أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - ذكريات اللاذقية: النهاية















المزيد.....

ذكريات اللاذقية: النهاية


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3769 - 2012 / 6 / 25 - 19:40
المحور: الادب والفن
    



مُشرفٌ على جُرْف الماضي، ما أفتأ. أمضي ببَصري، بعيداً، إلى تلك الجهات السحيقة؛ أنا المنفيّ في مكان غريبٍ، قصيّ. سنواتٌ ثلاث، مَرّتْ على إقامتي غير المَيْمونة في مدينةٍ سويديّة، بحريّة، لم أرَ بالمُقابل يَمَّها قط. اللهم سوى مرّة واحدة حَسْب، في أحد أيام الشتاء المُنصرم، حينما كان البحرُ مُتجمّداً كلياً. بيْدَ أنّ ذاكرتي، المُتوقدة حنيناً، قادرةٌ ولا غرو على بَعْث بحر اللاذقية بكلّ بهائه وألقه وسِحْرهِ. لقد قدِّرَ عليّ أن أحيا الحنينَ، وكأنما هوَ تعويضٌ عن الحاضر، المَبخوس الحَظ. ربعُ قرن، عليه كان أن يَفصلني عن المرّة الأخيرة، المُقدَّر لي فيها أن أرى يَمّ مدينة الذكرى، المُفتقدَ. آنذاك، وكان قد مَرّ حوالي ثمانية أعوام على تسريحي من الخدمة الالزاميّة، فإنني شئتُ المرورَ على تلك الآثار، المُتخلّفة عنها؛ على منطقة " مار تقلا "، بشكلٍ أساس، بما أنها كانت مُستقراً لأكثر أيامي في المدينة إثارةً، وآخرها على أيّ حال: بمَحض المُصادفة، فإنّ الوقتَ كان أيضاً في أحد أيام الصّيف، المُتأخر، عندما رأيتني أتجوّلُ في شارع فرعيّ، ضيّق نوعاً، يتراصَفُ على أحد جانبَيْه بناءٌ من أربعة أدوار، يليه بناءٌ آخر، على النسق نفسه: في كلّ منهما، على التوالي، كان يَكمِنُ عشَ العاشق والمَعشوق. فكرة خرقاء، كانت تداعبُ إرادتي، الرَّخوَة أصلاً؛ وهيَ أن أبادر من فوري لزيارة شقة الايجار، السالِفة العَهد، بحجّة السؤال عن صديقٍ ما، مُفترَض. حقّ للفكر أن يُلتبَسَ عليه، طالما أن شرفة منزل الحبيبة، كانت ما تزالُ شاغرة بالرغم من أنّ الوقتَ كان عصراً. ولكنني، في آخر المطاف، آثرتُ التريّث في الشارع، في ظلّ شرفة شقتنا السابقة؛ التي كان طرَفها ما يفتأ مُرقشاً بمفردةٍ مُخططةٍ بالفحم: " وَداعاً ".
