أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - احمد عبدول - ثنائية الثورة والانقلاب















المزيد.....


ثنائية الثورة والانقلاب


احمد عبدول

الحوار المتمدن-العدد: 4224 - 2013 / 9 / 23 - 21:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ما بين الثورة والانقلاب فرق واضح وبون شاسع بل ان الثورة والانقلاب يمثلان طرفين نقيضين وفعلين متعاكسين فبينما تنبثق الثورة من أعماق القاع الاجتماعي البائس تعد العدة للانقلاب عن طريق أعلى المستويات التي تشكل جزءا هاما من أنظمة الحكم ( المؤسسة العسكرية في أغلب الأحيان ) الثورة شيء والانقلاب شيء أخر ولعل هذا ما يفسر قلة الثورات عالميا بينما نجد هنالك العشرات من الانقلابات العسكرية التي تحدث في هذا البلد أو ذاك بين الحين والاخر لا سيما في بلدان العالم الثالث والتي لم تشهد استقرارا سياسيا وامنيا واقتصاديا كما إنها لم تشهد تجارب ديمقراطية ناضجة ومتقدمة يتمخض عنها انتقال الحكم بشكل سلس وديمقراطي ولا شك ان كثرة الانقلابات العسكرية في منطقتنا العربية على امتداد أكثر من قرن كان سببا مباشرا في تأخر بلداننا على شتى الصعد والمستويات حيث كانت مشاهد القتل والسحل والتنكيل والتجريم والتخوين تتكرر بشكل دوري تقريبا ومن حقبة زمنية إلى أخرى الثورات غالبا ما تأتي بحكومات مستقرة متوازنة تمثل في جانب كبير منها طموحات وتطلعات الجماهير أما الانقلابات فإنها غالبا ما تأتي بأناس ليسوا بأهل للسياسة ينزون في غفلة من الزمن على كرسي الحكم عبر التحايل والخداع والتجمل والتزلف حتى أذا ما خلى لهم الجو وصفت لهم الأفاق فتسلموا مقاليد الأمور وشرعوا بمهمة قيادة الجمهور أطاح بهم الاختلاف ودب بينهم الخلاف فاخذ يكفر بعضهم بعضا ويخون بعضهم بعضا ويخطئ بعضهم بعضا لتدفع الشعوب ثمن مغامراتهم العسكرية باهضا مكلفا وهي تتحسر على تلك الحكومات التي أطاح بها العسكر هنا وهنالك .
يمكن القول ان الثورة هي إجماع شعبي جماهيري واع ، بينما الانقلاب اتفاق تم وضع خطوطه العامة والعريضة بين نخبة محددة من رجالات العسكر فمعظم الانقلابيين تحركهم أجندة سياسية خارجية ترسم لهم ملامح توجهاتهم ومخططاتهم في الإطاحة بهذا الحكم أو ذاك ومعظم الثوار كانوا لا يرتبطون باي جهة حزبية او سياسية تمارس نشاطا ملحوظا فوق الأرض ، الانقلاب نزعة فردية بينما الثورة توجه جمعي جماهيري عارم فالفرق واضح وضوح الشمس بين الثورة والانقلاب إلا ان الكثير من كتابنا ومفكرينا لا سيما المؤدلجين منهم وعلى مر العصور اخذوا يمزجون بينهما مزجا ويخلطون بينهما خلطا وذلك كي يبررون انقلابات العسكر، والتي كانوا وما زالوا يتعاطفون مع بعض قاداتها ومفجريها , ان إصرار هؤلاء الكتاب والمفكرين من أصحاب العقائد الحزبية على عملية الدمج بين المصطلحين ولد ثنائية غير مبررة إطلاقا تتضمن جمع هذين المفهومين المتعارضين وتصويرهما وكأنهما مفهوم واحد متوحد بالأصل , على الرغم من ان الثورة هي حصيلة تبلور عدة عوامل نفسية وثقافية واجتماعية تختمر داخل العقل الجمعي لأبناء الأمة أي أنها سيرورة تاريخية تدفع بالمجتمعات نحو أفاق من المستقبل الرحب والواعد بينما الانقلاب فهو محض مؤامرات تحاك داخل أقبية مظلمة وسرية بين مجموعات تكون على مستوً عال من القدرة والمسؤولية اتجاه صنع القرار ووضعه موضع الإعداد والتنفيذ .
