداً عن محراب التفكر بحرية وإبداع وبعيداً عن مؤثرات الشخوص التي صارت موروثة سواء بمواقفها البطولية أو الخارقة للعادة , أو بمنتجات نصوصها الأدبية أو الدينية , فيقع العقل أسيراً لايمكنه فكاك أسره طوال حياته العقلية التي تظل مرتبكة ومتخبطة إن حاولت الخروج من هذا الأسر , لتتحول إلي شخصية مرضية تنتج إرهاباً وغلواً وتطرفاً , .. " وهذا هو الشأن في التربية الإعتقادية عامة , ولأن أكثر الناس لايستطيعون فحص ذواتهم ونقد أفكارهم وفهم معتقداتهم , فإنهم يؤمنون علي جهل أو علي حرف , فيحبط إيمانهم وتختلط عقولهم , وتختل فعالهم , وقد يحصلون علي علم منظم عال ٍ , لكنهم ينشطرون من ثم , فيكون جانب منهم عقلاني , وجانب عندهم وجداني يتخالط فيه العقل والخرافة , ويتداخل فيه الصحيح مع الموهوم أو المتخيل . (5)

ولما كان العقل الواعي القافز للمستقبل , والمستشرف لأفاقه , فإنه يحتاج للدوام إلي حالة عصيان كلما جنح العقل إلي حالة الإستاتيكا , فالعقل الواعي لايستكين للثبات , وإنما للحركة الدؤوبة المستمرة , ولذا : " فإن دينامية العقل تقوم بإستمرار بعمليتين أساسيتين هما التحليل والتركيب , برد المركبات إلي عناصرها الأولي , وعملية تركيب مركبات جديدة من العناصر المتوافرة بعد القيام بالتحليل .

معني ذلك أنه إذا ما أُسر العقل , فإنه لايسمح له بالقيام بهذه العمليات الثلاث الأساسية , بل يقسر علي تقبل مايقدم إليه من قوالب إعتقادية جاهزة لاتقبل التطوير أو التعديل أو التغيير .

والواقع أن طبيعة المعتقدات أو الدوجمات هي طبيعة إستاتيكية ساكنة وليست طبيعة ديناميكية ثائرة , ومايظن أنه دينامية ثائرة في نطاق المعتقدات إنما هو في الواقع حرب وتطاحن بين المعتقدات بعضها ببعض , أو مايعرف بصراع المطلقات , ذلك لأن المطلق بحكم طبيعته واحد , لايقبل التعدد , ومن هنا فإن تعدد المطلقات يدخل بالضرورة في صراع ". (6)

وأري أن الإنفلات من الأفكاروالمفاهيم العجوز , والتي شاخت كثمار غضة , فات أوان قطافها , لاتسمن ولاتغني من جوع , غير الإستغاثة من فجاجة الطعم , ووجع الأسنان , وكأنها في حالة من حالات ماقبل مرحلة النضج , ولذلك فإن التفرقة تتعين أن تكون واضحة بين الثمار وبين الأشجار المنتجة للثمار , فالثمرة ليست هي الشجرة بالمطلق , وليست هي القائم بالتعامل مع الشجرة , ورعايتها , وتصنيع وإعداد ثمارها !!

في إنتظار الأعلي , والأرفع , ودوماً العيون تنظر للسماء , والأرواح معلقة بحبل السماء , وكل الحلول المؤجلة لكل الأزمات مكانها الطبيعي المقدس هو السماء , وكأن السماء تعتذر, وتتأسي ممن جعلها كذلك , لأن الأرض معلقة في السماء هي الأخري , وبالنسبة لغير سكان الأرض , تكون سماء لهم , وأيما إبداع حينما يري أغيار سكان الأرض علي أنها بالنسبة لهم سماء , فالكون كله سماء , والأرض منظومة من ضمن منظومات السماء , أو هكذا قال علم الفلك , وشرح وفسر بنظريات علمية تكاد تحظي بالقبول , إلا أنها تحضي لدي آخرين بالرفض ..

النظر للشخصيات التاريخية , والدينية منها علي وجه خاص , بمنحي التمجيد والتعظيم أمر يختزل الشخصية الإنسانية في الشخوص التاريخية التي يراها أصحاب المصالح أحياناً ,أو غير ذوي البصيرة أحياناً أخري , في أنها ملهمة للإنسان بتجاربها , وهذا ليس عليه ملاحظات غير يسيرة , ولكن جعل هذه الشخوص في درجات عليا , أعلي من قدرات الإنسان الحاضر , أمر يشكل أزمة للواقع المعاش , ويهدد المستقبل في حيزه الذي يكاد منظور بتأسيسه علي رؤية الحاضر ..

