أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - جدلية الانفصال والاتصال في المجموعة القصصية -سوق الجمعة - للروائي -فؤاد قنديل-















المزيد.....



جدلية الانفصال والاتصال في المجموعة القصصية -سوق الجمعة - للروائي -فؤاد قنديل-


أماني فؤاد

الحوار المتمدن-العدد: 4276 - 2013 / 11 / 15 - 18:21
المحور: الادب والفن
    


بسم الله الرحمن الرحيم
*************
جدلية الاتصال والانفصال في مجموعة " سوق الجمعة"
**********************
د/ أماني فؤاد
************
قدّم الروائي القصاص " فؤاد قنديل " في مجموعته " سوق الجمعة" (1) كياناً دافقاً بالحياة، كياناً يحكي ويصور شريحة طبقية من شأنها أن تعطي انطباعاً حميمياً لطائفة عريضة من الشعب المصري.
وتعامل الكاتب – فيما أرى- مع " سوق الجمعة" بصفته مركز مجرة، وقوة جذب محورية ، وقد توزعت قصصه في المدارات التي صنعها الروائي حول محور عالمه الذي شيد بناءه باتقان ، ولقد تراوحت مجموعته قرباً أو بعداً عن هذا المركز الشمسي المحوري "سوق الجمعة" ، بحسب انخراط الشخوص في هذا الكيان المكاني، وبحسب انغماسهم في معطيات هذا التكوين المجتمعي الذي يؤثر ويتأثر فيمن يتعاملون فيه .
1- بيت النار
2- المصيدة
3- شطة
4- ثمر الجنة
5- محمد جرجس
6- ندى الورد
7- يمامة خضراء.
8 زنجباري.



(1) فؤاد قنديل : سوق الجمعة ، كتاب اليوم ، 5134، القاهرة،2008م

قرب المسافة أو بعدها عن هذا المركز تناسب مع نوع المعاملات مع هذه البؤرة المكانية، تتوافق أيضاً مع ثقافة الشخوص وطبائعهم، واختلاف تكوينهم السيكلوجي والبيولوجي.
ركز الروائي في تشكيله الفني على محاور فكرية أعلت من قيمة إنسانية رفيعة المستوى والدلالة ، وهي الإرادة البشرية، لكنه وضعها في حالة توازن مع المنظومة الحياتية الكلية، التي تتحكم فيها الأقدار في تسيير حياة البشر ، دون فاعلية لإرادة الإنسان حتى وإن توافرت.
هذا وقد تعامل الروائي مع عنوان مؤلفه على مستويين دلاليين، فبالإضافة إلى كون سوق الجمعة هو هذا المكان المتعين، بمحمولاته الرمزية الأكثر اتساعاً، تعامل الروائي مع يوم " الجمعة" بالصفة الزمانية، وعدَّه قوة جذب ودفء ، قوة إخصاب ثرية، ولقد أسهب الروائي في مقدمة المجموعة في تبيان عشقه لهذا اليوم في أسلوب عذب المشاعر، وفي لباس ثقافي ديني وفلسفي.
ولقد أوضح الكاتب مميزات هذا اليوم في إشباعه لحواس الإنسان جميعها المادية والمعنوية ( ص5-7) وعده سكناً ، سكناً للروح ، وللآخر، وللآخرين بصفة شاملة.
هذا وقد عبرت " الجمعة" وكانت رمزاً لجوهر بناء هذه المجموعة القصصية وبناء كل قصة على حدة، القصص جميعها قائمة على العلاقة بين الرجل والأنثى ، احتياج كل منهما إلى الآخر ، إلى هذا السكن والأمان والتواصل ، كما تبرز علاقة الاحتياج والتواصل والتكامل هذا في القصة الوحيدة التي لم تعتمد على ثنائية الرجل والمرأة، في قصة " محمد جرجس" ، وفيها يتمثل احتياج الكل للفرد، وعطاء الفرد للمجموع، علاقة المحبة والاتصال بين المسلم والمسيحي وحاجة كلٍ منهما إلى الآخر وهكذا تصبح دلالة الجمعة هي الجمع وهي لم الشمل وهي التواصل والسكن والأمان.
تعد المجموعة القصصية " سوق الجمعة" مجموعة من القصص المنفصلة، في كل قصة على حدة يتناول القصاص إحدى شخوصه الرئيسية ، التي في مجالها تتشكل القصة واحداثها، السردية الخاصة بها.
في نفس المجموعة يبدو الاتصال فيما بين القصص ، فهناك خيوط عامة فنية تربط فيما بينها ، هناك خيط سردي ينظم حبات العقد، أو قوة جاذبة تجعلهم في مدارات تجمعهم هذه القوى المركزية.
نجح الروائي في جعل مجموعته يتنازعها في تناغم جدلية الانفصال والاتصال في ذات التشكيل ، وذلك من خلال بعض التقنيات التي جاءت تلقائية وجعلت لهذه المجموعة هذه الطبيعة الروائية التي تعتمد البنائية المركبة.
تبدو في كل قصة ظلال من القصص الأخرى ، فتظهر الشخوص الرئيسية في بعض القصص ، ثانوية في قصص أخرى ، مثل أن تظهر بشاير وتوحه من قصتي " شطة" و "بيت من نار" في قصة" ندى الورد" الأخيرة ، أو ظهور ابن " محمد جرجس" في قصة يمامة خضراء بكعب محني ، أو ظهور الخواجة في قصة " ندى الورد"
2- تظهر ظلال الأحداث من بعض القصص في القصة محور السرد كخلفيات تؤثر على مجرى الأحداث ، وتؤثر على الشخوص مثل ما حدث في قصة " المصيدة" عندما تأثر " المفتح" بموت رضا الحانوتي زوج مودة في قصة بيت النار، عندما غابت محسنة وهو لا يعرف مصيرها وعدّ هذا نذير شؤم.
3- يظهر تأثير الوحدة المكانية المتمثل في هذه المجموعة في " سوق الجمعة" وهنا يظهر تمكن الروائي من توظيفه لثبات المكان ، بماله من خصائص وصفات معينة، شخوصه ، واختلاف انتمائهم لهذا السوق ، وبعدهم أو انغماسهم في معتركه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في صورة شاملة.
4- كأننا بصدد رواية متعددة الأصوات ، أو مجموعة قصصية تمد كل قصة فيها بأحد ذراعيها لتحتضن الأخرى وتحنو عليها؛ لتتكتل من أجل تخلَّق صورة كلية ذات سمات خاصة وفارقة لها عن بيئات أخرى.
5- يؤلف بين هذه المجموعة ذات فنان عذبة لها قدرة التركيز على الجزء في الكل ، وتسليط شعاع مكثف من الضوء على الجزء ليستبطنه ويخرج مكنوناته ، هي نفس الذات الفنية التي تمتلك الرؤية المحيطة الشاملة التي تؤثر في أجزائها كل على حده وتحيط بالقوى الخارجية وتأثيرها على الأفراد ، هذه العلاقة التبادلية التي ترى الجزء في المجموع وتأثير هذا المجموع في إجزائه هي ما يميز هذه المجموعة، هذه الذات المبدعة التي تمتلك روحاً سمحة تستطيع أن تخلَّق شخوصها بطبيعتهم الإنسانية الحقيقية دون تعالٍ عليها ، بل تقدر نوازعهم وتلتمس لهم الأعذار وتحنو على أقدارهم ، وترصد نوازعهم وتلتقط أجمل ما فيهم وتبرر لهم هناتهم، هذه الكتابة عالية التسامح لا يمكن إلا أن تكون إشعاع نفسي على قدر عظيم من الإنسانية والجمال ، قادرة على احتواء الآخرين ، على دراية بطبيعة البشر.
