أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - نقد قيادة الحزب الشيوعي















المزيد.....


نقد قيادة الحزب الشيوعي


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 3709 - 2012 / 4 / 26 - 20:57
المحور: مقابلات و حوارات
    


نقد قيادة الحزب الشيوعي

حوار مع الأكاديمي والمفكر الدكتور عبد الحسين شعبان -23
أجراه: توفيق التميمي

(القسم 23)

نقد قيادة الحزب
*ضمن منهجيتك الموضوعية كنت تفرّق بين الأشخاص والمواقف.. بين الآيديولوجيات وتطبيقها، فمثلاً تعتز بالمزايا الشخصية والانسانية لعزيز محمد أمين عام الحزب السابق وتعترف بكارزميته القيادية، كذلك في الوقت نفسه لا تتوانى من نقد سياساته وتؤشر الى إخفاقاته التي قادت الى نتائج سلبية على الحزب وجماهيره وربما للحركة الوطنية العراقية. هل لك أن تبين أبرز ملاحظاتك على قيادة الحزب خلال العقود الأربعة الماضية، لاسيما بعد العام 1963، وخصوصاً في فترة التحالف مع حزب البعث فيما يسمى بالجبهة الوطنية.
- شخصياً بعد أن اخترت لنفسي مكاناً خارج الصراع الحزبي الداخلي، لاعتقادي بعدم جدواه، خصوصاً وقد تحوّل الى مناكفات وإساءات، لاسيما بعد أن اتخذت الأمور نوعاً من العداء والكراهية والاتهامات والتخوين، فقد وضعت مسافة واحدة مع جميع الفرقاء، لاسيما وأن الظروف السياسية الدولية والعربية اختلفت كثيراً.
كان التيار الأساسي في الصراع هو تيار المنبر الشيوعي الذي كنت أحد مؤسسيه، وهذا التيار انتهى تقريباً في أواخر العام 1990، وكان آخر اجتماع لقيادته في آب (أغسطس) 1990 وبعد غزو الكويت تحديداً، واتخذ إسماً جديداً " المنبر الاشتراكي الديمقراطي" لكن الخلافات دبّت في صفوفه ووصلت ذروتها،وهكذا انتقلت اليه أزمة القيادة المستفحلة أيضاً، وكان العدد الأخير للمنبر قد صدر في تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1990 من لندن، لكن عودة ماجد عبد الرضا الى بغداد وبتشجيع من بعض قادة التيار أو القريبين منه، جعلني أتخذ موقفاً آخر حتى وإن كان تبرير عودته الانفرادية شخصياً، واعتبرت في لقاء مع رفاق من التيار "أن عقد اجتماعنا قد انفرط"، والمهم أن نبقي العلاقات الشخصية ودية، وكتبت رسالة الى أعضاء المنبر لا أزال أحتفظ بمسودتها أنني من الآن فصاعداً غير مسؤول وسأتصرف بصفتي مستقلاً محاولاً تكييف مواقفي في ضوء قناعاتي، وحرصت أن لا أسيء بكلمة واحدة الى الرفيق ماجد عبد الرضا على الرغم من معارضتي الشديدة لتوجّهه وهو أمر معروف للجميع على ما أظن، والسبب يعود الى الاعتبارات الاخلاقية، وعلى أقل تقدير لكي لا نسلك سلوك القيادة الرسمية في التشهير، وكذلك لعلاقات الصداقة التي ربطتنا في ميادين مختلفة ولسنوات طويلة منذ تعارفنا في بغداد بعد الانشقاق بفترة وجيزة ثم في لقاءاتنا المتكررة وعملنا المشترك في كردستان ودمشق وبراغ.
