أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - حاتم الجوهرى - الثورة المصرية والنخب التاريخية















المزيد.....


الثورة المصرية والنخب التاريخية


حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)


الحوار المتمدن-العدد: 4045 - 2013 / 3 / 28 - 16:44
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


الثورة المصرية والنخب التاريخية


في التفسير العلمي لـ"اختيارات الطليعة"
و"سلوك الثوار" في الفكر الطبقي العمالي




مدخل:

سعدت كثيرا بمناقشة الباحث العزيز والجاد الأستاذ/ مصطفى الجمال رئيس تحرير مجلة الطليعة 21، لبعض الأفكار التي يطرحها كتابي:"المصريون بين التكيف والثورة: بحثا عن نظرية للثورة" عن "الثورة القيمية" التي تطالب بـ"القيم الإنسانية الأعلى" وركيزتها الأساسية التي تقوم على طليعة لديها الاستعداد لتحمل الخسارة الاجتماعية الناتجة عن "الدمج والتسكين" الاجتماعي من قبل "الاستبداد"..
ولكني لاحظت أن هناك نوعا من التعميمات وغياب للتفسير العلمي تجاه نقطتين محوريتين في مقاربته للكتاب ومفهومه لفكرة الثورة التي يطرحها وهما: "اختيارات الطليعة" القيمية، و"سلوك الثوار" المثالي القائم على التضحية بالنفس والفداء والمطالبة بقيم إنسانية عليا تدور حول: العدالة والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص، وشعرت بوجود محاولة أيديولوجية – كما هو طبيعي في كل التيارات السياسية- لإلصاق وإلحاق الآني بالتاريخي وبالكليات والحتميات المبكرة للفكر الماركسي الأرثوذكسي (رغم وجود مقاربات كثيرة لدى رجال الفكر الماركسي المعاصر في مساعي التطوير والحراك على مستوى التطبيق والتجربة والفلسفة ).
فالكاتب الصديق العزيز لا يطرح مفهوما موضوعيا يفسر: "اختيارات الطليعة" الثورية و"سلوك الثوار"، المرتبطين بفكرتي: القيم والمثل الإنسانية العليا التي يرتكن لها الكتاب في أحد جوانبه (الثورة القيمية)، اتساقا مع الظرف التاريخي الذي خرجت منه الماركسية وكانت رد فعل حينها لحالة عامة سادت في الفكر الأوربي؛ في لحظة وظرفية انقسم فيها ما بين: المثالية والقيم (ورد الفعل لحكم الكنيسة باسم الدين) وما بين: العقل والمادية وتجنيب فكرة القيم الروحية عموما، فربطوا تقدم الإنسانية بالقطيعة مع كل ما يشير لدور الكنيسة وذهبوا لأبعد من ذلك بأن أقصوا كل ما قد يرتبط بالنفس البشرية والعوامل النفسية والروحية؛ لما قد تدفع له من علاقة قد تعيد إنسان أوربا لحظيرة الكنيسة وسيطرت الدين السياسية، التي أدخلت أوربا في عصورها الوسطي المظلمة.. وتعاملوا مع الإنسان كجسد مجرد له حاجيات مادية ليس إلا.


اختيارات النظرية الماركسية:

