أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - ذكريات اللاذقية 7: المُسخَرون















المزيد.....

ذكريات اللاذقية 7: المُسخَرون


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3744 - 2012 / 5 / 31 - 09:18
المحور: الادب والفن
    



تعرّفتُ على " عدنان " في مستهلّ الفترة تلك، الشاهدة على حلولي بمكتب المراسلات. ثمّة، حول مدفأة تبث حرارتها بسَخاء حاتميّ، كنتُ ذات مساء من يناير / كانون الثاني، مُتوحّداً أقرأ أعمدة الثقافة في صحيفة رسميّة. على غرّة، أطلّ زميلي " وفيق "، الرّقيبُ المجند، برفقة شاب لم يَسبق لي مَعرفته قبلاً: " إنه من الشام؛ من حيّ القنوات ".
في صباح اليوم التالي، كنا نحن الشوام قد أصبحنا أغلبية في المكتب، بمقابل ثلاثة ينتمون على التوالي لمدن اللاذقية وطرطوس وحمص. في واقع الحال، فإنّ خدمة مراسلات اللواء كان المُمكن أن يقوم بها ثلاثة أشخاص، على الأكثر. إلا أن سبباً، وَجيهاً ولا شك، هوَ من حتّمَ هذا الفائض الكمّي: فإذا استثنينا الجنديّ المُتطوّع، اللاذقاني، فإنّ الآخرين، المُختلفي المَراتب، قد تمّ تعيينهم هناك بالوساطة. ولكن الحضورَ الفعليّ، غالباً، كان يتقلّص إلى العدد أربعة؛ بفضل الاجازات، والمهمّات، المُباركة أيضاً بمَشيئة الوساطة: " وفيق "، كان من أسرة تجار معروفين، في منطقة " أبو رمانة " الدمشقية، الراقية. أما زميله، " مالك "، فإنه بالأساس كان يَمتهنُ حِرْفة الخياطة، ثمّة في بلدةٍ طرطوسية مسيحية، صغيرة، ستفتخرُ مُستقبلاً بابنها؛ " سلطان الطرَب ".
" عدنان "، كان يُماثلنا في السنّ؛ بيْدَ أنّ حُسْنَهُ، على ذمّة ذاكرتي، كان نادرَ المثال. وعلى الأرجح، فإنه بنفسه كان يَتضايقُ من هذه الحقيقة. فضلاً عن ذلك، فإن زميلنا حُبيَ خلقه بالرقة واللطف والشهامة. على أنني يَنبغي التنويه، بكون صداقتي مع هذا المُجند، الجديد، غير ذات بال. ولكنني، بالمُقابل، لم أتأثر كثيراً لمتانة علاقته بكلّ من مواطننا " وفيق " أو زميلنا الآخر " سعد "، الحمصيّ. وعلى كلّ حال، فلم أكُ بنظر الآخرين سوى شخصاً مَهووساً بالقراءة. فبما أن البريدَ يَتناهى إلينا، أولاً، ثمّ يُوزع على باقي الأقسام، فقد كنتُ أستلّ منه ما يتيسّر من نسخ الصحف الرسمية والمجلات العسكرية: " هذه الصحف، تتضمّن الأخبار عينها؛ فلِمَ تقوم أنتَ بقراءتها كلّها؟ "، سألني الرقيبُ المُجند ذات مرّة. وبما أن جوابي، كان يُحيل لأعمدة الثقافة، المُتنوّعة، فإنه لم يكن مُقنعاً له، أو حتى مَفهوماً.
***
مكتبُ المراسلات، كان يَتبع قسمَ التوجيه السياسيّ؛ إلا أنه تحت الاشراف المُباشر لمُساعد الديوان. هذه الحقيقة، تجاهلها زميلنا " وفيق "؛ حينما شاءَ الالتفافَ حول سُلطة المُساعد، الراسخة، المُستمدّة بطبيعة الحال من سُلطة قائد اللواء. مُبتدأ الأمر، كان بظهور زميلنا في أحد الأيام مع كاميرا يابانية، من أحدث طراز، راحَ يُوجّه عدستها إلى ناحية أعضاء مكتب التوجيه، المُتحدرين من ريف المحافظة شأن مُعلّمهم سواءً بسواء. هذا النقيب، المُتنفج يومئذٍ أمام الكاميرا، كان قبلاً قد اتفق على ما يبدو مع صاحبها على مسألة ضرورية: نقلَ ملفه الحزبيّ، تمهيداً لتعيينه موجّهاً سياسياً.