هيَ ذي الأشهر الأخيرة، إذن، من مُختتم أعوام السبعينات؛ من صيفٍ سيكون الأخير، بدوره، الذي سأقضيه في اللاذقية بصفتي العسكريّة. ذلك العقدُ، الرائع، كان قد شهَدَ مُبتدأه توثق علاقتي بصديق الطفولة، " سيفو ". خبَرُ موت صديقي هذا، شاءَ بالمُقابل أن يتواشجَ مع نهاية العقد. وكنتُ قد التقيتُ معه، مُصادفةً، خلال إجازة العيد الصغير. تورُّدُ وَجهي بمسحَةٍ من الاشراق، شافهُ " سيفو "، الفطِن، على وَجهه الصحيح: " ها؟.. يبدو أنك، في آخر المطاف، تعاشرُ إحداهن؟ "، تساءلَ مُتبسّماً بخبث. عند ذلك، رحت أقصّ على مَسْمَعِهِ تفاصيلَ ليلة الفندق، الحمراء. ولكونه لا يُطيق ذكرَ اسم " آدم "، فإنّ شيئاً من الغيرة ولا غرو دَفعَهُ للتعليق بالقول: " انتظرْ. بعدَ العيد، بكلّ تأكيد، سأزورك في اللاذقية ومعي سيارة خاصّة. وسأجعلكَ تنسى تلك الليلة، حتماً ". نبرَة اليقين، في جملتِهِ، جَعلتني ربما أسهوَ عن الاستفهام بشأن ماهيّة السيارة، المَأمولة. إنها عرَبَة الموت نفسها، التي استقلّها صديقي في اليوم الأخير من العيد. فحينما كنتُ في الحافلة الكبيرة، المُتجهة إلى اللاذقية، كان " سيفو " في سيارة أحد الأصدقاء على طريق منطقة " أبي رمانة "، الراقية؛ أين وقعَ الحادث المُهلك. ولم أدر بالخبر، المشئوم، إلا بعد حوالي الشهر: دَمٌ آخر مُهريق، غزيرٌ، عليه كان أن يَحتجزني خلال ذلك الوقت في اللاذقية؛ في مَدينةٍ، مُهَجّنةٍ، سيقدّرُ لها أن تفتتحَ المَذبحة الأهليّة في عموم البلاد.
علاقتي مع " آدم "، من ناحيَة أخرى، لم تألُ عن الفتور وبالرغم من جذوَة نار المُغامرة الأخيرة، المَوْصوفة. وكأنما أبى ( ولو بشكل غير مَقصودٍ ) إلا أن يَسقيني مع الخمرَة، علقماً. فما أن عُدنا إلى الشقة، عند مُنبلج الفجر، قادمَيْن من الفندق، حتى بادرَ هو إلى تجهيز حقيبة الرّحيل. " أترغبُ في الاحتفاظ بهذا السروال، النسائيّ.. "، خاطبني وهوَ يَرفعُ غرَضَهُ دونما اهتمام. ثمّ أضافَ كالمُعتذر وقد عاين وُجُومي " لقد استعملتهُ كمنديل؛ فلا حاجةٍ لأحد به بعدُ "، قالها وما عتمَ أن قذفَ بالسروال إلى الخارج. ولأن النافذة تطلّ على القبو، المأهولُ بعائلةٍ مُستأجرة، فإنني ألقيتُ نظرة ً قلقة إلى تلك الناحية. ولكن، هوَ ذا السروالُ، المُلطخ بماء الشهوَة، مُتهالكاً ثمّة على طرف نافذة حجرَة بنات المالك. ستكون طامة ٌ داهمة، ولا ريب، عندما ترفع إحداهن الستارة فتعاين هذا الأثرَ، المُريب. بيْدَ أن " آدم "، بخصلة استهتاره المَعهودة، هوّن عليّ الأمرَ: " إنهم يعرفون أخلاقك، فلا حاجة للكدَر ". وما لبث أن تابع " سيذهبُ فكرهم، على الأرجح، إلى جهة صاحبك؛ مغوار الأسطح، المَنيعة "، قالها مُتهكّماً. أدركتُ، بالطبع، أنه يَقصُدُ جاري، " بوز الكلب ". هذا الأخير، ولمَحض الاتفاق، سيكون عليه أن يَلحق بمصير " آدم "، فيرحل بدَوره عن المَسكن: أسبوعٌ، على الأثر، وكان علينا نحن، ساكني الدار، أن نستيقظ في منتصف الليل على صوت ارتطام الحجارة بأرضيّة السّطح. ذلك، كان مَصْدَرُهُ البناءُ المقابل، الخلفيّ؛ أين كان يَكمن أحدُهُم على سطحِهِ. ليُباغَتُ، من ثمّ، ربيبُ التلصص بوابلٍ مُتصِلٍ من سِجّيل، غاضب. فضيحة " بوز الكلب "، ما عتمَتْ أن ألقتْ بظلالها على الآخرين أيضاً؛ مِمَن بقوا مًستأجرين في مُلحق المَسكن، العلويّ.