لذا جعل الفكر الماركسي المدرسي نقطتين أساسيتين في بنيته للظاهرة الإنسانية؛ أن الإنسان هو نتاج للظروف والواقع ومجرد رد فعل لعلاقة ميكانيكية آلية حتمية جامدة بين ظروف الإنتاج بشكل رئيسي، ثم في تصوره لفكرة الوجود الإنساني ذاته انطلق من فكرة نفى وجود الغيبي المطلق، فأخذت الماركسية قرارا بتبنى الموقف التاريخي للمفكرين والفلاسفة الذين نفوا وجود القوة الكلية المهينة على مقادير العالم (الله سبحانه جل تعالى)، حيث كانوا رد فعل لظروف أوربا التي رأت في دور القوة الكلية المهينة على العالم نوعا من التغييب لإرادة البشر (أفيون الشعوب)، يجعل الجموع البشرية تنظر لعالم لاحق (أخروي) في مقابل الاستسلام للاستغلال الطبقي في العالم الواقعي (الدنيوي)..
كما أخذت قرارا أيضا بإقصاء كل ما له علاقة بالذات أو الروح والنفس البشرية في تفسير الظاهرة الإنسانية وتاريخها، فحولت الذات الإنسانية وما تحمله من مشاعر وهواجس وأحلام وأهواء وتطلعات إلى مجرد كائن جسدي؛ وساوت بين نفوس البشر وألغت تمايزها وتفاوتها تماما في اختيار غير علمي وغير موضوعي تماما؛ وحاولت أن تتجاوز في تفسيرها للعالم فكرة: البطل أو المخلص؛ تأثرا بفكرة ودور النبي في الدين، ووضعت لها تفسيرا للتاريخ يقوم على علاقة مادية عقلية آلية لا تحمل أي سمات غيبية أو روحية أو قيمية؛ وأن التاريخ عبارة عن صراع كتل وحشود تنتظم فقط في أدوار للإنتاج: عامل ومستغل للعامل! وأقصت كل تمثلات الوجود الإنساني الأخرى، وكأن البشر آلات في نظام جامد، مدخلات ومخرجات جامدة دون أي وجود للفروق الفردية أو أي أدوار للأفراد أصحاب المواهب والقدرات الخاصة من أي نوع!!
من ثم بحثت في كل أبطال وثوار الأحداث التاريخية؛ عن بنية طبقية تخلع عن هذا البطل فكرة تفرده الشخصي وسماته الذاتية الفردية القيمية القائمة على التضحية والفداء، لتقوم بوضعه في سياق صراع طبقي! دون أن تسأل نفسها لماذا قام هذا الشخص بالذات بهذا الفعل دون غيره من البشر، تخلت هنا عن علميتها وموضوعيتها المفترضة، حاولت الماركسية التاريخية – كرد فعل وناتج لظرفيتها التاريخية- أن تقصى أي أثر لأي عامل يمكن أن يوضع في سياق الروح أو القيم؛ لا لكراهيتها لذلك! ولكن حرصا منها على إقصاء كل ما يمكن أن ينتمي لبنية الخطاب الديني الكنسي وما تركه من آثار عميقة في أوربا العصور الوسطي، فعمدت إلى إنتاج خطاب رد فعل مغاير تماما ووصمت كل الخطابات القيمية والروحية، بأنها قد تكون تكأة لعودة الدولة الدينية وغياهب العصور الوسطي الظلامية.

بنية النظرية الماركسية:

تعتمد النظرية الماركسية في مواجهة معاصريها التاريخيين على منطق "العقل" و"الموضوعية" و"العلمية" كما يلي: في تناولها للظاهرة الإنسانية تقوم على: الرؤية المادية الواقعية، وفى تفسيرها لها تقوم على: الصراع الطبقي، وفى إصلاحها تقوم على: الانتصار للعمال وصولا لمرحلة إلغاء الصراع ووفرة الحاجيات وشيوعها في متناول البشر..
ويمكن لك من الناحية العلمية أن تتفق مع الفكر الماركسي في بعض الأسس التحليلية، لكن كعادة كل النظريات الإنسانية ستتفق عند تفكيك العالم ووصفه، لكنها ستختلف عند إعادة تركيبه وتجميعه، فرصد الظواهر وتوصيفها جانب؛ إنما تفسيرها ثم محاولة تغييرها وإعادة بنائها جانب آخر تماما!
تقوم النظرية الماركسية في تفسيرها للظاهرة الإنسانية على فكرة: علاقات العمل، بحيث تقول أن كل السلوك الإنساني يكون مرجعه موقع الإنسان في العمل ونصيبه من فائض الربح (القيمة المضافة)، وتقول بذلك أن الدافع الوحيد والمنطقي للبشر هو المادة أو المصلحة والسعي وراء "مراكمة الثروة" والتنافس عليه، وظاهرة مراكمة الثروة تؤدى لصراع مستمر ووحيد في تفسير الظاهرة الإنسانية، بين استغلال لصاحب "الثروة المتراكمة" وبين العامل الذي يستخدمه لزيادة هذا التراكم وتدوير ثروته باستمرار..
وترى الماركسية ضرورة التخلص من فكرة أصحاب "الثروات المتراكمة" أو التي قد تتراكم، عن طريق أن يكون العالم كله دولة واحدة (أممية واحدة) مركزها العمال الذين سيستفيدون فقط من "القيمة المضافة" كوسيلة لإلغاء الصراع البشرى وتفاوت الطبقات، وبالتالي إنهاء مشاكل الظاهرة الإنسانية نهائيا، عن طريق أن يكون الكل سواء في توزيع عوائد الإنتاج، وذلك على اعتبار أن البشر هم ظاهرة مادية بحتة ورد فعل لعوامل الإنتاج؛ وستنتهي مشاكل الظاهرة الإنسانية بمجرد الشيوع الجبري للموقف من الإنتاج بين الجميع.