" مبروك. ولكن، لا تنسَ أن من سبق ولعبَ معي قد ندمَ كثيراً "، قال مُساعد الديوان بغلّ لزميلنا المُتراقص فرَحاً بأمر نقله، الصادر للتوّ. مساءً، حاولَ " وفيق " أن يُفسّر لنا مَبعثَ استهتارهِ بمَقام المُساعد: " لِمَ سأجلبُ الهدايا، باستمرار، لهذا الجَشِع؛ أنا من لم يَعُدْ بحاجةٍ ماسّة للإجازات..؟ ". بيْدَ أننا، لاحقاً، عَرَفنا سرَّ عزوف زميلنا السابق عن السّفر إلى الشام. فما أن مَضى أسبوعٌ، أو نحوَه، حتى كنتُ مع " عدنان " في طريقنا إلى سينما " الكِنْدي "؛ التي كانت الوَحيدة من بين صالات اللاذقية، المؤثثة والمُجهزة بشكل جيّد. فما أن صرنا في قلب شارع بور سعيد، حتى التفتَ صديقي إليّ قائلاً وهوَ يُشير إلى ناحيَة أحد المحلات، الأنيقة: " هنا يَشتغلُ وفيق. لقد اشترى له والدُهُ هذا البوتيك، المُتخصّص كما ترى في بيع الأغراض النسائية ".
في ذلك اليوم، وقبلَ توجّهنا إلى مركز المدينة، كان " عدنان " قد اقترحَ أن يُعيرني أحدَ أحذيته، بعدما سَمِعَ شكوايَ بشأن تهرؤ حذائي، الوحيد. غيرَ أنني رَفضتُ العَرْضَ بلطف، وفي آن، بشيءٍ من العناد المتأصّل فيّ. وبالتالي، لم أبال بامتعاض المُرافق وهوَ يُعاين هيئتي، المَدنية، المُذيلة بحاشيَة البصطار العسكريّ، الكريه. كان فيلمُنا المَطلوب ( على ما أذكُر )، هوَ ميلودراما مصرية من بطولة محمود ياسين ونجلاء فتحي. على ذلك، كان من المُتوقع أن نشهَدَ حضوراً أنثوياً، طاغياً، ثمّة في الصالة. إلا أنّ هيئة صديقي، المُبهرة، حالتْ ولا شك دون أن يَلفتَ مَنظرُ بصطاري، الفظ، أنظارَ من يَهمنا أمرهم. فما أن وَلجنا البلكون، المَسكون على آخره، حتى رأيتَ عيون الفتيات مُنجذبَة نحوَ " عدنان "، بدَهشةٍ مُتواشجة بالتولّه. ومن نافل القول، أنّ هذا المَسّ من السِّحْر قد أصابَ شقيقة " وفيق "، أيضاً، حينما شئنا في يوم تال زيارة المحلّ ذاك، التجاريّ، وكانت هيَ بدَورها تزورُ اللاذقية. إذ ذاك، كنتُ بمَلبسي المَدنيّ، المُعتبَر، المُضافر بحَظوة الحذاء الجديد، المُعار من قبل رفيق مَكتبنا، الفاتن: إزاء أولئكَ البرجوازيين، المَغرورين ( بهذه العقلية كنتُ أفكّرُ في تلك الأيام )، لم أكُ على استعدادٍ لأن أبدوَ بمَظهر غير لائق سيَجلبُ ولا رَيْب سُخريَتهم أو شفقتهم.
