أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عباس يونس العنزي - ومضة في أزمة الحقيقة















المزيد.....


ومضة في أزمة الحقيقة


عباس يونس العنزي
(عèçَ حونَ الْيïي الْنٍي)


الحوار المتمدن-العدد: 3493 - 2011 / 9 / 21 - 11:45
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    



كان لودفيغ فيورباخ الفيلسوف الالماني الشهير وجمهرة من فلاسفة الغرب يرون " أن المراحل الانسانية لاتتميز الواحدة عن الاخرى إلا بالتبدلات الدينية " ، وتمنح أحداث التاريخ الاوروبي وشعارات الصراعات المعلنة قناعة خاطئة بصحة تلك الرؤية إذ رافقت تطورات حركة المجتمعات الاوروبية تبدلات و تغيرات دينية متوالية تمثلت بتلك الحروب والانقسامات والاجتهادات المذهبية ذات الصلات القومية مثل حروب فرنسا وبريطانيا ذات الطابع الديني المتمثل بشخوص مهمة مثل كجاندارك الراهبة وسلسلة الحروب الجرمانية ودور الكنيسسة فيها وحرب الكريميا التي كان وراءها انزعاج القيصر الروسي من سلبه لقبه الديني في الشرق وغيرها الكثير ، وقد تصح تلك الرؤية واستنتاجاتها إذا ما كانت النظرة التحليلية للتاريخ تجري عبر النظر في ما يشبه مرآة مسطحة حيث الالغاء الفعلي للعمق الحقيقي والانفلات الكامل من الابعاد ، أما النظرة المتعاملة مع التاريخ مباشرة فإنها ستفضي الى استنتاجات مختلفة حيث تبدو التبدلات الدينية مظهرا ونتيجة ضرورية للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية وانتقالات المراحل التاريخية . وفي هذا المعنى يقول مهدي عامل في مؤلفه المهم " مقدمات نظرية" : ( ثورة الفكر ليست شطحة فكرية بل تخضع لمنطق خاص يجد شروطه في حركة التاريخ نفسه وفي منطق تطوره ، إن انتقال الفكر في تطوره من بنية فكرية الى بنية فكرية أخرى وهو ما يمكن تسميته بالثورة الفكرية أو النظرية لا يتم بفعل الفكر وحده وإن كان يتم على صعيد الفكر فما يحدد امكان هذا الانتقال أي امكان هذه الثورة هو تطور تاريخي خاص داخل البنية الاجتماعية نفسها ينعكس في تغير داخل البنية الايديولوجية الخاصة بتلك البنية ) وهكذا جاءت الثورة الفرنسية لتثبت حقائق تخالف رؤية فيورباخ حيث جعلت الغرب بكليته خاضعا الى القوانين التي استحدثتها ولم يعد بالامكان بعدئذ إلا النظر الى تاريخ اوروبا اللاحق بمعزل عن تطور الديانة المسيحية ، فقد ظهرت كيانات ودول - الولايات المتحدة الأمريكية مثلا - لا تستند في منطلقاتها الى أية دعاوى دينية برغم بعض الادعاءات الفردية الشكلية المهلهلة كذلك جرت أحداث هائلة غيرت وجه العالم لا تدعي أبة بواعث دينية ، إنما تكشف عن أصول اقتصادية وسياسية محضة حركتها ودفعت بها للوجود ، يضاف الى ذلك كل ما أطلقه فلاسفة وقادة الثورة الفرنسية من مباديء وافكار انسانية لاتمت بصلة لأي نوع من أنواع الوحي السماوي إنما كانت ببعض مفاصلها أعمق وأثرى من كثير من الطروحات الدينية السابقة ، وعندما قدم أحد أبرز علماء الرياضيات والفلك كتابه هدية الى نابليون تعجب الاخير ذو الوعي المتشيء من عدم ابتداء الكتاب بذكر اسم الرب فأجابه ذلك العالم الحائر بجهل مليكه إنه لم يكن بحاجة لتلك الفرضية ، ولعل في ذلك توضيح جلي لما ابتغينا قوله .
