أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - سباق رئاسى محموم فى مصر بين مرشحين محتملين على رئيس محتمل لجمهورية غير محتملة















المزيد.....



سباق رئاسى محموم فى مصر بين مرشحين محتملين على رئيس محتمل لجمهورية غير محتملة


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3669 - 2012 / 3 / 16 - 08:13
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


سباق رئاسى محموم فى مصر
بين مرشحين محتملين على رئيس محتمل لجمهورية غير محتملة
1: يحتدم فى مصر الآن سباق محموم بين مرشحين محتملين من قوى الثورة وقوى الثورة المضادة على رئيس محتمل لجمهورية غير محتملة ولكنْ فى اتجاه واحد بحكم طبيعة السباق ونتائجه: تصفية الثورة. وتشير كل المؤشرات إلى أن الرئيس القادم سيكون رئيسا رمزيا مجردا من السلطة الحقيقية، لجمهورية رمزية مجردة من كل شروط الجمهورية الحقيقية: حيث لا استقلال ولا ديمقراطية ولا دولة قانون، تماما كما كانت هذه الجمهورية منذ قيامها فى بداية الخمسينات! وهذا السباق المحموم يشارك فيه الجميع فلا يكاد يستثنى قوة من القوى السياسية: قوى الثورة جنبا إلى جنب مع قوى الثورة المضادة! وتتداخل وتتعارض وتتلاقى وتتصادم فى هذا السباق المحتدم حسابات لمصالح متنوعة طبقية وحزبية وفردية. ويكثر ويتكاثر المرشحون المحتملون كل يوم فلا قوى الثورة المضادة تتفق على مرشح واحد تقف جميعا وراءه وربما كان هذا منطقيا تماما لاختلاف حسابات المصالح بين قطاعاتها وقواها وأحزابها وانشقاقاتها وكذلك لحسابات أخرى تتعلق بالزعامات الفردية وحب الرئاسة، ولا قوى الثورة تتفق على مرشح واحد تقف جميعا وراءه لتعظيم فرص نجاحه فى سباق غير متكافئ على كل حال؛ بحكم أشياء كثيرة متنوعة ليس أقلها شأنا غياب المعايير الضرورية لانتخابات نزيهة أو نصف نزيهة أو عُشْر نزيهة فى مصر. ويتمثل الأمر الأكثر خطورة فيما يتعلق بقوى الثورة، بكل صفوفها الأمامية والخلفية، فى أنها تخوض هذا السباق أصلا (كما خاضت السباقيْن الپرلمانييْن السابقيْن) وتُوَجِّه كل طاقاتها إلى انتخابات پرلمانية ورئاسية عبثية بدلا من توجيهها إلى الفعل الثورى الذى يمكنه وحده أن ينقذ الثورة من المآزق التى تتورط فيها وأن يسير بها إلى الأمام. وهكذا تندفع قوى الثورة "وراء" مخططات وإستراتيچيات وتاكتيكات قوى الثورة المضادة فى اتجاه واحد: تصفية الثورة!
2: فما الذى يحرِّك ويدفع كل هذه القوى السياسية المتعارضة المصالح وكل هؤلاء المرشحين المحتملين المتعارضين ويوحدهم فى السير فى هذا الاتجاه المدمر؟ ومن المنطقى تماما أن توجِّه قوى الثورة المضادة كل طاقاتها إلى ركوب الثورة وسرقتها وتصفيتها وتدميرها باعتبار ذلك قضية حياة أو موت للطبقة الحاكمة ودولتها ونظامها ومختلف قطاعاتها والقوى والأحزاب والمجموعات السياسية المعبرة عنها. فالثورة المضادة بحكم التعريف ضد الثورة مهما تغنت كل قوى الثورة المضادة باسمها وعظمتها، ومهما لهجت ألسنتها بالثناء المنافق المكشوف عليها ليلا ونهارا. وهناك بالطبع قوى ثورة مضادة "تحب بل حتى تعشق" الثورة حقا لأنها فتحت أمامها فرصة تاريخية كبرى للقفز على الحكم غير أنها معادية للثورة وقواها وأهدافها الحقيقية ولا تكنّ لهذه الأشياء سوى الكراهية والحقد والنوايا الشريرة والعزم الراسخ على العمل المشترك مع باقى قوى الثورة المضادة على تمزيقها إربا إربا وتصفيتها ووأدها ودفنها وحراسة مدفنها بعد ذلك عن طريق تجريم الديمقراطية وتحريم المدنية وتمكين الدولة الدينية ودولة الخلافة. وبالتالى فإن مواقف قوى الثورة المضادة منطقية وتنسجم تماما مع مصالحها الحيوية التى تتمثل فى سرعة استعادة النظام (بالطبع بدون قيادة مبارك وأسرته ومجموعة ضيقة من رجاله المقربين من بين عصابته الرئاسية) على جثة الثورة، مستخدمةً، ضمن أسلحة أخرى، سلاح الاستفتاءات الدستورية والانتخابات الپرلمانية والرئاسية لاستخلاص شرعية جديدة والشروع فى إعادة البناء: إعادة بناء الأجهزة الأمنية لخدمة دولتها وشرعيتها وإعادة بناء الاقتصاد لسيطرتها فى ظل التبعية الاستعمارية القائمة المستمرة.