العقل ليس مرتبط بالذات , بل ومنفصل عن الشخص , ليس إنفصال الجزء عن الكل , أو إرتباط العضو بباقي الأعضاء , ولكن مرتبة العقل تقع في مركز عالي , ومكانة السمو , وتقدير الرفعة , ويهتاج العقل , ويصبح في حالة أسر وجودي , وينظر في كنهه علي أنه عبد , إذا وجدت دلائل أو مبررات مجلوبة من التاريخ , أو منتجة من الوصاية المحمولة علي ألواح نصوص القداسة , أو الشخوص الحاملة لهذه الألواح , والتي تتعالي علي الشخص , وتتعالي علي عقله , وتجعله في الأدني علي الدوام , إذ كيف يكون للأدني في البسط , مكانة أعلي ممن وضع في المقام , بل وتفصل بينهما حواجز , وتبدو هذه الحالة وكأنها في صورة حتمية نهائية غير قابلة لمجرد نظر العقل لها أو رؤيتها , والتعامل معها علي الإطلاق , إذ عليه الطاعة العمياء , والإستجابة بدينامية عقلية عبودية !!

ومن هنا فالأمر يحتاج بنظرة بسيطة غير مرتبكة إلي : " تفهم العلاقة بين الشخصية وبين القيم العالية علي الشخصية superpersonal , فالعلاقة بين الشخصية وبين القيم العالية عليها إما أن يتم في مجال الإحالة إلي الموضوعية , وهنا تنشأ في يسر عبودية الإنسان , أو يتم في المجال الوجودي , بعملية صعود وعلو , وهنا تتولد الحياة مع الحرية , فالإحالة إلي الموضوعية لايمكن أن تكون صعوداً وعلواً , إذ فيها يجد الإنسان نفسه في قبضة الحتمية , وتحت سيطرة اللاشخص . (7)

والأزمة تكمن دوماً في صيروة الخلط بين الموضوعي , والشخصي , ويقع الإلتباس في الأمرين , بإعتبار أنهما يتجليان في بعض الصور الشائهة في المسائل الدينية العلوية بقداستها الحتمية اللانهائية في قدسيتها , والمجهولة في مراداتها المقصودة بحسب إرادة تلك النصوص الظاهرة في بعض قراءاتها , الخلط هذا واقع بين الموضوعي وبين الشخصي , فالموضوعي هو النص الحائز للقدسية بحتميتها اللانهائية , والشخصي ظاهر بجلاء في منتجات عقل من يتعامل مع الموضوعي , سواء بالفهم المترجم للتفسير أو التأويل أو القافز علي الموضوعي , والشخصي في آن واحد لينتج ماهو تشريعي واجب التطبيق في صورة قانون منسوب للسماء العالية , خالطاً بين الفهم الشخصي للموضوعي , ومحاولاً إضفاء صورة الإلزام علي من هو خارج إطار الشخصي , ولم يتعامل مع الموضوعي بأي نوع من أنواع التعامل سواء تفسيراً أو تأويلاً أو فقهاً .

فالفارق بين الموضوعي , وهو النص المقدس , وبين الشخصي , وهو المتعامل مع النص , كفارق شاسع بين السماء والأرض , والأزمة تصير حين الخلط بين مراد السماء , ومراد الأرض .. بل والتعامل مع منتجات الأرض , علي أنها مرادات السماء ..

ومن هنا يمكن القول أن: " في العلو , يجد الإنسان نفسه في مجال الحرية , والتقاء الإنسان بما يتجاوزه يكون له طابع شخصي , وماهو عال علي الشخصية لايسحق الشخصية .