وإذا كانت هذه هي حال الغرب فإن للشرق شأنا مختلفا وللأمة العربية بالذات خصوصية فرضتها حقيقة موقعها الديني الريادي والقيادي ناهيك عن الطبيعة الشمولية للديانة الاسلامية وتأطيرها المفرط لكل تفاصيل الحياة . ومن المهم ان نشير الى الدور الخطير والحاسم الذي لعبه الكتاب السماوي " القرآن " في الحفاظ على الوجود القومي العربي وصموده أمام احتمالات الذوبان أو التغير التاريخية نتيجة اختلاطه بالكتل القومية الأخرى التي دخلت الاسلام -طوعا أو كرها - وهو بذلك لعب ذات الدور الذي لعبته التوراة في إبقاء الدعوة اليعقوبية قائمة الى حد اللحظة . وفي هذا المعنى لا بد من تأشير تلك الطبيعة بعدِها نتاج التفاعل مع المرحلة الأولى التي ابتدأت بها الدعوة والمتصفة بتبلور نظام اجتماعي وسياسي هو مزيج تاريخي لبنى اجتماعية مختلطة من مراحل تطورية متفاوتة ، فالمجتمع المكي ذو تركيب طبقي حاد التميز فهو يتألف من طبقة الاسياد وهم أصحاب رؤوس الأموال والتجار تليهم طبقة الاحرار العاملين في شؤون الاقتصاد المكي وتجارتها وما يتصل بذلك ثم العبيد الأرقاء والخدم ممن تستثمر قواهم ووجودهم لصالح دعم واستمرار العملية الاقتصادية التجارية المالية التي تمثل النشاط الجوهري الوحيد لأهل مكة . ومثل هذا التنظيم الطبقي لا يمكن أن ينوجد إلا في مجتمع متطور في ممارساته الاقتصادية حيث يتأكد لدينا أن مجتمعا برجوازيا تجاريا كان موجودا في مكة حينذاك تلعب التجارة فيه دور المصدر الاساس لازدهاره واستمراره ، ويتوجب هنا الاشارة الى التنظيم الدقيق الذي ساد تجارة قريش فالقوافل كانت تضم أعدادا كبيرة من المشرفين والعاملين فلها رئيس وحراس وادلاء وآخرون يعملون كباعة و دلالين وتجار مرافقين وجميعهم يتقاضون أجورا محسوبة وفق أنظمة محددة سلفا ، كما كان هناك حرص كبير من قبل قريش على سلامة قوافلها لذا عقدت اتفاقات مع القبائل و الدول التي تمر بها أو تصل إليها تجارتها ، كذلك عمل المكيون في مجالات مالية صرفة تدل على تقدم نظامهم الاقتصادي فالصيرفة كانت مهنة شائعة وكذلك انتشر المرابون الذين يتعاملون برؤوس الأموال وأرباحها بما يشبه المصارف الحالية ويمكن الاستنتاج أن طبيعة المجتمع البرجوازي التجاري المكي ( بما توفره من أسباب الرضا المادي الذي يشمل جميع طبقات واطراف المجتمع المكي ونظرا لانعدام احتمالات تطور الملكيات الزراعية أو غيرها لشحة الموارد أو انعدامها ) ألغت امكانات تطور المجتمع نحو أية صيغة أو تركيب مختلف عما كان قائما ومستمرا منذ تأسيس المدينة وبالنهاية منعت ظهور أية (ثورات فكرية ) أي تبدلات دينية كبرى لا تتوافق مع طبيعة المجتمع التجاري ، لكن الثبات النسبي القوي لمجتمع مكة لم يمنع تفاعلا فكريا مستمرا مع الاقوام المجاورة أو التي تمر بها أو تصل أليها التجارة القرشية ، بل إن ذلك التفاعل ساعد على منح حرية واسعة للإعتقاد الفكري والديني الفردي رسمت فضاءا واسعا للتفكير بنمط اعتقادي مختلف عن الآخرين ما دام لا يحدث ضوضاء وجلبة قد تتأثر بها المصالح التجارية لهذا المجتمع . ويروى ابن الكلبي ان عمرو بن لحى هو الذي أدخل عبادة الاصنام الى مكة بعد أن جاء بها من الانباط ولم يذكر في كل المصادر أن مكة امتعضت من عمل ابن لحى مطلقا لأن ديانته لم تتعد حدودها ولم تحدث أثرا على موقع مكة التجاري والاعتباري ولم تتحد الاساس الاقتصادي لها ، وهكذا كان المجتمع المكي البرجوازي يخوض عملية صراع أيديولوجي خفيفة مبنية على المستوى الفردي وليس البنيوى مع الديانات أو الثقافات التي تعيش باتصال دائم معه وهو - أي المجتمع المكي - يتأثر تأثرا كبيرا بمجريات هذا الصراع لكن المصالح التجارية الكبرى والتراتبية الطبقية القائمة لم تتكن تسمح بحدوث تغيير جوهري بنيوي في المعتقدات والايمانات الدينية وبما يهدد الواقع الاجتماعي القائم والمنزلة المهمة لمكة عند قبائل العرب كافة .