3: وإذا كانت قوى الثورة المضادة تركز، بصورة منطقية تماما، على الانتخابات التشريعية والانتخابات الرئاسية (وهى جميعا انتخابات غير دستورية ولا شرعية لها سوى شرعية الانقلاب العسكرى الذى أطاح بالرئيس السابق مبارك) فإن ما يحتاج إلى تفسير هو كثرة مرشحيها رغم محاذير تشتيت أو تفتيت الأصوات. والحقيقة أن المسار الفعلى للانتخابات الرئاسية الوشيكة لا مكان فيه لمغزى كبير لتشتيت الأصوات لأن نتائج الانتخابات سوف تُحْسَم سلفا بالصفقات المتوقعة التى لا مناص منها، والتى تتواتر أنباؤها منذ الآن، بين المجلس العسكرى وباقى قوى الثورة المضادة، ذلك أن اختيار الرئيس القادم يتم وفقا لمواصفات يحددها ويطبقها المجلس العسكرى بحيث يكون الرئيس العتيد طوع بنانه. ويبقى أن العدد الكبير للمرشحين المحتملين الذين يتحولون الآن إلى مرشحين فعليِّين ارتبط باعتبارات متنوعة تنطوى على تاكتيكات كما تنطوى على أوهام. فقد توهم أشخاص كثيرون أن "تلعب البلية"، ولم يكن أمامهم على كل حال عندما استحوذت عليهم مثل هذه الأوهام سوى ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد هو حجر الترشيح أو الترشُّح الاحتمالى. فالمرشح أو المترشح المحتمل لأسباب سياسية حزبية قد يترشح كبالونة اختبار لمدى شعبيته أو شعبية حزبه لحسابه أو لحساب جهة حزبية أو غير حزبية ما وراءه، وقد يترشح لبناء قوة لنفسه أو حزبه أو جماعته للاستناد إليها فى الإقدام على تحركات سياسية تالية، وقد يترشح لأسباب شخصية وعائلية (لرفع شأن سجلّه الشخصى وشأن سجلّ عائلته)، ولأن اختلافات الرؤى أدت إلى انقسامات فى صفوف الإسلام السياسى كمثال صارخ كان كل مرشح محتمل ينتمى إليه يعمل على بناء شعبية لنفسه ولمجموعته لمنافسة حزبه الأصلى لانتزاع قيادته أو لجرّه وراءه والحصول على تأييده فى الانتخابات الرئاسية من خلال إثبات تفوقه على مرشحين محتملين آخرين للإسلام السياسى. وحتى لا يكون هناك أدنى غموض فى المقصود بالمرشحين المحتملين المنتمين إلى الثورة المضادة فإنهم المنتمون بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى قوى الثورة المضادة أىْ إلى المجلس العسكرى والإسلام السياسى والليبرالية اليمينية ورجال الحزب الوطنى المنحل بالإضافة إلى مستقلين ترتبط تجربتهم السياسية أو الفكرية بدولة الطبقة الحاكمة، وبنظام مبارك الذى كانوا من رجاله ذات يوم، وأولئك الذين لم يشكلوا معارضة حقيقية يسارية أو اشتراكية أو ليبرالية ذات يوم وينطلقون بالتالى من رؤية الطبقة الرأسمالية التابعة لمختلف القضايا السياسية والاقتصادية. ولا شك فى أن "احتمال" انتخابات نزيهة إلى حد ما كانت تغذى أوهام كثير من هؤلاء المرشحين المحتملين. ويدرك هؤلاء المرشحون المحتملون أن هذا الترشيح الاحتمالى سيكون مفيدا لهم على كل حال من خلال تعزيز مراكزهم كأشخاص ومجموعات وشلل فى مواجهة أىّ تطورات محتملة ضدهم فى المستقبل، فمثلا: وَضْع الفريق أحمد شفيق المرشح السابق لرئاسة جمهورية مصر، بحكم ما يحتمل أنه سيكون، سيكون أقوى من الوضع الحالى لهذا المطرود من الحكم.
4: وبالطبع فإن معظم هؤلاء المرشحين المحتملين على دراية كاملة بحقيقة أن منصب رئيس الجمهورية سيكون خاضعا للسيطرة الفعلية من وراء الكواليس للمجلس العسكرى مهما كان شخص الرئيس؛ ولكنهم لا يبالون. ويتسابقون جميعا على منصب لم يحدد الدستور الذى لم يُكتب بعد طبيعته لأنهم يعلمون أن الجمهورية الپرلمانية مستبعدة تماما من وجهة نظر النظام الحاكم، ويؤيدون جميعا الجمهورية الرئاسية بزعم أن حزب الأغلبية فى الجمهورية الپرلمانية سيركز على مصالحه الحزبية الضيقة، وكأن تجربتنا السابقة فى مصر لم تكن مع رؤساء جمهوريات كانوا فى الوقت نفسه رؤساء أحزاب، وكأن الجمهورية الرئاسية منعتهم من التركيز على مصالح الطبقة الرأسمالية التابعة وأفرادها وشللها وجماعاتها وعصاباتها وعلى المصالح الحزبية وعلى المصالح الشخصية والفردية فى عهود كل الرؤساء منذ قيام الجمهورية فى البلاد! وهناك عَبَدَة الديكتاتورات والمستبدين والطغاة الذين يرفعون شعارا مؤداه أن مصر بحاجة إلى رئيس قوى، وكأن الرؤساء السابقين الذين قادوا البلاد إلى الكوارث لم يكونوا أقوياء وجبابرة وطغاة وأنصاف آلهة! كما أن الحديث عن نظام رئاسى پرلمانى مختلط أو الفصل بين سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية متوازنة ليس سوى ذر للرماد فى العيون.
5: وإذا كانت صفقات "انتخاب" رئيس للجمهورية بين قوى الثورة المضادة تحركها دوافع أصيلة تتمثل فى تصفية الثورة فإن السؤال الحقيقى يتعلق هنا بموقف قوى الثورة أو حتى القوى التى عارضت نظام مبارك بصورة متماسكة نسبيا وانضمت إلى الثورة مهما كانت رؤاها ضبابية أو حتى معتمة. وتعلم قوى الثورة علم اليقين أن وصول مرشح منها إلى منصب رئاسة الجمهورية من رابع المستحيلات، كما تعلم علم اليقين أن الانتخابات سيتم حسمها بصفقة بين قوى الثورة المضادة، كما تعلم علم اليقين أن الشخص الذى سيشغل هذا المنصب سيكون تحت سيطرة المجلس العسكرى من وراء الكواليس، فلماذا تريد قوى الثورة ويريد مرشحوها هذا المنصب الذى لا يقدم شيئا إيجابيا على حين تُلحق المشاركة فى الانتخابات الرئاسية الأضرار الفادحة بالثورة من خلال ترسيخ السير فى الدروب والمسارات والمتاهات التى يحددها نظام المجلس العسكرى بعيدا عن الفعل الثورى؟!