وهذا تمييز أساسي . فمن سمات الشخصية أنها لاتكبت ذاتها , ولاتكتفي بذاتها في الوقت نفسه , ثمة شيء آخر ضروري لوجودها , شيء أعلي منها , وبغير هذا لن يكون الشعور بالإختلاف والتميز والتغاير مستحيلاً .
بيد أن علاقة الشخصية بالآخر, حتي في أعلي مستوياته , ليست هي علاقة الجزء بالكل , بل إن الشخصية تظل في هذه العلاقة متكاملة , ذلك لأن علاقة الجزء بالكل علاقة رياضية , كما أن علاقة العضو بالجهاز العضوي , علاقة بيولوجية . (8) ومع ذلك فإن :" العلو لايعني أن الشخصية قد اصبحت خاضعة لكل أياً كان , وإنما العلو عملية دينامية , هي تجربة الإنسان الباطنة , التي يجتاز فيها كوارث وأزمات , ويعبر فيها هوات وفجوات , ويعاني فيها نكسات وانكسارات , ولكنه في هذا كله يذداد ثراء من الداخل لامن الخارج . فالعلو بالمعني الوجودي هو الحرية , كما أنه يفترض الحرية .. هو تحرر الإنسان من عبوديته لنفسه , غير أن الحرية بهذا المعني ليست أمراً يسيراً , ولكنها أمر شاق عسير , يتم من خلال التناقض الفاجع . (9) ومن أمثلة التناقض الفاجع , أنك في أحوال كثيرة قد تري ذاتك , في موقف سليم أمام الله , ولكن يشاهد المجتمع نفس الذات في حمأة الرذيلة , والأمثلة كثيرة علي هذا المنوال ,, والذي يؤسس لهذا التناقض الفاجع هو الوصايات الفردية والإجتماعية المؤسسة علي مفاهيم دينية يري أصحابها أنها تحوز القداسة , وكأنها هي في ذات مرتبة النصوص المقدسة !!

ثمة نصوص مقدسة تحمل في ذاتها روح الإنسان بما تحتاجه هذه الروح من قدر من التسامي والعلو الأخلاقي , وتنظر إلي الإنسان علي أنه يحمل بين جنبيه الشيطان والملاك برمزيتيهما في الخطيئة , والتسامي عنها , ومن ثم تستوجب هذه النصوص روح التسامح والعفو , وتعلي من شأنهما علي قدر علو النص ذاته , من غير إستمالة للعقل , أو إجباره , أو شل ديناميته الحركية , وفرض الوصاية عليه , لأن العقل والنص يمتزجان إمتزاجاً كاملاً في هذه الحالة الناظرة للإنسان علي أنه كائن حي يحمل روحاً وجسداً , وعقلاً طامحاً لإكتناه الأسرار , حتي سر الخطيئة , وسر الفضيلة , ثم يعاود المفاضلة بين السرين , ويحاول أن يخرج من حالة التناقض الفاجع !!
وهناك نصوص أخري تحمل ذات القداسة , وتنطوي علي ذات آمرة بلغة حازمة فاصلة نهائية , لاتحتمل أي تأويلات , أو تفسيرات , فهي تفسر ذاتها بذاتها , والوقائع تصدق هذه النصوص , أو تعرض عنها في حالة غيابها , إلا أن القائم بالوصاية علي ذات النص , هو من يجعل من ذاته قائماً بالوصاية علي من إرتضوا الإيمان بالنص موضوعاً, ومن ثم تندمج ذات النص , مع ذات الوصي بالنص , ليندمج الموضوعي بالشخصي , ويتحدان لينتجا مجتمعاً رافضاً للعقل , وكارهاً مبغضاً له , وفي أحيان كثيرة , تشن المعارك علي العقل بغية هزيمته , ودحره , أو قتله إن أمكن شر قتلة , والتمثيل به ليعتبر كل من لم يخضع لمن دمج ذات النص مع ذاته , لتكون له السيادة والهيمنة بالنص علي المؤمنين بالنص , وغير المؤمنين به علي حد سواء .. وكأن واقع الحال يحيط بك من كل جوانبك , ليأمرك بأوامر لايمكن لسوء الحظ أن تتجنبها , لأن عقلك الضاغط بسر العلو والتحرر هو من يجعلك سجين ذات المجتمع , وأسير عاداته وأعرافه وتقاليده العتيقة , التي ترقبك , وكأنك واقع في حمأة الرزائل , في حين أنك متصالح مع الله .. !!