***
كان كلّ مجندٍ تقريباً، وبغض الطرف عن رتبته، مُعلقاً من عرقوبه الى هذا الضابط أو ذاك. هؤلاء الأخيرين، وبالرغم من كون أغلبهم ينحدرون من بيئة ريفية بائسة، علوية ومُتشبّعة فوق ذلك بالفكر البعثي؛ إلا أنهم كانوا يُبدون أقصى مشاعر الاحتقار تجاه مُجنديهم، المُنتمين للطبقات الدنيا: " فقير وحقير.. ". على ذلك، ما كان بالغريب أن يَجدَ المُجندون أنفسهم ( خصوصاً من فئة الحجّاب والسائقين الشخصيين )، وقد أضحوا مُسَخَرين لخدمة مُعلّميهم داخل المُعسكر وخارجه على السواء. زميلنا، " عدنان "، نأى بذاته عن تلك الفئة، المَوْسومة، وربما بفضل مُصادفة سعيدة: كان قد سبق وتعرّفَ على حاجب قائد اللواء، خلال وجودهما في دورة الأغرار. وإذن، قدّمَ هذا الحاجبُ صديقه، الجميلَ، لمُساعد الديوان بهدف محاولة تعيينه في مقرّ القيادة. المُساعد، سهى يومئذٍ عن خصلة الجَشع، في انبهاره على الأرجح بهيئة الفتى كما وبرقتِهِ. أما سبب تعيين " عدنان " في مكتب المراسلات، فلكونه يحملُ الشهادة الاعدادية.
" لماذا لم تسجّل شهادتكَ، وقنعتَ بمَرتبة المُجند الفرد؟ "، سألتُ زميلي ذات مرة. عندئذٍ، استهلّ هوَ حكاية شقائه، الانسانيّ. ولكن، يتعيّن أولاً البدء من نهاية الحكاية. فإنّ بعضهم أقنعَ " عدنان " بسهولة نقل المُجند الفرد، مُقارنة بحملة الشهادات. وهوَ حينما سَعى لوساطة تؤمّن خدمته الالزامية في مدينته، دمشق، فلكي يتمكن من مساعدة أسرةٍ تتكوّن من أم وثلاثة أشقاء. كان في بداية انتسابه للثانوية الصناعية / قسم الكهرباء، حينما توفيَ والدُهُ، الذي كان شبَهَ مُقعدٍ منذ زمن بعيد. فاضطرَ الابنُ البكر لترك الثانوية، والقناعة بحِرْفة الكهربائيّ عملياً. وعودة إلى تلك الوساطة، التي لم تفلح بحال؛ حيث ما لبثَ هوَ أن فرز إلى اللاذقية.
من جهتي، كنت خلال إحدى الاجازات قد مررتُ على منزل " عدنان "، مُحمّلاً منه برسالة للأمّ. هذه، كانت امرأة في أواخر الثلاثين من عُمْرها، تنطق ملامِحُها بالكثير من المُفردات المُنزلة من قرآن ربّة الحُسْن. ولكن ما أدهشني، والحالُ تلك، أن أرى صورة الأبّ الراحل، المُعلقة في حجرة الضيوف، كأنما هيَ نسخة من صورة ابنه البكر. الأبّ، كما بدا في تصويره ( وكان بالطبع في عنفوان الفتوّة )، كان يَضعُ على رأسه قبعة افرنجية، فيما بَسمة تعبّر عن ثقة شديدة بالنفس تزيّن فمَهُ، المُنمنم. إثرَ عودتي من الاجازة، وحينما مازحتُ " عدنان " بالقول، أنّ صورة والدِهِ ذكّرتني بزعيم المافيا، " آل كابوني "، فإن جوابه فاجئني حقاً: " في شبابه، كان أبي قومياً سورياً، مُتحمّساً، واعتقل لما تمّ حظر هذا الحزب وملاحقة أعضائه. إنّ مَرَضَهُ، المَديد المَرير، كان من واردات فترة السجن تلك ".
بعدما تمّ ابعاد " وفيق " إلى حدود الجبهة، توثقتْ علاقتي مع زميلنا الشاميّ الآخر، الفاتن. إنّ مُساعدَ الديوان، ما أن سَنحَتْ الفرصة حتى وَجّه ضربَة انتقامه: تشكّلَ في الفترة تلك فوجٌ جديد للمدفعية، في منطقة حوران، فبعثوا إلى الوحدات الأقدم يَطلبون منها رفدهم بُمدرّبين من فئة صف ضباط، مُجندين. آنذاك، كان " وفيق "، لسوء الفأل، في إجازة بدمشق. ولما عادَ، اسقِطَ في يَده حينما أعلمه مُعلّمُهُ أن الأمرَ قد خرج من يدِهِ. ويبدو أنّ المُبعَدَ، بَحسَب شهادة حاجب النقيب، قد بالغ في الالحاف مُجهشاً مُستعطفاً، فما كان من المُعلّم سوى طرده من المكتب بقسوَة واحتقار. في العادة، عندما يُنقل أحَدُ المُجندين، أو يُسرّح، يقيم الأصدقاءُ على شرفِهِ حفلة وداع. ولكن زميلنا " وفيق "، المسكين، اختفى عن أنظارنا، أبداً، بلا نأمة وداع حتى.