6: فما الذى يحرِّك ويدفع قوى الثورة المصرية وكل مرشحيها المحتملين الذين يأخذون الآن فى التحول إلى مرشحين فعليِّين فى هذا الاتجاه المدمر؟ إن الأوْلَى بهذه القوى والأحزاب (ومرشحيها الرئاسيِّين) أن تركز طاقاتها المحدودة "بالفعل" فى فترات بعينها، وإنْ كانت غير محدودة "بالقوة" بوجه عام فى زمن الثورة، على تطوير الثورة بدلا من المشاركة فى تصفية الثورة، حتى بعد أن رأينا الحصاد المر للمشاركة فى الانتخابات الپرلمانية بدلا من مقاطعتها. ومع هذا تمضى هذه القوى بإصرار عنيد فى طريق المشاركة فى الانتخابات الرئاسية العبثية؛ وهى عبثية، أولا، لأنه لن يفوز مرشح من مرشحيها بالمنصب الذى سيُحسم بصفقة، وثانيا، لأن رئيس الجمهورية القادم سيكون أضعف رئيس جمهورية يحكم مصر لأنه لن يمارس سلطاته الدستورية فى الوضع الجديد. فلماذا كل هذا الإصرار بلا طائل، بلا أمل فى الفوز، وبلا سلطة فى حالة فوز افتراضى؟
7: هناك بالطبع أوهام مرشحين محتملين من قوى الثورة عن شعبيتهم، وبالتالى أوهام توسيع هذه الشعبية واستغلالها فى إثبات أن لقوى الثورة أو لحزب من أحزابها شعبية ينبغى أن يضعها النظام فى حسابات سلوكه السياسى فى المستقبل. وهناك بالطبع الأمجاد الذاتية الحزبية والشخصية التى يجدّ السعى إليها من خلال الانتخابات. وهناك بصورة خاصة فكرة استغلال الفرص التى تفتحها فترة الدعاية الانتخابية فى نشر الدعاية الثورية عن أهداف ومطالب الثورة. وتنطوى هذه الفكرة الأخيرة على مغالطة تقوم على موازنة خاطئة بين فرص الدعاية الثورية التى تسمح بها فترة قصيرة وضيقة ومقيَّدة من دعاية الانتخابات الرئاسية وفرص الدعاية الثورية التى تسمح بها فترات مفتوحة وواسعة وبلا قيود من الفعل الثورى. وهكذا توضع الطاقات الثورية فى المكان الخاطئ والعقيم بالتالى بدلا من وضعها فى المكان الصحيح والمثمر بالتالى.
8: وتنتشر أحيانا بين قوى الثورة إحباطات تعقب ثورة تطلعات فى سياق هذه الموجة أو تلك من موجات الثورة عندما لا تتحقق شعارات وأهداف جرى التركيز عليها وإعلان عدم توقف المظاهرات وعدم فض الاعتصامات قبل تحقيقها. وقد تكرر هذا مرارا ربما مع كل موجة وبالتأكيد مع كثير من اللحظات المهمة فى كل موجة. وهناك حجة دفاع عن المشاركة ضد المقاطعة تتمثل فى غياب بديل الفعل الثورى لأن الثورة سُرقت فلم نَعُدْ فى زمن الثورة. ومعنى هذا من وجهة نظر الرؤية السياسية التى تستند إليها هذه الحجة أننا نعود الآن إلى زمن الثورة المضادة المنتصرة متجهين إلى استقرار النظام الرأسمالى التابع وأننا ننتقل من تاكتيك مقاطعة الانتخابات الذى يفترض زمن الصراع بين الثورة والثورة المضادة إلى تاكتيك المشاركة الذى تفترضه الظروف العادية المستقرة وغير الثورية بعد انتصار الثورة المضادة فى معركة تصفية الثورة. وهكذا يبدو أن المعركة انتهت بالضربة القاضية، وأن زمن الفعل الثورى قد وَلَّى وانقضى وانتهى، وأنه لا بديل عن النضال الشرعى والدستورى والانتخابى مهما كانت ثماره هزيلة، وأنه آن الأوان للانصراف عن ميادين التحرير إلى مقار الانتخابات والنضالات اليومية البسيطة. والحقيقة أنه يمكن القول إن الثورة المصرية مرت إلى الآن بأربع موجات ثورية؛ حيث تمثلت الموجة الأولى فى زلزال 25 يناير 2011 والأسابيع التالية، وكانت الموجة الثانية هى موجة 8 يوليو 2011، وكانت الموجة الثالثة هى موجة 19 نوڤمبر 2011، وتمثلت الموجة الرابعة فى موجة 25 يناير 2012. وكانت لكل موجة من موجات الثورة إنجازاتها المهمة. والأهم أن الموجة الأخيرة لم تمض على تياراتها القوية سوى أسابيع قليلة وما زالت امتداداتها متواصلة أمام أعين وتحت أسماع الجميع فى كل مكان فى مصر. فكيف يمكن لشخص أن يتصور أن زمن الثورة قد وَلَّى مع أن موجتها الأخيرة لم يمض عليها وقت طويل؛ فوق أن تياراتها مستمرة ومحتدمة بأشكال أخرى تتمثل فى الاحتجاجات المسماة بالفئوية إلى جانب أنشطة ومبادرات عامة للثورة ما تزال موجودة فى الميدان والمصنع وفى كل مكان؟!
