أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - الحُكومَةُ والكُتَّابُ فى السُّودانْ (2) إِتِّحَادُ الكُتَّابِ .. المُسْتَعْرِبِينْ!















المزيد.....

الحُكومَةُ والكُتَّابُ فى السُّودانْ (2) إِتِّحَادُ الكُتَّابِ .. المُسْتَعْرِبِينْ!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 1060 - 2004 / 12 / 27 - 11:49
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


تحدَّثنا فى المقالة السابقة عن مشروعيَّة غضب الذين فوجئوا ، مِن أعضاء (اتحاد الكتاب السودانيين المحلول) ، بأسمائهم منشورة فى الصحف السيَّارة كمدعوِّين إلى محفل حكومى انتظم خلال يومى 8 ـ 9/12/2004م تحت عنوان (المؤتمر التأسيسى للاتحاد العام للأدباء والكتاب السودانيين)! وقلنا إن هؤلاء ظلوا غاضبين ، أصلاً ، مُذ جرى ، فى العقابيل الأولى لانقلاب الثلاثين من يونيو عام 1989م ، حلُّ اتحادهم (الأهلى) وطردهم من الدار التى كانوا قد أسَّسوها بالتقطيع من الجلد (كجغرافيا) تحتضن نشاطهم (المستقل) ، والذى لم يكن من الممكن أن تقوم له قائمة بدونها.
وسنحاول فى هذه المقالة أن نفترض ، جدلاً ، أن ثمَّة من يأنس فى نفسه (الكفاءة) ، من أعضاء الاتحاد المحلول ، لكى (يدوس) على كرامته و(ينسى) ذلك العدوان غير المُبرَّر ، (فيتنازل) ، بالتالى ، ولو على مضض ، عن (حقه) المخصوص فى المطالبة بإزالة آثاره ضمن السياق العام للتسوية المأمولة باتجاه السلام والتغيير الديموقراطى خلال الفترة القادمة ، ولكى (يتخلى) فوق ذلك كله ، وهو يتجرَّع الغصَّة تلو الغصَّة ، عن طابع (الأهليَّة) و(الاستقلال) اللذين وَسَمَا دائماً نشاط الاتحاد المُعتدى عليه ، ولكى (ينخرط) ، من ثمَّ ، وبمثل هذه الذاكرة الخربة والارادة المستلبة ، فى ترتيبات هذا الهيكل الحكومى الرَّسمى المستحدث ، فهل تراه يتيح (دستور) الاتحاد الجديد نفسه ، و(بالخلفيَّة الفكريَّة) التى تأسَّس عليها ، مُبرِّراً معقولاً ، ولو بالحدِّ الأدنى ، لمن أراد الركون إلى خيار كهذا؟!
نحمد ، ابتداءً ، للأمانة العامَّة لفعاليات (الخرطوم عاصمة للثقافة العربيَّة لسنة 2005م) أن قد يسَّرت الاجابة على هذا السؤال بنشرها لكتيِّب حوى كلا (الدستور) و(خلفيَّته الفكريَّة) كما حدَّدتهما وصمَّمتهما ما سُميَّت باللجنة التحضيريَّة (المنتخبة) للمؤتمر التأسيسى المذكور. وقد جرى التعبير عن هذه (الخلفيَّة الفكريَّة) ، بصورة كافية ، من خلال الكلمات والأوراق التى قدمت بين يدى التأسيس ، حيث تكفى مجرَّد نظرة عابرة لإدراك أن (الثقافة العربيَّة) ، من دون الثقافات السودانيَّة الأخرى ، هى التى تشكل لحمة وسداة الذهنيَّة الكامنة وراء هذا الكيان التنظيمى الجديد! وقد لا يحتاج المرء إلى بذل جهد يذكر لالتقاط رموزيات هذه الذهنيَّة ، سواء فى الكلمة الافتتاحيَّة لرئيس اللجنة التحضيريَّة الفريق د. عمر قدور ، ومساهمته الأخرى ضمن الاوراق المُقدَّمة ، أم فى كل من ورقتى د. عون الشريف قاسم واللواء الركن (م) أبو قرون عبدالله ، وقد تبوَّأ ثلاثتهم ، فى ما بعد ، مناصب رفيعة على مستوى المجلس التنفيذى للاتحاد. ولا يُعقل ، بالطبع ، أن يكون ذلك قد وقع بالمصادفة ، خاصة وأن كلَّ الذين (دُعوا) لاعتلاء منصَّة المؤتمر خلال اليومين اللذين استغرقهما ، بفتراتهما الصباحيَّة والمسائيَّة الأربع ، وعددهم حوالى العشرين ، هم من ممثلى الجماعة المستعربة فقط ، والثقافة العربيَّة وحدها ، وليس بينهم ولو ممثل واحد لأيَّة جماعة إثنيَّة أو ثقافة أخرى فى السودان ، مِمَّا لا يُعقل أيضاً أن يكون قد وقع بمحض الصدفة!