6- تراوح السرد في المجموعة القصصية بين السرد الذاتي والسرد الموضوعي ، لكن الغلبة كانت للسرد الموضوعي بنسبة 5:3 من القصص . وبالرغم من استخدام ضمير المتكلم "أنا" في السرد الذاتي في ثلاث قصص ، إلا أنها مجرد شخصية من شخصيات القصة ،"أنا" تضفي على السرد الموضوعية التي يتطلبها تصديق القصة ، وتبتعد عن التصاقها بالكاتب تماماً، لذا فالسرد الذاتي هنا ينضم إلى السرد الموضوعي ، ويطيب لي هنا أن أذكر ما ذهب إليه "تودورف" في هذا السياق" ضمير الغائب"( السرد الموضوعي) هو علاقة على ميثاق واضح بين الكاتب والمجتمع، إلا أنه أيضاً ، بالنسبة للكاتب الوسيلة الأولى للاستيلاء على القارئ بالطريقة التي يريدها، ضمير الغائب إذن ، أكثر من تجربة أدبية، وهو فعل بشري، يربط الإبداع بالتاريخ أو بالوجود.(1).
تجلت قدرة الروائي في تلوينه السردي لكل قصة على حدة في هذه المجموعة وتنوعت الطرق السردية بما يتناسب مع طبيعة شخوصه وثقافتهم ووظائفهم المختلفة.
وكان هناك انفصال بين طريقة سرد ولغة كل قصة بما يخدم طبيعة تنوع الأجزاء والإيحاء بالجو العام لكل شخصية ، ظهر الاتصال في انتمائهم جميعاً لهذا السوق كل على طريقته وقدره ، يظهر الاتصال أيضاً في أن السردية العامة واللغة الضامة لكل هذه المجموعة هي للسارد الرئيسي المتقنع بهذه الأقنعة الذاتية أو الموضوعية وراء شبكة متباينة من الضمائر .
(1) رولان بارت : درجة الصفر ، ترجمة محمد برادة ،ط3 ، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، الرباط 1985، ص53.
(2) عبد الله رضوان : البنى السردية(1) نقد القصة القصيرة ، ط2، دار الكندي للنشر والتوزيع ، عمان 2002م،ص8.

- في قصته " ثمر الجنة" يعتمد السرد على عين راصدة تتتبع مظاهر السوق، وترصد أوصاف وملامح تفصيلية لكل السلع المعروضة بالسوق ، كما ترصد للنماذج البشرية لقاع المجتمع المصري. يتوافق هذا السرد الذي يعتمد على الوصف مع شخصية القصة، فبطلها باحث أكاديمي يسجل لرسالة الدكتوراه اعتاد تدوين الملاحظات ، ورصد الفروق الدقيقة في علم الاجتماع ، ولذا تنتقل عينيه لتحيط بالمشهد الكلي في رؤية واسعة.
يقول :" تابعت البشر من الزبائن الذين يقلبون في المعالق والسكاكين والأجهزة القديمة والملابس والتوابل وادوات الزينة والملاءات والنجف والأحذية والنظارات حتى بلغت منطقة فسيحة لكنها محتشدة بالبشر" (ص13)، لذا وضعها القصاص في أول المجموعة ليعطي تصوراً عن هذا الكيان الذي يتناوله " سوق الجمعة" ولقد رسم الكاتب شخصية "ثمر الجنة" بتلك المرأة الشهية، الذكية مكثفة اللغة وعميقة الفكر الفطري ذلك في وصفها لزوجها الأكاديمي بأنه قشرة " (ص19)، يقول عنها زوجها " وكما علمتني السمك.. علمتني الحياة.. وعلمتني احترامها" (ص20).
- تعلو اللغة السردية في قصة يمامة خضراء بكعب محني لنلمح لغة مضفورة ما بين حسِ صوفي متعالي إزاء الأحداث والأشياء والطيور والشخوص، وحسِ فلكلوري شعبي ينزع بدوره إلى صوفية خاصة بالطبقة الوسطى للشعب المصري ، مع حسِ شبقي على استحياء، لكنه حسِ معبر عن تناول الرجل للفتاة التي اعجبته في السوق، مشاعر تنزع في أوصافها إلى الحسية لكن في رقي ودون إبتذال ، يقول " التايير مفتوح من أعلى قليلاً بحيث يسمح للثديين أن يتنفسا ويسمح لنظرات العابرين أن تطل على الهضاب المرمرية ذات اللون الأبيض المحمر الذي يستطيع أن يكوي وأن يلدغ.." (ص28)، وترتكز الانطباعات الأولى في هذه الفكرة على الحسية والإثارة لكونه لقاءً أولياً متباعد بين شاب وفتاة.
تقول الفتاة في نهاية مفتوحة "...كان الماكر قد قضى علىَّ...لكني تذكرت السيدة عائشة ...جارتي الملهمة ...قلت في أعماقي وأنا أشعر بالنشوة: بركاتك يا ستنا" (ص33).
يشير الروائي من خلال السرد إلى الاختلاف بين تلقي الرجل للمرأة ، وطريقة تسلل الرجل إلى قلب المرأة ، آسر وجدان الفتاة كلمته الحانية لها" أرجوك" (ص31) بعد تسلسل حلقات قبوله في نفسها على السردية. تقول :" ما كل هذا الحنان في الطريقة التي نطق بها الحروف..هذه الدنيا التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، تساوي أغلى كنوز الأرض إذا كان رجالها بهذه الرقة" (ص33).
في هذه القصة تبدو الانتقالات السردية بين صوتي القص غائمة، وأتصور أن الروائي تعمد هذه الضبابية السردية في صفحات القصة الأولى، وبدا كأنه يوفر لشخوصه طقس قدري خاص ، تتصاعد فيه الأدخنة وتهيم الأصوات مع روائح البخور وتتغير الظواهر الطبيعية دون سابق إنذار، يقول :" فجأة وبدون أي مقدمات، وبرغم الشمس المشرقة التي تفرش الدفء على الجميع ، توترت السماء وتقلبت أمعاؤها وارتجت ثم انهمر المطر"(ص30). هذا الحدث الطبيعي استهل قصة حب ، وخلق مبرر تلاقٍ ، ستنهمر الأحداث بعده للأشخاص وفي أفق متلقيه وقرائه.
في قصته " زنجباري" تغتسل اللغة وترتقي ، وتتطيب بأحدث الروائح الباريسية والأسبانية فالسرد على لسان سفير مثقف فقد حبيبته وشريكة حياته "سناء" ، وهنا تظهر أسماء الشخوص في القصص ، بعد أن تغاضى عنها الروائي في القصتين السابقتين.
تتجمع في سردية هذه القصة عواصم العالم، عن طريق الصور والتذكارات والتحف والذكريات لتصب جميعها في سوق الجمعة بعد حادثة سرقة انتهت بموت سناء زوجة السفير، تنصهر الأماكن " واشنطن ، الهند ، اسطنبول ، باريس ، فينسيا ، مدريد ، مدينة بسيون، كوالا لمبود..وغيرهم من البلدان، في قص سريع يلتقط نتف من الذكريات المرتبطة بالأشياء والتحف والتذكارات والصور، ليصور قصة حياة زوجين في فترة زمنية ممتدة.
يتحول المكان في هذه السردية إلى أنهار من الذكريات الدافئة التي يستدعيها الدبلوماسي " مراد" ليصنع منها واقعاً بديلاً ، وقت أن كانت سناء معه- ليعيش فيه يقول:" لست بحاجة إلى أن أتذكر بأن من ذهب لا يعود ، لكنها يجب أن تعود وتبقى طوال حياتي على الأقل لتؤنسني بروحها الأثيرية وشعورها الملائكي .." (ص37).