الثورة إنما تبدأ بالجماهير لتنتهي بهم أما الانقلابات فإنها تبدأ بمهاجمة وحدات من الجيش النظامي لمقرات الحزب الحاكم أو العائلة المالكة حتى إذا أتيح لهم أمر الإطاحة بتلك الحكومة خرجت جموع الجماهير المغيبة أصلا عن عملية الوعي الفكري والثقافي مدفوعة منساقة وراء عواطف غير متزنة وغير متعقلة وهذا - اندفاع الجمهور - ما يدفع بأولئك الكتاب والمؤرخين إلى القول بمشروعية تلك الانقلابات على اعتبار ان خروج تلك الجموع إنما يعد حجة بالغة على حجية تلك الانقلابات لذلك نراهم يخلطون بين مفهومي الثورة والانقلاب بشكل تعسفي سافر .
لا شك ان اندفاع الجمهور بعد عملية تدخل العسكر وإطاحته بمن يحكم البلاد عبر القتل والسحل والتمثيل برجالات الحكم والسلطة لن يكون مبررا ناهضا ووجيها على ان ما يجري فوق الأرض هو ثورة وليس انقلابا حيث يبقى الانقلاب انقلابا حتى لو اندفعت كتل بشرية إلى الشارع تحت تأثير عامل العاطفة غير المتوازنة كما ان السواد الأعظم من تلك الجماهير قد يكون مدفوعا وفق أجندات سياسية ضيقة مناهضة لهذا الحكم أو ذاك .
في لقاء صحفي موسع مع الكاتب السوري الكبير (صادق جلال العظم )قبل أشهر وفي جريدة (طريق الشعب ) تحديدا وفي معرض رد العظم حول ما يجري في سوريا وهل يعد ثورة أم انقلابا ، رد العظم بما معناه ان ما يجري في سوريا هو ثورة بكل تأكيد ثم اخذ يشرح كيف ان كل الانقلابات التي حدثت في المنطقة العربية خلال العقود المنصرمة إنما سميت بثورات فيما بعد . لا يختلف العظم عن سائر الكتاب والمفكرين فهو مثلهم لا يفرق بين الثورة والانقلاب أو ، انه يفرق بينهما ألا ان هواه السياسي يمنعه من تبيان تلك الفروق بين الثورة ونقيضها ، والدليل ان العظم لا يفرق بين الثورة والانقلاب اعتباره ما حصل في إيران عام عام 1979 انقلابا انتهى إلى ثورة فيما بعد على الرغم من ان الثورة الإيرانية تصنف على انها الثورة الخامسة عالميا بعد الثورة الانكليزية والأميركية والفرنسية والروسية ، الثورة الإيرانية كانت قد انبثقت من صميم معاناة وتطلعات الجماهير التي خرجت إلى الشوارع وهي تحمل الازهار وأغصان الزيتون حتى سميت بثورة الدماء والزهور ولن تخرج محتمية وراء سرف الدبابات وآلات القتل والدمار هذه هي الثورة وهذا هو طريقها المضمخ بدماء وهتاف وتزاحم الجموع الغفيرة الثورة الإيرانية كما هي الثورة المصرية اليوم ، فالشعب المصري خرج متوحدا نحو الإطاحة بحكومة الإخوان وليس هنالك مكان للعنف أو القتل أو السحل أو التمثيل كل ما هنالك مطالب جماهيرية بإحقاق الحق ونبذ الاستبداد وتحكيم القانون , بعد ذلك قام بعزل رئيس الحكومة .
هذه هي الثورة بكل تجلياتها .يمكن القول ان مسطرة القياس التي يجب ان نحتكم إليها في تحديد ما هو ثورة أو انقلاب تتلخص في ما يلي ان القطعات العسكرية إذا ما تقدمت عملية التغيير في أي بلد من بلدان العالم متخذة من صلاحياتها الرسمية الممنوحة إليها لغرض حماية حدود البلاد وتامين أمنه وسيادته فذلك يعد انقلابا واضحا أما أذا تقدمت الجماهير عملية التغيير ليأتي دور العسكر متأخرا أو مكملا أو متمما في أقصى الحالات وأشدها فان مثل ذلك الأمر يعد ثورة جماهيرية لا يختلف بخصوصها اثنان .