إن المجتمعات التجارية - البرجوازية - تمتاز بمرونة هائلة في مجال التغييرات على مستوى البنى الفوقية فهي قادرة على استيعاب شتى التبدلات الدينية والثقافية والحقوقية ما دامت لا تتعرض لمصالح الطبقات الرأسمالية الغنية الممسكة بالسلطة السياسية والاجتماعية والدينية الى حد ما ، لذا فإن مكة استقبلت كل أصحاب الديانات والمبشرين وأصنام القبائل ودياناتهم بصدر رحب وكذلك فعلت مع المسيحية واليهودية رغم أننا لم نعثر على سبب جدي لعدم انتشار اليهودية بنفس درجة انتشار النصرانية في مكة .
ومما هو جدير بالملاحظة أن نشأة مدينة مكة كانت نشأة تجارية دينية صرفة حتى أن أسمها مشتق من إسم إله كانت تعبده قبائل العرب قديما وهو " الزهرة " وكان يسمى بلغتهم " مقة" ، وحيث أن القاف يلفظ كافا أعجميا عند الكثير من العرب فقد أصبحت الكلمة " مكة " وهذا ما أشار إليه الدكتور علي جواد الطاهر في مفصله ، وذلك الإله - شأنه شأن سين إله القمر - هو إله تجاري محض فهو الذي يرشد القوافل وينير لها الطريق وحيث أن تلك البقعة الجرداء الواقعة على طريق القواقل توفر بها الماء ( الآبار : وهنا يمكن الاشارة الى الاهمية الرمزية البالغة للبئر الذي كانت تبحث عنه هاجر المصرية ووجدته بعد عناء كبير كذلك لدور عبد المطلب في حفر بئر زمزم وبالتالي الأهمية الفعلية لتوفر ماء الآبار بإيجاد تلك المدينة ) لذا كان لا بد من تحولها الى محل مهم يعبد فيه الإله " مقة " الحارس لتجارتهم وتوسعت التسمية لتشمل المدينة كلها وليس رمز العبادة حسب .
إن المجتمع الذي تكون حول المعبد الجديد والذي قدسته قوافل التجارة المارة والمستريحة هناك نضج مع الايام ليكون مجتمعا تجاريا حريصا على استمرار وتعاظم الاهمية الاقتصادية والامنية والدينية للمدينة النامية في الحياة الاجتماعية لكل قبائل العرب ومن هنا كان السماح لتلك القبائل بنقل آلهتم الى مكة وممارستهم لشعائر عبادتهم بحرية تامة وكان القاسم المشترك لكل تلك العبادات والطقوس هو االمعبد الخاص بالإله " مقة " من دون تطرف إنما وعلى العكس توفر الاستعداد الكامل لتطوير وتغيير الشعائر والمعتقدات ما دامت تتخذ من ذلك المعبد إرثا مقدسا وبما يحافظ على الموقع التجاري للمدينة الناشئة " مكة " . وعندما كانت الديانة التوحيدية لأبراهيم (ع ) تفشو بين العرب ظلت مكة محافظة على موقعها بل وزادت أهميتها بازياد ونمو الدول والكيانات حولها وتقدم الحياة بها وتكاثر سكانها وبالتالي تكاثر حاجاتهم ونشاطهم لما يؤدي الى ازدياد تجارتهم مع الآخرين وازدهار مكة بالـتأكيد .