ابتعدت في هذه القصة اللغة الحسية المادية لتشيع لغة وجدانية عالية الشفافية ، فالحبيبة قد فارقت الحياة، كما أن طبيعة جمالها وتأثيرها في روحها ورقتها وإنسانيتها ، هذا بالإضافة إلى الرقي الثقافي والمجتمعي للسارد الذي تمحورت علاقته بسوق الجمعة في كونه قد استرد بعض ما فقده في حادث موت زوجته بشرائه مرة ثانية من السوق و- على ضيقه بالمكان-، ولذا اعتبرتها في تصنيفي للمجموعة أبعد القصص الثماني عن المجموعة، يقول السفير :" حاول أن ينتزع من شخصيته تاريخه ومنصبه وعائلته ومركزه الاجتماعي وحساسيته تجاه كل ما هو شعبي ..عليه ان يمضي بحثاً عن ثروته وأن ينهي المهمة بأقل خسائر ممكنة (ص44.43).
تتجلى قدرة الروائي في إدراك التنوع البشري والغوص في مفردات كل طائفة على حدة في تصويره لعلاقة السفير بالأشياء ، هذه العلاقة التي تفارق فيها الأشياء مكنونها المادي إلى وجود أدبي ووجداني في ذاتها ، وفي معنى وجودها ،وفي مصدر وجودها ومن حركة تبادلها بين البشر ، تكتسب كياناتها التجريدية الإنسانية الراقية ، وتغادر أبعادها الفعلية المتشيئة.
تصبح لغة السرد أكثر تحديداً وموضوعية في قصته " محمد جرجس" ، وينزع فيها القصاص إلى ثبت الأعداد وإحصاء الأشياء وبيان تحديد الأرقام بما يتناسب مع الشخصية الرئيسية في القص " محمد جرجس" أو الخواجة، فهو هذا الصعيدي المثقل بالثأر، الهارب من بلده، عديم الامكانات ، وهو ذاته الذي يشيَّد هذه المؤسسة المالية بالغة الثراء والاتساع بإرادته وتوظيف كل ما يقع تحت يديه ليحوله من تراب إلى ذهب ، يقول القصاص راسماً لشخصيته :" لفتت نظره فكرة الكراكيب . ينحني ويلتقط كل شيء متروك في العمارة أو في الشارع ..اضطر للسير شبه محني عيناه تحدق في الأرض التي تحتضن كل شيء ساقط أو منسي" (ص54).
هذه اللغة لا تتسم بالجفاف أو التقريرية ؛ لعزف الكاتب على جدلية الثنائية المستمرة " القدر والإرادة البشرية" والذي تتشكل منه مظاهر الحياة على الدوام، فعلى الرغم من قدرة الخواجة على العمل وتنظيم هذا الكيان المادي المتشعب ، وبرغم مظهره الذي لم يشر لكل من حوله بهذا الثراء المتسع الذي لم يعرفه الناس إلا بعد رحيله ، إلا أنه كان شديد الإنسانية ، يساعد ويحدب على كل من هم حوله، ممن يحتاجون إلى سند أو مساعدة مادية، يقول :" كل السوق أحب الخواجة لأنه رجل طيب ومستعد دائماً لمساعدة من يحتاج ، وفي الوقت ذاته قليل الكلام ، كثير الفعل ...لا يؤذي أحدا ودائم الابتسام.."(ص59).
قاعدة البيانات التي يحصلها الخواجة من تأمله في أحوال السوق ،وطرق المعاملات في البيع والشراء، بالإضافة إلى إيمانه بالعقل البشري، وإرادة الإنسان ،وغربلته لكل ما توارثته الأجيال من تراث شعبي ، عن طريق الأمثال وإعادة تفنيدها ، واستناداً على " فلسفته التي تقوم على وضع المليم على المليم يصبح بنكاً.." (ص46)، جعلته المنظم والمتحكم في نصف مقدرات " سوق الجمعة" وغيره من أنشطة، نفس ذات الأسباب السابقة لشخصية القصة جعلت الكاتب يقدم بانوراما متكاملة للسوق" سوق الجمعة" في عرض سردي ذكي يحتمل في تكويناته الفنية والفكرية بانوراما للحياة في مفهومها الأكثر اتساعاً ، وفي توافق ما بين الصياغات السردية وخصوصية هذه الحالة المتفردة للسوق وأناسه وشخوصه ومسيرتهم الخاصة ، يبرع الكاتب في الأسلوب المصري الدفئ والحميمي في المعاملات (ص58) حتى إنه يصنع شبكة من خيوط شفيفة تشيع دفئاً على القص ووعياً إنسانياً عميقاً ورحيماً في ذات الوقت ، كما يقدم الكاتب العلاقة الإنسانية الجميلة بين المصري المسلم والمسيحي في سلاسة سردية غير متكلفة في متن السردية التي ترسم شخصيته الرئيسية وتؤثر حتى في اسمه " محمد جرجس" ، وتنطبع شخصيته بهذا الوعي وهذه السماحة حتى تؤثر في سيرته كلها .
في قصصه " شطة ، المصيدة ، بيت النار" يلمس الروائي بأنامله نماذج الشخوص الحقيقية التي تصنع هذا الكيان العشوائي ، الثري ، كما انها في ذات الوقت تتشكل وفق معطياته، وتنصهر ملامحها تبعاً للجغرافيا تضاريسه المادية والأخلاقية ، الشخوص بهذه القصص " شطة وبشاير، المفتح ومحسنة ، آدم ومودة" وغيرهم من شخوص ثانوية جميعهم في عون إلى الحب والسند ، إلى الرؤية والأبصار والأمان ، إلى التحقق وعدم الإحساس بالعجز.
يتحدث شطة في منولوج خاص بعد حديثه مع ابن عمه :" .. هل كان من الأصول أفضفض وأقول: إني بالعافية ألقي عشايا وإني أكمله نوم؟....يستحيل أهزمه أو أخدعه حتى لو كنت أنا هلكان...أنا وهو وكل خلق الله غلى فيض الكريم ..صلوا على من بعث للعالمين رحمة . عليه ألفين صلاة وسلام ." (ص64) . هذه الشهامة والنخوة المصرية التي تنضح من المسام رغم الفقر والعوز هي ما تميز النموذج المصري البسيط الذي تنساب من لغته ومفرداته مشاعر دينية عميقة ، كما تنساب موسيقى العامية ، ورائحة المواويل الشعبية وطرائق الحكي فيها، يقول :" إذا رفعت عينها في عيني وسلمت للفضا نظرة ، نفذت بين ضلوعي ، وفرفر قلبي كما حمامة شقها سكين . بشاير .. ست توزن من الرجال عشرة.." (ص64).
في إشارات مبدعة وخاطفة تتناسب ورسم الشخوص في القصة القصيرة يشير الكاتب إلى الكتاب الوحيد الذي يملكه شطة عن الأشعار العامية ، والذي سرق منه في لمحة طريفة لطبيعة هذه الشخصية الحالمة التي سرق منها المجتمع فرصتها في التعليم ، والحياة الكريمة في وطن لا يوفر فرص الحياة اللائقة لأفراده ، أيضاً لنا أن نلتفت إلى الإشارة إلى الكتاب الوحيد في حوزة إنسان ، فهو معتقده الوحيد وإيمانه الذي لا يتزحزح ، هذا بالإضافة إلى ظرفه الاقتصادي الذي لا يسمح بامتلاك غيره.
لا يعني شطة جلباب بشاير المتسخ ، وطرحتها الممزقة ، وابنها اليتيم ، وعدم وجودمأوى لائق يضمهم ، يعنيه فقط " وجه أسمر وملامح تحل من المشنقة وعيون عسلية كبحر وسيع ومحيط . ظروفها مثل ظروفي "(ص65).