وإذن فالأدب ، لدى الفريق د. قدور ، هو (اللسان المُبين) المعبِّر عن ثقافة الأمَّة (الكتيِّب ، ص 14). ولعل الإيماءة إلى (اللغة العربيَّة) واضحة هنا بمجرَّدها ، وبما لا يحتاج إلى الاطناب فى إضاءتها ، تماماً كما فى الاشارة القرآنيَّة "لسان الذى يلحدون إليه أعجمىٌّ وهذا لسـان عربىٌّ مُبين" (103 ؛ النحل). والخرطوم ، لدى د. عون الشريف ، "رمزيَّة ثقافيَّة للبلاد .. (و) قيام مشروع الخرطوم عاصمة للثقافة العربيَّة يحقق جملة الأهداف الوطنيَّة والاقليميَّة والدوليَّة .. (و) يهدف .. إلى إدارة حوار ثقافى عربى فى مواجهة صراع الحضارات لتوحيد الرؤى الثقافيَّة العربيَّة حول المرتكزات الأساسيَّة للأمَّة العربيَّة" أو كما قال (الكتيِّب ، ص 24ـ25). وتمضى فى نفس الاتجاه أيضاً ورقة اللواء (م) أبو قرون (ص 31ـ49).
أما الاشارة للثقافات السودانيَّة الأخرى فلا تكاد ترد فى كلِّ هذه النصوص إلا (كموضوع) لتأثير الثقافة العربيَّة ، أو من باب (المضمضة اللفظيَّة) المحضة ـ lip service على قول الفرنجة ، فهى مكبلة جميعها بالقيد الفكرى التاريخى (لمركزويَّة) الثقافة العربيَّة بالنسبة لثقافات (الهامش). وثمَّة أدلة ثلاثة قويَّة على ذلك:
الدليل الأول: أن المحور الفكرى الافتتاحى لاحتفاليَّة (الخرطوم عاصمة للثقافة العربيَّة) ، والتى تأسَّس (اتحاد المستعربين) هذا بمناسبتها ، يدور حول إبراز "دور السودان فى (نقل) و(توطين) الثقافة العربيَّة فى المحيط الأفريقى" (الكتيِّب ، ص 27). وما تلك ، فى الواقع ، سوى إعادة إنتاج لذات أطروحات التيار (السلطوى/التفكيكى) القديمة التى اصطدمت تاريخياً بصعوبات معرفة (الآخر) القائمة فى حاجز اللغة والثقافة والمعتقد ، فاستسهلت التفسيرات التى تصوِِِِّّّرها ، لا كواقع موضوعى ، وإنما كمجرَََّّّد "حواجز صناعيَّة أقامها المستعمرون لتجزئة القطر الواحد" (محمد فوزى مصطفى ، 1972م) ، أى كمحض مؤامرة استعماريَّة قطعت الطريق أمام التحاق الاثنيات الافريقانيَّة بحركة الاستعراب والتأسلم التى استكملت نموذجها الأمثل ، بحسب زاوية النظر هذه ، فى الشمال والوسط. وما ذلك سوى نموذج من الصورة العامَّة لتمظهرات استسهال تفسير (الحالة السودانيَّة) فى ذهنيَّة الجماعة العربيَّة الكبرى فى المنطقة.