9: وبالتالى فإن السؤال المنطقى حقا هو: وما البديل؟ فهل هناك مجال فعلى لنضال فعلى بعيدا عن المجال الذى تفتحه الانتخابات الرئاسية الآن والپرلمانية من قبل؟ غير أن السؤال الحقيقى هو استمرار الثورة والجواب الحقيقى هو استمرار الثورة! ليس بمعنى أن نعمل على نفخ الحياة فى ثورة انتهت بل بمعنى البحث عن طُرُق وأساليب ووسائل وأدوات تطوير هذه الثورة التى ما زالت مستمرة بكل عنفوانها. وإذا كانت الثورة قد انتهت فعلا كما يعتقد أشخاص فى صفوف قوى الثورة، وكما يبشر نفسه وأنصاره الدكتور محمد بديع المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين عندما يقول: "إننا نرى في بلادنا مصر وفي منطقتنا بل في العالم أجمع الآن– تقلبات وصراعات طال أمدها، واشتد سعارها، واكتوى الناس بلهيبها لكنها توشك أن تنجلي وتنطفئ نيرانها" حيث "آن الأوان لكي تعود حضارة الإسلام لتشرق من جديد على البشرية كلها، وتملأ الأرض عدلاً ونورًا بعدما مُلئت ظلمًا وفجورًا" (كما جاء فى بوابة الأهرام 15 مارس 2012)؛ .... إذا كانت الثورة قد انتهت فإنه يمكن لقوى الثورة أن تفعل ما تشاء، أن تعيش إحباطها العميق أو أن تنتقل بمرونة إلى إستراتيچيات وتاكتيكات ومواقف تتلائم مع فترات استقرار النظام الرأسمالى التابع. غير أننا أشرنا منذ قليل إلى تهافت هذه الرؤية المتشائمة بانتهاء الثورة فى صفوف قوى الثورة والمتفائلة عند جماعة الإخوان المسلمين وبين باقى قوى الثورة المضادة. بل الثورة مستمرة شئنا أم أبينا فهذه ظاهرة "موضوعية" لا جدال فيها مهما كانت مخاوف أو رؤى أو مواقف أو إحباطات الطليعة بكل روافدها وتياراتها وأيديولوچياتها. ذلك أنه لا مناص من أن تتواصل هذه الثورة التلقائية الكبرى إلى أن تتحقق أهدافها الأساسية، مع إدراك أن أمواجها يمكن أن ترتفع وتنخفض، تمتد وتتقلص، تقوى وتضعف، تنشط وتستريح، ولا ينبغى النظر إلى فترات انخفاض أمواجها على أنها مؤشر حاسم على تراجع وانحسار الثورة بصورة نهائية، فربما كانت مجرد استراحة من استراحات محارب عنيد لا يلقى سلاح نضاله الثورى فى سبيل حقوقه. ولعل من الجلى أن الثورة صارت خبز يوم شعب لا يمر يوم من أيامه دون مقاومات عديدة فى مواقع عديدة فى طول البلاد وعرضها. والسؤال البديهى هنا هو: ألا يمثل هذا النشاط الثورى اليومى المتواصل للعمال والعاملين والمهنيين والطلبة وباقى فئات الشعب مجالا واسعا توضع فيه الطاقات الثورية للطليعة بأفرادها وجماعاتها وأحزابها ونقاباتها العمالية والمهنية لتطوير هذه الاحتجاجات والاعتصامات والإضرابات والمظاهرات من حيث الوعى والتنظيم وتحقيق الأهداف الملائمة لكل فترة؟
10: وتفوت المنادين بالمشاركة فى الانتخابات الرئاسية اليوم والپرلمانية أمس حقائق بسيطة: حقيقة أن الثورة الشعبية التلقائية الكبرى مستمرة، حقيقة أن أنشطة الثورة التى يمكن النظر إليها فى بعض الأحيان وفى بعض الأحوال على أنها أنشطة متدنية إنما هى إعداد متواصل لأحداث دراماتيكية أو "مشهدية"، كما يقال، حقيقة أن تصوُّر أن الثورة تستمر دائما بنفس قوتها الأولى واندفاعها الأول أو أنها تحقق أهدافها بسرعة فى فترة قصيرة: فى يوم فى شهر فى سنة فى سنتين، خطأ يقودنا إلى خطأ الحكم المتسرع بأن الثورة فشلت أو انتهت أو انتهى زمنها.
11: البديل إذن هو الفعل الثورى بالمشاركة النشيطة الفعالة فى احتجاج ثورى أو توعية ثورية وسط الاحتجاجات التى لا تهدأ أو بناء أو تنشيط أو تفعيل أو تطوير حزب أو حركة أو نقابة مستقلة. فما الذى قادنا إلى هذا التركيز على الاستفتاءات الدستورية والانتخابات الپرلمانية والرئاسية بدلا من التركيز على تطوير الثورة؟ أعتقد أن الثورة فى موجتها الأولى ركزت بصورة صحيحة على السلطة السياسية، على رأسها وقمتها وقياداتها وعلى قمم مؤسساتها بالإضافة إلى مجموعة من الأهداف السياسية والاجتماعية العامة. وكان هذا التركيز هو السبب فى الإنجازات المهمة التى تحققت خلال تلك اللحظة التاريخية وتعمقت وترسخت فى المراحل اللاحقة. غير أنه كان من نتائج ذلك التركيز الشديد الصحيح تماما على السلطة السياسية العليا ومؤسساتها الأساسية استمرار نفس التركيز على مؤسسات الدولة، هذا التركيز الذى قام فى المراحل التالية بدور مضلل يلقى بطبيعة الثورة وأهدافها الكامنة فيها إلى مناطق مبهمة. والحقيقة أن هذه النقطة تحتاج إلى مقال مستقل فى سياق نقد تفصيلى لرؤى وبرامج ومواقف وتاكتيكات وشعارات قوى الثورة، ولا يتسع المجال هنا إلا لإبداء قليل من الملاحظات المتعلقة بهذه النقطة.