***
غيرَ أنّ موضوع سروال الانكليزية، عليه بدَوره أن يأخذ منحىً آخر. إذ جاز للكَيْد النسويّ، إن صحّ التعبيرُ الشائع، أن يَدخلَ على الخط تيْسيراً لأرَبٍ خاص. قبل ذلك، كانت رسالتي إلى " مَهِتاب " قد طارتْ عَبْرَ البرزخ الفاصل بين شرفتيْنا. كان الوقتُ، كالعادة، يُداور حول ساعةٍ من الليل، مُتأخرة، حينما التقطتْ هيَ وَرقتي؛ المُتضمنة ما يُشبه الاعتذار، والمُزينة حواشيها برسومي المُلونة. في عصر اليوم التالي، أفقتُ من قيلولتي على مَشهَدٍ كالحُلم: كانت الحَبيبة تطلّ عليّ، مَرِحَة ً مُتضاحكة، خلل الشرفة المُقابلة؛ أين تقيمُ صديقة " زين " مع أسرتها. بدَوري، تناهضتُ على الفور نحوَ نافذة الحجرَة، لكي أشرع في همّةٍ بتبادل اشارات العَبث والمِزاح مع " مهتاب " وصديقتها. هذه الأخيرة، وبغض الطرْف عن سُمْنتها البيّنة، كانت مَليحة الملامح؛ تكبُرُ الأخرى بعامَيْن على الأقل، حيث أنها كانت في سنتها الأخيرة بمَعهد إعداد المُعلمات. عند ذلك، وعلى غرّة، فإنّ ظهوراً أنثوياً جديداً على الشرفة تلك، عليه كان أن يُكدّرَ المَشهَدَ. ويبدو أن " يُسْريّة "، التي كانت تراقبُ عن كثب ما يجري ثمّة، قد قرّرَتْ عندئذٍ أن تشاركَ جارتيْها في المَرَح وعلى طريقتها الخاصّة. كنتُ إذن في المطبخ، لإعداد قهوتي، أمرّرُ خلل نافذته نظراتٍ مُبلبلة، خاطفة، نحوَ تلك الشرفة، الحافلة، حينما خيّل إليّ أن غرَضاً ما، ملوّناً، أخذ بالتنقل من يَدٍ إلى يد.
" آه.. إنه ذلك السروال، المَلعون "، خاطبتُ داخلي مُروَّعاً. في الواقع، فإنني كنتُ على يقينٍ بأنّ هذا ليسَ كلّ شيء؛ أنّ لدى " يسريّة " ما يَصلحُ مادّة شيّقة للقصّ: خلال الأيام الأخيرة، التي أعقبَتْ ليلة الفندق، فإنّ صوابي كان قد طاشَ حقاً. صوَرُ العُري والمَباحة، التي كانت آنذاك مَبذولة لشهوتي، شاءت أن تترى في ليالي وِحْدَتي وأرقي. إذ ذاك، رأيتني على اهتمام كبير بما كان يَجري ثمّة، في حُجْرَتيْ بنات مالك المَنزل. في هذه الحالة، فإنّ خصلة التلصّص، الصبيانيّة، كانت عَدْواها قد انتقلتْ إليّ ولا غرو. مَوقفٌ فاصل، من وقفاتي خلف ستارة النافذة تلك، المُشرفة على متاع المُتعة، عليه كان أن يَجعلَ وَجهي مُتضرّجاً بالعار؛ أنا من كان ما يفتأ في المطبخ، هاجساً بأسوأ الأفكار: آنذاك، وكان الوقت على حدود الغروب، فإنّ " يسريّة " قد بالغتْ في حركاتها، العابثة، فيما هيَ تطرد من الغرفة أخوتها الآخرين، الذين يَصغرونها سناً. كتابٌ ما، رواية أو أشبه، كانت وسيلة اللعبة المُثيرة، المُتعيّن على الجارة الجميلة أن تعرضها على عياني. كنت أتابع، مُثاراً بشدّة، تقلّبَ ذلك الكتاب فوق مواضع الفتنة في بَدنٍ شبه عارٍ يَضجّ بالشبق والغلمة. في المُقابل، كان على جرعاتٍ مُتتالية، من مُعين جَذوة الخمر، أن تؤججَ بَدَني فتجعله يُواكب رويداً الحركات المَاجنة، المَجنونة، حَدّ أن أعرضَ هذه المرّة ما تيسّرَ من علامات فحولتي.
