أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - فى البدء كانت العتمة - قصة قصيرة















المزيد.....

فى البدء كانت العتمة - قصة قصيرة


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 3822 - 2012 / 8 / 17 - 11:28
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


كان النفق رطبًا مُنعشًا ، ولمبات النيون المُضاءة لا تلغى إحساسى بالعتمة .
بعد خروجى من الوزارة أسير فى شوارع المدينة. لا أشعر بشىء ولا أفكر فى أحد . كانت شمس بؤونة مُصوّبة على رأسى . أصنع من الجريدة ضـُليلة ولكن الصهد يشوينى .
يشدنى مدخل النفق . أهبط إلى أسفل مُنتعشًا . كأنما الرطوبة تستقبلنى وحدى ، ولم تخدعنى لمبات النيون الكثيرة ، فلم يهتز إدراكى بأنّ الأصل هو العتمة.
أختار كرسيًا شاغرًا وسط رصيف محطة مترو الأنفاق . أجلس من الثالثة حتى الخامسة. أنظر فى ساعتى كلما توقف قطار. أحسب الدقائق بين كل قطار وآخر. لما مللتُ أخذنى شغف إلى معرفة عدد القطارات التى تمر خلال الساعتيْن . بعد قليل ارتبكتْ الأرقام . فلما توقفتُ عن العد اكتشفتُ أنّ صداعًا يشطر رأسى ، وأنّ صوت رئيسى فى الوزارة مُختبىء فيه كجيب صديدى : ((مبروك .. بعد أيام ح تستلم قرار إحالتك على المعاش))
حتى كان ذلك اليوم . .
وقفتْ أمامى برهة. حيّتنى برأسها وقالت ((مساء الخير)) ارتبكتُ . فلما انتبهتُ اعتدلتُ فى جلستى وخرج صوتى واهنــًا مُـتلعثمًا ((مساء النور)) ولكنها كانت قد ابتعدتْ . قمتُ واقفــًا وأطلقتُ بصرى وراءها فلم أجد لها أثرًا . أرسلتُ نظراتى مع امتداد الرصيف . لمحتُ ظهرها . تمنيتُ أنْ تلتفتْ نحوى فحجبها الركاب عنى . فكرتُ أنْ أقترب منها ولم أفعل .
خلتْ المحطة فخلوتُ إلى نفسى : هذا الوجه أليف . بل هو لصيق بالذاكرة والوجدان . برهة قصيرة فتحتْ البئر فأهبط طائعًا راضيًا . يشدنى الماضى وتنفضنى الذكرى . ها هو الوجه : لا أحقاب ولا ثوانى بيننا . يسقط الزمن ويلتحم الماضى بلحظتى هذه . ها هو يطل مُشعًا من بئرى . تراه ذاكرتى كما العينان تقرأ خطوط الكف : بيضاوى الشكل وطفولى لم يزل . خمرى اللون . العينان المُبتسمتان . الغمازتان فى الخدين . الثغر الدقيق . عند حدود الوجه تنغلق البئر ويسود الظلام . لا شىء إلاّ الوجه. تكوينات الجسد فى المجهول أو العدم . أين ومتى كان التعارف ؟ لا شىء إلاّ الوجه والظلام . أهى مرحلة من الطفولة أو الصبا ؟ أهى زميلة ولا أدرى ؟ أم هى معرفة عابرة ولا أذكر؟ أتكون عابرة ويكون التأجج فى صدرى ؟ ويكون ندمى لأننى لم أجر وراءها ، وتكون لهفتى على رؤيتها ؟
كنتُ مــُكبلا بحيرتى . فى مكانى لم أزل . نظرتُ فى ساعتى . كانت الرابعة. فكرتُ أنْ أغير من عادتى فلا أنتظر حتى الخامسة. أركب القطار وأذهب إلى حجرتى ، أو أخرج من النفق ، أسير فى الشوارع . آكل فى أى مكان . أو- حتى – أدخل أى سينما . لم أفعل . كان الوجه يُحاصرنى ، كأنها لاتزال واقفة أمامى ، تــُحيينى برأسها ، تغزونى عيناها المُبتسمتان ، يتغلغل داخلى صوتها الحانى : ((مساء الخير)) يتكرر رغمًا عنى ، تبتعد . أرسل بصرى وراءها . ألمح ظهرها . أكتشف أنّ الذاكرة تختزن الرداء ولونه : تايير زرعى طويل .
فى الأيام التالية تجاهلتُ النظر فى ساعتى ولم أهتم بمعرفة عدد الدقائق بين كل قطار وقطار. أجلس قريبًا من مدخل الدخول . أبحلق فى كل سيدة علــّـنى أراها . فى اليوم الرابع رأيتها . اقتربتْ منى . أبطأتْ من خطواتها وتمهلتْ أمامى . حيتنى برأسها وقالت ((مساء الخير)) دخلتُ فى غيبوبة أفقدتنى القدرة حتى على رد التحية. ولما أفقتُ كانت قد ابتعدتْ . استجمعتُ شجاعتى وقمتُ واقفــًا . مشيتُ على رصيف المحطة قريبًا منها . التقتْ العيون فى نظرة خاطفة . أدارتْ رأسها فأدارتْ رأسى . فلما عادتْ العيون تلتقى من جديد فكرتُ أنْ أقترب أكثر وأكلمها ، ولكننى لم أفعل . ولما جاء القطار نظرتْ إلىّ وهى تتأهب للركوب . هممتُ أنْ أركب معها ، وبينما القطار يبتعد كنتُ وحدى على رصيف المحطة.
تتوالى الأيام ولا تأتى .
أكانتْ حلمًا أم واقعًا ؟ أكانت خيالا أم حقيقة ؟ أيغزل الوهم خيوطه من الواقع ؟
أهيىء نفسى على النسيان فيغزونى وجهها . أكابد حزنى وأتعلق بخيوط الوهم . أغزل من الوهم نسيجًا مُتحركــًا . تتوالى الأيام ويزداد ارتباطى بالنفق ساعتىْ الظهيرة .
000