الموروث الديني بإعتباره موروثاً إجتماعياً خاضعاً في تفسيره وتأويله لضابط اللغة , وإيقاع اللهجات المشتقة من هذه اللغة , يشكل قناطر عديدة لعبور المفاهيم التي أنتجتها الأعراف والتقاليد , والعادات الإجتماعية , بما تأثرت به من النصوص الدينية التي شكلت وجدان , ومشاعر , وأحاسيس مجتمع ما من المجتمعات في بيئتها الجغرافية المنتجة لسلوك متأثر بعادات وأعراف وتقاليد مجتمع مخالف ومغاير للبيئة الجغرافية , ومن ثم كانت اللغة , والجغرافيا , وتاريخية العلاقات الإجتماعية الموروثة هي المشكلة لعناصر فهم النصوص , والتعامل معها عبر وسائط اللغة , واللهجات , والجغرافيا والتاريخ الإجتماعي , والسيادة السياسية الإستبدادية , فحتماً للإستبداد السياسي , بما يمتلك من هيمنة , وسلطة سياسية تساندها عناصر القوة المسلحة المحافظة علي الكيان السلطوي الإستبدادي لها سلطان نافذ في تفسير وتأويل النصوص بدلالتها الخادمة علي تمكين سلطان الإستبداد والإبقاء علي سلطته في الحكم السياسي بدوافع , ونوازع دينية حتي وإن إضطرت إلي لي عنق النصوص لتكون خادمة بجدارة وامتياز للإستبداد , وهذا هو ما ساد في التاريخ العربي المليء بتفسيرات وتأويلات خدام الطغاة العرب بدعاوي إرتكنت إلي التفسير والتأويل للنصوص الدينية , الخادمة بمفاهيم فقهاء الموالاة للملوك والأمراء والسلاطين , طوال فترات التاريخ العربي الإسلامي ..
وبمراجعة غالبية التفسيرات والـتأويلات للنصوص الدينية التي تتحدث عن الحكم والسلطة بصيغ مستترة , وغير معينة لحالات الحكم سوي الحديث عن العدل والقسط , والمساواة بين الناس , إلا أن هذه التفسيرات والـتأويلات كانت علي الدوام تبرر للإستبداد بالحكم والإستمرار في السلطة , بل وتوريث الحكم للأبناء , وكل ذلك يتأتي إستجابة لمقولات عبر مشايخ الملوك والأمراء والسلاطين , وإلا مامعني خلو التفاسير وكتب الفقه من الحديث عن الممالك , والسلطانات والإمارات , ومدي شرعية تلك الأنظمة في الحكم الإسلامي , ومدي شرعية , ومشروعية توريث الحكم في تلك الأنظمة الإستبدادية , لأن هذه المسائل التي خلت منها كتب التفسير والفقه , تعبر بدلالات واضحة لاتحتمل الشك أو مجرد التخمين في مدي تبعية رجال الدين لأنظمة الحكم الشمولية الإستبدادية بخلفيات دينية , أعتقد يأباها الله , ويرفضها رسوله .

من النادر أن تجد بعض الفقهاء من المسلمين أن يقف في وجه الحاكم , ويعظه , أو يوبخ ظلمه , ويحاول الخروج علي طاعته في الحكم , إلا النذر اليسير , مثل العز بن عبد السلام , وأحمد بن تيمية , وكذلك أحمد بن حنبل في قضية خلق القرآن , تلك القضية التي أثيرت للإبتعاد بالمسلمين عن جوهر قضايا العدل والمساواة بين الناس , ليستمر مسلسل الإستبداد والطغيان بغطاء ديني يبرر له أفاعيله الإجرامية .

ولنلاحظ كم المغالطات الشرعية التي هيء لها علماء السلاطين , التي تذهب إلي حرمة الخروج علي الحاكم الطاغية المستبد , من أمثال :
" يحرم الخروج علي الحاكم , وإن أخذ مالك , وقتل ولدك , وجلد ظهرك , وهتك عرضك "
هذه أمثلة من ضمنيات الأمثلة التي كانت تبررللطغيان والفساد السلطوي بمقولات تأخذ شكل وطابع الفتاوي الشرعية , وهي أبعد ماتكون عن الشرع في أي صورة من الصور .

وهناك مقولات أخري تري : ظلم مائة عام أفضل من ساعة فتنة . ولا أري ماهي العلاقة الترابطية بين الظلم والفتنة , وهل الظلم الذي تضيع معه حقوق الناس , وتحميلهم بواجبات أعلي من الواجبات الملقاة علي عاتقهم , مما يؤدي لإشاعة الفتنة , وأليس الظلم يؤدي إلي الفساد , والفساد يؤدي إلي خلق دوائر متداخلة تعاون الإستبداد , والذي بدوره ينتج الطغيان , أو بمعني آخر أخف وطأة وأسهل معني , مؤداه أن الإستبداد السلطوي ينتج حتماً الطغيان , وان الطغيان تكون جميع منتجاته بأشكال وألوان الفساد , والذي تضيع معه كافة الحقوق , وتختل معه جميع نظريات الحق والواجب .