النقد للماركسية وفكرة القيمة:

ترى "الثورات القيمية" أن العامل الأساسي لخلق "مراكمة الثروة" أساسه قيمي، وأنه يقوم على مدار التاريخ على علاقة "الاستبداد" والسلطة في مواجهة الثوار والمتمردين، وان التفاوت في الثروة ينشا بالأساس من "قيم مولدة" وليس من "قيم مضافة"، بمعنى أن الاستبداد كان يوزع الأراضي والخدمات السيادية على من خضع وتكيف معه قيميا، ويمنعها عمن ثار وتمرد على منظومة قيمه، فكان أساس الظاهرة الإنسانية صراع قيمي بين أصحاب القيم الإنسانية الأعلى (الثوار)، وأصحاب القيم الإنسانية الأدنى (الاستبداد)، أما صراع القيمة المضافة فكان بنية فرعية ولاحقة على صراع الثوار مع الاستبداد عبر طبقات التاريخ، فهناك كتلة خامدة ثوريا في المجتمع، وهم الحشود أو جموع الناس التي تشاهد الصراع بين الثوار والاستبداد وتترقب نتيجته..
ومن ثم يكون تسكين ودمج هذه الجموع الخامدة ثوريا في المجتمع مرتبط بـ"معامل الرفض القيمى" للاستبداد كما أسميته في كتابي، فكلما قلت درجة "معامل الرفض القيمى" كلما ارتفع مستوى تسكين الفرد ودمجه في النظام الاقتصادي للاستبداد، وكلما زادت درجة معامل رفضه لقيم الاستبداد تعرض للحرمان من الدمج والتسكين.

الاستبداد والحشود والنظرة العمالية:

ولو انطلقنا من التفسير الماركسي المادي القائم على المصلحة، لقلنا أن الجموع الخامدة ثوريا التي ستسكن في قطاعات "العمل اليدوي" ستظل ساكنة وقابلة بالاستبداد وقيمه طالما حافظ الاستبداد على مصالحها وأبقاها داخل دائرة الأمان الاقتصادي، لأنه وفق التفسير الماركسي لدافع المصلحة عند البشر ستكون مصلحتها وسر وجودها الإنساني كظاهرة محققة! وبالتالي فإن الثغرة في الفكر الماركسي ستكون هي الحاجة المستمرة لطليعة لا علاقة لها بدورة العمل اليدوي، تسعى لدفع الحشود المسكنة في اقتصاد المستبد للمطالبة بالمزيد دائما، والمزيد والمزيد، حتى تنجح هذه الطليعة في شرخ علاقة التسكين الاقتصادي والاجتماعي بين الحشود والمستبد، لذا فدائما ما تقف هذه الطليعة عاجزة كلما نجح الاستبداد في استقطاب الحشود بمزايا الدمج والتسكين، فالطريق الوحيد لنجاح التصور الماركسي هو كسر علاقة التسكين بين المستبد والحشود ماديا وليس قيميا، عن طريق المصلحة والمطالبة بالمزيد من نصيب الحشود العاملة من عوائد الإنتاج، وليس لغير ذلك! لذا يقفوا عاجزون عندما ينجح الاستبداد في تسكين الحشود العاملة عن طريق كل مزايا الدمج والتسكين والرشاوى الاجتماعية، فهم لا يملكون دعوة قيمية يستقطبون بها الحشود العاملة في مواجهة استبداد قد يغدق عليهم المزايا والعطايا.. وهذا سر عجزها فهي لا تملك ما تقدمه للبشرية والحشود العاملة كظاهرة إنسانية طالما نجح الاستبداد في تسكينها..