استلمتُ اليوم قرار إحالتى إلى المعاش . إذن فقد بدأ العد التنازلى : ثلاثة أشهر وينحصر عالمى داخل حجرة فوق السطح فى عين شمس . لا أخرج حتى لعملى الكئيب بالأرشيف . قرأتُ القرار عدة مرات . استوقفتنى عبارة (( إحالة السيد ... على المعاش )) قلتُ لمرؤوسى : ((مدير شئون العاملين السابق كان يكتبها هكذا (( إحالة السيد فلان إلى المعاش )) لاحظتُ أنّ نظراته ونظرات زملائى ترسم علامة استنكار، مصحوبة بعلامة استفهام مُنطفئة. وجّهتُ سؤالى إليهم جميعًا (( أيهما أصح : الإحالة إلى .. أم الإحالة على ؟ ))
قال عادل : (( يا أستاذ المعنى واحد : الخروج ))
وأعادتْ مدام سعاد على سمعى سؤالها الأزلى : (( يا أستاذ .. متى تتزوج ؟ ))
000
لماذا يتفتح الحلم (مثل وردة) هذه الأيام ؟ وإنْ كانت حقيقة فكيف يكون الوصول إليها ؟
تتوالى الأيام ولا تأتى . وأصبحتْ ساعتا النفق ملاذًا وسعيرًا . أحدّق فى لمبات النيون المُضاءة فيحنو علىّ إدراكى أنّ العتمة هى الأصل . حاولتُ نسيان كل شىء ، وأدخلتُ نفسى فى عادة جديدة : أرسلتُ عينىّ للنظر فى وجوه الركاب ، وكأنما أراهم للمرة الأولى . كنتُ كمن يدرس ويُحصى ويُقارن . اكتشفتُ أنّ الشباب – غالبًا – يمرحون ويمزحون . وأنّ البنات أكثر لطفــًا من الصبيان . وأنّ الكبار- غالبًا – عابسون . وأنّ الأطفال – عادة – يفلتون أيديهم من أيدى الكبار ويجرون على رصيف المحطة ، فيجرى الكبار وراءهم .
وتعوّدتُ أنْ أطيل النظر إلى أكياس البلاستك فى أيدى الركاب . فكنتُ أميز ما بداخل الأكيــاس : هذا عنب . هذه بطاطس . هذا عيش . وكنتُ أحاول تخمين الكمية وعدد الأرغفة. وكان هذا يُرشدنى إلى عدد أفراد الأسرة . واكتشفتُ أنّ تلك العادة تـُضاعف ألمى .
وكنتُ أتأمل الركاب الذين يجرون ويلهثون ، فأتعجب ، ثم يتراجع تعجبى وأنا أهمس لنفسى : ربما هناك آخرون فى انتظارهم .
فى الخامسة أركب القطار. تنسل روحى وهو يجرى بجنون . فى زمن الخفق المرعوب يقطع المسافة من ميدان التحرير إلى عين شمس . أشترى رغيفى وأصعد إلى حجرتى فوق سطح البـيت . أبدأ الطعام فتنشط آلام المعدة . أشغل نفسى بأى شىء . أقرأ بلا فهم . أغسل ملابسى النظيفة. أكوى قميصًا أشعر به مُستنكرًا فعلى . أورنش الحذاء اللامع . ومهما تغاضيتُ عنها فهى فى انتظارى . إدراكى بوجودها يُضاعف شكى بوجودى . إنها النهاية : حتمًا ينطفىء النور. ويبدأ صراعى مع النوم .
أقضى ليلى بين الإغفاء والانتباه . أنتظر الفجر جالسًا فى فراشى . أو أخرج من الحجرة وأنتظره فى السطح .
000
ذهبتُ إلى الوزارة قبل السعاة والفراشين . أخذتُ مفاتيح الأرشيف من بوابة الأمن . تصفحتُ الجريدة بإيقاع ملول . أخرجتُ كتابًا فى الفلسفة من درج مكتبى . قرأتُ منه عشر صفحات فى شهرين . يتكاثر الزملاء فأختنق بوحدتى . أتساءل من الذى يتباعد عن الآخر؟
أصبحتُ أنظر فى ساعتى كثيرًا . أنتظر لحظة خروجى من الوزارة كتلميذ يُرهف حواسه لجرس الانصراف . أندفع نحو النفق بسرعة غريبة على خطواتى المُعتادة . عيناى مُسلطتان على كل سيدة علـّـنى أراها . ها هى تـُقبل نحوى . قمتُ مُنتفضًا وتقدّمتُ نحوها . مددتُ كفى مُصافحًا فأسلمتنى كفها . سرى نبضها فى عروقى ، فلما سحبتْ كفها أمسكتُ يسراها بيمينى ومشينا إلى آخر مقعديْن على رصيف المحطة. جلسنا مُتجاوريْن . تنظر إلىّ وأنظر إليها . لم تتكلم ولم أجد ما أقوله. انفتحتْ بئرك وأصبح الوجه بين يديك . نفس الوجه : بيضاوى الشكل وطفولى . خمرى اللون . العينان المُبتسمتان . الغمازتان فى الخدين . الثغر الدقيق . هممتُ أنْ أنزل إلى أسفل لأكتشف تكوينات الجسد ولم أفعل . بهرنى التايير السماوى الأنيق . رجعتُ إلى الوجه لأخمن عمرها . هل تعدتْ الأربعين أم هى على مشارف الخمسين ؟ انتبهتُ على صوتها : ((هل تذكرتنى ؟ ))
قـلتُ : (( وأنتِ هل تعرفيننى ؟ ))
قالت : (( لا أذكر إلاّ وجهك ))
قلـتُ : (( أتعرفين اسمى ؟ ))
قالت : (( لا أذكر إلاّ وجهك ))
قلـتُ : (( ألا تذكرين أين أو متى التقينا ؟ )) رأيتُ سحابات الغضب فى عينيها .
قالت : (( أنتَ لم تجب عن سؤالى : هل تذكرتنى ؟ ))
قلـتُ : (( لا أذكر إلاّ وجهك ))
قالت : (( ألا تذكر اسمى ؟ ))
قلـتُ : (( سقط كل شىء ولم يبق إلاّ وجهك ))
(( سأركب القطار القادم )) قالت جملتها وهى تنهض وتتحرك بعيدًا عنى . كانت جادة بشكل مخيف . هرولتُ وراءها . قلتُ لها : (( هل أركب معك ؟ ))
التفتتْ إلىّ وقالت : (( أنتَ حر. ولكن لا تتبعنى ))
كان وجهها وصوتها غريبيْن . وغطى ضجيج الصمت بيننا على صوت عجلات القطار على الرصيف المقابل . وعندما جاء القطار الذى ستركبه ، تتبعتُ ظهرها وهى تختفى فيه. فلما اختفى القطار فى النفق ، كانت عيناى على لمبات النيون ، وبينما أتأهب لركوب قطار الخامسة كان حنو الإدراك يُهدهدنى هامسًا : إنّ الأصل هو العتمة. وأنّ الظلام أصل الأشياء .
***