***
بالمُقابل، فإنّ تسريح زميلنا الرائع، " عدنان "، كان قد حظيَ بما يَستحق من احتفاء وتكريم. كنتُ على علم، قبلاً، بأنّ هذا الصديقَ يشتغلُ على وساطةٍ تبيحُ تسريحه من الخدمة، مؤقتاً، وفق قانون الابن المُعيل للأسرة. وبالرغم من قيامي على نصحِهِ، مع آخرين من الأصدقاء، بضرورة صرف النظر عن هكذا فكرةٍ خرقاء؛ إلا أنه كان مُصراً على الأمر. وعلى أيّ حال، فإنّ جَمْعَة الوداع جَرَتْ في حجرةٍ يستأجرها زميلنا، " سعد "، بالاشتراك مع مواطن له يَخدُم لدينا كمجند في مفرزة الانضباط. في حجرات الايجار الأخرى، كان ثمّة زملاءٌ من المُعسكر، أغلبهم من حمص وحماة. كان صديقنا " عدنان "، إذن، يتألق بأروَع حلّة في عشية الوداع. بالمُقابل، بدا من مَظهر الحضور أنهم على مزاج سيء، يَتماهى فيه، على الأغلب، شعورُ الأسى مع شعور الحَسَد. ولكنهم، في آخر المطاف، كانوا في قرار أنفسهم يغبطون صديقهم، المُسرّح للتوّ، مع إدراكهم بأنها نعمَة خادعة. وربما أنهم حزانى بشكل خاص لكون هذا الجمال، الخلوق، سَيحلقُ من جديد في العسكرية، ولكن في سماء أخرى.
هذه الشقة، الكائنة في الدور الثاني، كانت تقوم ضمن بناءٍ يُشرف على شارع السّجن. أما القبو، فكان مَشغولاً غرفه بعسكريين من الشام، تحديداً. وسأشاركُ بدوري أحدهم في السكنى ثمّة، إثرَ سفر " عدنان " مباشرة ً. شريكي في الحجرة، واسمه " غسان "، كنتُ قد تعرّفتُ عليه حديثاً. هوَ رقيبٌ مُجند في مستوصف المَقر؛ ومن أهالي حي " سوق ساروجة "، الدمشقي. كنيته، تفترضُ أنّ أصلاً واحداً يَجمعنا. وحينما بادرته بهذا الاعتقاد، فإنني تلقيتُ جواباً بليغاً: " كلنا من آدم، وآدم من تراب ". بيْدَ أنّ مواطننا، الآدميّ، لم يَكُ مُتديّناً بل كان موسيقياً. ويبدو أنه سبق واستغلّ انتسابه لشبيبة الثورة، كي يَستفيد في صقل موهبته على آلة الترومبيت. هذه الهواية، بدا منذ بداية سكنانا أنها سَتجلبُ المتاعبَ. إذ ما كان أسرَعَ صاحبُنا في إشهار آلته تلك، المُناهز حَجْمُها نصفَ المتر طولاً، والشروع من ثمّ بالنفخ خللها في أذني. أما هوايته الأخرى، صيد الأسماك، فإنها تمتّ ولا مَراء لمَوهبة الحِرْص والاقتصاد.