12: وكان شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" شعارا يمثل إستراتيچية الثورة، وتمثلت استجابة قوى الثورة المضادة فى أنها رأت فيه شعارا غايته إسقاط رئيس النظام وأسرته ومجموعة تضيق أو تتسع من رجاله، فيما أرادت قوى الثورة بهذا الشعار إسقاط النظام وليس الاقتصار على إسقاط رأسه أو قمته أو قيادته العليا. وسرعان ما تبلور هدف إحلال مجلس رئاسى مدنى انتقالى محل القيادة السياسية العليا على أن يتم تكليفه بتحقيق الأهداف السياسية الديمقراطية والاقتصادية الاجتماعية للثورة. وكانت أبرز المهام والأهداف فى تلك المرحلة إلى جانب رحيل الرئيس وأسرته ورجاله تتمثل فى حل مؤسسات الدولة أو النظام فلا فرق فى ظل مثل هذا الحكم (وبالأخص حل مجلسىْ الشعب والشورى) على أساس دستور جديد، وحل الحزب الوطنى، وإطلاق حريات تكوين الأحزاب والنقابات والجمعيات والروابط والاتحادات، وحرية الصحافة والإعلام، وحريات التظاهر والاعتصام والإضراب ومختلف أشكال الاحتجاج السياسى والاقتصادى والاجتماعى، واستقلال القضاء وإلغاء القوانين المقيدة للحريات وإلغاء المحاكم الاستثنائية، وإلغاء قانون الطوارئ ورفع حالة الطوارئ، وإعادة هيكلة أجهزة الأمن والمخابرات، وتحقيق مستويات معيشة كريمة لكل المواطنين من خلال أجور مرتبطة بالأسعار وشروط عمل ملائمة وخلق فُرَص عمل كافية وتوفير الرعاية الصحية الشاملة، وغير ذلك.
13: وتمثلت الإنجازات الأولى فى إسقاط الرئيس وأسرته وحلقة ضيقة من عصابته (وإنْ بانقلاب عسكرى من داخل النظام ولمصلحته فكانت له عواقبه الوخيمة)، وفى عودة الروح إلى الشعب المصرى ودخوله بكامله فى مرحلة ثورة كبرى وكسر حاجز الخوف وإمساكه بزمام المبادرة السياسية وفى نجاحه فى إلحاق هزيمة ساحقة ومهينة بأجهزة القمع فى سياق دفاع بطولى عن النفس، وكذلك فى مجال التعرية الشاملة لطغيان وفساد النظام أمام الشعب كله وأمام العالم كله. وقد تحققت بعد ذلك بخطوة متلكئة بعد خطوة متلكئة وبالتدريج ("بالقطارة" فى الحقيقة) أهداف وشعارات أخرى مثل حل مجلسىْ الشعب والشورى والحزب الوطنى، ورفع "حالة" الطوارئ (مع استثناء يُلغى القاعدة) مع بقاء قانون الطوارئ الاستبدادى ذاته، وكذلك توسيع مجال تكوين الأحزاب (رغم قيود جديدة)، وإجراء تعديلات دستورية طالبت بها حركات سياسية مهدت للثورة فى الأعوام السابقة للإطاحة ب مبارك، تلك التعديلات التى كانت تمثل شيئا إيجابيا قبل الثورة فصارت تمثل كابوسا كأساس غير دستورى لتشريعات وقوانين وسياسات ونُظُم تدَّعى الدستورية مع أنها غير دستورية انطلاقا من الاستفتاء عليها وإصدار الإعلان الدستورى على أساسها.
14: ولأن الرئيس تم خلعه ولم يتم سجنه كما لم تتم محاكمته طوال قرابة ستة أشهر كان لا مناص من مواصلة النضال من أجل محاكمته على جرائمه قبل الثورة وجرائمه أثناء الثورة قبل وبعد الإطاحة به، ولأن الرئيس حل محله المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية، بصورة انتقالية مؤقتة، فتولَّى لسلطاته الدستورية بحكم شرعية الانقلاب كان لا مناص من توجيه الاهتمام إلى الانتخابات الرئاسية، ولأن المؤسسات التى تم حلها لم يتم إحلالها كان لا مناص من توجيه الاهتمام إلى الانتخابات الپرلمانية، ولأنه لم يتم الرضوخ فى البداية لحكم المجلس العسكرى إلا بوصفه حكما مؤقتا غايته ستة أشهر كان لا مناص مع حدوث فجوة متزايدة الاتساع بينه وبين الثورة من توجيه الاهتمام نحو إنهاء الحكم العسكرى وتسليم السلطة لمجلس رئاسى مدنى توافقى (ونلاحظ هنا أن الإسلام السياسى كان قد أخرج نفسه بحكم تحالفه مع المجلس العسكرى من أىّ حسابات توافقية ولم يحدث انقشاع أوهام قوى الثورة نهائيا عن الإخوان المسلمين وباقى قوى الإسلام السياسى وبالتالى الطلاق البائن بين الإسلام السياسى وقوى الثورة إلا خلال الموجة الثورية الثالثة التى بدأت فى 19 نوڤمبر 2011 وذلك بعد أن عمق الإخوان المسلمون والسلفيون بسلوكهم المعادى للثورة التناقض والفجوة بينهم وبين قوى الثورة). وجرى كل ما لا مناص منه بأقص التركيز من جانب قوى الثورة. ومن هنا صار التركيز على القضايا المتعلقة بالسلطة العليا أشد من التركيز على قضية تطوير الثورة فى اتجاه هدفها الكبير، أىْ هدف الديمقراطية الشعبية من أسفل، وعلى حساب هذا الهدف فى الحقيقة لاسيما وأن تطورات الصراع بين الثورة والثورة المضادة أضافت قائمة طويلة من جرائم النظام الجديد إلى قوائم جرائم النظام السابق، وصار على رأس القائمة حق شهداء الثورة على الثورة متمثلا فى سرعة محاكمة القتلة والحكم عليهم وتنفيذ هذا الحكم.