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإبداع الشعبى والإبداع التشريعى
- لماذا لا يتعظ الإسلاميون والعروبيون من الدرس ؟
- العرب ظاهرة صوتية
- الحضارة المصرية بين علم المصريات والأيديولوجيا
- البحث عن خنوم : حدود العلاقة بين الإبداع والتراث
- الاحتقان الدينى : الأسباب والحل
- التعددية والأحادية فى رواية (حفل المئوية)
- حماس والإخوان والحلم الإسرائيلى
- الوجوه المُتعدّدة للشاعر حلمى سالم
- الأصل مصرى والدماغ عبرى
- العلمانية وغياب الحس القومى
- حامد عويس : من طين الواقع إلى سماوات الفن
- ختان البنات وغياب الوعى بعلم المصريات
- أتكون الثورة نكبة على شعبنا ؟
- حسن حنفى : الفلسفة بعمامة الأصوليين
- المرأة المصرية بين ثقافتيْن
- عبد الوهاب المسيرى وحكاية العلمانية الجزئية
- نبى العروبة والصحابى الأول
- هل العروبة لصالح مصر والعرب ؟
- العقل المُغيّب منذ طفولة البشرية


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن ضرب -هدف حيوي- في حيفا (في ...
- لقطات توثق لحظة اغتيال أحد قادة -الجماعة الإسلامية- في لبنان ...
- عاجل | المقاومة الإسلامية في العراق: استهدفنا بالطيران المسي ...
- إسرائيل تغتال قياديًا في الجماعة الإسلامية وحزب الله ينشر صو ...
- الجماعة الإسلامية في لبنان تزف شهيدين في البقاع
- شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية ...
- أكسيوس: واشنطن تعلق العقوبات على كتيبة -نيتسح يهودا-
- آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أ ...
- -الجماعة الإسلامية- في لبنان تنعي قياديين في صفوفها قتلا بغا ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال قيادي كبير في -الجماعة الإسلامي ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - فى البدء كانت العتمة - قصة قصيرة