ومن المهم أن ننظر الى مسألة المدن والكيانات الناشئة حول مكة أو بالقرب منها ، فتلك المدن وأهمها يثرب والطائف كانتا تختلفان اختلافا جوهريا عن مكة فيما يتعلق ببنيتهما الاقتصادية ، فقد كانتا مدينتين زراعيتين ظلتا تحافظان على نمط من الاستقلال والاكتفاء وبقيت علاقتهما بمكة محصورة باستيراد بعض نواقصهما من دون أن يهدد ذلك أمنهما الاقتصادي والاجتماعي ، وقد انتشرت فيهما اليهودية والمسيحية الى حد كبير حيث كانت يثرب وهي الأهم تدين باليهودية وكان الوجود اليهودي واسعا يها إن لم يكن مؤسسا ، وعندما استوطنت الأوس والخزرج تلك المدينة كانت الهيمنة الاقتصادية والسياسية لليهود وخاض كل الاطراف صراعات عنيفة للغاية من أجل السيطرة والتحكم بالموارد لكن لم يجر أي تحول حقيقي في البناء الاجتماعي - الاقتصادي ليثرب إلا بعد البعثة النبوية بينما بقيت مكة تحافظ على كيانها بعيدا عن الهزات لعدم وجود تغييرات تذكر على بناءها الافتصادي الجوهري . وحتى عندما راحت النصرانية تنتشر بين سكانها فقد بقيت محافظة على كيانها مع ملاحظة أن بعض الاغنياء منهم قد تنصروا بالفعل وراحوا يقيمون شعائرهم في الكعبة ذاتها حتى أنهم رسموا صورا توراتية وإنجيلية على جدران الكعبة الداخلية كما أورد ذلك بعض الرواة ، لكن ذلك لم يهدد مكة أو مركزها أو تجارتها أو تراتبها الطبقي بل على العكس من ذلك فقد استفاد التجار من ذلك وتمكنوا من بناء علاقات تجارية وطيدة مع الحواضر المسيحية التي كانوا يتاجرون معها .
إن الكثير من الحقائق أهملت عمدا من قبل الرواة و تركت جانبا الأدوار الخطيرة التي لعبها الدين المسيحي والكنيسة المكية في صراعها الدامي المستمر مع التهود واليهودية وأيضا في رسم مستقبل الصراع اللاحق مع الدين الجديد الآخذ بالتكون والإنتشار ، ولو أن استعراض مسألة ابرهة الحبشي جرى وفق حقيقته ووفق حقائق الواقع القائم حينذاك ( والمتمثل بالصراع الدموي بين اليهودية وحواضرها وبين النصرانية وحواضرها ) لاستطعنا أن نفهم مغزى وقوف الارادة الربانية مع مكة المشركة بأوثانها وبالضد من ابرهة النصراني الموحد لكن كثير من الحقائق ضاعت أو ضيعت حتى باتت مسالة إفناء الموحدين بحجارة السجيل من أجل نصر المشركين غاية في الغموض والتعقيد . إن من الملفت للنظر أن لا يتصدى المسيحيون المكيون وهم كثرلأبرهة الحبشي لثنيه عن هدفه وإقناعه بانهم نصارى مثله بينما يتصدى للمهمة عبد المطلب ( المشرك الوثني ) لهذا الامر ليذكر ابرهة إن للبيت رب يحميه ! .
إن إبرهة في الحقيقة مثل تحولا قادما لطرق القوافل عن مكة باتجاه آخر لم تفصح عنه غاياته المعلنة لكنه بالفعل بشر بوقوع الهزة العنيفة التي ستفقد مكة دورها التجاري القائد وتنقله الى مدينة يثرب اليهودية التي ستغدو عاصمة للدولة الاسلامية المترامية الاطراف ( وليس عبثا أن يكون مولد النبي (ص) في عام الفيل ، العام الذي تهددت بها مكة بجدية ) .