وفي إشارة نفسية لسانية عن أثر اللغة أو الكلام الذي ينطق به الإنسان ، وبعد حوار شطة مع عرفة صديقه ، يلَّمح الكاتب لتأثير وسحر اللغة المنطوقة يقول شطة :" الغريبة إن الحيرة تبددت بعد حديث عرفة . قلبي نفش وانتعش ، ملأ قيعان صدري ، وكان عطشان حنية، رفعت رأسي للسماء ..كان السحاب يمر .. يفسح الطريق للشمس حتى تراني..." (ص66). من خلال هذا المنطق والحدس الفطري البسيط دون تعقيد ، يشير الكاتب إلى قضية تجسد الأمنيات والأحلام والأفكار في مفردات تحويها وتجعل لها كيانات مادية ، فاللغة تخلق الحياة وتجسد الإنسان ، أيضاً يشير بذكاء القصاص إلى الآخر ، الآخر بعيداً عن جحيم " سارتر" وكيف أن الإنسان بحاجة دائماً إلى آخر يتبادل معه مخاوفه وأحلامه، و يشكل من خلال الحوار معه عوالماً قد تكون غائمة بذاته .
وتبدو اللغة في قصة شطة لغة شعرية شديدة الرهافة والرومانسية برغم النيران الحارقة التي تجسدها المفارقة في نهاية القصة بعد أن غرق ابن بشاير في لهيب الشطة التي أكلها وانغمس فيها ، يطيب لي أيضاً رصد الطريقة الحيوية التي يصور من خلالها الكاتب لحظة المصارحة والاتصال بين شطة وبشاير، تصوير تناسب مع طبيعة شخصية طرفاه ، يقول :" في يوم أخذت ابنها في حضني ..شافتني ، تبسمت ..رقص قلبي وداخ.. الولد ولدي ياضي العين.. تقابلت نظراتنا وتعانقت رغم الزحام .. تحركت عيوني وراء عيونها حيث الفراغات التي تطل من صفوف العابرين.." (ص66)، لنا أن نلاحظ حيوية المشهد وشاعريته وزاوية تسجيله، حيث أنه يشبه في صياغته حركة الكاميرا مع مصور سينمائي بارع.
في تقنية فنية مراوغة وتحمل الكثير من الذكاء يصنع الكاتب بعض الهوامش البسيطة في بعض قصصه ليوحي لقارئه بواقعية القصص ، ويضفي عليها ثقل الحقائق التي حدثت بالفعل وينتزع تعاطفاً وتفاعلاً معها ، " ص48، ص83)" في قصة " شطة والمصيدة" .
كما يغازل القصاص متلقيه المصري والعربي الذي اعتاد النهايات السعيدة في الدراما المصرية .
يجسد الكاتب في قصته " المصيدة" شخصية ورقية مرسومة بعناية فائقة ، تترك انطباعاً شديد المصداقية ، شخصية المفتح ينحتها فقد البصر منذ الولادة، مع ثقافة دينية توقفت عند حدود الكتَّاب ، مع نوع من تحدي الإعاقة تمثل إرهاف لباقي حواسه ، وجسارة في مواجهة الحياة.
القصة سردية (فلاش باك) لأن العمى الحقيقي حدث بعد تأكده من وفاة محسنة ، وتتناسب الصياغات اللغوية في سرد القصة مع شخصية فاقد البصر ، ففي الجمل الوصفية يقول القصاص :" لكنه يسمع دبة النملة وتثاؤب الشياطين وحوار الملائكة" (ص71) ، يتفق هذا مع اعتقادات كفيف اعتمدت ثقافته على الكتَّاب، ويقول أيضاً :" رفع وجهه إلى السماء نصف رفعة" (ص72)، يجسد الكاتب هنا حركة الكفيف ليبلور في خيال متلقيه صورة عن هذه الشخصية ومفرداتها الخاصة ويقول ايضاً :" ولول برأسه يميناً ويساراً " (ص73)، يعضد هذا الوصف الحركي طريقة وصف إبراهيم أو المفتح لمشاعره وقت تلاقيه مع محسنة ، لقد تحولت المظاهر الخارجية للجسد وتفاعل مشاعر الحب ، والرغبة معه إلى وصف داخلي لفعل الرغبة والشهوة في جسد الإنسان ومشاعره يقول : "جوعان ، غاص في اللحم الجوعان ونهل من آباره . لكنه كان مشدوهاً باستشعاره أنه يبصر لا الجلد والأعضاء المشبوبة ، ولكنه يبصر ما تحتها وما تحت تحتها من الأفران المواره. كان يتصور أنه يرى شريان الشهوة كنهر الحمم قادماً من بؤر مجهولة ويشق طريقه مسرعاً ليشعل الحرائق في كل الأعضاء والعضلات والأعصاب والدماء ، وما يلبث هذا النهر أن تلتهمه هوة سحيقة فتهب العواصف ويجتاح الجميع زلزال هائج" (ص80).
يصف القصاص هنا ما استشعره المفتح " لاماراه ، فهو قد استند على حواسه الأخرى وظف خياله ليصنع رؤية ، فالكفيف يري بالطريقة التي يُخلقها ، يرى على نحو ما يتخيل. - ويستطيع الكاتب أن يقطع المراحل الزمنية الممتدة في حياة الشخصية بأساليب سردية متنوعة ومكثفة تغطي أهم المراحل في حياة الشخصية تاريخ عائلته ،المحيطين به ، فالكاتب في فقرة واحدة لا تتعدى عشرة أسطر قدَّم للمفتح عودة زمنية تحكي تاريخه الشخصي والعائلي قبل لقائه بمحسنة (ص76)، وفي حكي مختلف اعتمد على توليف الأشياء مع الأماكن مع الصور في قصة " زنجباري "، صورة حياة " سناء ومراد" والسعادة التي شملتهما في رحلة حياة كاملة ، وفي قص مكثف أخر يرصد للتحولات التي طرأت على باحث الدكتوراه نتيجة تأثير " ثمر الجنة" عليه في قصة " ثمر الجنة" من خلال تقنية فنية لغوية تشبه صدمة كهربائية صاعقة ومغيرة،فهي من خلال لفظة واحدة (قشرة) استطاعت أن تضغط حالة شخصية في مفردة واحدة (ص20).
تتنوع أساليب قطع المسافات السردية لديه ليعطي ابعاداً زمانية ومكانية ونفسية لشخوصه فيما يشبه اتصالهم بتقنيات فن الراوية، وفي ذلك ما يعضد هذا التشكيل القصصي الروائي الذي تحدثت عنه.
و للكاتب التقاطات ذكية لا يترك من خلالها فرصة تمر دون أن يرصد ويعري في إشارات غير مفتعلة ولا تجنح للخطابية بعض جوانب الخلل في المجتمع المصري ، وبعض مؤسساته ، فحين يسأل ضباط الشرط المفتح عن محسنة نلمح طريقة العنجهية اللا إنسانية التي يتعاملون بها مع أفراد المجتمع البسطاء.
كما يشير في قصة " ندى الورد" إلى تفشي الفساد ، ووقوع الدولة في قبضة أمنية غير حيادية أضاعت حق صلاح في الحادث الذي وقع له، يقول الرواي :" ابن خالة ضابط في شرطة السياحة له صديق رائد في شرطة المرور طلب منه البحث عن الأرقام .. قال له بعد البحث إن الأرقام رفعت تماماً من القوائم وتم تركيب لوحات جديدة للسيارة التي ضربت صلاح ،ولا تشغلوا بالكم ...الموضوع انتهى." (ص166).