وهنا تتراكم الموروثات من التراث الديني , والعادات والأعراف والتقاليد لتخلق زخماً تراثياً تتوه بين ثناياه , ويصعب أن ترتكن لجنباته العديدة التي هي أصبحت تشكل أبنية تراثية عتيقة , لتشكل لك اللغة , بمفرداتها التي تكاد تكون لانهائية في معناها وتصويراتها , وتصورها , وسكونها وحركتها حسب حال من يمتلك ناصية اللغة , وغالباً هو من يتعامل مع النص , فيوظف اللغة للتخديم علي النص , أو يوظف النص للتخديم علي اللغة , وكلاهما اللغة والنص , والشخص , يوظف التراث والأعراف والتقاليد بمحاورها التاريخانية , ليشكل جغرافيا تشابه جغرافية مأمولة في إعادة بنيان الإستبداد والطغيان والفساد بمبررات ملتمسة للمشروعية في الواقع الإجتماعي والسياسي , بأدلة عقلية خائنة للنص , لتضفي مصداقية علي المستبد الطاغية , حتي ولو كانت في ظل المستبد العادل , لأنه لاعدل مع استبداد !

التحرر من الأسر

كم هي أمور مرعبة تسكن عقول غالبية المتدينين علي أساس عقيدي / إيديولوجي , وكم هوقدر الرعب الذي ينتاب الكثير من أرباب الإحتماء بالعقل في مواجهة الملوحين بالنص , ليس حال بروز أزمة من الأزمات الإجتماعية أو الإقتصادية أو السياسية , بل وحتي حال بروز أزمة كونية / طبيعية , متعلقة بالظواهر الطبيعية , فأرباب الإحتماء بالنص دائماً مايتم إلغاء ثمة دلائل أو شواهد علي مرجعية طبيعية للعقل , والأخطاء العقلية التي صنعت تلك الأزمات في مكان ما من الأرض التي يتسيد فيها أرباب الخلاص بالنص , لأن القاعدة لديهم : " أنه لا إجتهاد مع نص " أو " لا إجتهاد مع وجود النص " , وبهذه القاعدة المبتدعة يتم إلغاء الدور العقلي كاملاً , ويبزغ فقط دور العقل الديني المحتمي بالنص , سواء بتفسير أو تأويل , يكون مناطه علاقة المفسر أو صاحب التأويل بالنص وفقط , ليتم الإلتصاق بين التفسير أو التأويل بالنص سواء بسواء , وكأنهما صارا متوحدين في الموضوع والذات , ويظهرها الشخصاني في علاقاته الفردية مع المجتمع وكأنه شاهراً سيفاً بالوصاية علي المجتمع , ومن يقع تحت دائرة المخالفة يتم توقيع الجزاء المناسب حسب رؤية المفسر والموءول للنص , وتبدأ من التعذير حتي القتل , حسب المقياس أو المسطرة التي وضعها شخص المتعامل مع النص الديني في إلغاء لأي دور من الأدوار الإجتماعية أو السياسية أو حتي الدينية الأخري بمفاهيمها المغايرة في مجتمع الأغلبية المذهبية ضد مجتمع الأقلية المذهبية الأخر , أو المعتقدات الدينية المغايرة لمجتمع النص السائد , وهنا يتوجب الوقوف عند عدة محاور لبيان أزمة الأسر , وأزمة الخلاص من الأسر بالتحرر من ربقة إستعباد شخص المتعامل مع النص , وهذا يتبدي في أمور :
أولها : الله / الخطاب الإلهي .

الخطاب الإلهي يبدأ بداهة من المؤمنين بالله بإعتباره غيباً مكتمل الذات والصفات , ومنزه عن الخطأ والنسيان , ويمتاز بطلاقة القدرة والمشيئة الإلهية المعجزة والتي فوق كل مشيئة , واعلي من كل إرادة , ومن ثم يأتي الخطاب الإلهي ممثلاً في الوحي , علي هذه الصورة الكاملة , حاملاً كل ماتنطوي عليه الذات والصفات الإلهية من الجلال والقدسية والكمال , فلا يعتري الوحي نقص أو قصور علي المطلق , وهكذا يؤمن ويعتقد المؤمنين بالله وبالوحي الإلهي , ومن هنا يأتي الوحي حاملاً صفات االعلو والرفعة , وصفات القوة والقدرة , وصفات التميز عن كل ماهو بشري , وصفات التسيد والطلاقة , لأنه بإمتداده السماوي عبر منشيء النص ومبدعه , ويمتاز الوحي بكل الصفات الإلهية التي لا تضارعها أي صفات ممن نزل إليهم هذا الوحي , ومن ثم وجبت الطاعة والإمتثال لمنطوق النص بحرفيته النصية من غير تبديل أو تأويل أو تفسير حيث طلاقة القدرة هي الآمرة والناهية حسب حدود منطوق النص في عباراته القطعية الثبوت أو الظنية منها , وهنا يكمن السر الأعظم في كنه النص , وكينونته الإلهية بوصفاً وحياً , يضمر مراد الله وغايته من الوحي حسب كل حالة من الحالات التي نزل الوحي من أجلها , في بيئة معلومة , وأشخاص معينون , سواء بالذات أو بالصفات الحميدة أو السيئة التي جاء الوحي للنهي عنها أو تمجيدها والإعلاء من شأنها , أو لرسم خارطة أسلوبية لنشر نهج الوحي بإعتباره يمثل منهجاً حياتياً يبتغي الرفعة والسمو للمؤمنين به , وبإعتباره معاملاً حضارياً إنسانياً لغير المؤمنين به , وهنا يبدأ بيت القصيد :