مع حلول شهر رمضان، دَبّ أوارُ الحركة والنشاط في شرفات مَلاحق الأبنية، العليا. وإذ كنا مُتوَحِدَيْن، " سعيد " وأنا، إثرَ رحيل شريكَيْنا عن المَسكن، فإنّ شيمَة هذا الشهر، المُفعمَة بالتضامن، عليها كان أن تشدّ أصرَة صداقتنا. في واقع الحال، لم يكُ مُجاملتي لهذا المُجند، الحاجب، من مَعنىً لديّ لولا أنها كانت وسيلة ً للفت انتباه " مهتاب ": كانت على شرفة منزلها، هيَ وشقيقتها وزوجة أخيها، على انهماكٍ في التهيّئة للإفطار. وكنّ يَرمُقن بتعاطف ساكني شرفتنا؛ طالما أنهم من أهل الشهر، الفضيل. بيْدَ أنّ الأمرَ، ولا غرو، كان مُختلفاً ثمّة في الخدمة. إنّ " سعيدَ "، المُتديّن بعُمق، كان مُعتاداً على تعريض بعض زملائنا في المكتب بالتزامِهِ الفرائض الدينيّة. ذات صباح، حينما أومأ نحوي، " كاسرُ "، مُنوّهاً بحقيقة أنّ الصيامَ ليسَ مُلزماً لجميع المُسلمين، إذا بحاجبنا يُجيبه بنبرَة مُنتصرَة: " ولكنه صارَ يصومُ رمضان، أخيراً. وبإذن الله سَيُقبل على الصلاة أيضاً ". بالرغم من ضحكي، المُتفكّه بالحاجب، فإنّ مُجادِلَهُ شاءَ أن يتبادلَ مع الآخرين نظراتٍ حذرَة، واجمَة. بعد مُضي نحو الشهر، وكنتُ قد عُدّت من إجازة العيد الصغير، إذا بالحاجب يُحيطني عِلماً بكون " كاسر " مأذوناً بدَوره: " ولكنه حَصَلَ على إجازة نقاهة.. "، قالها مُتضاحكاً. ثمّ راحَ هوَ، على الأثر، يقصّ عليّ تفاصيلَ مَشادتِهِ مع ذلك الرقيب الأول، المُجند. " وحينما رَفعَ يَدَهُ لكي يَضربني، فإنني أمسكتُ بها وما لبثتُ أن أعدّتها إليه مَكسورة ً من المِعْصَم "، اختتمَ " سعيدُ " القولَ وهوَ يشدّ على نواجذه. ولم أفاجأ، في المُقابل، بإفلات حاجب النقيب هذا من عقوبة السّجن؛ بما أنّ الرشوة هيَ القانون الأعلى، الحاسم، في جَيْشنا العقائديّ.
***
في عَشيّة أحداث اللاذقيّة ( التي كادَت أن تتحوّلَ إلى انتفاضة أهليّة شاملة )، كان الحالُ لدينا في المُعسكر مَشحوناً بنذر الرّيبة والترقب. في هذه الأجواء، كنتُ مَلموماً مع بعض الأصدقاء، من مَراتب صف الضباط المُجندين، ثمّة في مَكتب المُهندسين، المُجاور. وكنا قد تناولنا افطارنا للتوّ، عندما حضرَ " الرّقيبُ حَمُو "، وهوَ من محافظة إدلب، ليُخبرنا عن خطاب للرئيس المصري، " السادات "، مُرتقبٍ. فما هيَ إلا سويعة، وكنا ننصتُ للرئيس في هجومه الناريّ على ما أسماه " النظام البعثي العلوي في سورية ". وعلى ما أذكُرُ، فإنها كانت المرّة الأولى التي يُشار فيها إلى طبيعة أهل السلطة، الطائفيّة. البَسمات المُواربَة، المُتهكّمَة، التي رَسَمَها معظمُ الحضور على أفواههم، قابلها احتدادُ " الرقيب وقاف "؛ وهوَ من أهالي الجبل العلويّ: " إنه حقيرٌ، خائن.. "، ردّدَ بسخط وقد اربدّت سِحْنتهُ. فما كان مني سوى التعليق، مُلاحِظاً: " ولكنكَ، فيما مَضى، كنتَ تؤيّد السادات بقوّة فيما يَخصّ مبادرته للصلح مع اسرائيل..؟ "، قلتُ لزميلنا الغاضب. إلا أنه، مُحرجاً نوعاً، لم يَملك سوى الغمغمة. مُنفعلاً، تناهضَ من ثمّ ليُبدي رَغبته بالتجوّل في الخارج.