" لقد صَدّعتَ رؤوسنا بهذا الزعيق.. "، هكذا نفخ بنفاد صبر، ذات مساءٍ، أحدُ جيراننا، وفي أذن " غسان " هذه المرّة. ثمّ استطردَ المُحتجّ في القول " كما أنّ رائحة شواء تلك البلاعيط، التي تصيدها أنتَ يومياً، زكمَتْ أنوفنا.. "
" بلاعيط، يا مُحترم؟ "، تساءلَ ذو المَوْهبتين بزعل. هنا، شئتُ التدخلَ لفضّ اشكال، طاريء، بين رقيبٍ مجند ورقيب متطوّع. هذا الأخير، كان يَخدمُ في سلاح البحرية، كما ويقيمُ في حجرته مُتوحّداً. إنه من " عربين "، في ريف الشام؛ ضخم الجثة، مما يَجعله يبدو أكبر من سنه الحقيقية، الفتيّة. وسببُ علاقته الوطيدة معنا، نحن جيرانه في السكنى وفي المُعسكر، فلكون شقيقه الأكبر، المَرحوم، قد شغلَ وظيفة سائق قائد لوائنا. لاحقاً، أخبرني هذا الجارُ بتفاصيل مَصرع شقيقه، التي حيكتْ في عام أسبق، عندما تدهورت سيارة الرانج روفر بالقرب من " حرستا " على الطريق السريع، مما أدى أيضاً لإصابة العقيد بجروح غير خطِرَة.
***
يتعيّن الاشارة، إلى أنّ انتقالي للسكنى في المدينة، قد توافق مع نقلي إلى مكتب سريّة المقر. مُعلّمي، قائد السرية، كان قد عادَ مؤخراً من دورة عسكرية، لكي يُعكّر طمأنينة حالنا و دِعَتِهِ. هذا النقيبُ، كان يَمحضني كراهيَة شديدة، لأنني لم أكُ كريماً بالهدايا. إذ كنتُ أعود من إجازاتي، الدمشقية، خالي الوفاض دائماً وعلى العكس من زميلي في المكتب، الرقيب المُجند؛ الذي كان يَرفدُ بزيت زيتون بلدته، " عفرين "، مطبخَ المُعلّم، المَنزليّ. الزميلُ الكريمُ، نصَحَني مرّة ً بضرورة الاقتداء به. فما كان مني سوى اجابته في عبارة مُقتضبة، لا مُبالية: " حديقة منزلنا، في دمشق، لا تحتوي سوى على شجرة زيتون، واحدة ".
إنما في الواقع، فالصداقة الوطيدة التي ستربطني من بعد مع حاجب النقيب، عليها كان أن تخففَ نوعاً من غلواء هذا الأخير. حتى لقد بلغت الأريحية بالنقيب، أنه وافق ذات مساء على رجاء الحاجب أن يصطحبوني في السيارة في الطريق إلى حصّة المُناوبة في المُعسكر. إذ ذاك، كان السائقُ ( وهوَ دمشقيّ من الميدان ) قد وَضَعَ تسجيلاً للمطرب الشعبي، الشامي، أبي رياح الميداني. فلما استفهمتُ من المعلّم، مازحاً: " سيّدي، كيفَ أصبحَتَ مُريداً لأبي رياح؟ "، فإنه أجابني بنبرَة تحدّ طريفة: " ولكْ أنا أبو علي.. ".
ذلك الحاجب، واسمُهُ " ناصر "، كنتُ قد تعارفتُ معه مُبكراً لكونه من دورة صديقنا " عدنان ". هوَ أيضاً من مدينتنا؛ من حيّ " الشاغور "، المُترامي بعراقته في ظلال المَسجد الأمويّ. وقد توثقت علاقتنا ولا غرو، باستئجاره غرفة ثمّة في القبو، شاركه فيها زميل له، شاميّ، يَخدم في مَطبخ المُعسكر. حاجبُ النقيب، كان فتىً وَسيماً، فارع القوام، يتميّز كذلك بالمَيل للمَرَح. ومثلنا نحن مواطنيه سواءً بسواء، كان ينتمي لأسرة ميسورة الحال. إلا أن بعضَ العارفين، كان قد أشاع خبراً عن اقتران شقيقة " ناصر " برجل سعوديّ، من طبقة التجار. ولئن صحّتْ الشائعة، فإنها تفسّرُ تمسّك مُعلّمنا، المَلولُ، بحاجبه هذا؛ هوَ من بادرَ سابقاً إلى تغيير سائق عربته، العسكرية.