حيث ثمة فهم مجرم عن قصد لمراد النص , يتبدي في الإستعلاء بالنص علي غير المؤمنين به , والظهور بمظهر لاحضاري , تغيب معه مفاهيم الإنسانية التي أتي الوحي لإقرارها بداهة ومن أول وهلة حال كون الوحي ينادي بالحرية , ويأمر بالعدالة , ويحرض علي المساواة , وإذا كانت هذه بديهيات النص , فلماذا الإستعلاء بالنص علي غير المؤمنين به , عبر مفاهيم إجرامية خالقة لأجواء من الكراهية والبغض والتحقير والإذدراء والرفض بالمطلق والذي يصل لحد التصفية الجسدية بإستباحة الدم والمال والأعراض , وكأن الوحي جاء ليتصادم مع غير المؤمنين به بطرائق دموية تعزز فقه الإقصاء, والجراح والدم , وهكذا إكتملت كافة أركان الجرائم ضد الإنسانية تحت مسميات فهم النص , وتفسيره وتأويله , أو البحث عن مراد الله وغايته من وجود الوحي , مع إقصاء متعمد للبعد الإنساني الحضاري القابل لغير المؤمنين بالنص , بإعتبار هذا البعد هو المعامل الحضاري الإنساني الغائب في أغلب الأحوال !!

الله وسيكولوجية النص

مازال الجدال مستمر حول الغاية من وجود النص الذي ينقسم في حد ذاته إلي أمور خاصة بالعقيدة الإيمانية , وكذا بالعبادات , والمعاملات / الشريعة , وهذه الثلاثة أقسام هي عماد أي دين من الأديان السماوية الملتحمة بالوحي , وهنا توجب الوصول بنوع من الإجتهاد البشري لاتعرف علي العلاقة الإلهية بين الله وبين النص ذو الشأن الإعتقادي , والنص التعبدي , فثمة علاقة غيبية آمرة / ناهية , للناس بصفة عامة لإتخاذ هذه النصوص مأخذ الجد في الإيمان بمبدع النص , والتعرف علي ذاته وصفاته عبر علاقة جدلية تنتهي إلي قبول النص أو رفضه عبر الوسيط الأول للوحي / جبريل , والوسيط الثاني المتلقي للوحي / الأنبياء والمرسلين , وهذا التعرف يأخذ طرائق الإيمان والتصديق من أول وهلة , ويأخذ طرائق الإعجاز وخوارق العادات فيما يسمي بالمعجزات السماوية التي تعزز الإيمان لأتباع الوحي , أو لتأكيده لغير المؤمنين به علي السواء في مرحلة تاريخية معينة من تاريخية الوحي حال إلتحامه بمصالح الناس علي الأرض , والتعامل مع عقولهم , ومشاعرهم التي تعتمل وتنتجها نفوسهم ..
إلا أن الله والنص هما مضمونان متحدان لاينفصلان , فإذا كان الخلود من صفات الله , فكذلك النص الذي هو كلام الله , يتسم كذلك بالخلود , والله كذلك يتسم بالقداسة , والطلاقة اللانهائية , فكذلك النص , والله يسع الأزمنة والأمكنة , فكذلك النص , والله وحده يختص بالنص , الذي هو الوحي , ومن ثم يختص بمراده والعلم بمقصود النص , ومرماه وغايته , وكل من هو دون الله ليس لديه علم بهذه المكنونات , إلا من ارتضي من رسول وفقط ..