الانقلاب يقوم به نخبة من الرجال المقربين للحكام والرؤساء والسلاطين من الذين كانوا يظهرون للحكام أقصى درجات الطاعة والامتثال فيتقربون إليهم ويتوددون لقلوبهم ويجملون أفعالهم ويتقلبون في خيراتهم لكنهم في ذات الوقت يضمرون لهم حقدا ويدخرون لهم سوءا وهم في ذلك كله يبررون أفعالهم بان الغاية تبررها الوسيلة علما ان الغايات النبيلة لا تبررها الوسائل الدنيئة بحال من الأحوال وان هكذا منطق لا يستقيم مع منطق الثوار الحقيقيين الذين لم يخرجوا على سياق القيم والأخلاقيات التي يجب ان يتصف بها الثائر وفي مقدمتها الصدق وكراهية الغدر وعدم التلون والتستر وراء مختلف الوجوه والأقنعة .
الثورة مراعاة للجوانب الإنسانية والأخلاقية أما الانقلاب فهو خروج سافر على تلك الجوانب الإنسانية والأخلاقية الثورة إعلان والانقلاب مؤامرة الثورة تفجر لربما يأتي بدون موعد سابق أما الانقلاب فهو عملية إعداد وتوقيت وتوزيع ادوار الثورة شعب والانقلاب عسكر , الثورة في حقيقتها بيضاء إلا ان الدماء التي تسفك في طريقها تكون عرضية أما الانقلاب فهو احمر تشكل الدماء فيه حجر الزاوية ولا شك ان ما بين الأبيض والأحمر بون شاسع وفرق واضح .الدماء في الثورات لا تكون مطلوبة بذاتها ولكنها تسفك في إطار احتدام المشهد الجماهيري في ذروة تصاعد مشاعر الغضب والاستياء ودخوله مرحلة الاصطدام مع من يدافع عن هذا النظام أو ذاك بعد ان تعييها الحيل والطرق في حتمية التغيير الا عن طريق الاصطدام والمواجهة . اما في الانقلابات العسكرية فالوضع مختلف جدا فالانقلاب يبقى في جوهره أسلوب عمل دموي منظم ممنهج وفق خطط مدروسة ومعدة مسبقا .الثورة تعبير حي وواقعي عن إرادة الجماهير بينما الانقلاب إرادة عن تعيين وفرض شخصيات عسكرية لا يمتلك الشعب أدنى معلومات عن تاريخها الشخصي والعسكري والسياسي والثقافي شيئا يذكر .
الثورة تسقط أنظمة ثم تدع الأمور تأخذ مسالكها الطبيعية عندما تعبد الطريق أمام القوى السياسية المدنية لإنضاج واختمار انموذج متكامل في الحكم وإدارة شؤون البلاد أما الانقلاب فانه يدفع بالعسكر والشخصيات غير المدنية والمحدودة في طاقاتها الفكرية والسياسية والاجتماعية إلى الواجهة ليتحكمون في كل شيء لكنهم سرعان ما يفشلون في تقديم انموذج سياسي واعِ للحكم وإدارة شؤون البلاد والعباد ,لذلك نجد الكثير من المعجبين والمصفقين والمتعاطفين مع هكذا صنف من القادة يعودون إدراجهم إلى مربع الحنين إلى تلك العهود التي كانوا يتمنون زوالها بفارغ الصبر العهود التي كانت تزدان بشتى مظاهر الحياة السياسية والنيابية والبرلمانية على علاتها وما يتخللها من تجاوز وخروقات وضعف وتراخي في أحيان كثيرة . لا يمكن للثائر ان يعتلي صهوة الدبابة أو العجلة القتالية والتي تمثل المؤسسة العسكرية لغرض إسقاط النظام الذي كلف هو شخصيا بحمايته من الهلاك والأذى إذ ان المكان الطبيعي للثائر هو أكتاف الجماهير وقلوبهم وليس شيئا أخر ، الثائر إنما يمثل إرادة الجموع الحرة تلك الجموع التي تفاعلت عبر مراحل زمنية حبلى بالمخاضات والإفرازات والتجارب السياسية والاجتماعية والنفسية .