ولكن ذلك الاستسهال كانت له ، أيضاً ، مقدماته التى بلورتها ، قبل الاستقلال ، الاتجاهات الغالبة على فكر وثقافة الجماعة المستعربة الصغرى فى البلاد. ففى عام 1921م كرَّس الشيخ عبد الله عبد الرحمن الأمين كتابه (العربية فى السودان) لإثبات (نقاء) اللسان العربى فى السودان (كله)! وفى ذات الاتجاه انطلق الشعر (العربى) ليمثل صورة الفكر (السودانى) الرئيسة ، من خلال الموالد وفعاليات الخريجين والمناسبات الدينية والاجتماعية المختلفة. وفى عام 1941م حدَّد محمد احمد محجوب ، وكان من أبرز مثقفى تلك الحقبة ثم أصبح ، لاحقاً ، من أميز قادة الفكر السياسي فى حزب الأمَّـة ، وأحد الزعماء المرموقين الذين تقلدوا الوزارة ، شروط المثل الأعلى للحركة الفكرية "فى هذه البلاد" ، على حدِّ تعبيره ، بأن "تحترم تعاليم الدين الإسلامي الحنيف ، وأن تكون ذات مظهر عربي فى تعبيرها اللغوي ، وأن تستلهم التاريخ القديم والحديث لأهـل هذه البلاد وتقاليد شعبها. هكذا يمكننا أن نخلق أدباً قومياً ، وسوف تتحول هذه الحركة الأدبية فيما بعد الى حركة سياسيَّة تفضى الى الاستقلال السياسى والاجتماعى والثقافى" (ضمن: أسامة عبد الرحمن النور ، موقع "ARKAMANI" على الشبكة). ومن نافلة القول بالطبع أن المحجوب لم يكن يرى فى كل البلاد سوى (تاريخ) و(ثقافة) و(لغة) المستعربين المسلمين وحدهم!
وربما تكتسى دلالة خاصة فى هذا السياق عودة السيِّد الصادق المهدى ، رئيس حزب الأمَّة ، بعد ما يربو على نصف القرن ، لينتقد ما أسماه (الأحاديَّة الثقافيَّة) لدى القوى السياسيَّة الشعبيَّة التى حكمت السودان بعد الاستقلال مما أدى إلى استقطابات دينيَّة وثقافيَّة حادة (ورقة "تباين الهويات فى السودان: صراع أم تكامل" ، ندوة مركز دراسات المرأة بقاعة الشارقة بالخرطوم ، 23/3/2004م).