وكنت ولا أزال عند ذكره لا أتناوله الاّ بالايجاب، وأعتبره ضحية لسوء تعامل واستعلاء ومحاولة إذلال تعرّض له من جانب القيادات الحزبية حين أهين وفُصل من الحزب وبلّغت أكثر من جهة بعدم تسهيل مهمته سواء في الحصول على الفيزا أو الإقامة، الأمر الذي اضطرّنا الى مفاتحة جورج حبش لتخصيص راتب له وكذلك مخاطبة الرفاق اليمنيين لمنحه جواز سفر خاص، وبقيت معارضات حزبية دون عنوان، فقد عاد ملاّ علي الى الحزب وبقي بهاء الدين نوري خارجه يصدر صحيفة باسم "القاعدة"، سرعان ما توقفت، أما بعض رسائل الرفيق باقر ابراهيم فقد ظلّت محدودة، في حين أن عامر عبدالله بقي متردداً، فعلى الرغم من اندفاعه في أواسط الثمانينيات لتجميع المعارضة الحزبية، ومذكرته الشهيرة التي كتبها باسم المجموعة المعارضة بما فيها جماعة المنبر، الى عزيز محمد وقبلها رسائله الى السوفييت ومذكرات مجموعة من القيادات والكوادر كذلك الى عدد من الأحزاب الشيوعية، لكنه عاد بعد أن شعر باليأس، وخصوصاً عندما دبّ الخلاف بين المعارضين أنفسهم فغيّر وجهته، وكان يأمل مثل غيره أن يستعيد موقعه، وقد سردت تفاصيل موقفه في المادة التي كتبتها عنه بعنوان " عامر عبد الله: النار ومرارة الأمل! فصل ساخن من فصول الحركة الشيوعية" وكذلك بدأ الرفيق آرا نشر بعض مواقفه في أوائل التسعينيات على نحو محدود، لكن هذا النشر ازداد مؤخراً من خلال الانترنيت، لكن ذلك لم يشكل معارضة حزبية في مواجهة التيار الرسمي السائد، لاسيما بعد انهيار الكتلة الاشتراكية.
وللحقيقة لا بدّ من الإقرار أن عزيز محمد استلم الحزب في العام 1964 وهو حزب منهك، زاده إنهاكاً بعد خط آب (أغسطس) العام 1964الذي روّج لفكرة التعاون مع الاتحاد الاشتراكي العربي. وكان يتنازعه تقويمان، الأول- مثّله عامر عبدالله وبهاء الدين نوري، والثاني عزيز الحاج وزكي خيري، وانقسم الحزب العام 1967 في 17 أيلول(سبتمبر) الى قيادة مركزية ولجنة مركزية، وبعد انقلاب 17 تموز (يوليو) 1968 أصبحت عين الحزب على المشاركة في السلطة وحصل ذلك قبيل توقيع الجبهة الوطنية العام 1973، بحمله حقيبتين وزارتين لعامر عبدالله ومكرّم الطالباني (أيار/مايو/1972).
يمكنني القول أن عزيز محمد شخصية أليفة وسلمية ومحببة لكنها غير حاسمة ومترددة وغير مواجهة، ولذلك يتم التأثير عليها، وإذا ما عمل معه شخصيات إيجابية وجامعة فسيكون سبّاقاً الى ذلك، لكنه إذا عمل معه شخصيات سلبية أو عدوانية أو مفرّطة، فسيضطر عزيز محمد الى مجاراتها والانصياع لها، وتلك مشكلة عاشها من عرف عزيز محمد عن قرب أو من راقب سلوكه الحزبي، ولذلك فأنت لا تستطيع أن تخاصمه، وإذا خاصمته فإنه لا يتحوّل الى عدو، وهو مستعد للمصالحة في أية لحظة، ولكن ذلك يعتمد على من يعمل معه، ولهذا ترى الجميع حريصين على صداقته وتلك واحدة من المفارقات.
لقد خسر الحزب كثيراً في فترة قيادته، فعلى الصعيد السياسي استمر نهج الواحدية وشحّ حرية التعبير حتى داخل الهيئات الحزبية بحجة " الحليف" و"الخوف من التسرّب" وغير ذلك، الأمر الذي خلق عادات غريبة مثل الوصولية والانتهازية والتملق وهو ما ورد في مذكرة عامر عبدالله ونوري عبد الرزاق الى عزيز محمد، أما في الخارج وبعد الهجرة الواسعة فقد ترك عزيز محمد الحبل على الغارب وأصبح أقرب الى شاهد منه الى قائد، في حين كانت مسؤولياته تقتضي وقف الانتهاكات والتجاوزات ووضع حد للتلاعب بمصير الناس ومستقبلهم، الأمر الذي دفع أوساط واسعة الى الخروج من الحزب أو ترك العمل أو حتى تحوّل بعضهم الى معاداة له.كان الكثير من الرفاق يشعرون أن عزيز محمد يأتي ضيفاً أو زائراً على الحزب، وليس أمينه العام.