تعد قصة " بيت النار " قصة جوهرية في هذه المجموعة ، ذلك لأنها تحتمل مستويات تأويل متعددة وعميقة ، بإمكانها أن تعبر عن حالة إنسانية منفردة ، على قدر تعبيرها عن محور هذه المجموعة " سوق الجمعة" ، لالتصاقها وشخوصها بالسوق وكل تبعاته الثقافية والمجتمعية ، يبدو آدم الشخصية الرئيسية بالقصة – ولنا أن نلاحظ دلاله اختياره للاسم – هو مطلق الإنسان الذي يعجز لظروف مجتمعية معينة أن يتفاعل مع الحياة " مودة" ، أن يصنع اتصال حقيقي معها وتنتهي محاولاته بالفشل في إخصابها وإشباعها أو في إرضاء ذاته، يجيئ ويرحل عنها دون أن يترك إضافة او بصمة فوق هذه الحياة ، الأنثى " مودة".
وكما اعتدنا من القصاص الكبير "فؤاد قنديل" بعثه للحياة والأمل والإرادة في النفس البشرية ، لذا فهو لا يترك شخصيته الورقية ، شديدة الانغماس في أحراش الحياة ، أن تمضي دون فعل ، حتى وإن قفزت فوق الثوابت، إن استعصت عليها الحلول الطبيعية، "قتله لرضا الحانوتي زوج مودة حين رفض تطليقها".
وبقدر ما يقدم فؤاد قنديل قصاً واضحاً غير مستعصٍ على متلقيه ، بقدر ما يحمله مستويات في التلقي تجعل له أبعاداً أليجورية شديدة العمق والغنى الفكري ، كما أنه في وضوحه ، وعدم تعصي إبداعه على متلقيه ، غير مبذول ومن هنا تأتي خصوصية هذا المبدع الأصيل.
يقفز آدم في " بيت النار" فوق عجزه وفوق قيوده مجتمعة ويصر أن يفعل ، أن يمارس الحياة الحقيقية مع حبيبته برغم المعوقات التي تحول بينهما ، ينتصر فوق عجزه، يجتاز السدود التي تحول بينهما في المكان ، كما يقهر تعصيها عليه لبرهة، يقتل زوجها ليعيشها ويتمتع بلقائه بها ، فهي زوجته التي عزم أن يحياها.
وفي سردية محكمة وعميقة ، تعبر عن هذه الطبقة الشعبية ، ينقل الروائي هذا العالم النفسي لشخصية آدم في أسلوب مدمج بالأمثال الشعبية ، والحكم المتوارثة لطبقة من هذا الشعب المصري ، يقول في ثنايا القص :" إيه فايدة الشارب المبروم والنخيل مايل "(ص92)،" على ما تتكحل العامشة يكون السوق خرب "(ص91) ،" خليه على هواه لما ييجي ديله على قفاه"(ص89)، وغيرها من الأمثال المضفورة بالحكي والمناسبة لكل حدث أو شخصية.
كما يتسم السرد بالتشويق والأثارة في عرضه لخطوات اقتحام " آدم " لبيت " مودة" واتصاله به (ص101:98) ، وهي من التقنيات التي تحتفظ بالمتلقي في حالة من الشغف.
وللقصاص طريقته الحيوية في وصفه للعلاقة بين الرجل والمرأة ، يجسد هذا تكوينات لغوية بالغة العذوبة ، تحيط بالنفس البشرية وغرائزها الطبيعية ، وعادة ما يضفر الكاتب بين اللغة الحسية التي تتوسل بمفردات الجسد البشري وغرائزه ، واللغة التي تمسك بأهداب المشاعر الروحانية المجردة ، وتحيلها إلى وقائع وممارسات تنصهر فيها ثنائية طبيعة العلاقة الحميمية تلك ، وتكسبها مذاقها الممتع الراقي في ذات الوقت ، يقول الرواي واصفاً مشاعر آدم بعد سكنه بمودة :" أخيرا ...همد وتمدد فوقها..عانقها وعانقته .لم يتوقف عن تقبيلها والنهل من آبارها المتدفقة برحيق العسل ..دفس رأسه في شعرها واستنشق رائحة الأعشاب البرية الجافة ...مزيج من روائح النعناع والريحان والتمر حنة والقرفة والمسك ..أيقن إنها رائحة جسدها الذي انزرع طويلاً في الصحراء حتى تصبَّر وتجفف.." (ص101)، هذه التكوينات اللغوية ذات الرائحة العطرة المتداخلة تدخلنا لمفهوم تناول الشخصية لعملية الاتصال الجنسي مع مودة ، إنه الجنس في صورته الإنسانية الجميلة ، في صوره التي لا تتعالى على الغريزة لكنها تحيطها بنوع من الثقافة والرقي الإنساني الذي ينشد الحب والعضد والسكن الحقيقي يقول السارد واصفاً حال آدم :" أحس إن مودة آلة موسيقية وأن الأنغام لن تخرج منها دون أصابعه.. كن شهيا ترى الوجود شهيا.. كن جاهزاً بأدواتك لا بأحلامك ولن ينفعك الكلام." (ص101). ما أود أن أشير إليه هذه الدينامكية التي يركز عليها الروائي ليصف الاعتراك الحقيقي للإنسان بهذه الحياة ، ضرورة أن يتسلح الإنسان بإمكانات حقيقية ، تمكنه من اجتياز الاختبارات المتوالية بهذه الحياة.
الشيء المثير والذي يعبر عن جدلية الانفصال والاتصال بين كونها مجموعة قصصية وكونها عالماً روائياً ، هو أن شخوص القصص جميعهم بدرجة أو أخرى غير قادرين على التحقق في هذه الحياة، أو بالأحرى في هذا المجتمع الذي يعيشونه لظروف متعددة تطالنا جميعاً ، إبراهيم أعمى غير قادر على الرؤية ، شطة فقير وضعيف ومهان، آدم عاجز لا يقوى سوى على الفعل بالاحتيال ، صلاح يصاب بالغيبوبة وتنكسر قدماه ويحتاج إلى الترميم ، الباحث في " ثمر الجنة" قشرة على حد تعبير زوجته ، مراوغ وكاذب وغيور، هذا بالإضافة إلى الشخوص الثانوية الواقعة تحت قهر مجتمعي بألوانه المتعددة.
هناك رؤية كلية متعددة لهذا المجتمع المصري أراد الروائي من خلالها أن يقول أن هذه النماذج المنتقصة تعد إفرازاً حتمياً لها ومن هنا تأتي ضرورة الفن " فوظيفة الفن دائماً أن يحرك الإنسان في مجموعة، أن يمكن "الأنا" من الاتحاد بحياة الآخرين ، ويضع في متناول يدها مالم تكنه ويمكن أن تكونه "(1).
يعري الروائي المجتمع ويقدم النماذج في حالة تفاعلها مع واقعها ليستنهضها حياة أخرى وواقع مغاير يمكنها أن تتحقق به.
ينهي الروائي مجموعته بدرته " ندى الورد" هذا البصيص من الأمل الذي يبعثه الفنان في الذات والكيان المصري ، دعوة إلى ترميم كسور هذا المجتمع الذي تعددت شروخه وأمراضه ، استمساك وبعث لتاريخنا وحضاراتنا المتعددة، من خلال شخصية صلاح مرمم الآثار ، عاشق التاريخ والحياة، شمس جديدة تشرق ويوجهها الكاتب لجذور قديمة ممتدة لبيعث بها نهضة جديدة واستمرار مسيرة ، من خلال الوليدة " ندى الورد" ، والفتاة في الموروث الإنساني دنيا ،حياة لا حدود لها ، تخير لها أبوها اسم " ندى الورد" وهو يعلم أنها بنت من بنات الغواية " (ص112)، ويفتح الروائي دائرة لا يريد أن يغلقها وهو يتخير الاسم بهذه الدلالة ، فهي غواية الحياة المستمرة.