مهما يكن من شئ ، وبإزاء مصاعب البناء الوطنى بعد الاستقلال عام 1956م ، وبدفع من الجامعة العربيَّة والمنظمات الاسلاميَّة التى انتمى إليها السودان ضربة لازب ، والتى أناطت به مهمة (تعريب) و(أسلمة) الأفارقة على مبدأ "القهر والغلبة" (عبد الله على ابراهـيم ، 1996م) ، فقد أفرغت أطروحة (الأحاديَّة الثقافيَّة) تلك فى:
(1) إعلان (العربية) لغة رسمية ، فى ما أسماه بعض نقاد هذه السياسة "بالجبر اللغوى" (المصدر نفسه) ، الأمر الذى تسبَّب فى إقصاء كلِّ أقوام التنوُّع الثقافى الأخرى ، باعتبار خاصيَّة اللغة كحامل للثقافة ، وأحالها إلى مجرَّد هدف (للأسلمة) و(التعريب) ، كما شكل إهداراً مبهظاً لكلُّ ثراء البلاد من جهتى التعدُّد والازدواج اللغويَّين ، حيث توجد فى السودان ممثلات لكلِّ المجموعات اللغويَّة الأفريقيَّة الكبيرة ، ما عدا لغات الخويسان فى جنوب أفريقيا (سيد حامد حريز ـ ضمن عبد الله على ابراهيم ، 2001م). وبحسب إحصاء 1956م فإن اللغات التى يتحدث بها أهل السودان تبلغ المائة وأربع عشرة لغة. وقد صنف جوزيف غرينبيرج كلَّ المجموعات اللغويَّة الكبيرة فى أفريقيا فى أربع أسر. وباستثناء تلك الأسرة الخويسانيَّة ، فإن الأسر الثلاث الأخرى جميعها متوطنة فى السودان ، وهى ميزة لا تتوفر فى أى قطر آخر فى أفريقيا. وتكمن أهميَّة مثل هذه الحقائق فى أنها تشير إلى عمق الصلات التاريخيَّة بين السودان وجيرانه القريبين والبعيدين ، كما وأنها تشكل عنصراً مهماً فى تواصل السودانيين مع هذه الشعوب (الأمين أبو منقة ؛ صحيفة الأضواء 16/2/2004م).
(2) المراهنة ، بعين البعد الواحد ، على إدراج السودان بأسره تحت شعارات (العروبة) و(القوميَّة العربيَّة) و(الوحدة العربيَّة) وما إليها ، واعتبار ذلك كله بمثابة (الممكن) التاريخى الوحيد المتاح لحلِّ مشكلة (الوحدة الوطنيَّة) ، فإذا بمردوده العكسىِّ الفادح يتمثل فى استحالته لدى (الآخر) إلى محض ترميزات ناجزة بنفسها للتيئيس من هذه (الوحدة) ، وحفز الميل (للانفصال) ، مِمَّا دفع ببعض المفكرين العرب ، حتى ممن يرون أن "القوميَّة العربيَّة .. ما تزال قوة حيَّة ومحرِّكة" ، لأن يدقوا أجراس التنبيه إلى هذه "الخاصِّيَّة القطريَّة .. فى التفكير القومى العربى ، وما تقدمه لذلك الفكر من أمثولة هو بأشد الحاجة إليها" (إيليا حريق ؛ مقدمة فى: عبد الله على ابراهيم ، 1996م). فالحقيقة أن الفكر القومى العربى "عالج .. تلك المشكلة بشئ من الخفة إن لم نقل العداء .. (و) التجاهل أو التهوين .. مدعياً .. أن الأقليات لا تختلف فى الرأى عن النهج القومى العام .. (لكن) الطريق القويم للقوميَّة العربيَّة اليوم .. هو احترام الفروق القائمة فى المجتمع والدولة القطريَّة ومساعدتها على التكامل والنمو والازدهار لكى تستطيع .. تشييد البناء القومى الذى يقوم على قاعدة وحدات من الدول القطريَّة. فبدل أن نسعى إلى القضاء على الدولة القطريَّة وعلى خاصيَّتها ، فالأحرى بنا أن نعمل للاحتفال بها والاعتماد على مقدراتها ، فهى الأساس الذى نرتقى منه نحو البناء القومى الأعلى" (المصدر نفسه).
ورغم أن السودان لم يُشرَك أحياناً فى بعض المنظمات العربية بسبب وضعه الطرفى بعيداً عن المضخات المركزيَّة للثقافة العربيَّة ، أو لعدم (حَسْم!) مسألة عروبته (محمد عمر بشير ، 1991م) ، إلا أن (العروبة) قد انطرحت فيه ، مع ذلك ، لا (كخيمة) كان من المأمول أن تسع قضيَّة (الوحدة) بقدر ما كان مأمولاً أن تسع حركة المثاقفة التلقائيَّة بين مفردات منظومة التعدُّد السودانى ، وإنما كأيديولوجية قامِعة فى أيدى نخب المستعربين (الاستعلائيَّة/التفكيكيَّة) وسلطتها الفكريَّة والسياسيَّة.