النص / الوحي , وجبريل :

أبدع الله الوحي وجعله في خطاب مقدس ينطق عن ذات وصفات الله , فيما أرتضاه للناس من الإيمان به , والتصديق به عبر الوحي بواسطة جبريل , بما يحمله من رسالة الوحي للمرسلين من خير يشتمل كل منظومة المساواة والعدل والتسامح , سواء للمؤمنين بالوحي , أو لغير المؤمنين به , وكان الدور المنوط بالأمين جبريل هو توصيل رسالة السماء إلي الأرض عبر الأنبياء والمرسلين , ليتولوا بأنفسهم توصيل نفس الرسالة بما يحمله مضمون جبريل , إلي الناس أجمعين , ومن يصدق الوحي بإعتباره غيب , حقيق به أن يكون من المؤمنين , ومن لايؤمن بالوحي , هذه حريته المطلقة , وهذا حقه في القبول والرفض من غير لائمة , ولا عتاب , ولا لوم أو توبيخ , إلا إذا كان الغير مؤمن بالوحي يأخذ طريقاً من طرق الحرب ضد المؤمنين بالوحي .. وهذا ما ذهب إليه الوحي في مواطن عديدة مؤكداً علي ذلك ..

وعلي ذلك ينحصر دور جبريل أمين الوحي , أو أمين سر السماء إلي الأرض , في توصيل رسالة السماء وفقط بما تحمله من قراءة تحمل معها مراد السماء , وحسب كل واقعة إيمانية / إعتقادية , أو فريضة من الفرائض التعبدية المنوط تحقيقها إرضاء لله مبدع الوحي من أجل سعادة الإنسان المؤمن , ورعاية كافة حقوق الغير مؤمن بالوحي , وهنا تأتي رمزية جبريل في الرسالة التي يحملها ويقوم بتبليغها حسب المضمون الإلهي وفقط من غير تفسير أو تأويل منه للأنبياء والمرسلين , إذا ليس هذا من شأنه , ولا من شأن الدور المنوط به حسب مضمون رسالات السماء ..

وكان دور جبريل لايتعدي حدود التبليغ حسب كل واقعة تتأزم معها علاقات الأرض , وتعجز مفاهيم الأرض وتقصر أفهامها وتصوراتها , وتكون في أمس الحاجة للسماء درءاً للقصور والعجز , أو درءاً لفتنة , أو نائبة , وكان يأتي جبريل بصفته أميناً للوحي حاملاً النص للخروج من الأزمة الماثلة , وقد تكررت العديد من الأزمات التي حفلت بها الكتب المقدسة , وكان المخرج لها هو الوحي ..

ومن هنا لم تتداخل نفسية جبريل مع نفسية النص علي الإطلاق , ولم تختلط به , وكأن ذلك التداخل من المحرمات عليه , لأنه مبلغ لرسالة السماء وفقط , ويقصر جهده عن فعل التفسير والتأويل للوحي علي المطلق .. لأن ذات جبريل غير ذات الله , ونفسية جبريل من المحرم عليها أن تتداخل مع نفسية النص التي هي ذات الله المقدسة , والتي كلامها مقدس في ذاته , لأن كلام الله هو من إعجاز الله , وما علي جبريل إلا إرسال الرسالة , وماعلي الأنبياء والمرسلين إلا تبليغ هذه الرسالة .. ليؤمن من يؤمن بها , ويكفر من يكفر ..

النص / الوحي , الأنبياء والمرسلين :

تبدأ المرحلة الثانية لتداول النص / الوحي , مع الأنبياء والمرسلين , حيث المنتج الإلهي بقراءته العلوية القدسية المنزهة , وتليها قراءة جبريل علي الرسل , وهنا تبدأ مرحلة تفاعلية مع عالم الواقع , العالم الأرضي بترهاته , وأكاذيبه وغشه وخداعه ونفاقه , وصراعاته الدنيوية من أجل المصلحة , سواء المصلحة الفردية أو الجماعية بمفرداتها البسيطة أو المركبة , وهنا يأتي أول تعامل مع النص / الوحي , ليظل النص وحياً في علاقاته مع الرسل حيث علاقة الترابط والتضامن والتصاحب علي الدوام بإندامجها الذي يكاد يري بمنظور يحسب معه الأمر علي أنه توحد بين مراد الله , ومراد الرسل في نص / وحي , بلا أدني مصاعب في فهم مراد النص / الوحي , إذ أنه نزل منجماً علي وقائع حياتية ملغومة بالأزمات المعيشية , وتدابيرها الحياتية , وصراعاتها من أجل أن يتم تفعيل النص / الوحي , بصراعاته مع الواقع في ظل مجتمع الأنبياء والمرسلين , حيث الإتباع من غير جدال أو نقاش , وحيث الأمر لايحتاج إلي ثمة تفسير أو دلالة تأويل , في صورة بسيطة مؤداها : ماعلي الرسول إلا البلاغ !!