وفي فترة الأنصار حصلت تجاوزات صارخة، حتى إن بعض الرفاق بسبب وجهات نظرهم وآرائهم تعرضوا الى التعذيب والسجن، ولديّ أمثلة كثيرة سبق أن ذكرت بعضها وبعض أصحابها لا زالوا أحياءً وقد سبق لي أن كتبت عن استشهاد الرفيق منتصر تحت التعذيب " الرفاقي" وتعذيب الرفيق ستار غانم الذي التحق بتنظيمات الداخل واستشهد هناك، كما عذّب الرفيق أمين (أحمد الناصري) ولا يزال حيًّا، وهو واحد من الشيوعيين الشجعان الذي تم تعذيبه في مقرّات الأمن مثلما عذّب في سجن خاص في مقر الأنصار، وعندما التقيته بعد ذلك نزع قميصه وأشرّ الى موقعين قال هنا: تعذيب البعثيين الفاشست، وهذا تعذيب الرفاق الأشاوس.
كما لم يتم التدقيق بمن يُرسل الى الداخل الأمر الذي أدى الى خسارات كبيرة وفادحة، لأن الكثير ممن يتحكمون بمصائر الرفاق يغامرون بهم أما لجهلهم بالأوضاع أو لرغبتهم في تحقيق منجز حزبي أو للتخلّص من بعض الرفاق، لاسيما المشاغبين، سواءً إذا تمت تصفيتهم فسيضاف هذا العدد الى قافلة الشهداء وإذا أسقطوا سياسياً فقد يكون ذلك وسيلة للخلاص منهم، وسيروي لك كثيرون وكل حسب تجربته نماذج من التصرفات الحزبية الجهولة أو الانتقامية وعلى أحسن تقدير الساذجة.
وكان يفترض بالرفيق عزيز محمد وبالمكتب السياسي الاّ يبالغوا في ذلك لكي لا يخسروا الرفاق، والمسألة لا تتعلق بمسؤولية عضو المكتب السياسي باقر إبراهيم، بل بالمكتب السياسي كله وباللجنة المركزية، سواءً السابقة، أو الذين حلّوا محلهم بعد المؤتمر الرابع العام 1985 وهناك الكثير من الحكايات والقصص المثيرة بما فيها اختراقات الأجهزة الأمنية العراقية ومن دول الجوار، الأمر الذي أثيرت حوله تقوّلات كثيرة ولا يكفي تبرير أن هناك تضحيات وراء عمليات إعادة التنظيم في الداخل، بل كانت هناك كمائن غير قليلة كان ينبغي التعامل معها بمسؤولية وحسّ انساني دون محاولات اسقاط الرغبات على الواقع، وهو الأمر الذي حصل فعلياً وخسرنا بسببه عشرات الرفاق والكوادر القيادية والكفاءات العلمية، فقسم منهم قتلوا تحت التعذيب في أقبية الأمن والمخابرات العراقية والقسم الآخر تم إعادة إرسالهم كمندسين حيث ظلّوا يعملون لحين اكتشافهم، ولعل بعضهم لم يكتشف واستدرجوا الكثيرين، بمن فيهم أعضاء في قيادة الحزب، لاسيما في العام 1991 في فضيحة مدوية، وقيل أن المسؤول عن ذلك قد تم قتله وتصفيته دون حكم قضائي وجرى الحديث عن اعترافاته، لكننا لم نطلّع على نصوص أو وثائق. وإذا كان الأمر يحصل دائماً في أوضاع العمل السري وقوات الأنصار، فقد آن الأوان لكشف هذه الأمور على الملأ.