هكذا تمدَّد تيار (التعريب والأسلمة) اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وثقافياً ، جاعلاًً من الاسلام إطاراً وحيداً لمنظومة القيم فى كل البلاد ، ومن العربية وسيلة وحيدة للصحافة والراديو والتلفزيون ودواوين الحكومة ومناهج التربية والتعليم ، كما جرى "تأطير المجتمع .. على تلك الأسس .. (مما) أعاق .. فرص الأقليات التي لا تتوافق مع النموذج السائد فى مجالات التطوير الذاتى .. و .. تكّون حاجز نفسى/سلطوى .. فى وجه أي مراجعة .. للشأن الداخلي يُظن أنها قد تمس جوهر الانتماء العربى" (يوسف مختار الأمين ؛ موقع "ARKAMANI" على الشبكة ). ولأن الثقافات (الأخرى) غير منسجمة فى السياق ، بل وقد تتسبب فى إرباكه ، فقد جرى إقصاؤها عملياً أغلب الأحيان ، كما فى حالتى الدين واللغة. وزاد الأمر تعقيدًا عجز هذه النخب عن إنجاز القدر المطلوب من التنمية الشاملة ، وتأسيس نظام للحكم يلبي طموحات الأغلبية. وفى ظل أوضاع التخلف ، وتدهور الاقتصاد والظروف المعيشية ، وارتفاع معدلات النمو السكاني ، توسعت تلقائياً بؤر الصراع الاثني والجهوي والثقافى ، مما تجلى فى تبني مواقف سياسية وثقافية مغايرة للسائد ، بحمل السلاح فى مواجهة السلطة المركزية ، وإشعال الحروب الأهلية والصراعات القبلية التى تتفاقم أبعادها وآثارها يومًا بعد يوم (المصدر نفسه).
الدليل الثانى: أن أوراق الأساتذة الثلاثة الأجلاء لا تتردَّد فى وصف هذه المقاصد والأهداف الثقافيَّة العربيَّة (بالقوميَّة) ، كما عند السيِّدين قدور (الكتيِّب ، ص 11) وعون الشريف (ص 27) ، جرياً على تقليد شائع فى حقل الفكر والسياسة فى السودان ، حيث تستخدم هذه الكلمة فى الغالب بصورة ملتبسة ، ومدلولات خادعة ، خصوصاً حين يُراد استقطاب الذهنية والوجدان العامَّين ، وتحشيدهما حول قبول ودعم قيُّومِيَّة (المركز) المستعرب المسلم على ما (دونه) من (هامش) فى جبهة العلاقات الاثنيَّة: (وفاق قومى ، زى قومى ، شخصيات قوميَّة .. الخ). أما الحقيقة فهى أن غالبيَّة الجماعة المستعربة المسلمة فى بلادنا انحدرت ، فى الأصل ، بثقلها الاقتصادى السياسى والاجتماعى الثقافى ، من العنصر النوبىِّ المنتشر على امتداد الرقعة الجغرافية من الشمال النيلى إلى مثلث الوسط الذهبى (الخرطوم ـ كوستى ـ سنار) ، وهو العنصر الذى تنتسب إليه غالب الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية التى تمكنت ، على مدى خمسة قرون ، من تركيز الجزء الأكبر