كل الذين اعتلوا صهوات الدبابات هم انقلابيون بامتياز وكل الذين حملوا على أكتاف الجماهير هم ثوار بامتياز ولو انك نظرت إلى سائر الثوار على امتداد تاريخهم لوجدتهم أصحاب مشاريع إصلاحية تأتي أولا عبر النصح والإرشاد والموعظة حتى أذا ما استوفوا شروط تلك المرحلة اخذوا يعلنون عن منهاجهم الثوري في وضح النهار وهذا ما نتلمس اثاره في سيرة معظم الأنبياء والأئمة والقادة الوطنيين حيث كان مثل هؤلاء احرص ما يكونون على عملية تبيان مناهجهم الثورية على الملأ دونما لف ولا دوران بل ان بعضا منهم كان لا يخفي حتى إعلان ساعة الصفر التي تم تحديدها لانطلاق ثورته وتحركه عسكريا وهكذا فان معظم الثوار وعلى امتداد التاريخ كانوا أناسا واضحين لا يخادعون ولا يداهنون ولا يظهرون خلاف ما بطن في قلوبهم وضمائرهم أما الانقلابيون وعلى امتداد التاريخ فانك تجدهم على العكس من ذلك فهم أناس متعاونون مع الأنظمة الحاكمة لكنهم يتحينون الفرص ويقتنصون الوقت من اجل إحكام قبضتهم على كرسي الحكم لينزوا عليه وهم يرددون في دواخلهم إنهم إنما يريدون الإصلاح ويبتغون المنفعة للأمة وهم يعلمون علم اليقين ان الغاية النبيلة لا تبررها الوسيلة غير النبيلة والتي غالبا ما تسفر عن قطع الأيدي والأرجل ومناظر السحل والقتل والتمثيل بجثث الموتى.
ان معظم الذين يخلطون بين مادة الثورة ومادة الانقلاب يبررون مثل ذلك الخلط العجيب الغريب بمنطق يتجاوز الحقائق على الأرض فيلوي عنقها ويشوه جوهرها حيث يذهب مثل هؤلاء إلى ان هذا الانقلاب أو ذاك إنما انتهى إلى ثورة بسبب ما انتهى إليه من نتائج ايجابية على مختلف الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية هذا هو منطق أولئك الذين يسمون الانقلاب ثورة فيما بعد إلا ان مثل ذلك المنطق لا يستقيم بحال من الأحوال مع ما هو موجود على الأرض من حقائق وأرقام ووثائق حيث ينسى مثل هؤلاء ما سبق تلك الانقلابات من خطى كانت قد نهضت بها الأنظمة التي أطاح بها العسكر وهي جهود عملاقة لطالما كانت تصب في خدمة البلاد على شتى الصعد والمستويات بل ان تلك الخطى هي التي مهدت لكل الخطوات اللاحقة التي أعقبت عملية هذا الانقلاب أو ذاك ان أصحاب الخلط بين مادة الثورة والانقلاب هم اناس لا يربطون الأسباب بمسبباتها ولا يرجعون الأمور إلى مفاعيلها ومحركاتها إنهم باختصار أناس ينظرون بعين واحدة ولا شك ان الذي ينظر بعين واحدة سوف لن يرى الحقيقة كما هي .إن ما يعتمده مثل هؤلاء من مقياس يعد مقياسا باطلا إذ ان عملية الإطاحة بأي حكم سياسي اما ان تكون ثورة واما ان تكون انقلابا عسكريا ، فاما ان يكون الانقلاب هو ثورة فيما بعد فتلك لعمري بدعة لم يعرف مثيلها القاموس السياسي القديم والمعاصر إلا على أيدي أولئك الكتاب المتحزبون .