15: وبحكم الضباب الذى صار يحجب حقيقة طبيعة الثورة عن طليعتها وقياداتها وقواها، هذه الطبيعة التى لم يتم إدراكها بوضوح تام، ساد عدم إدارك حقيقة أن هدف الثورة الكامن فى صميمها إنما يتمثل فى الديمقراطية الشعبية من أسفل. وبالتالى فإنه بدلا من التركيز بقدر المستطاع على هدف تحقيق هذه الديمقراطية، جرى التركيز بأكثر كثيرا من المستطاع على إصلاح السلطة السياسية من أعلى لتحقيق الديمقراطية من أعلى. وساد تصور فى البداية وحتى فى مراحل لاحقة وحتى فى الوقت الحالى أحيانا اعتقاد أن السلطة سوف تنتقل من الطبقة الرأسمالية التابعة للإمپريالية العالمية إلى قوى الثورة التى ستقيم الديمقراطية من أعلى، وبالتوازى والتكامل مع هذا ساد اعتقاد بأن الديمقراطية تتمثل فى الفصل بين سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية متوازنة. وبما أن مثل هذا النوع من التفكير يقود إلى تصوُّر مؤداه أن پرلمانا يأتى أعضاؤه من صفوف قوى الثورة فى إطار دستور جديد ديمقراطى ويقوم على الفصل بين السلطات الثلاث المتوازنة ويمنحه بالتالى الاستقلال والتوازن يمكن أن يكون وحده التجسيد الحى فى الواقع الفعلى لمفهوم الديمقراطية بالمعنى الحقيقى.
16: وكان هذا يعنى نسيان وتجاهل أن النظام الرأسمالى (المتقدم المستقل تماما مثل المتخلف التابع) يقوم ليس فقط على فصل سلطات متوازنة (وهى غير متوازنة فى الحقيقة) بل يتكامل هذا الفصل القانونى الشكلى مع التوحيد أو الاندماج الفعلى بحكم انتماء هذه السلطات جميعا إلى الطبقة الرأسمالية الحاكمة التى تحكم من خلال هذه الأدوات التى تشكل معا ما نسميه بالدولة على أساس دستور نفس هذه الطبقة. فالپرلمان هو پرلمان الطبقة الرأسمالية الحاكمة وسلطتها التشريعية، ومؤسسة رئاسة الجمهورية و/أو مجلس الوزراء يمثلان سلطتها التنفيذية، فيما يمثل القضاء سلطتها التشريعية التى يحكمها دستورها ويصدر تشريعاته وقوانينه للحفاظ على والدفاع عن مصالحها الأساسية. وباختصار فإن الپرلمان هو پرلمان الطبقة الرأسمالية الحاكمة والرئاسة رئاستها والقضاء قضاؤها والدستور دستورها والجمهورية جمهوريتها والدولة دولتها وهى تتألف من كل هذه المؤسسات بكل فروعها وامتداداتها؛ وإذا كان من وظائف هذه الدولة تخفيف الصراع بين الطبقات (وفى الحقيقة تأجيجه فى كثير من الأحيان) فإن هذه الوظيفة قائمة أصلا لحماية مصالح وسيطرة واستبداد واستغلال ونفوذ وفساد الطبقة الرأسمالية. وينطبق هذا على البلدان الرأسمالية المتقدمة انطباقها على البلدان الرأسمالية التابعة، كما ينطبق من الناحية الجوهرية على الجمهورية الرئاسية والجمهورية الپرلمانية على السواء، وعلى الملكية المطلقة والملكية الدستورية/الپرلمانية على السواء. أما الاعتقاد الذى ساد بأن السلطة السياسية ستنتقل بنجاح الثورة الجارية من الطبقة الرأسمالية التابعة إلى قوى الثورة فكان يرجع أيضا إلى عدم إدراك طبيعة الثورة وطبيعة أهدافها النابعة من خصائصها. ذلك أن الثورة السياسية التى تأتى فى سياق ثورة اجتماعية (كما كان الأمر فى ثورات البلدان الرأسمالية الصناعية الحالية) تنقل الثورة من الطبقة المالكة والحاكمة فى إطار النظام الانتقالى القائم قبل الثورة إلى الطبقة الرأسمالية المالكة والحاكمة بعد الثورة، حيث ينتقل إلى سيطرتها الطبقية كل من الاقتصاد والسلطة السياسية وكل شيء آخر. أما ثورات العالم الثالث أىْ المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة فإنها لا تحدث فى سياق الثورة الاجتماعية بمفهومها الصحيح وإنما تحدث فى سياق التبعية الاستعمارية حيث تبقى السلطة بعد نجاح الثورة المعادية للطبقة الرأسمالية التابعة فى أيدى نفس الطبقة، ونكون بالتالى أمام استمرار التبعية واستمرار الطبقة الرأسمالية التابعة واستمرار سلطتها واستمرار شكل متغير من أشكال ديكتاتوريتها مهما نجحت ضغوط الديمقراطية الشعبية من أسفل عليها أو تقلصت هذه الديمقراطية تحت ضرباتها. ولا يعنى هذا إغلاق نتائج الصراع بين الديمقراطية الشعبية من أسفل مع الطبقة الرأسمالية التابعة واستغلالها وديكتاتوريتها من أعلى بعد ثورة ناجحة على وضع ساكن أو سكونى إستاتيكى فقد شددتُ فى كتاباتى السابقة على احتمال انفتاح آفاق أوسع من التصنيع والتقدم والاستقلال (وحتى الثورة الاشتراكية عند اكتمال شروطها الأممية) أمام قوى الثورة التى تجسد الديمقراطية الشعبية من أسفل.