من الثروة فى أيديها ، والتى تشكلَ فى رحمها ، تاريخياً ، التيار (السلطوى/التفكيكى) المستعلى بالدين والعِرق والثقافة واللغة. لكن ، وعلى الرغم من تلك الأصول النوبيَّة القديمة لأغلب المنتمين لهذه القوى الاجتماعية ، إلا أنهم كفـُّوا فى الواقع ، ومنذ زمن بعيد ، عن استبطان الوعى بهذه (الهويَّة) التى استحالت هى نفسها إلى (هامش) ، وأضحوا (يدركون ـ perceive) فقط أن تشكلهم (القومىِّ) محدَّد بالعروبة والاسلام ، وهذا حقهم بلا أىِّ جدال ، فالهويَّة هى المُدرَك عن الذات. ولكن المشكلة لا تكمن فى هذه السيرورة الهويويَّة التاريخيَّة نفسها ، بقدر ما تكمن فى الأسلوب القمعى الذى انتهجته هذه القوى الاجتماعيَّة فى الاستعلاء بتأسلمها واستعرابها على سائر من تتوهَّم أنهم (دونها) ، ضربة لازب ، من أهل الأعراق والأديان والثقافات واللغات الأخرى. لقد ذوَت تلك الهويَّة القديمة ، إلى حد بعيد ، فى وجدان هذه القوى ، ولم يعُد لنوبيَّتها أىُّ معنى حقيقى ، ولكنها انطلقت تقدم نفسها ولغتها وثقافتها ودينها فى مقام النموذج (القومىِّ) السائد ، دون أن تستوفى ، فى الوقت نفسه ، أشراط التمثل الكلىِّ لمجموع الثقافات الأخرى ، أو ما يمكن أن يختزل (منظومة التنوُّع) السودانى ، فما تنفكُّ تعبِّر ، فحسب ، عن محض "إدراك نيلىٍّ شمالىٍّ لهذه الهويَّة السودانيَّة الصاعدة" (دورنبوس ، فى بارنت وكريم ـ ضمن ب. ودوارد ، 2002م).
الدليل الثالث: أن المادة (4/12) من دستور (الاتحاد العام للأدباء والكتاب السودانيين) نفسه تزيل الشكَّ باليقين ، وتقطع ، فى هذا الشأن ، قول كلِّ خطيب ، حيث تجعل من أهداف الاتحاد الرئيسة "أن تكون اللغة العربيَّة الفصحى هى الأداة الأساسيَّة للتعبير الأدبى" ، الأمر الذى لا يمكن أن يعنى ، عقلاً ومنطقاً ، سوى افتراض أن يكون الأديب أو الكاتب الجدير بعضويَّة الاتحاد من المستعربين أهل اللغـة العربيَّة والثقافة العربيَّة! ولنا أن نتأمَّل ، بعد ذلك ، فى ما إن لم يكن مدعاة للاستغراب الجدىِّ ، وضرب الكفِّ بالكفِّ ، اشتمال قائمة العضويَّة على أسماء الأساتذة بوى جون وشول دينق وأقنيس لوكودو وأكوى دوال أكوى ، أو ما إذا كانت ثمَّة قيمة حقيقيَّة لما تذهب إليه بقيَّة المادة نفسها بقولها ".. ويعمل الاتحاد على رعاية الابداع الأدبى والفكرى باللهجات المحليَّة وتشجيع اللهجات واللغات الأخرى بفنون الابداع"! فإن لم تكن تلك هى (المضمضة اللفظيَّة) بعينها ، فكيف تكون إذن؟!