ملاحظات نقدية
ولعل أهم ملاحظاتي السياسية على فترة قيادة الرفيق عزيز محمد (أبو سعود) تتلخص عدم التمكن من تضميد جراح الحزب بعد العام 1963، فدخل الحزب في نفق جديد إسمه خط آب، ووصل التفكك في الحزب الى حدوث انشطار عمودي حاد، كان يمكن أن تتم معالجته داخلياَ، وحتى بعد اندلاعه لا أظن أن وسيلة التصدّي له كانت ناجعة. أعتقد أن بعض الصقور من الطرفين هيمنت على المشهد لدرجة لم يكن بإمكان عزيز محمد أن يضع حداً لها، وكان الأجدى به العودة من موسكو لمواجهة الأمر، لا ترك حرب الصقور تدور وهو بعيدٌ عن ساحة الصراع الأساسية.
كان قرار عقد الجبهة أممياً أكثر منه عراقياً، وكانت نصائح القادة السوفييت تُضخ لنا من خلال الجهاز الحزبي، وكلّها مشجعة ومحبّذة على عقد التحالف على الرغم من الهجوم ضد الحزب واعتقال المئات من أعضائه العام 1970. وإذا كان عقد الجبهة الوطنية تحصيل حاصل، لاسيما بعد إضعاف الحزب، فإن التعاطي مع حزب البعث بعدها كان موضع نقد الشيوعيين وجمهورهم دون أن يسمع أحد اعتراضاتهم فقد كان بعض القياديين قد وضعوا كل بيضهم في سلّة "الحليف" وأخذوا يتغنّون به، ويقمعون أي رأي يخالف ذلك، لدرجة أن محاضر الاجتماعات الحزبية كان فيها فقرة " لا يوجد رأي مخالف" وقد أصبحت تلك من صلب الإنجازات الحزبية، التي يتباهى بها البعض.
وبعد الانقلاب على الجبهة من جانب حزب البعث وإعدام 30 عسكرياً بحجة أن لديهم تنظيماً شيوعياً في الجيش، إنسحب الحزب بشكل غير منظم، وترك مئات بل آلاف الشيوعيين بلا غطاء إذا جاز لي التعبير، ولعل عبارة " دبّر حالك" كانت أقرب الى السيف الذي اقترب من رقبة الكثير من الشيوعيين، يوم سادت مسألة التعهد بموجب المادة 200 السيئة الصيت.
إذا كان الحزب قد قرر الإنسحاب، فكان لا بدّ من خطة طويلة الأمد وتكتيكات وتراجعات لكي يتم حماية ظهر الحزب المنكشف والذي سلّم كل أوراقه أو غالبيتها الساحقة الى السلطة، لاسيما عندما تعهّد بعدم العمل في القوات المسلحة وحلّ تنظيماته الجماهيرية في الطلبة والمرأة، وقبل بدور ثانوي وتابع لحزب البعث مراهناً على السلطة مسقطاً أي خيارات أخرى، بل أن القيادة كانت ترفض حتى مناقشة الأمر أو الاستماع الى أية وجهة نظر خارج ذلك، الأمر الذي جعلها تهرب الى الأمام، وأعتقد أن الأمين العام والقيادة كانت مسؤولة عمّا حدث دون تقليل من مسؤولية حزب البعث وأجهزته الأمنية التي هي المسؤولة الأساسية عن الانتهاكات والارتكابات ودفع البلاد الى عجلة الانفراد والتسلط والدكتاتورية السوداء والمغامرات الرعناء لاحقاً، لكن واجب القيادة وأمينها العام كان يقتضي البحث بمسؤولية عن حدوث مثل تلك الاحتمالات وبالتالي توقع مثل تلك النتائج. وإذا كان غالبية أعضاء القيادة قد غادرت العراق من مطار بغداد، فإن العشرات، بل المئات من الكوادر راحوا ضحية الملاحقة وطحنت عظام البعض منهم دون رحمة، وحتى لم يجدوا قبوراً لهم بينهم د.صفاء الحافظ ود.صباح الدرّة وعايدة ياسين وآخرين.