ان ما يترتب على عملية دخول العسكر على الخط السياسي من اثار وافرازات ضارة لا يمكن التغاضي عنها في جميع الأحوال يعد من المسلمات التي لا يختلف بخصوصها اثنان ولنستمع إلى الراحل الدكتور (فاضل الجمالي ) رئيس الوزراء العراقي (1953 ـ1954 ) وهو احد ابرز الوجوه السياسية إبان حكومة (فيصل الثاني ) يقول (الجمالي ) في محاضرة له كان قد ألقاها على مجموعة من الطلاب في الجامعة الأميركية في بيروت عام 1952 وقد سأله احد الطلاب عن رأيه الشخصي في تدخل العسكر في الحياة السياسية فقال (الجمالي ) ( ان الحكم العسكري في نظري هو دليل على مرض الجسم السياسي . فحيثما يعتل الجسم السياسي ويدب فيه الضعف والأنانية والطمع والفساد بين رجال الحكم يلجأ بعض الساسة إلى الجيش فيزجونه في المعارك الداخلية . وفي الحقيقة ان قيام أي جيش بثورة أو انقلاب يجب ان يقارن بإجراء عملية جراحية باطنية للجسم المريض . فالجيش جرّاح في أسلوبه ، والسياسي طبيب باطني . فإذا فشل الأطباء الباطنيون عن تقديم الوصفات , فقد يحتاج المريض إلى عملية حياة أو موت جراحية . ولا شك في ان العملية الجراحية هذه يجب ان تكون نظيفة وسريعة وان ينتهي دور الجرّاح بأسرع ما يمكن . أما ان يصبح الجرّاح هو الطبيب الدائم للإمراض الباطنية ,ففيه الخطر كل الخطر على المريض .وهذا ما حصل في بعض البلدان العربية منذ الحرب الفلسطينية إلى اليوم . فان سورية مثلا أصبحت عرضة لانقلابات عسكرية متتالية , فهل الجسم السياسي في سورية مريض إلى هذه الدرجة , وغير قابل للعلاج الطبي الاعتيادي حتى يحتاج إلى هذه العمليات المتكررة , أم ان المرض هنا قد انتقل من جسم المريض إلى جسم الطبيب فأصبح الطبيب الجراح نفسه مريضا في بعض الحالات ). ثم يمضي (الجمالي )ضمن كتابه (ذكريات وعبر ) والذي ألفه بعد سنوات من ألقاء تلك المحاضرة في الجامعة الأميركية معلقا على مساوئ ومضار دخول العسكر على الخط السياسي قائلا ( ان الجيش يراد لحماية الوطن من العدو الخارجي ولمجابهة الطوارئ غير المنتظرة من الداخل فما العمل إذا أصبح الجيش هو نفسه من يحدث الطوارئ إنها لعمري محنة دونها أية محنة .نحن لا ننكر على رجال الجيش حقهم الكامل في الاهتمام بالشؤون السياسية والقومية لبلدهم فمن حقهم ممارسة حقوق المواطنة كاملة ولكن ممارسة حقوق المواطنة شيء والاستيلاء على الحكم بالقوة شيء اخر .إذا شاء العسكري استلام السلطة فله ان يفعل ذلك كأي مواطن يطمح ان يتسلم المسؤولية لبلده شرط ان يفعل ذلك بعد التخلي عن صفته العسكرية وبطريقة ديمقراطية . أما ان يقوم رجال الجيش باستخدام ما أودع إليهم من قوات في الاستيلاء على السلطة فهو خطر يهدد الاستقرار السياسي للبلد باستمرار . فإذا قام عسكري وتسلم الحكم اليوم عنوة كما حصل فعلا في عدد من البلاد العربية فما الذي سيمنع غيره من ان يقوم خلسة فيستلب الحكم منه وهلم جرى ؟ وأين ومتى ستنتهي فصول هذه الرواية المحزنة ؟ والمؤلم في الأمر ان كل فئة جديدة تعتبر من سبقها خونة إذا نجحت في الاستيلاء على الحكم أما إذا لم تنجح فتكون هي الخائنة . إذن فمقياس الأمانة هو الحظ أو الصدفة أو القوة . فمن هو مخلص اليوم قد يصبح خائنا غدا . ومن هو خائن اليوم قد يصبح بطلا غدا . إنها رواية مضحكة مبكية حقا . وشر البلية ما يضحك . المأساة قد أفقدت الجيوش العربية المئات ان لم نقل الآلاف من خيرة ضباطها وأبنائها . ومتى استلم الجيش الحكم المدني , فهو ليس من أهل الاختصاص في شؤون الدولة المدنية , كالشؤون الاقتصادية والدبلوماسية والإدارية والثقافية والاجتماعية والصحية الخ . ان نتيجة استيلاء الجيش على الحكم هي تخبط وتجارب أكثرها فاشلة حتما . وخسارة البلد تكون مضاعفة . فهو يخسر من جهة قوته العسكرية وينصرف العديد من ضباطه عن مهنتهم الأصلية ويطمعون بالمناصب الرخوة . ومن جهة أخرى يخسر البلد مصالحه الأساسية , إذ يتولاها اناس نشأوا نشأة اختصاصية في حقل عسكري لا مدني . والاتجاهان مختلفان . وقد درج الحكم العسكري على فرض ما يريده أو يرتئيه على الشعب . إذ نبعت إرادته من إرادة الشعب , كما ان اجتهاده الخاص هو الدواء الناجع للشعب . والشعب لا يعرف شيئا عن هذا الدواء , وقد لا يريده أو لا يستسيغه , ولكن هي القوة تتكلم وليس الشعب . فباسم الشعب حكم عبد الكريم قاسم العراق حكما عسكريا دام أربع سنوات , وكانت أجهزة الدعاية العراقية طوال هذه المدة تمجد شخصه وتطري أعماله . ولما قامت ثورة 14 رمضان وسقط عبد الكريم قاسم , صرنا نسمع ونقرا علانية ما كنا نسمعه همسا عن الأخطاء التي يعرفها الجميع عن العهد القاسمي في العراق ) ( الدكتور فاضل الجمالي ) ( ذكريات وعبر 1964 )
انتهى كلام الجمالي ,بمثل هذا الفكر كان يتمتع الكثير من رجالات العهد الملكي وضمن ذلك المنطق الذي يستقريء ويستشرف وقائع المستقبل كان الكثير من رجالات الحكم الملكي يتعاملون وينظرون ويوجهون , ولا شك إنهم كانوا يتمتعون بفكر سياسي رائد ومتقدم يقع ضمن إطار الرؤية المعمقة لمجمل الأوضاع السياسية وتداعياتها وانعكاساتها المختلفة هنا وهناك . فالعسكري طبيب جراح والسياسي طبيب باطني في نظر ( الجمالي ) فإذا ما اعتل الجسد السياسي ودب فيه الضعف والفساد والخمول وكان لا بد من استئصال ما دب في أوصاله من علل وأورام مزمنة وجب آنذاك على الطبيب الجراح ان يتدخل عبر عملية تداخل جراحي على ان يكون مثل ذلك التداخل سريعا دقيقا لينسحب الجراح بعد ذلك مخليا المريض إلى طبيب الباطنية الذي يتوجب عليه ان يلازم المريض حتى يبرأ من مرضه أما ان يكون الطبيب الجراح ( العسكر ) هو الطبيب المقيم والمداوي الدائم على المريض الذي يراد له الشفاء فذلك أمر فيه الخطورة البالغة على حياة المريض بشكل وباخر . هذه هي فكرة (الجمالي )باختصار شديد وهي فكرة ناضجة وناهضة وجدت مصاديقها الواقعية الملموسة عندما تعاقبت على حكم العراق تلك الحكومات العسكرية التي نزت على كرسي الحكم عبر العمل العسكري المسلح ليخون كل منها من سبقها في الانقلاب وتقدمها في استلاب الحكم ولتلعن كل حكومة دخلت أختها كما يقال .