هكذا تشكلت توجُّهات (الخلفيَّة الفكريَّة) لدستور هذا الاتحاد (الحكومى) الجديد على ترسيخ تلك الرؤية القديمة القائمة فى كون السودان هو وطن الجماعة المستعربة المسلمة فحسب ، والهويَّة العربيَّة الاسلاميَّة وحدها ، وهى ذات الرؤية البالية التى أفضت بنا ، من فوق خمسة قرون من الاستعلاء على (الآخر) ، إلى هذا المآل البائس من التشرذم المأساوى والحرائق المستفحلة. فلئن كنا لا نستغرب ، البتة ، مشاركة مَن لم يُخفوا يوماً اتساق أفكارهم مع هذه الرؤية مِن مفكرى وأدباء وكتاب هذه الجماعة ، على خلفيَّة دعمهم الجهير والمستقيم لإعلان الخرطوم عاصمة للثقافة (العربيَّة) ، فإننا لنرثى ، حقيقة ، لحال من يسمحون باستقطابهم ، (لسبب) أو (لآخر) ، إلى مثل هذه المواقف ، بذات السلاسة التى يستقطب بها المغناطيس بُرادة الحـديد ، وبالمخالفة لكل ما ظلوا يطِنُّون به فى الآذان عن عدالة دعوى (التنوُّع الثقافى) ، ويسوِّدون به الصحائف عن (المسطرة الاخلاقيَّة) التى ينبغى أن تتحاكم إليها مواقف المثقفين!
(نواصل)



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحُكومَةُ والكُتَّابُ فى السُّودانْ (1) مَشْرُوعِيَّةُ الغَ ...
- حِسَابٌ أَمْ .. -كُوَارْ-؟!
- مُفَاوَضَاتُ القاهِرَةْ: مُلاحَظاتٌ أوَّلِيَّةْ (3)
- (2) مُفَاوَضَاتُ القاهِرَةْ: مُلاحَظاتٌ أوَّلِيَّةْ لَعْنَةُ ...
- مُفَاوَضَاتُ القاهِرَةْ: مُلاحَظاتٌ أوَّلِيَّةْ (1) المِحْوَ ...
- يا -لَلْخِتْيَارِ- فِى البَرْزَخِ بَيْنَ الحَيَاةِ وَالمَوْت ...
- القَاعِدَةُ .. والاِسْتِثْنَاءْ !
- مَرْجِعِيَّةُ الاتِّفَاقِ .. الوَرْطَةْ!
- مَطْلُوبٌ .. حَيَّاً!
- جَنْجَوِيدُ العُرُوبَةْ!
- الكَمَّاشَة!
- فِى مَأْزَقُ الهُجْنَةِ والاسْتِعْرابْ!
- فِى مَدْحِ -الجُّنونِ- بِمَا يُشْبِهُ ذَمَّهُ! مَنْ ترَاهُ ي ...
- فَلْيُسْعِد النُّطْقُ .. إِنْ لَمْ يُسْعِدِ الحَالُ!
- آلامُ المَسِيْحِ السُّودَانِي
- زُغْبُ الحَوَاصِلْ!
- لَقَد أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيَّا!
- جُنَيْهُ -السُّودانِ الجَّدِيدْ-: الدَّوْلَةُ المُوَحَّدَةُ ...
- فِى طَوْرِ النَّقَاهَةْ!
- ولا يزالون مختلفين!


المزيد.....




- -حماس- تعلن تلقيها رد إسرائيل على مقترح لوقف إطلاق النار .. ...
- اعتصامات الطلاب في جامعة جورج واشنطن
- مقتل 4 يمنيين في هجوم بمسيرة على حقل للغاز بكردستان العراق
- 4 قتلى يمنيين بقصف على حقل للغاز بكردستان العراق
- سنتكوم: الحوثيون أطلقوا صواريخ باليستية على سفينتين بالبحر ا ...
- ما هي نسبة الحرب والتسوية بين إسرائيل وحزب الله؟
- السعودية تعلن ضبط أكثر من 25 شركة وهمية تسوق للحج التجاري با ...
- اسبانيا تعلن إرسال صواريخ باتريوت إلى كييف ومركبات مدرعة ودب ...
- السعودية.. إغلاق مطعم شهير في الرياض بعد تسمم 15 شخصا (فيديو ...
- حادث جديد يضرب طائرة من طراز -بوينغ- أثناء تحليقها في السماء ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - الحُكومَةُ والكُتَّابُ فى السُّودانْ (2) إِتِّحَادُ الكُتَّابِ .. المُسْتَعْرِبِينْ!