وفي الخارج تصرّفت القيادة على نحو عشوائي وردود فعل ومزقتها الصراعات، ولاسيما محاولة الاستحواذ على المناصب والامتيازات، فانخرطت سريعاً في جبهة وطنية جديدة، حتى قبل أن تجف "دماء" الجبهة السابقة تلك التي أبرمت في سوريا بإسم، "جوقد" التي رضي بها الحزب لكنها لم ترضَ به (رضينا بالبين والبين ما رضه بينا). فتم تجميد الحزب فيها، وذلك بسبب انضمام الحزب الى جبهة جديدة هي جود التي تم تشكيلها في كردستان بعد اسبوعين من الجبهة الأولى، ثم إنضم الحزب الى جبهة التسعة عشر حزباً في طرابلس التي أعلنت على عجل بدعوة من القذافي ووقع الحزب على بيان مع جهة لم تعلن عن نفسها ولم يرغب الحزب في الإفصاح عنها، ولكن دور هذه الجهة جاء بعد غزو الكويت العام 1990 وبواسطتها تم اختراق جهاز دولي عريق للحزب فيما يتعلق بحادثة ثابت حبيب العاني، أحد أشجع وأنبل الشيوعيين العراقيين وأكثرهم إخلاصاً، وقد كتب مهدي الحافظ حينها مقالة في صحيفة المنبر يجلي فيه صورة ما حدث، ويحمّل الجهات المتنفذة مسؤولية الحفاظ على حياته.
لقد أصبحت مسألة الحديث عن الجبهة الوطنية بقدر ما هي مأساة، فقد كانت ملهاة أيضاً، ونوع من الكوميديا السوداء أو السخرية الحزينة، وكأنها هي الهدف وليست الوسيلة. واتذكر أن أبو كَاطع كان يطلق عليها إسم " الجبحة" أي الكبوة أو الانكفاءة، وباستثناء جهة الاتحاد الوطني العام 1957 فلم تكن الجبهات التي دخلها الحزب واستمات أحياناً من أجل عقدها بما فيها الجبهة الكردستانية العام 1988 سوى تحميله المزيد من الأعباء، واضطر في غالب الأحيان الى خسارة استقلاليته أو فقدانه جوانب منها بما فيها تحالفاته ما بعد الاحتلال.
ومثلما كان بإمكان الحزب عدم إبرام جبهة العام 1973 والبقاء في موقع الناقد والمعارض للحكم، حتى وإن كان بأساليب غير عنفية ومن موقع الحرص والمسؤولية، فقد كان بإمكانه عدم الانخراط في جبهات ورقية أو هوائية أو طارئة ومؤقتة. كما اندفع الحزب في تحالفات سريعة كان ضحيتها مجزرة بشتاشان التي ارتكبتها قوات الاتحاد الوطني الكردستاني ضد الحزب الشيوعي وراح ضحيتها نحو 60 شيوعياً في العام 1983 وكان الثمن الذي دفعه الى ذلك هو مقايضة التحالف مع المعارضة بالتحالف مع بغداد حينها، حيث استمرت المفاوضات حتى أواسط العام 1984 ولكنها لم تثمر عن نتيجة بسبب تعنت الحكم، فعاد وفد الاتحاد الوطني وتدريجياً انتقل للتحالف مع طهران بدل بغداد.
ومع أنني من الذين يميلون الى التسامح، لاسيما إذا كان فيه مصلحة الوطن ومصلحة إعادة العلاقات الودية بين الأحزاب والقوى السياسية وذلك كأفق سياسي، لكن الضحايا لم يتم تعويضهم، ولعل من حقهم أو ذويهم المطالبة بتعويض مادي ومعنوي، كما أن من حقهم ملاحقة المرتكبين قانوناً، ولم يتم جبر الضرر، بما فيه اعتذار رسمي من جانب الاتحاد الوطني الكردستاني للحزب الشيوعي، وهكذا دائماً يتم نسيان الارتكابات حين وقوعها أو بعد بقليل، وفي الوقت نفسه يجري استذكارها بعد حين، عندما يصبح الأمر بعيداً، أو حينما تسؤ العلاقة.