ومرحلة الإبلاغ أو التبليغ أو توصيل الرسالة تأتي في مراحلها الأولية لتكون بمثابة تعريف بالإيمان والإعتقاد الديني بغيبياته المطلقة بلغة آمنة ساكنة هادئة مطمئنة, إلي أن تصطدم الرسالة بمعوقات الإبلاغ والتبليغ , ومن هنا تتأتي بدايات جديدة تحمل في مضامينها لغة جديدة حينما تصبح للمؤمنين بالوحي جماعة متعاظمة العدد والعتاد ممتلكة لعناصر القوة , وتنشأ صراعات من أجل الحفاظ علي تلك الجماعة المؤمنة , لتتشكل مظاهر الصراع من أجل البقاء , والحفاظ علي هوية الجماعة , ويكون الصراع مختلطاً بالمصالح والعقيدة في آن واحد .



مراجع الفصل الأول


(1)( المستشار محمد سعيد العشماوي - معالم الإسلام , صـ 9 , الطبعة الثانية , 2004 , الناشر الإنتشار العربي بيروت – لبنان )
( 2 )( المرجع السابق صـ 9 , صـ 10 )
(3) (الدكتور محمد عزيز الحبابي , من الحريات إلي التحرر , صـ 30, صـ 31 , دار المعارف , مكتبة الدراسات الفلسفية , القاهرة , 1972 )
(4) (د/ عصام عبد الله , رهان الحداثة ومابعد الحداثة , صـ 31 , الدار المصرية السعودية للطباعة والنشر والتوزيع- القاهرة , 2006 )
(5) ( المستشار محمد سعيد العشماوي , معالم الإسلام , صـ 10 , مرجع سابق )
(6) الدكتور عصام عبد الله , رهان الحداثة ومابعد الحداثة , صـ 31 , صـ 32 , مرجع سابق )
(7) فؤاد كامل , الشخصية بين الحرية والعبودية , صـ 20 , سلسلة كتابك ( 140 م) دار المعارف القاهرة
(8 ) فؤاد كامل , مرجع سابق , صـ 20 , صـ 21
(9) فؤاد كامل , مرجع سابق , صـ 21

*هذا هو أحد فصول كتاب لم ينشر بعد , تحت عنوان "نفسية النص " , كنت قد آثرت أن ينشر في كتاب ورقي مطبوع , ولكن تفجيرات مديرية أمن الدقهلية بالمنصورة , بمصر , جعلتني أنشر هذا الفصل من الكتاب . وسأعمل جاهداً لنشره في كتاب ورقي في القريب .




#محمود_الزهيري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هكذا يعتقدون .. سعادة السماء بالعنف والدم والإرهاب !
- الضمائر المخنثة وادعاء الحياد
- الفاشيات تصنع دساتيرها !
- هل لديك ثوب آخر !؟
- رسالة دم
- عتامة
- عصفور الفصل الخامس
- إمرأة .. طفلة .. دروس أطفال التنظيم
- حماة الله .. بسيف الله
- جيسى بولس .. وآلهة القتل
- مساومات الجنرالات مع العصابات الدينية
- الأقباط والعقيدة الأمنية الموروثة
- فضيحة
- رائحة الموت
- الشيطان في وطني !!
- وطن الأحزان
- مأسسة الإرهاب و شماعة الخطايا والجرائم
- تحية للبرلمان الهولندي وهنيئاً للأقباط
- من جرائم أدعياء الدفاع عن الله
- حزب الدستور , والدخلاء علي الحياة


المزيد.....




- “نزلها لطفلك” تردد قناة طيور بيبي الجديد Toyor Baby بأعلى جو ...
- تقرير فلسطيني: مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى
- مصر.. هيئة البث الإسرائيلية تكشف اسم رجل الأعمال اليهودي الم ...
- كهنة مؤيدون لحق اللجوء يصفون حزب الاتحاد المسيحي بأنه -غير م ...
- حجة الاسلام شهرياري: -طوفان الاقصى- فرصة لترسيخ الوحدة داخل ...
- القناة 12 الإسرائيلية: مقتل رجل أعمال يهودي في مصر على خلفية ...
- وزيرة الداخلية الألمانية تعتزم التصدي للتصريحات الإسلاموية
- مراجعات الخطاب الإسلامي حول اليهود والصهاينة
- مدرس جامعي أميركي يعتدي على فتاة مسلمة ويثير غضب المغردين
- بعد إعادة انتخابه.. زعيم المعارضة الألمانية يحذر من الإسلام ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمود الزهيري - نفسية النص _ الفصل الأول _الموروث وأسر العقل