في سردية لغوية ترمم ، وتزرع الصبر والأمل في نفس وردة العاشقة لصلاح ، والتي تحمل جنينه نتيجة علاقة جميلة لكنها محاطة بظروف غيابه ، نتيجة حادث أعاقة عن اتمام
(1) إرنست فيشر : ضرورة الفن ، ترجمة أسعد حليم ، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ، القاهرة ، 1971م، ص16.

الزواج بها ، وفي وحدتها وانتظاره ، ويقينها بأنه سيأتي ، ينسج المبدع خيوط الأمل من خلال عملية ترميمم مستمرة، يقول على لسان صلاح متحدثاً عن الترميم " مش بس البيوت ..كل شيء في الحياة ..الطب ترميم .. كثير من قرارات الدولة ترميم، الأكل
ترميمم... عمل الخير ترميم..الحب نفسه ترميم للقلوب ..إصلاح الأجهزة...الأجازات ...صلاة الجمعة...التوفيق بين المتخاصمين ترميم...ترقيع الملابس والأحذية ترميم.."(ص111). تتذكر وردة حديثة وتنتظره لعملة ترميم كاملة .
يشير القصاص إلى بعد اجتماعي خاص بهذه الطبقة الشعبية التي تكون سوق الجمعة ، مجموعة العلاقات الدافئة التي تتسم بالشهامة والنخوة والكرم والنجدة ، ذلك من خلال موقف نساء السوق من وردة، ووضعها مع صلاح ، وظروف وضعها لطفلتها ، وكأن الكاتب يستنجد بما يميز الشعب المصري، بتاريخه الممتد ، ووقوفه يد واحدة ، وتكتله في مواجهة المواقف المصيرية شديدة الوطأة.
تطل من ثنايا السرد عند الروائي خصيصة نفسية جميلة، تتشكل في التماسه الأعذار للذات الإنسانية في كل أحوالها ، وهو مظهر ينضج بعد فهم عميق للطبيعة البشرية، بل وإحاطة بالتغيرات التي تتنابها ، وتعد دلالة أيضاً على طبيعة الفنان السمحة المحبة للحياة والبشر ، وإعلاء من قيم مثل الحب والخير والعدل ،لم ترفض مودة آدم رغم عجزه وعنفه، كان لدى وردة يقين بعودة صلاح ، عالجت ثمر الجنة زوجها ليصبح إنساناً حقيقياً ، لم يصدق المفتح موت محسنة ، ملئ الخير نفس محمد جرجس لكل من هم حوله ، أخلص مراد لسناء زوجته التي قتلت وقرر الوفاء لها ، تزوج شطة من بشاير رغم الإهانة التي لحقت به منها في لحظات الغضب ، وهكذا تستمر العلاقات لدى السارد في حالة من الأريحية والاستيعاب والاحتواء الذي يشيع دفئاً وأملاً في الحياة.
يطيب لي أن أسجل مشاعر انتابتني تجاه شخوص هذه القصص، كنت قد قرأت المجموعة وتغيبت عنها لفترة ثم عاودت القرأة لكتابة الدراسة، وبمجرد أن فتحت الصفحات، انسابت الشخوص تخرج وتتجسد ، تجالسني ويمتد التعارف والتعاطف، واتصور أن ذلك الانطباع الذي داخلني مقياس نجاح وفق الروائي أن يوفره لشخوصه، فهو قد دفع بهم للحياة .
ولقد تميزت المجموعة بسمات فنية وجمالية خاصة مثل :-
1- إتكاء الفنان على بلاغة الكناية وتأتي كناياته دافئة ، قريبة من الروح المصرية الشعبية التي تتناسب والجو العام لهذه المجموعة يقول في "ندى الورد" :" ركبت نجاة معهما السيارة حاملة ندى الورد وأمها ملفوفة في أحضان صلاح ، حولها ذراعه والبطانية المرسوم عليها حصان ، وباقة الورد تحت خدها" (ص119). في قصته زنجباري يكني لشخصية سناء يقول :" وإحدى السيدات في الصورة تحدث جاراتها عن الحمام الذي تجمع حول سناء دون الآخرين وطلع على كتفيها ورأسها ، وتوزع على يديها وحاول تسلق فستانها الموف " (38)، يوظف الكاتب الطير والألوان ليرسم شخوصه، ويكني عن سمات تكوينهم الإنساني.
2- تتوافق الصياغات المجازية لديه مع تنوع ثقافات شخوصه وطبيعتهم ، في " بيت النار" يصف حال آدم يقول "... مضى يركض ويرقص كطفل في يوم عيد ..سعيد بجلبابه الجديد وقد امتلأت جيوبه بالنقود.." (ص102) وقوله على لسان آدم متلقياً لمودة وهي تضع الكريم على جسدها :" وعينا آدم مع الكريم تجري على قوالب النور والرخام والزبد المخزن في بطن الساق ...طلع معها على الذراعين ، وقبَّل بعنيه الحنان اللذيذ ونعومة اللحم الضاني."(ص93).تتحكم الثقافة الشعبية الحسية في صياغة وتوليف هذه التراكيب المجازية.
يصور الكاتب حال مراد الدبلوماسي بعد وفاة زوجته يقول :" توازنت بروحه حالة الحزن مع حالة الرضا .. تهبط السماء إلى روحه وتربت عليها وتهمس لها بضرورة قبول مشيئة الرب.." (ص39) يقدم المجاز في الفقرة السابقة ثقافة أخرى وطبيعة ثقافية مغايرة.
في حالة رصدية اجتماعية اقتصادية غامضة ، يتلون أسلوب السارد ويصبح أستفهامياً مجازياً يقول في قصة " محمد جرجس" نتيجة الصدمة المباغتة التي انتابت الناس بعد موته وحالة الغموض التي واجهتهم :" تطايرت أسئلة وارتطمت بأسئلة أخرى...وانطلقت الظنون والأوهام تبحث وتفتش عن الحقائق" (ص50) أو قوله واصفاً عالم الشائعات في نفس القصة " عالم ربما كان قطنياً هائشاً أو غزلاً نباتياً منفوشاً.. عالماً إسفنجياً يقبل أو يستوعب الجديد وأن يمتص ويكبر ...عالم يتمدد ويشمل الفراغ والليالي الباردة والفقر الشامل " (ص50) ، تعد الصياغات المجازية في الفقرة السابقة مجازات فكرية فنية تختص بثقافة الراوي العليم الذي يتدخل بين الحين والآخر ليضفي إيقاعاً فكرياً وفنياً يغازل هذه السردية.
3- يُنْشئُ القصاص قصيدة نثرية بالغة العذوبة ، يناجي فيها يوم الجمعة ، يجسده أنثى في لباس أبيض فضفاض ، يدعوها ويستحثها في شعرية رهيفة أن تهب جمالها ودفئها على هذا العالم الموحش.
نستطيع أن نستجمع الأسطر الشعرية لهذه القصيدة مكتملة من خلال مقدمات القصص متوالية ،وهي تقنية مراوغة تخيرها الروائي ليشير إلى الوحدة الكامنة بهذه المجموعة ، ويرسم علامة إستفهام ذائبة في الحس الشعري ، تدفع متلقيه إلى ترتيب هذا المتفرق ، ودفعه إلى أكتشاف العلاقات بين هذه المقدمات بإبداعه الخاص وأتصور أن هذه التقنية التي أصطنعها الروائي تعضد ما ذهبت إليه من تصوري لجدلية الانفصال والاتصال في بنية هذه المجموعة القصصية.
4- يتسم التشبيه في أسلوب المبدع بعدة سمات تجعله يحمل البصمة الفنية الخاصة بالقصاص.
(1) الإعلاء من حاسة الشم ، والاعتماد عليها في وصف مشاعر داخلية مجردة ، وصياغتها في هذا اللباس الذي يوظف الروائح لتجسد هذه المجردات " دفس رأسه في شعرها واستنشق رائحة الاعشاب البرية الجافة..مزيج من روائح النعناع والريحان والتمر حنة والقرفة والمسك.."(ص101)، يجسد الشم لدية ما لايمكن وصفه أو القبض عليه .