17: ومهما يكن من شيء فقد أدى سوء التفاهم فيما يتعلق بطبيعة الثورة الحالية والأهداف المنطقية لمثل هذه الثورة إلى التركيز الصحيح على محاكمة القيادة السياسية للنظام السابق على جرائمه قبل الثورة وأثناء الثورة وعلى محاكمة أركان النظام الجديد المسمَّى بالانتقالى على جرائمه أثناء وبعد الثورة. على أن هذا أدى إلى تكريس التركيز على إصلاح وترميم السلطة العليا ومؤسسات الدولة على حساب تطوير الثورة كما سبق القول. وتمثلت ثمرة شهور من التركيز (بين أشياء أخرى) على محاكمة مبارك وأسرته ورجاله فى وضع الرئيس السابق فى قفص الاتهام فى الموجة الثانية للثورة، التى بدأت فى 8 يوليو 2011. وكانت وما تزال هناك من أسفل "ثورات" إيجابية لا حصر لها ضد الإدارة "المرفوضة" والمديرين "المرفوضين" فى مختلف المواقع الصناعية والإدارية والإعلامية ومختلف الشركات والجامعات وغيرها. غير أن هذا التكريس للتركيز على إصلاح الدولة من أعلى أدى إلى أخطاء.
18: ولأن المجلس الأعلى هو الذى يتولى حكم وإدارة البلاد (ودون وجه حق)، ولأنه يحكم ويدير البلاد بالطريقة العسكرية الأوامرية المعهودة، ولأنه نظم مذابح دموية لقوى الثورة من خلال الجيش أو من خلال وزارة الداخلية أو من خلال البلطجية، ولأنه لم يف بوعوده فى الرحيل فى موعد محدد سابق، ولأنه أثار الشكوك بشأن استعداده للرحيل أصلا، ولأن مؤشرات ودلائل وتحليلات لا حصر لها ترجِّح أنه سوف يتولى السلطة الفعلية لأعوام طويلة قادمة بصورة غير رسمية من وراء الكواليس مهما كانت الحكومة ومهما كان رئيس الحكومة ومهما كان رئيس الجمهورية،.... لكل هذا أصبح رحيل المجلس العسكرى الشعار الأبرز بين شعارات الثورة، فقد تنامى شيئا فشيئا إلى أنْ تبلور تماما وبرز بقوة منذ موجة 8 يوليو الثورية وترسخ إلى حد جعل الثورة تطالب بتسليم السلطة على الفور؛ ولمَنْ؟ لأعداء آخرين للثورة فى صفوف قوى الثورة المضادة، فى شخص مجلس الشعب أو رئيسه أو لجنة يعيِّنها أو باقتراحات تضم قيادات من الإسلام السياسى رغم مواقفه المعادية للثورة. ومن الناحية التاكتيكية جرى فى كثير من الأحيان ربط وقف المظاهرات أو فض الاعتصامات بالرحيل الفورى للمجلس العسكرى وكانت الاعتصامات تنفض و"ترحل" دون أن يرحل المجلس العسكرى، بكل الإحباطات الناشئة من ذلك، إلى حد صار معه مثل هذا التاكتيك مثيرا للضحك. والواجب الإلزامى بالطبع هو المطالبة برحيل المجلس العسكرى ورفض حكمه المباشر وكذلك حكمه غير المباشر من وراء الكواليس، بشرط ألا يتحول رحيل المجلس العسكرى إلى "جَنُّونَة" كما حدث مرارا بدلا من المطالبة برحيله بمعنى دعائى مع وضع الطاقات الجبارة للثورة فى هذه الموجة الثورية أو تلك حول مطالب بالغة الأهمية يمكن أن تتحقق بالتركيز الشديد الضاغط عليها بحيث يكون تحقيقها قهرا سياسيا مباشرا للمجلس العسكرى وكسرا لإرادته العنيدة كما حدث عند إجباره على وضع الرئيس السابق فى قفص الاتهام متهما بقتل أبناء "شعبه" ويا للعار! وبتاكتيكات صحيحة كان وما يزال من الممكن المطالبة برحيل ومحاكمة المجلس العسكرى كشعار دعائى وتحقيق أهداف مهمة مثل تحديد حد أدنى للأجور مع ربط الدخل بالأسعار، ومثل محاكمة الرئيس السابق ليس فقط على جرائمه أثناء وبعد الثورة بل على جرائمه هو ونظامه خلال ثلاثين عاما من حكمه مع التعجيل بمحاكمته هو ورجاله بدلا من المماطلة السياسية الطابع فى الوقت الحالى بالتلاعب بإجراءات القضاء. أقول هذا رغم أننى طالبت وأطالب بإقالة ومحاكمة المجلس العسكرى على جرائمه السياسية والأمنية أثناء وبعد الثورة (وكذلك جرائمه المحتملة أو المرجَّحة فى الحقيقة قبل الثورة)، وتشكيل قيادة عسكرية جديدة للقوات المسلحة المصرية من ضباط وجنود مؤيدين للثورة ومؤهلين لهذه القيادة، وينحصر اعتراضى على طريقة الصراع مع هذا المجلس على أساس لا للمجلس العسكرى، لا لمجلس الشعب، لا للإسلام السياسى، لا لرجال وأحزاب الحزب الوطنى، لا لليبرالية اليمينية، لا لكل قطاعات الرأسمالية التابعة الحاكمة ولكل تعبيراتها السياسية بكل تجليلتها، لا للأحزاب ذات المرجعية الدينية التى هى أدوات إقامة الدولة الدينية على جثة الدولة المدنية العلمانية، و.... نعم للاستفادة بالتناقض بين قوى الثورة المضادة دون أىّ تحالف مع أىّ قوة منها ضد أخرى.