" عليكَ الانتباه، يا صديقي، حينما تخوض في شئون السياسة "، قالَ لي مديرُ الندوة في عصر اليوم التالي. " الرقيبُ غسان " هذا، ما عتمَ أن تطرّق إلى ما جَرى من نقاش في مَكتب المهندسين، مُلمّحاً لشخص المُخبر. وبالرغم من مَعرفة هذا الزميل لخلقي، وطبيعة تفكيري، فإن دافع الصداقة جعلني أضعَهُ في صورة ما جدّ هناك يوم أمس. هكذا دافعٌ، كان مَفقوداً ولا شك في علاقتي مع الآخرين بمَكتبنا، الماليّ، من مَراتب صف الضباط: سيماءُ وجوههم، الكامِدَة، كان يوحي بأنّ المُخبرَ، ما غيرَهُ، قد سبقَ ومرّ من هنا. وعلى كلّ حال، سيمرّ يومان آخران قبلَ أن يُجيز مساعدُ ديوان المكتب لأحدهم بإثارة مسألة الخلل في السجلات الماليّة، الخاصّة برواتب إحدى كتائب الصواريخ. عند ذلك، تدخلَ مُعلِمّنا، النقيبُ، مُقترحاً إرسال بعض المرؤوسين إلى تلك الكتيبة لكي يتمّ مُعالجة ذلك الاشكال. وقد تمّ الأمرُ، في اليوم التالي، على الشكل المَطلوب. وها هوَ قائد الكتيبة تلك، يزورُ مواطنه، مساعدَ ديوان مَكتبنا، ليُخبرُهُ بحاجتِهِ لرقيبٍ مُجند من ملاكه ـ كمُحاسبٍ ماليّ. فما كان من المُساعد، المُتبسّم بلؤم وتشفّ، سوى اقتراح اسمي. وكان هذا الرائدُ، المُتسِمُ أيضاً بخصلة اللؤم والجَلافة والجَشع، في طريقِهِ فعلاً إلى مَكتب قائد اللواء، سعياً لإصدار أمر نفيي إلى تلك الأصقاع، النائية، حينما تصاعدَ من جهة المدينة القديمة أصداءُ الإنفجارات المُتتاليَة، الداويَة.