إن رواة التاريخ لم ينقلوا لنا نصا مكتوبا عن الأحداث والأحوال التي كانت سا ئدة إنما اعتمدوا على النقل الشفاهي بذريعة عدم وجود مثل تلك النصوص وهذا ما لايمكن تصديقه مع كل ذلك العدد من الكتاب الذين يحكي لنا عنهم التاريخ الاسلامي ، ومن المرجح إن إرادة ما محت كل تلك النصوص كي يتم تصميم تاريخ آخر مشوه وغير حقيقي للفترة التي سبقت الاسلام والتي عاصرت ظهوره ، والغموض أو التناقض الواضح في المرويات الشفهية يدلل على أن عملية تجميل تاريخية جرت على مدى زمني طويل كانت تتلف في كل مرحلة منها ما سبق تدوينه وإحلال ماتمليه مصالح العهد الجديد أو في زمن لاحق رؤية أصحاب الروايات ومواقفهم الدينية والسياسية .
ففي قصة عبد المطلب بن هاشم مثلا ورواية ولادته ونشوئه في الطائف ثم عثور المطلب عمه عليه بالصدفة ونقله الى مكة مغزى عميق يتجنبه المؤرخون ويمرون عليه بسرعة خاطفة دون تدقيق ، إذ أن علاقته بأخواله - المفترضين - بقيت مجهولة وغير ذات قيمة رغم دلالاتها الواضحة على أن عبد المطلب لم يكن منتميا لقريش فعليا إنما هو غريب عنهم ، ولاأظن ان قادة قريش قبلوا الضيف الجديد كزعيم لمجرد ادعاء امرأة أنه ابن هاشم فالمسألة أعمق بكثير من ذلك ، والرواية توضح أن عبد المطلب اكتسب زعامته من حفره بئر زمزم ومن أولاده الكثر ، أي من استقلاله ومنعته وبالتالي توفر امكانية تعامله مع قبائل العرب الأخرى بمعزل عن زعماء قريش مدعوما بأخواله اليثربيين ، لكنه لم يكن تاجرا إنما مزارعا وصاحب إبل وهذا ما يشير الى بدأ أفول نجم التجارة في مكة واتجاهها الى نظام اقتصادي جديد ، وقد ظل هذا البعد اليثربي لآل عبد المطلب مؤثرا للغاية في مستقبل العلاقة مع قريش وزعمائها ولا يمكن إلا أن نقف بتمعن على مسألة نصرة الرسول الكريم (ص ) من قبل أهل يثرب ونشوء الدولة الاسلامية هناك ، ولا ننسى أن نشير الى حقيقة ارتباط النبي ( ص ) بعلاقة الخؤولة أيضا مع أهل يثرب مما يحمل معاني كثيرة . ان زعماء قريش تعاملوا مع النبي (ص ) كأجنبي طامع بالسلطة مما يهدد سلطاتهم ووجودهم وبذلك أولهذا السبب بالذات أضمروا له العداء وحاربوه بشدة ، وعلى كل حال فعلاقة بني عبد المطلب بقريش بحاجة للتدقيق والتحليل المعمق واكاد أجزم أنهم لم يكونوا منهم قط وفي هذا الموضع يخطر في البال المثل الدارج ( ثلثين الولد على الخال ولعله في الأصل للخال ) .
من جانب آخر فإن قريش التي قبلت كل التغيرات الدينية السابقة وقفت بشدة وعنف غير مسبوقين ضد الدعوة الاسلامية ، وتوضح طبيعة النقاشات التي وصلت إلينا شفاها أن المشكلة كانت بالدرجة التامة مع عبدة الاصنام بينما بقي النصارى خارج إطار الصراع ولم يذكر لهم شان في مجريات تلك الاحداث عدا موقف التأييد الذي أبداه ورقة بن نوفل وبعد ذلك ينسى أمرهم تماما وكأن المسيحيين المكيين قد أسلموا جميعا ، وهذا موقف تاريخي غامض جدا خصوصا وأن أهل يثرب الذين دعموا النبي (ص ) كانوا من بيئة يهودية هي في الحقيقة في صراع مستمر مع النصارى في كل مكان ( راجع قضية أصحاب الأخدود وما تلاها من أحداث ) .