19: ويتمثل الأكثر خطورة مما سبق فى حقيقة أن تكريس التركيز على إصلاح السلطة من أعلى يدفع قوى الثورة وبالأخص شبابها إلى اندفاع نحو الاستفتاءات الدستورية والانتخابات الپرلمانية والرئاسية فى سباق محموم مع قوى الثورة المضادة على تنفيذ الخطة الموضوعة للتصفية التدريجية للثورة وهى خطة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية! وذلك بدلا من الفعل الثورى وتطوير الثورة وبناء الديمقراطية الشعبية من أسفل من خلال المعارك الثورية فى الميادين والشوارع والمصانع والجامعات ومجالات أجهزة الإعلام والمجالات النقابية العمالية والفلاحية. ففى العالم الثالث والمنطقة العربية ومصر لا قيمة للپرلمان وفى أوضاعنا الراهنة لا قيمة أيضا لرئيس الجمهورية وهذه المؤسسات جميعا إنما هى أدوات دولة الطبقة الحاكمة. ويوفر زمن الثورة مجالات واسعة للدعاية الثورية خارج مناسبات مثل هذه الانتخابات الپرلمانية والرئاسية التى ينبغى أن نقاطعها لتركيز طاقاتنا وجهودنا على الفعل الثورى على العكس من اتباع تاكتيك المشاركة فيها فى الفترات العادية التى يسود فيها استقرار النظام الرأسمالى فلا توجد حتى نضالات ثورية ذات وزن.
20: وتتعدد الأمثلة على نتائج سلبية نبعت من تكريس التركيز على "إصلاح" السلطة السياسية من أعلى، على أن المجال الذى لا يتسع للتوسع فى ضرب الأمثلة وتحليلها يضطرنا إلى التركيز على الفكرة الرئيسية فى هذا المقال: مقاطعة الانتخابات الرئاسية الوشيكة التى تمثل مهزلة حقيقية ولا حاجة بنا إلى مزيد من تأكيد عبثيتها التى تتمثل (بين أشياء أخرى) فى أنها ليست سوى انتخابات شكلية يتم حسمها بالصفقات التى تتحول إلى أصوات فى صناديق الانتخابات جنبا إلى جنب مع كل الأساليب الأخرى المكرسة مصريا وعربيا وفى العالم الثالث كله فى تزوير الانتخابات وكذلك تلك المكرسة لتزييف إرادة الشعوب فى العالم كله، والأهم أننا بصدد انتخاب أضعف رئيس جمهورية لأنه سيكون فى الحقيقة رئيسا پروتوكوليًّا ليس لأنه سيكون رئيسا فى جمهورية پرلمانية بل لأنه سيكون "الأراجوز" الذى تحركه رؤوس أصابع المجلس العسكرى من وراء الكواليس. ومع هذا ارتفع عدد المرشحين إلى الآن إلى المئات وسيتحول مرشح محتمل تُقْبَل أوراقه منهم إلى مرشح فعلى وسيتسابق هؤلاء المرشحون الفعليون على رئيس محتمل سيتحول إلى "أراجوز" فعلى لجمهورية غير محتملة لأنها مجردة من كل الخصائص الديمقراطية حتى الشكلية للجمهورية الحديثة!
16 مارس 2012



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ندوة لخليل كلفت عن الحوار المفتوح
- النساء يحركن العالم - فيديريكو مايور و چيروم بانديه
- خليل كلفت - مفكر وسياسي ماركسي- في حوار مفتوح حول: طبيعة الث ...
- معادلات سياسية تحكم الثورة المصرية الراهنة
- إشكالية مدرسة فرانكفورت (بين النظريتين النقديتين: الأصلية وا ...
- كتابى -من أجل نحو عربىّ جديد- فى نقاط أساسية بقلم: خليل كلفت
- من أجل نحو عربى جديد (الجزء الثانى)
- من أجل نحو عربى جديد - الجزء الأول
- آدم وحواء وقصص أخرى من أمريكا اللاتينية
- حكاية سَكَنْدَرِيَّة - ما شادو ده أسيس
- العاصفة تهب (حول انهيار النموذج السوڤييتي) - كريس هارم ...
- محاضرات سياسية عن أوروپا وتركيا وأفريقيا والهند
- العقائد الدينية والمعتقدات السياسية
- إلى أين يقود علم الوراثة؟ - چان ڤايسينباخ
- ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها - الجزء الثانى
- ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها - الجزء الأول
- القرن الحادي والعشرون: حلم أم كابوس؟
- الذكرى الأولى للثورة تقترب والمجلس العسكرى يسير بنا على الطر ...
- الحوار بين الثورة والواقع
- مطالب وأهداف الموجة الثورية الراهنة


المزيد.....




- إعلام: وفد مصري إلى تل أبيب وإسرائيل تقبل هدنة مؤقتة وانسحاب ...
- -أنصار الله- تنفي استئناف المفاوضات مع السعودية وتتهم الولاي ...
- وزير الزراعة الأوكراني يستقيل على خلفية شبهات فساد
- ماكرون يهدد بعقوبات ضد المستوطنين -المذنبين بارتكاب عنف- في ...
- دراسة حديثة: العاصفة التي ضربت الإمارات وعمان كان سببها -على ...
- -عقيدة المحيط- الجديدة.. ماذا تخشى إسرائيل؟
- مصر: بدء التوقيت الصيفي بهدف -ترشيد الطاقة-.. والحكومة تقدم ...
- دبلوماسية الباندا.. الصين تنوي إرسال زوجين من الدببة إلى إسب ...
- انهيار أشرعة الطاحونة الحمراء في باريس من فوق أشهر صالة عروض ...
- الخارجية الأمريكية لا تعتبر تصريحات نتنياهو تدخلا في شؤونها ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - سباق رئاسى محموم فى مصر بين مرشحين محتملين على رئيس محتمل لجمهورية غير محتملة