يقول واصفاً حال صلاح وهو يسمع اسم ابنته " ندى الورد" أحس أنه لا يردد الاسم وإنما يشمه ..مضى يشرب من عبير السعادة التي بدأ بالعثور عليها" (ص117).
يتكئ القصاص على الحواس معبراً إلى معاني أكثر غوصاًً واندماجاً وذوباناً بالإنسان وعوالمه الداخلية شديدة التركيب والتعقد، يقول واصفاً حال انتظار الجميع لظهور صلاح لعلمهم ما تعانيه وردة ، ومجسداً لحال نجاة عند حديثها مع صلاح " نبتت في خاطر نجاة نبتة صغيرة كما الياسمين . فاح عطرها على وجهها ألقاً" (ص117)، يوظف الفنان البصر والشم ليجسد حال الفرحة والنجاة من العسرة، ويتسق ذلك مع الطبيعة النفسية والثقافية لهذه الطبقة الشعبية المتحابة ، غير معقدة الثقافة.
(2) تتسق أطراف التشبيه ووقعه مع مستوى ثقافة شخوص مجموعته ولا تند قدرة الفنان على هذه المواءمة والمناسبة بين الصياغة لأسلوب التشبيه والعالم النفسي والبيئي للشخصية إلا نادراً يقول السارد على لسان البطلة في قصة " يمامة خضراء بكعب محنى": " أسنانه بيضاء ناصعة ومرصوصة مثل حبات الذرة في الكوز " (ص30).
وفيما أتصور للمبدع بعض الهنات الأسلوبية والتشبيهية التي جانبه فيها التوفيق، لأنها لم تتوافق وهذه السلاسة المحببة التي ينطبع به أسلوبه ، كما أنها تعد نتوءات تند عن هذه المنظومة الحانية المتسامحة الجميلة .
في قصة المصيدة يقول :" بدت العين بلا إنسان ..مجرد مساحة رمادية تتحرك فيها سحابات غامقة كخرقة للمسح طال بها العهد " (ص71) برغم دلالة التعبير عن قسوة هذا الخلق المشوة ، الذي يعد في ذاتيه معبراً إلا أنني أتصوره مُجافياً لطبيعة المفتح التي تتمتع بالبصيرة ، كما تند عن نعومة أداء المبدع في مجموعته ، لكنني قد ألتمس له العذر لأنه تصوير لعين إبراهيم وهو وليد . في القصة في ذاتها يقول واصفاً مص جمعة الطفل الصغير ابن محسنة للقصب : " يشد السائل الحلو كما يشد مدمنو الشيشة أنفاسها ، ويروون صدورهم بالهباب المعشوق" ، هنا تبدو الجفوة بين طرفي التشبيه ولا يستسيغها الذوق، هناك بون شاسع بين الحالتين.
يقول في قصة زنجباري :" ولو اختطفوا حياته كان أفضل من تركه كخرقة ممزقة ومهانة بالت عليها كل الحيوانات وعاشت في العراء أتعس الليالي " (ص40.39)، أتصور أن اعتداد مراد بنفسه يتنافى وهذا الوصف الذي تحدث به عن ذاته على لسان القصاص فهو تعبير غير لائق بشخص مراد وطبيعته.
هناك فيما أرى – بعض الجمل التي تقتحم السرد ولا يكون بحاجة إليها ، سوى محاولة الكاتب إضفاء بعد فكري تأملي للأحداث – حتى وإن لم يتطلب الحدث هذا ، أو لكونه غير مناسب للشخصية ، في قصته " يمامة خضراء بكعب محني" يقول على لسان البطل معلقاً على رؤيته للفتاة وهو يبحث عن يمام بسوق الجمعة :" المشهد كله متميز بالإيقاع الزماني والمكاني، الجمالي والحسي.. التاريخ متواطئ مع الجغرافيا لسلب العالم راحته و استقراره.." (ص26) أحسب أن هذا التعليق مقحم على الفقرة التي تسبقه وغير ملائم لها.
(3) يلعب القصاص بتقنية المفارقة في معظم قصص المجموعة وهو إذ يتكئ عليها يشير إلى مفهوم فلسفي فكري عميق يتلخص في أنه مهما تعاظمت إرادة الإنسان وترتيباته في هذه الحياة ، وشعر أنه يقبض عليها في يديه هناك قوى أكثر فاعلية تستطيع أن تهيمن على الحركة الإنسانية في صورتها النهائية وتدفعه لسعادته أو لشقائه ، كما تخدم هذه التقنية هذا العالم الذي ينقل القصاص مقوماته ومظاهره ومفرداته والمتمثل في سوق الجمعة أو الحياة بهذا الوطن العريق الذي تتخبطه الفوضى والعشوائية في اللحظة التاريخية الراهنة ، وتصور لا معقولية الحياة به على هذا النحو العبثي.
تكسر المفارقة أيضاً توقعات التلقي ، ولذا فهي تشيع نوعاً من التجدد والدهشة المحببة التي تقضي على ملل المتواتر والمألوف، وتجتذب المتلقي للفن القصصي، يعود الببغاء في قصة "زنجباري " وينادي باسم سناء ثانية في جنبات الفيلا، في لحظة المكاشفة والبوح بالحب بين " شطة وبشاير" يتناول صغيرها الشطة فتنهال عليه ضرباً وتقريعاً وإهانة ، في ذات اللحظة يصل ابن عمه ويرى هوان حاله ، في هامش مقتضب بعدها يتزوجا بطلي القصة.
يستطيع " آدم" أن يمارس الحب في ظرف احتيالي غير مشروع ، بعد أن كانت زوجته ومتاحة له .، في لحظة الولادة ولحظات الشدة الحقيقية يظهر صلاح مستنداً على عكازين، ليستقبل مولودته ويرتفع بوردة من لحظة سقوط شنيعة ، ويهبها الحياة والأمل بعد الشقاء.
تنفتح السماء عن مطر ينهمر بعد أن كانت الشمس مشرقة لتتخلق لحظة مناسبة للقاء بين بطلي قصة " يمامة خضراء بكعب محني".
تغادر ثمر الجنة الاستاذ الجامعي الذي تشعر بالزيف معه وتعود بائعة لسمك الزينة وأحواضه في سوق الجمعة، الحياة الحقيقية ، ويشعر هو بالحاجة إليها فتعلمه الحياة الحقيقية،
لم تقدم الحياة محمد جرجس على حقيقته لكن لحظات الموت قدمت صورته التي لم يكن يعرفها الناس.
في لحظات انتظار تصحيح مسار العلاقة بين محسنة وإبراهيم أو المفتح وجعلها شرعية يكتشف الأعمى موتها ويضيع البصر الذي كان متمثلاً في شخصها.
يقدّم الشاعر المرأة في مجموعته القصصية بوصفها الحياة ،الكيان المدهش القادر على الاحتضان والتأثير والخلق ، الكيان المتحدد المتشكل عبر حياتها بصور متعددة ، الكيان باستطاعته خلق السعادة او الشقاء ، ولا يحتفي الكاتب بقدرات الرجل قدر احتفائه وتقديره لقدرات المرأة ، وفاعلية وجودها في محيطها ، وبالرغم من أننا نلمس هذا في كل المجموعة القصصية ،كما في أعماله السابقة وأبرزها السيرة الروائية" المفتون" ودور المرأة المتمثل في أمه وجدته و حبيبته وغيرهن ، إلا أنه يقدم إشكالية خاصة تغلف دور المرأة في هذه المجموعة ، يقدم الروائي " مودة" - أشير مرة أخرى لذكاء وحسن اختيار الفنان لكل الأسماء بالمجموعة القصصية – امرأة سلبية بدرجة ما امرأة غير قادرة على قهر خوف الرجل ، غير مساهمة في تحققه، تعاقب عليها بالزواج عدد من الرجال ، وجميعهم لم يستنطقوا الأخضر بصحرائها ، وهنا لا بد من عودة إلى هذه المرأة ( المجتمع الحاضن ) الذي لم يعد قادراً على إبراز وصياغة وإظهار أجمل ما في ابنائه.