إن الدعوة الاسلامية التي اعتمدت كليا على النبي ( ص) وما يوحى إليه في مواجهة كل مستجدات الحياة وتطوراتها وجدت نفسها بعد غياب رائدها وفي ظل التوسع والفتوحات الكبيرة في أزمة شديدة تمثلت بتغيرات اجتماعية استلزمت تطورات ايديولوجية وثقافية وفقهية متناسبة معها مما بث صراعات عنيفة بين جمع من المسلمين وأغلبهم ممن أوجد له قيمة اجتماعية مستندة الى نضاله وجهاده وعمله في سبيل الاسلام وبين القوى الاجتماعية الصاعدة وفق معادلات المجتمع الاقطاعي الجديد ، تلك القوى التي تربعت سابقا على قمة المجتمع البرجوازي التجاري والتي خاضت صراعا دمويا استأصاليا ضد الاسلام قبل أن تسلم ( سيدكم في الجاهلية سيدكم في الاسلام ) . ولكن وفاة النبي الكريم ( ص ) فجر بالأساس الصراع على من يخلفه لقيادة الدولة الاسلامية الناشئة وعادت المشكلة القديمة بين قريش وبين النبي (ص) للظهور مرة أخرى ولكن بوضوح أكبر ، حيث احتجت القوى القرشية بأنهم الأحق من الانصار بالأمر لكنهم رفضوا أن يختص الأقرب للنبي ( ص) بهذه الميزة وكأنهم عزلوا بني هاشم عن قريش ونسبوهم لغيرها و في ذلك عودة للمبدأ القديم الذي رفض أن يكون النبي من غيرهم ولو أنه كان منهم لقبلوه حتما ولم يخوضوا كل تلك الصراعات المدمرة ضده ، وفي ملاحظة عابرة لو نظرنا الى أصحاب الامام علي (ع) وانصاره المقربين من الصحابة لرأينا أنهم لم يكونوا قريشيين بل من قبائل أخرى بعيدة . وإن صحت نسبة القصيدة الشهيرة ليزيد بن معاوية والتي يقول فيها :
ليت أشياخي ببدر علموا جزع الخزرج من وقع الأسل
فأن الدهشة ستستغرقنا إذا ما علمنا أن الضحية في جريمة وقعة الطف هو الحسين بن علي (ع) وليس أحد من الخزرج فلماذا ألحق نسب الحسين بالخزرج وليس بقريش ؟ كذلك لماذا يقول الأمام علي (ع) في الثابت من شعره :
تلكم قريش تمناني لتقتلني فما بروا بذاك وما ظفروا
إذ يضع حيزا واضحا بينه وبين قريش ؟
إن هذا البعد والفهم للموضوع لم يرد بتركيز ووضوح عند المؤرحين والرواة ولو أن النصوص والكتابات التي سطرت تاريخ تلك المرحلة وصلت إلينا لاكتشفنا أمورا كثيرة لا تخطر علينا ببال .
ومما زاد الصراع أوارا انقسام قبائل العرب وصراعها المعلن أو الخفي مع بعضها من أجل السيطرة على المناطق الجديدةوالأكثر حضرية ، وتمخض عن ذلك تحزبها لأطراف الصراع الأساسي وإسهامها الفاعل فيه ، يذكر الدكتور طه حسين في كتابه "الفتنة الكبرى" ( أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رض) قال : قال رسول الله ( ص) ألا إني قد سننت الاسلام سن البعير يبدأ فيكون جذعا ثم ثنيا ثم رباعيا ثم سديسا ثم بازلا ، ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان ؟ ألا فإن الاسلام قد بزل ) ، ومثل ذلك معرفة دقيقة بالواقع الاجتماعي والطبقي السائد وقوانين حركته التي أضيف إليها قانون جديد لعب دورا خطيرا في تطور المجتمع والديانة الاسلامية ونعني به حروب الفتح ونشر الدعوة الاسلامية خارج الجزيرة العربية ، إن واقعا اجتماعيا معقدا كالذي أوجزنا وصفه سيجعل من قضية التاريخ وأحداثه عرضة للتشويه والتزوير والمبالغة والطمس بل يمهد الاجواء لتوليد وخلق القصص والشخصيات الوهمية مما يدفن الكثير من الحقائق ويدمر حتى هيكل الأحداث التاريخية بأعم شكل لها . ومما عقد الأمر وزاده تشابكا تدخل العناصر الاجنبية التي دخلت الاسلام بعد حروب الفتح واسهاماتها بالاحداث وصنع التاريخ ناهيك عن لعبها دوراكبيرا وواسعا في تسجيل وتقييم كل التاريخ الاسلامي ، وباستعراض بسيط لأسماء مؤرخي الاسلام نكتشف دون عناء العدد الكبير من الألقاب الاعجمية وليس عسيرا أن نفهم ما يمكن لهؤلاء أن يفعلوه من أجل تغيير حقائق التاريخ طبقا لانتماءلته وأصولهم وبما يمجدها ويبين فضلها على الفاتحين العرب ، ومن الامور الخطيرة التي تركت أثرا كبيراعلى التاريخ العربي الاسلامي وراويته أن الاعاجم قد اتخذوا من الاحزاب والانقسامات العربية منفذا جديدا عظيم التأثير يتدخلون عبره في تغيير وقلب العديد من الحقائق وحرف العديد من الصراعات القائمة عن جوهرها باتجاهات مشوهة تخدم مصالحهم ومآربهم .