النسيان والتسامح
لقد تم السكوت عن جرائم 8 شباط (فبراير) 1963 خلال سنوات الجبهة (1973-1979) لكننا اندفعنا بعد ذلك نستذكر كل شيء وبتفاصيله لاحقاً، وسكتنا ولا زلنا نتوخى الصمت أو ننشد النسيان عن جرائم اغتيال 12 شيوعياً من جانب عيسى سوار(حدك) أو جرائم قتل 60 شيوعياً من جانب الاتحاد الوطني الكردستاني، بل نتغنّى أحياناً بأمجاد الغير طالما هم في موقع المسؤولية، وسترى كيف تكال التهم بعد تبدّل الحال. إن دعوتي هنا لا تستهدف إثارة الكراهية أو الثأر أو الانتقام، بقدر ما هي نقد الماضي وأساليبه والدعوة الى عقد اجتماعي سياسي جديد بين القوى السياسية، لا يجيز استخدام السلاح ويمنع استخدام القوة ويعمل من أجل حلّ الخلافات بالطرق السلمية ووفقاً للقوانين والأنظمة .
النسيان ليس حلاًّ، والمقصود بالتسامح أن تبقى تلكم الارتكابات في دائرة الضوء، بهدف عدم تكرارها، ولعل ذلك عبارة عن مصل مضاد لكي لا تنتقل عدواها بحيث تستكمل مستلزمات وضع حد لها، بما فيها إصلاح النظام القانوني وتعويض الضحايا مادياً ومعنوياً وجبر الضرر وغير ذلك.
لقد اندفعت قيادة الحزب وجرّاء نهج التراجع السابق، ولاسيما غير المنظم بالاتجاه المعاكس، فرفعت أشدّ الشعارات رنيناً ويسارية، مضحّية بالعشرات بل وبالمئات بكوادر وطاقات وكفاءات في معارك لم يكن مبرراً في معظمها، خصوصاً وقد دارت بين الأنصار أنفسهم من القوى المختلفة. ولعل هوى الجملة الثورية استولى على عقول البعض فتصرفوا على نحو غير مسؤول بتجنيد الحزب كلّه في محاولة لعسكرته وسادت ثقافة الشروال والجمداني والجبل محلّ الثقافة الشيوعية الحداثية المدنية الراقية، وهكذا اضطر المئات الى الالتحاق بقوات الانصار دون قناعة لدى الكثيرين منهم، ولكن خوفاً من سوط العقوبات والاتهامات بالجبن وحفاظاً على عضويتهم أحياناً حيث كان التهديد الأساسي يبدأ منها، لتبدأ معاناة لا حدود لها في موضوع العمل أو السكن أو الاقامة أو الدراسة أو العلاج أو التزكية السياسية، وهكذا.
أقول ذلك لأنني أعرف العشرات، بل المئات من الحالات ممن كان يمكن الاستفادة منهم في ظروف مناسبة وهم ذخيرة للحزب، الأمر الذي شجّع على روح التملق والخضوع والسكوت عن الحق، مقابل التهميش والإقصاء وصولاً للفصل، خصوصاً للكثير من أصحاب الرأي، وكان النقاش حاداً بشأن موقف الحزب من الحرب العراقية- الإيرانية، وهو الموقف الذي لقي نقداً شديداً من كوادر قيادية كثيرة فضلاً عن قاعدة الحزب، وكذلك حول أساليب الكفاح وحول التحالفات ولاسيما ضياع هوية الحزب ولونه الخاص حيث سيطرت بعض الاعتبارات القومية الكردية الضيقة على قيادات الحزب وملاكاته، أقول ذلك والجميع يعرف موقفي الثابت من مبدأ حق تقرير المصير وحقوق الشعب الكردي العادلة والمشروعة، والأمر له علاقة أيضاً بالعلاقات الداخلية بين الشيوعيين التي ساءت الى أبعد الحدود.