يمكن القول ان الثورة الوحيدة التي مثلت مجمل مكونات الشعب العراقي في التاريخ السياسي الحديث هي ثورة العشرين التي انطلقت شرارتها الأولى في مناطق الفرات الأوسط على خلفية قسوة تعامل سلطات الاحتلال الانكليزي مع أحرار العراق وزعمائهم لذا جاءت تلك الثورة معبرة عن روح الرفض والتصدي والمقاومة وفي ذلك الصدد يقول عالم الاجتماع الراحل الدكتور علي الوردي ما نصه (ان ثورة العشرين هي أول حدث في تاريخ العراق يشترك فيه العراقيون بمختلف فئاتهم وطبقاتهم فقد شوهدت فيها العمامة إلى جانب الطربوش والكشيدة إلى جانب اللفة القلعية والعقال إلى جانب الكلاو وكلهم يهتفون يحيا الوطن )( لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث الجزء الخامس ) .ان كل ما حدث بعد ثورة العشرين من أحداث سياسية كانت تستهدف الأنظمة القائمة إنما كانت عبارة عن انقلابات عسكرية محضة ابتداءا من انقلاب (بكر صدقي عام 1937 ) على وزارة (ياسين الهاشمي ) مرورا بحركة( رشيد عالي الكيلاني 1941 ) وصولا إلى انقلاب 14 تموز عام 1958 ليختمها البعثيون بانقلاب 14 رمضان الأسود من العام 1963 والذي ما زلنا نعيش تداعياته ومخلفاته السامة على مستقبل الشعب العراقي المبتلى بكثرة الحركات والانقلابات العسكرية .أخيرا فأننا عندما نشير إلى هؤلاء الرجال من القادة والضباط من الذين قادوا الانقلابات العسكرية في سبيل الاستيلاء على مقاليد الحكم بالقوة فأننا لا نريد ان ننقص من أقدارهم ولا ان نهون من شؤونهم لكنهم في نهاية الأمر ليسوا فوق النقد فهم بشر كسائر البشر لهم حسناتهم وسيئاتهم ومحاسنهم ومساؤهم وانجازاتهم وإخفاقاتهم ونحن هنا لسنا في معرض التقييم الشخصي لأحد من هؤلاء بقدر ما نحن بصدد تشخيص وتوصيف ما أقدم عليه أولئك القادة والضباط وهذا هو هدف ومبتغى كل الطروحات غير العاطفية المندفعة والحزبية الضيقة التي تسير وفق معادلة (حب واحجي واكره واحجي ) وهو ما نسعى إليه جاهدين قدر الإمكان وما نرغب الاقتراب منه حسب القرينة والبرهان .



#احمد_عبدول (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الله ليس رغيفا
- المترحمون على الطغاة
- عقدة الهلال
- رسالة عاجلة الى السيد رئيس الوزراء
- شيوخ الظل
- حديقة الدار
- دماء العراقيين هل تحتاج إلى فتوى لتحريمها ؟
- رجل دين ، رجل سياسة
- هل تقف امريكا وراء تقسيم العراق؟
- هل من معجزة؟
- وماذا عن المرجعية ؟
- ما الذي يجري في العراق واقعا ؟
- هل تعيد المصافحة للعراقيين قتلاهم؟
- مزامير الاغنياء
- الصحابة في ميزان علي ( عليه السلام )
- الشعوب ليست قطيعا
- البعث مرة اخرى
- شعب الله الثرثار
- الطائفية السياسية ..بين الواقع والشعار
- علي بن ابي طالب رائد المصالحة التاريخية


المزيد.....




- الناطق باسم نتنياهو يرد على تصريحات نائب قطري: لا تصدر عن وس ...
- تقرير: مصر تتعهد بالكف عن الاقتراض المباشر
- القضاء الفرنسي يصدر حكمه على رئيس حكومة سابق لتورطه في فضيحة ...
- بتكليف من بوتين.. مسؤولة روسية في الدوحة بعد حديث عن مفاوضات ...
- هروب خيول عسكرية في جميع أنحاء لندن
- العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز يدخل المستشفى التخص ...
- شاهد: نائب وزير الدفاع الروسي يمثل أمام المحكمة بتهمة الرشوة ...
- مقتل عائلة أوكرانية ونجاة طفل في السادسة من عمره بأعجوبة في ...
- الرئيس الألماني يختتم زيارته لتركيا بلقاء أردوغان
- شويغو: هذا العام لدينا ثلاث عمليات إطلاق جديدة لصاروخ -أنغار ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - احمد عبدول - ثنائية الثورة والانقلاب