إن مراجعة التاريخ العربي الاسلامي وفق منهج تحليلي علمي يستمد قوته من شموليته و حياديته واعتماده الأساليب العلمية غير المتحزبة هو المؤهل لأن يكون وسيلة الوصول الى حقيقة الاحداث وأسبابها الجوهرية كما انه سيوفر وحدة الموقف حاليا ويؤدي الى تخفيف الاختلافات المذهبية بالنتيجة ، وكل ذلك يجب أن يتم تحت شرط الحرية في التفكير والمنهج .
ولابد من التنويه بالدور الكبير الذي اضطلع به المستشرقون في الكشف عن الكثير من الحقائق وتعديل النظرة الخاطئة الجاهلة للأحداث وفق مناهج تختلف كليا عن المناهج القديمة المعتمدة عند المؤرخين العرب ، لكن لا يمكن الركون الى الاستنتاجات التي خرجوا بها كليا إنما المطلوب إخضاع كل عملهم الى المنهج العلمي المقترح والاستفادة من جهودهم لإعادة قراءة التاريخ العربي الاسلامي بما يقترب أكثر من حقائقه .


عباس يونس العنزي
[email protected]



#عباس_يونس_العنزي (هاشتاغ)       عèçَ_حونَ_الْيïي_الْنٍي#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مناقشة اولى لمنطلقات الفكر الصهيوني - 7 -
- مناقشة اولى لمنطلقات الفكر الصهيوني - 6 -
- مناقشة اولى لمنطلقات الفكر الصهيوني -5 -
- هنية
- مناقشة أولى لمنطلقات الفكر الصهيوني - 4 -
- مناقشة أولى لمنطلقات الفكر الصهيوني -3-
- مناقشة أولى لمنطلقات الفكر الصهيوني -2 -
- مناقشة اولى لمنطلقات الحركة الصهيونية
- غريزة البقاء والتوريث المعرفي
- مقدمة أولى في فلسفة أصول الإرادة
- الرمز الاسطوري عند حسب الشيخ جعفر
- الموت بين الحق والعقوبة
- الطوطمية - محاولة للفهم والتفسير
- قصة قصيرة بعنوان - عبود وكلبه المعجزة -
- مقدمة في صراع الحرية والوهم والموت


المزيد.....




- في اليابان.. قطارات بمقصورات خاصة بدءًا من عام 2026
- وانغ يي: لا يوجد علاج معجزة لحل الأزمة الأوكرانية
- مدينة سياحية شهيرة تفرض رسوم دخول للحد من أعداد السياح!
- أيهما أفضل، كثرة الاستحمام، أم التقليل منه؟
- قصف إسرائيلي جوي ومدفعي يؤدي إلى مقتل 9 فلسطينيين في غزة
- عبور أول سفينة شحن بعد انهيار جسر بالتيمور في الولايات المتح ...
- بلغاريا: القضاء يعيد النظر في ملف معارض سعودي مهدد بالترحيل ...
- غضب في لبنان بعد فيديو ضرب وسحل محامية أمام المحكمة
- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عباس يونس العنزي - ومضة في أزمة الحقيقة