الاستبداد والحشود والنظرة القيمية:

ويحاول الطبقيون الذين ينفون الجانب القيمى والروحي والنفسي عن الذات البشرية، استقطاب "الثورات القيمية" التي تطالب بالعدل والحرية والمساواة والقيم الإنسانية العليا، غير أن هذه "الثورات القيمية" تختلف مع الماركسية أساسا في نظرتها للظاهرة الإنسانية، التي تتمركز في "الثورات القيمية" حول فكرة تفاوت الفعل الثوري بين البشر انطلاقا من اختلاف سماتهم الذاتية الداخلية. إن الطبيعة وكافة العلوم الإنسانية تتحدث عن اختلاف طبائع البشر وتفاوتها، وشيوع الحاجات المادية بين البشر، لن يلغى فكرة النزوع للسيطرة عند البعض أو الأنانية عند البعض، بل إن الطبقيون يريدون إلغاء الاستبداد واستبداله باستبداد آخر لتنميط المجتمع وإنهاء وجود الظاهرة البشرية، تحت قيادة الاستبداد السياسي لفئة الحشود العاملة، لمجرد أنهم عمال! الطبقيون يبحثون عن التنميط وإلغاء كل السمات الطبيعية التي وجدت علميا وتاريخيا في الظاهرة الإنسانية!! هم يدعون أنهم غير طبقيين غير ميالين للاستبداد، لكنهم طبقيون يبحثون عن استبداد خاص بهم، ويرون في أفكار: الحرية والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص التي تطالب بهم "الثورات القيمية" عبر التاريخ، ظاهرة مثالية فارغة، يطالب بها البعض سعيا ليرتقى في المجتمع ويخلق "تراكم ثروة" خاص به! لأن لديه قدرات خاصة! هم يرون في فكرة التعميم والتنميط الحل النهائي للظاهرة الإنسانية؛ إنهاء التطلعات الفردية ، إنهاء الفروق الفردية.. هم يتحدثون عن نهاية خاصة بهم للتاريخ والظاهرة الإنسانية، وفق تصور مادي يسعى لتنميط البشر وإنهاء جانبهم القيمى والنفسي.

"الثورة القيمية" و نصوص"المجتمع الفعال":

في حين ترى "الثورة القيمية" الإنسان الطبيعي بموضوعية في شكله المفكر الباحث عن المنطق والعدل والحرية في الحياة، والعدل يقول بالتباين في طبائع ومواهب البشر وما يستحقونه! لا يقول بفكرة التعميم والآلية والتنميط التي تطرحها الماركسية المدرسية، ومنطق التقدم الإنساني يقول بالاهتمام بدولة التفكير العلمي والبحث وناتج القيمة المضافة المرتبط بالعقل والإبداع وليس دولة تنادى بالانتصار لأصحاب العمل اليدوي النمطي! الثورة القيمية تطالب بـ"المجتمع الفعال" لا بمجتمع العمل اليدوي! المجتمع الفعال قائم على حق كل إنسان في العمل وفق قدراته ومواهبه، ولا ينتصر لأصحاب العمل اليدوي في مقابل أصحاب العمل الفكري، يقوم على العدالة وان يكون مراكمة الثروة وفق قدرة كل إنسان، الظاهرة الإنسانية ظاهرة طبيعية وعلمية، ومحاولة إلغاء التفاوت فيها وتحويلها لظاهرة صناعية مادية آلية من خلال منطق صناعي وغير علمي أو طبيعي.
المجتمع الفعال العمومية والشمولية فيه نصوصها الاجتماعية هي الحقوق الطبيعية كالتالي: حق المسكن- حق العمل- حق المعيشة الكريمة- ..، ونصوصها الإنسانية الأعلى كالتالى: الحرية، والمساواة، وتكافؤ الفرص والعدالة-...

فجوة التفسير الماركسي والطليعة:

"الطليعة" في التفسير الماركسي قد لا تجد لها قدما في "علاقات العمل"، إذا قلنا أن الماركسية كنظرية تفسر الظاهرة الإنسانية تنتظم حول علاقات الإنتاج والعمل، لما وجدنا تفسيرا لدور الطليعة في هذا السياق، لأن سلوك الطليعة هو في الأساس سلوك قيمي مثالي! والكثير من طليعة ودعاة الماركسية ينتمون طبقيا لتفاوت "مراكمة الثروة" معتمدين على مهارات خاصة تجارية أو مهنية!! فكيف يفسر لنا هؤلاء سلوكهم المنافي للدفاع عن طبقتهم في البناء الوظيفي للمجتمع والانتماء إليها! وكيف يفسرون مطالبتهم بالانتصار لطبقة أخرى (الحشود العاملة) إذا لم يكن ذلك وفق أساس قيمي ومثالي! تقع الطليعة الماركسية في معضلة تفسير اختياراتها الذاتية، لو أن الإنسان ظاهرة مادية منفعية بحتة، وكانت الطليعة المفكرة للماركسية تنتمي بالطبع لفئة أصحاب المواهب العقلية والمهنية الخاصة، فلماذا إذن لم تتسق هذه الطليعة مع فكرة المصلحة الخاصة بها، وتطالب بمصالح لحشود عاملة لا تنتمي لها مهنيا! هنا تظهر فجوة التفسير الماركسي لاختيارات طليعته الطبقية! التي تعبر عن روح مثالية وقيمية بحتة، وتنتمي لفكر أصحاب "القيم الإنسانية العليا" كما أقول في طرحي، لكنها تملك اختيارات تعميمية تنميطية للمجتمع في سعى مثالي منهم لإنهاء مشاكل الظاهرة الإنسانية!
حين تقع الماركسية في معضلة أنها نسق مادي يهدف لبناء نسق مثالي! وهذه هي مشكلة الماركسية الحقيقية، تعجز عن تفسير اختيارات طليعتها، وتعجز عن تفسير سعيها لإنهاء مشاكل الظاهرة الإنسانية عن طريق التعميم، قدمت الماركسية عددا رائعا من آليات التحليل والتفسير، لكنها حينما تقدم البديل للنموذج الإنساني، تكون في حالة رد فعل تام لظروفها التاريخية الدينية والاقتصادية! حين أخذ الاستبداد شكل رجل الصناعة الذي راكم الثروة في عصور استبدادية قديمة، بما جعل الطليعة التاريخية لها وماركس ذاته يطالب بالعدل الاجتماعي، لكنه أقصى كل تمثلات الظاهرة الإنسانية وتمحور حول العلاقة التاريخية لرجل الصناعة بالعامل الأوربي، حينما حرم العامل المقهور والمستبد به من نصيبه العادل من عوائد الإنتاج، فأرادت أن تنتصر انتصارا حاسما وتنهى مشاكل الظاهرة الإنسانية نهائيا وللأبد.
ولكنها في سبيل سعيها المثالي هذا، أرادت أن تنزع عن الظاهرة البشرية إنسانيتها وتفاوتها، قيمها الإنسانية العليا وقيما الإنسانية الأدنى، أرادت أن تتخلص من تراث استبداد الدين السياسي في أوربا، ولكنها اختارت بديلا منه استبدادا أسوأ قائم على التنميط والتعميم، ومجتمع الآلة البشرية المفرغة من كافة الظواهر النفسية والروحية والقيمية، في بديل واختيار يجب أن يتطور حتى يجد له مكانا في الفكر الإنساني المعاصر بما يتفق مع طبيعة البشر وسماتهم التاريخية القائمة على التفاوت والتباين.. بما يقترب أكثر من فكرة "الثورات القيمية" التي تطالب بالعدل والمساواة للجميع في سياق المجتمع الفعال ونصوصه العامة، وتتسق أكثر مع فكرة "اليسار القيمى".

التفسير الماركسي والثورة:

كما تعجز الماركسية المدرسية أيضا عن تفسير "السلوك الثوري"، إذا كان الإنسان ظاهرة مادية نفعية بحتة ترتبط بالعمل وعائد الإنتاج، فكيف يمكن تفسير "السلوك الثوري" لدى البعض القائم على التضحية بالنفس والفداء ومواجهة الموت! تعجز الماركسية عن تقديم تفسير لفكرة "السلوك الثوري" والثوار وفعلهم؛ الفعل الثوري يرتبط بالقيم والمطالبة بمنظومة "القيم الإنسانية الأعلى"، الثورة هي ظاهرة مثالية بطبيعتها يقوم بها أفراد لديهم التفاوت النفسي والقيمى عن جموع وحشود المجتمع المتكيفة مع "الاستبداد" وفئات المنتفعين معه والذين راكموا الثروة في سياق قبول قيمي لمنظومة قيم الاستبداد، هي ظاهرة تنتظم حول فكرة التمرد القيمى والروح البطولية والمطالبة بمنظومة القيم الإنسانية النبيلة الأعلى، تقف الماركسية بتفسيرها المادي عاجزة عن تفسير السلوك القيمى للثوار، وعند البعض منهم يقولون أن الغوغاء (المحرومون من الدمج والتسكين لأسباب تتعلق بالمهارات الفردية والظروف العائلية) هي التي تقوم بالثورة (لأنه لا يملك تفسيرا لفكرة القيم والمثل)! فما هو دافع الغوغاء للتضحية بالنفس والموت! ولماذا لا تثور كل الغوغاء، لابد من العودة لفكرة المثل والقيم والرفض القيمى؛ لأن الثورة المصرية لم يقم بها الغوغاء ، إنما قامت بها طليعة ثورية تطالب بقيم إنسانية أعلى، والتف حولها كافة أصحاب "معامل الرفض القيمى" العالي لمنظومة قيم التكيف في شتى أنحاء مصر.