***
" فيصل "؛ هوَ ذلك السائق، الأول. كان شاباً أسمرَ غامق البشرة. ومع أنه من مواطنينا، المُتعهّدين قبوَ الايجار، فلم تكُ صلتي معه طيّبة على الدوام. لقد نظرتُ إليه، لو كان التعبيرُ دقيقاً، بصفتِهِ شخصاً رقيعاً. غيرَ أنّ حادثة جَدّتْ هناك، في مَسكن الايجار، جعلتني من بعد أقلّ تحاملاً على هذا السائق. إذ شهدتُ في ظهيرة أحد أيام الربيع، ما كان من هَرَج ساكني القبو في مطاردتهم لأحد الجرذان، المُتسللة للمرحاض. في الركن المُربّع، الفاصل بين حجرَتيْ الرقيب المجند والرقيب المتطوّع، حوصرَ ذلك الحيوان، المَبخوس الحَظ. ثمّ بدأ يتلقى الضربات، من هنا وهناك، وقد بدا كأنما سلّمَ بمَقدوره. ولكن، على غرّة، اندفعَ الجرذ مُحاولاً التملّص خلل فسْحَةٍ بين قدَمَيْ " فيصل ". جارنا هذا، ما عتمَ أن قبضَ على وَسَطِهِ وهوَ يَصرخ بألم مُستنجداً: " رحماكم، الجرذ يَعضني هنا.. ". فما كان من الآخرين سوى الصراخ فيه بدورهم، حاثين اياه على حماية أعضائه التناسلية. صاحبنا، ابنُ " عربين "، تمكّن أخيراً من سحق الحيوان الهائج بقبضة يده، الجبارة.
" فيصل "، كان يَنحدرُ من برّ الشام، المُحاذي للحدود اللبنانية. بهذه الحالة، فإنه أخذ عن أهالي منطقته وَلعهم ومَهارتهم في التهريب. الطريق العام بين مدينة اللاذقية ومنطقة " العريضة " الحمصية، الواقع بعضه داخل الأراضي اللبنانية، كان يشهدُ أسبوعياً رحلة واحدة، على الأقل، دأبَ سائقنا على القيام بها على دراجته النارية. مهرّباته، كانت تتراصفُ من ثمّ على رصيف الكورنيش، البحريّ. وبما أننا نوّهنا، تواً، بأصحاب الاشاعات؛ فلنضِفْ بأنّ هؤلاء قد أكّدوا على كون أرباح تلك البضائع مُقسّمة، بطريقة ما، بين المُهرّب ومُعلّمه؛ سيادة النقيب. سيادته، بلغ فيه الاستهتار، ذات مرّة، أن سَمَحَ لسائقه الأفاق باستعمال السيارة العسكرية في شؤون التهريب. عندئذٍ، وعلى حين فجأة، تدخلَ ضابط أمن اللواء. بُعيْدَ تحقيق قصير، نفيَ السائقُ ( كأيّ كبش فداء ) إلى احدى سرايا المدفعية تلك، المُتناثرة في مُحيط المحافظة، والمُوْدَعَة في قبضة آمريها الجَشعين، الأجلاف.
[email protected]



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكريات اللاذقية 6: بهاليل وأبالسة
- ذكريات اللاذقية 5: مَراتب وحجّاب
- ذكريات اللاذقية 4: الطريقُ الخَطِر
- ذكريات اللاذقية 3: مدير الندوة
- أوديب على أبواب دمشق
- حكاية كتاب 3: التجربة
- حكاية كتاب 2: الرّحلة
- حكاية كتاب: الاكتشاف
- طيورُ الظلام: اسلامٌ مُسيّس وفساد سلطويّ
- فيلمُ الغموض والغرابة
- أسمَهان 2012؛ لحنٌ لم يَتمّ
- الفعلُ الشعبيّ في فيلم رَيا وسُكينة
- المطبخ التركي
- مُريدو المَسجد
- ذكريات اللاذقية 2: جبل الأكراد
- أدونيس؛ مفرد بصيغة الطائفة
- أنا القائد الكاريزمي
- دبّوس السلطان
- ذكريات اللاذقية: شيخ الجبل
- استفتاء فني، إفتاء سياسي


المزيد.....




- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - ذكريات اللاذقية 7: المُسخَرون