عودة رصدية لمجموعة القصص بالمجموعة لنلمس مدى الإحباط والوهن الذي لحق بهذا الكائن الجميل الحاضن ، الدافع إلى التطور والاستقرار والأمان.
تموت محسنة بحادث غامض في المصيدة، الموت كان نصيب سناء في حادث سرقة في قصة زنجباري ، علاقات غير معلنة أو واضحة لكنها راقية بين محسنة والمفتح ، أو بين وردة وصلاح ، صمت ينتاب الأنثى عندما تريد أن تصرح ، تحاور ذاتها فقط في " يمامة خضراء بكعب محني" ، يقدم الروائي أنثى انفعالية في شخصية بشاير في قصة " شطة" ، لكنه يقدم أيضاً ثمر الجنة وتوحه ونجاة ، لذا فكيان المرأة في المجموعة تتنازعه ثنائية القدرة والعجز ، السلبية الإيجابية .
ولا يعد هذا النموذج الأنثوي في المجموعة معبراً عن مطلق رؤية الكاتب للمرأة فيما أرى، لكنني أظن أنه يقدم نموذجاً معبراً عن مرحلة يحياها هذا الوطن مجسداً في كيان سوق الجمعة ، نموذجاً سلبياً غير قادر على الاحتضان والمضي بالحياة.
لاتقدم المرأة في هذه المجموعة بوصفها المحرضة على الغواية ، أو اللعوب التي تلهث وراء غرائزها ، أو رغبتها في السيطرة على الرجل في غير ما يخالف الأعراف والتقاليد والأديان ، يخالف الروائي الموروث الثقافي المستقر عن صورة المرأة ويقدمها في إيجابية متوازنة.
يقول الراوي عن محسنة واصفاً مشاعرها تجاه علاقتها بالمفتح :" فوجئت به يحوطها بذراعيه وتغيب في دفء أحضانه وجسدها ينتفض ويستسلم ، ربما كان غياب بصره مشجعاً إذ تسلل إليها شعور بأنها تتذوق بعض شهوات الجسد من وراء ستار ولا عين هناك تراها وهي في أمان حتى لو تعرت أمامه" (ص80)، لم تتعمد محسنة هذا التلاقي ، بل اتخذت من غياب بصره ذريعة تتيح لها أن تحقق تواصلها معه، فهي لا تتعمد تجاوزاً.
لا يتعالى الكاتب في تناوله للمرأة على جَسَدَِّيتها بل يتناولها في حال وقوعها بين غرائزها وطهرها ورغبتها في الأخلاص والوفاء .
يقول الراوي على لسان المفتح واصفاً حديثها عن زوجها الراحل :" تحدثت عنه بالإعجاب محسنه.. لم يكن في مثله رجل ، وقد أقسمت ألا تتزوج من بعده مهما شبع موتاً فلن تمحو ذكراه السنين" (ص77).
تقول مودة لآدم وهو يحاول مضاجعتها:" إنت مجنون ..إبعد أحسن أوديك في ستين داهية."(ص100) ترفض مودة هذا التلاقي العشوائي برغم شوقها إليه، لكنها بعد أن تعرفه وبعد أن تحققا معاً " ظلت متعلقة به رغم إلحاحها عليه أن يغادرها على عجل ، وظلا على عناق والتحام واشتباك بالقبل حتى بعد باب الشقة وعلى السلالم وحتى باب الشارع.." (ص101).
ورغم عشق وردة لصلاح ويقينها من عودته وثقتها فيه إلا إن السارد العليم يقول :" لام نفسه كثيراً ولامت نفسها، كيف سمحا لنفسيهما أن يتمرغا على سجادة العواطف الناعمة حتى يبلغا الذروة." (ص113).
ما يميز تناول القصاص لعناصر سرديته المختلفة هو هذا التوازن الذي لا تطرف فيه، هذه الصراعات الإنسانية التي تمارس ضغوطها على الإنسان كل بطريقته وتجعله رهينة لتفاعلات غير متناهية.
وأخيراً قد يتبادر إلى الذهن بعد قرأة هذه المجموعة، أن عالم السوق يتيح إنعكاسات من الصراعات المتباينة، صراعات إقتصادية عنيفة، تخلَّق من تفاعلاتها مستويات متباينة من الشخوص والأحداث والصراعات المتغايرة، كما تهيئ فضاءات متنوعة للقص، الذي يحتمل خوضاً في المغامرات الفنية التجريدية.
لكن القصاص – فيما أرى- تخير من هذا العالم المكتنز بمحتوياته جانباً واحداً ، تمحور في العلاقات الثنائية الإنسانية الدفئة بين الرجل والمرأة ، تلك العلاقات التي تنتسب بالجمعة كما يراها عالم وديع يأنف من المرواغة والفساد والعنف، يبتعد عن بريق المال وتسلطه، ويلوذ بالإنسان ومشاعره.



#أماني_فؤاد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ومضات ثقافية ..2013 م
- كفى ..شهر زاد!؟
- أن تخط اسمه كاملا..- قصة قصيرة-
- - أدهم يحي - قصة قصيرة
- بعد وقت ..
- مصر وقانون التظاهر
- مكرونة فيوتشيني
- قطعة ..من الشيفون الكناري
- سرد المنفلت في مجموعة -عفاريت الراديو- لمحمد خير
- يوسف الشاروني ..الخصوصية المصرية
- محددات المشهد المصري قبل 30 يونيو 2013 م
- - مجهول- أحدث روايات -يوسف القعيد-
- هدنة مع ..الانتخابات البرلمانية
- مؤامرة علي الثقافة المصرية
- الفصحي ..وطبيعة التجربة في ديوان -ما زلت اسألها الوصال- للشا ...
- نقاد -موسم الهجرة للشمال - للروائي -الطيب صالح-
- حيادية السرد وعرية في رواية -عصافير النيل -للروائي -إبراهيم ...
- الحداثة تساؤل مستمر عند الناقد والمفكر -شكري عياد-
- جدلية الواقع والفن في المجموعة القصصية - الكراسي الموسيقية- ...
- قراءة في كتاب - الحكاية في التراث العربي - للأستاذ -يوسف الش ...


المزيد.....




- “مش هتقدر تغمض عينيك” .. تردد قناة روتانا سينما الجديد 1445 ...
- قناة أطفال مضمونة.. تردد قناة نيمو كيدز الجديد Nemo kids 202 ...
- تضارب الروايات حول إعادة فتح معبر كرم أبو سالم أمام دخول الش ...
- فرح الأولاد وثبتها.. تردد قناة توم وجيري 2024 أفضل أفلام الك ...
- “استقبلها الان” تردد قناة الفجر الجزائرية لمتابعة مسلسل قيام ...
- مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت ...
- المؤسس عثمان 159 مترجمة.. قيامة عثمان الحلقة 159 الموسم الخا ...
- آل الشيخ يكشف عن اتفاقية بين -موسم الرياض- واتحاد -UFC- للفن ...
- -طقوس شيطانية وسحر وتعري- في مسابقة -يوروفيجن- تثير غضب المت ...
- الحرب على غزة تلقي بظلالها على انطلاق مسابقة يوروفجين للأغني ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - جدلية الانفصال والاتصال في المجموعة القصصية -سوق الجمعة - للروائي -فؤاد قنديل-