صراع الثوار وبنية النظام القديم:

تسعى منظومة القيم المصرية القديمة ومجموعات المصالح السياسية الطامعة في الوصول لسدة الحكم بها، لخلخلة التركيبة الثورية التي تراكمت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والتي انتظمت أساسا حول الحركة الطلابية التي خرجت لدعم انتفاضة الأقصى عام 2000م بعيدا عن السيطرة النمطية للأحزاب المصرية ونخبتها وبرامجها، تسعى كل التيارات لتفكيك هذه الطليعة التي اجتمعت وانتظم حولها أصحاب القيم الإنسانية العلى في كل مدن مصر، يهدفون لتفكيك لحظتها التاريخية حتى لا تتمركز حولها وتنتج منظومة قيم إنسانية أعلى جديدة، لا يكون لهم فيها موطأ قدم، ويتفق في ذلك معظم النخبة التنظيمية لكافة فصائل المشهد السياسي المصري، يقولون أن الثوار لا يملكون برنامجا وأيديولوجية جاهزة! يقولون أن الثوار لم ينظموا صفوفهم سياسيا بعد! والإجابة واضحة جلية لقد قتل من الثوار في ميادين مصر الكثير! ومعظم طليعة الموجة الأولى المعروفون تعمد النظام القديم إصابتهم بالعجز أو الاحتجاز!
وكأنهم يطالبون من الثوار أن ينظموا أنفسهم حتى يصبحون هدفا أكثر وضوحا للموت على يد الاستبداد! أو يدفعوهم للمشاركة في العملية السياسية وفق القواعد التاريخية الموجودة بينهم وبين بنية النظام القديم! نعم نحن مثاليون بهذا المفهوم، وإما ننجح في إنتاج لحظة تاريخية نفرض فيها شروطا على العملية السياسية، أو سنموت وننزوي كالعديد من ثوار التاريخ، يريدون منا أن نشارك في المشهد وفق قواعده السياسية الاستبدادية ومنظومة قيم التكيف والفساد! إذن فنحن بهذا المفهوم مثاليون ونرحب بالمثالية، إما نجحنا في فرض لحظة تاريخية معينة وصلنا فيها للسلطة وفق قيمنا ومبادئنا الثورية، أو استطاع النظام القديم ومجموعاته السياسية فرض آليتهم وعلاقتهم التاريخية على المشهد، الصراع الآن في حقيقته يشمل الثوار في كفة، وفى الأخرى معظم البني التنظيمية التي ارتبط وجودها – سلطة ومعارضة لحد بعيد- بالنظام الاستبدادي القديم ومنظومة قيم التكيف..


الختام :