في اليوم الرابع، المُتعيّن فيه على المُصادمات الأهليّة، الدمويّة، أن تهدأ قليلاً، رأيتني أغامرُ بالسَيْر إلى مَسكن الإيجار، لكي أتفقد غرفتي. في صباح ذلك اليوم، كان قائدُ اللواء قد تفقدَ مكان انتشارنا؛ هناك، على مداخل " حارة الصليبة ". وسمعته يتحدّث مع ضابط التوجيه السياسيّ، مُشيراً بيدَه إلى ناحية سيارة الرانج روفر: " لقد أطلق علينا حاجز الاستخبارات العسكرية النارَ، بطريق الخطأ، حينما لم يَنتبه السائقُ لإشارة التوقف "، قالها العقيدُ ثمّ راحَ يَتفحّص آثارَ الطلقات على جسم سيارته. بعد أقلّ من عام، كان " العقيد ظاظا " على موعدٍ مع الموت، ثمّة على طريق الشام نفسه؛ الذي شهَدَ قبل ذلك ببضع سنوات حادثاً مُشابهاً، نجا منه هوَ ببعض الجروح في حين قتِلَ سائقهُ. وإذن، كان الوقتُ عند غروبٍ، حارّ، من تلك الأمسيات المُميّزة جوّ المدينة خلال نهاية الصيف، عندما وَصلتُ بسلام لمَسكني. رائحة رطوبة البحر، الحرّيفة، كانت قد أخلتْ مواقعها لمَشام البارود والديناميت والقذائف الصاروخيّة. ما أن شرَعْتُ بتقليب بَصَري في مَوجودات الحجرَة، حتى تصاعدَ على غرّةٍ أزيزُ صليات ناريّة من مكان جدّ قريب. عندئذٍ، هُرعت إلى الشرفة، لمُعاينة ما يَجري في الشارع. وإذا بي ألمَحُ " مهتاب "، التي كانت ثمّة على شرفتها وقد انتابها قلقٌ بيّن، مُماثل. فما كان مني، جادّاً، إلا الإشارة لها أن تلزمَ أمان سقف منزلها. إذ ذاك، وكانت مُستندة ً بجذعها على طرَف الشرفة، المُقابل لمَوقفي، فقد تسنى لعينيّ أن تقرأ على صفحة عينيها، الخضر، تعبيراً رائعاً، دافئاً، يَمتّ ولا مَراء لأولى أيام حلولي في هذا المَسكن: في هذا المَوْضِع بالذات، سأقوم في ليلتي، الأخيرة هنا، بتخطيط كلمة " وداعاً "؛ كلمة، لم أجد الجسارة فيّ كي أبثها في أذن من أحبَبتها بكلّ كياني.
° تمّ الجزء الأول من هذه السيرة؛ وعنوانها " السندباد السرّي "..
[email protected]



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكريات اللاذقية 15: النجيع
- ذكريات اللاذقية 14: الجراد
- ذكريات اللاذقية 13: الأجساد
- جمعة ابن بلدتنا، البار
- ذكريات اللاذقية 12: الجنون
- مرشح اخوان سورية
- ذكريات اللاذقية 11: الجَوى
- ذكريات اللاذقية 10: الجائحَة
- ذكريات اللاذقية 9: المَسْغبة
- ذكريات اللاذقية 8: الجَماعة
- ذكريات اللاذقية 7: المُسخَرون
- ذكريات اللاذقية 6: بهاليل وأبالسة
- ذكريات اللاذقية 5: مَراتب وحجّاب
- ذكريات اللاذقية 4: الطريقُ الخَطِر
- ذكريات اللاذقية 3: مدير الندوة
- أوديب على أبواب دمشق
- حكاية كتاب 3: التجربة
- حكاية كتاب 2: الرّحلة
- حكاية كتاب: الاكتشاف
- طيورُ الظلام: اسلامٌ مُسيّس وفساد سلطويّ


المزيد.....




- -رمز مقدس للعائلة والطفولة-.. أول مهرجان أوراسي -للمهود- في ...
- بطوط الكيوت! أجمل مغامرات الكارتون الكوميدي الشهير لما تنزل ...
- قصيدة بن راشد في رثاء الشاعر الراحل بدر بن عبد المحسن
- الحَلقة 159 من مسلسل قيامة عثمان 159 الجَديدة من المؤسس عثما ...
- أحلى مغامرات مش بتنتهي .. تردد قناة توم وجيري 2024 نايل سات ...
- انطلاق مؤتمر دولي حول ترجمة معاني القرآن الكريم في ليبيا
- ماركو رويس ـ فنان رافقته الإصابات وعاندته الألقاب
- مهرجان كان: دعوة إلى إضراب للعاملين في الحدث السينمائي قبل أ ...
- حفاظا على الموروث الشعبي اليمني.. صنعاني يحول غرفة معيشته لم ...
- فلسفة الفصاحة والخطابة وارتباطهما بالبلاغة


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - ذكريات اللاذقية: النهاية