لم يكن الأمين العام عزيز محمد يرغب في وصول الأمور الى ما وصلت اليه، وذلك قناعتي منذ تلك الفترة وتعززت لاحقاً، ولكنه كان مسؤولاً عن كل ما حصل، لاسيما عندما ترك الحبل على الغارب لبعض المغامرين الذين لم يتورعوا باستخدام مختلف الأساليب لتحقيق غاياتهم، ولا أظن أن عزيز محمد كان يشجع على المقاطعة الاجتماعية الذميمة التي تولاّها البعض وبررها في حينها لكل مختلف في الرأي، بل كان هو من يبادر أحياناً باللقاء، حتى وصل الأمر الى تفتيت قوى الحزب، حيث ساد التذمر المراتب المختلفة، ولولا غزو الكويت ومغامرة صدام حسين العام 1990 وقبلها قصف مناطق الأنصار بغاز الخردل وبالسلاح الكيمياوي، لكانت الأمور قد ازدادت قسوة وصعوبة وتفتتاً، خصوصاً وقد ترافق ذلك مع إنهيار الكتلة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفيتي، لكن الرغبات شيء والواقع شيء آخر، والأمر لا يعفيه من المسؤولية، ولا يمكن تبرير قوله أنه يتحمل المسؤولية ولكنه ليس لوحده، بل كانت معه القيادة.
كان على عزيز محمد أن يأخذ مبادرة والاّ يستجيب للصقور والمفرّطين والعدوانيين، وأن يجمع شتات وشمل الحزب المنفي، المعذّب، المستلب، لا أن يقبل طرد عشرات من أصدقائه وزملائه من القياديين والكوادر، وإنْ لم ينجح كان عليه أن يستقيل، كما كان يمكن أن يحدث الافتراق ودّياً وليس بالطرق الاكراهية والزجرية التي تم استخدامها. وقد اعترف أحد القياديين ومن ثم اعتذر سواءً أمام من تمت الاساءة اليهم أو بما كتبه ونشره عن الأساليب غير الرفاقية التي تم استخدامها ووصلت الى التهديد والاتهام والمحاربة بالأرزاق والدراسة والإقامة وغيرها.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 50 مادة في الدستور العراقي تحتاج الى إصدار قانوني
- مواطنة -إسرائيل-
- عن ثقافة التغيير
- رسالة الى الحزب الشيوعي السوداني
- نعمة النفط أو نقمته في الميزان الراهن
- السياسة والطائفة
- حقوق الإنسان والمواقف السياسية
- الأحزاب العراقية بلا قانون
- 3 تريليونات دولار خسرتها أمريكا في العراق
- لا تقديم للنظرية على حساب الوقائع الموضوعية
- الشيوعيون والوحدة العربية
- الحرب العراقية – الإيرانية عبثية ، خدمت القوى الإمبريالية وا ...
- الميثاق الاجتماعي العربي: تنازع شرعيتين
- الحزب الشيوعي وتشكيل الجبهة
- معارضة الحصار
- في بشتاشان
- كلمة تحية بمناسبة تكريم الدكتور سليم الحص
- كلمة الدكتور شعبان في تكريم الاستاذ عزالدين الأصبحي
- الأكراد في النجف
- الحركة الطلابية


المزيد.....




- زرقاء اليمامة: قصة عرّافة جسدتها أول أوبرا سعودية
- دعوات لمسيرة في باريس للإفراج عن مغني راب إيراني يواجه حكما ...
- الصين تستضيف محادثات مصالحة بين حماس وفتح
- شهيدان برصاص الاحتلال في جنين واستمرار الاقتحامات بالضفة
- اليمين الألماني وخطة تهجير ملايين المجنّسين.. التحضيرات بلسا ...
- بعد الجامعات الأميركية.. كيف اتسعت احتجاجات أوروبا ضد حرب إس ...
- إدارة بايدن تتخلى عن خطة حظر سجائر المنثول
- دعوة لمسيرة في باريس تطالب بإلإفراج مغني راب إيراني محكوم با ...
- مصدر يعلق لـCNNعلى تحطم مسيرة أمريكية في اليمن
- هل ستفكر أمريكا في عدم تزويد إسرائيل بالسلاح بعد احتجاجات ال ...


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - نقد قيادة الحزب الشيوعي