سيحاول الثوار التمرد، وتنظيم أنفسهم في لحظة ما، لتقديم البديل السياسي للناس، ولكن ذلك سيرتبط بقدرتهم على فرض شروطهم على المشهد، والأولى بدعاة التغيير الحقيقي في النخب التاريخية تجاوز أطرهم التنظيمية والأيديولوجية بعض الشئ، ومحاولة التواصل مع مفهوم اليسار القيمى ومنظومة القيم النبيلة الأعلى التي يطرحها ثوار مصر..
الصراع سيكون على لحظة تاريخية لمن يقتنصها، هل سينجح أي فصيل من الفصائل التاريخية التي كانت مشاركة في النظام القديم، ويعيد إنتاج منظومة القيم التاريخية بشكل جديد، ويفرض استبداد جديد على الشعب باسم شكل تاريخي نمطي لـ: العمالية، أو القومية ، أو الدينية بشكلهم التاريخي.. أم سينجح الثوار هذه المرة في تنظيم أنفسهم، وتحويل الجهاز "الإداري والأمني" الذي هو أداة الاستبداد التاريخية (كما أوضحت في الكتاب)؛ لمجرد بنية دولة مؤسسات وظيفية! ويقدمون منظومة قيم جديدة تخلو من الاستبداد ومفاهيمه، وتسكن الجميع وفق عدالة ومساواة وإعطاء فرص متساوية لجميع المصريين، ليحصل الجميع على ما يستحقه: أصحاب العمل اليدوي وكذلك أصحاب العمل والجهد الفكري، في دولة تسعى للتقدم والرقى والتواصل مع مخزون حضارتها التاريخي بأبعاده الشاملة.
ما أستطيع أن أجزم به أن ثوار هذا الجيل لن يقبلوا بسيطرة أي استبداد جديد تحت أي شعار سياسي ( وهذا مفهومهم لفكرة رفض العمل السياسي بشكله التاريخي)، وسينتصرون حتى يصلوا للمرحلة السياسية السادسة كما أوضحت في كتابي عن نظرية الثورة..
ليبقى محل السؤال قدرتهم على اختيار أو توليد شخصية تتسم بسمات قيمية ومثالية وتتسق مع "مستودع الحضارة المصرية" بأبعاده الدينية والقومية والتاريخية!
ليلتف حولها بديلهم السياسي، والتأكيد على منظومة قيمهم الأعلى الجديدة، هذا هو السؤال وهذا هو الصراع مع النخب التاريخية لفصائل الأحزاب المصرية القديمة..
وإن كان هناك الكثير من النخب التاريخية التي قبلت وتدعم الآن فكرة الثورة القيمية واليسار القيمى الذي يطرحه الثوار (وأرجو الرجوع في هذه النقطة لمقالي الذي سينشر قريبا بعنوان: الثورة القيمية والتفسير الطبقي)، وترى فيهم الأمل والمستقبل لنهضة مصر التاريخية في القرن الحادي والعشرين، ترى فيهم الهاضمين والواعين لكل التراث الإنساني وظرفياته التاريخية، وفى نفس الوقت مدركين للحظتهم التاريخية ومسئولياتها وتبعاتها.



#حاتم_الجوهرى (هاشتاغ)       Hatem_Elgoharey#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معادلة الاغتراب في شعر المنجى سرحان
- ثالوث الصراع الثوري: المستبد- الثوار والمتكيفون
- جدلية الانسحاق والصمود فى أدب التسعينيات
- الثورة وصراع الأنماط البشرية: التصعيد والإزاحة
- انتصار الثورة القيمية ومجموعات المصالح
- حكايات غريب الثورة: عصام
- الدافع السياسي لأحداث بورسعيد الأولى والثانية
- الطريق إلى الاتحادية: دماء الثوار ومليشيا الوهم
- من ديوان: الطازجون مهما حدث
- طرق مطاردة الذات فى قصيدة النثر المصرية
- 25يناير2013 : سجال الأطراف الأربعة
- -الحوار المتمدن- و-أنا علماني-
- ذكروهم: التجمع الصهيونى فى فلسطين ومنظومة قيم - الطفرة - (mu ...
- فى استراتيجية الثورة: الفرصة والفرصة المضادة
- الثورة وإرث العلمانية والدين
- الثورة والأيديولوجيا الشعبية والوعي الانتقائي
- المسارين الثوري والسياسي: بين التكيف والتمرد
- -محمد محمود- الماضى والمستقبل
- الفلسطينى بين: الأيديولوجيا والتاريخ.. حين يكون الموقف مأزقا ...
- كيف يكون الشعر إنسانيا فى المساحة السياسية!


المزيد.....




- “اعرف صلاة الجمعة امتا؟!” أوقات الصلاة اليوم الجمعة بالتوقيت ...
- هدفنا قانون أسرة ديمقراطي ينتصر لحقوق النساء الديمقراطية
- الشرطة الأمريكية تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة ...
- مناضل من مكناس// إما فسادهم والعبودية وإما فسادهم والطرد.
- بلاغ القطاع الطلابي لحزب للتقدم و الاشتراكية
- الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي (الإتحاد المغربي للشغل) تدعو ...
- الرفيق جمال براجع يهنئ الرفيق فهد سليمان أميناً عاماً للجبهة ...
- الجبهة الديمقراطية: تثمن الثورة الطلابية في الجامعات الاميرك ...
- شاهد.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيم ...
- الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا ...


المزيد.....

- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين
- الأنماط الخمسة من الثوريين - دراسة سيكولوجية ا. شتينبرج / سعيد العليمى
- جريدة طريق الثورة، العدد 46، أفريل-ماي 2018 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - حاتم الجوهرى - الثورة المصرية والنخب التاريخية