أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عباس يونس العنزي - مقدمة في صراع الحرية والوهم والموت















المزيد.....


مقدمة في صراع الحرية والوهم والموت


عباس يونس العنزي
(عèçَ حونَ الْيïي الْنٍي)


الحوار المتمدن-العدد: 2910 - 2010 / 2 / 7 - 16:26
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


عندما يتعلق البحث بالحرية فإنه يتناول الإرادة بدأ ًٌَُكونها شرطها البكر ومادتها الأولى ، فهل يمكن أن نحدد معنى شامل وواف للحرية ؟ بدت هذه المسألة تاريخيا شائكة للغاية حتى أن الفبلسوف الشهير إيمانوئيل كانط قال " إن الحرية ممكنة في المجال العقلي الصرف أي في مجال العالم المعقول أو عالم الأشياء في ذاتها أما عالم التجربة فتحكمه الضرورة أو انعدام الحرية " وكان الأمر مقاربا عند الفيلسوف الأكثر عمقا وشمولية هيجـل ( فيلسوف الروح المطلق ) "فالإرادة هي الفكر الحر أو الفكر الخالص " ، وبأي فهم مضاف آخر فستظل الإرادة منطلق الحرية ، وفي الفكر المجرد الخالص حيث توجد الأنا فقط فإنهما "الإرادة والحرية " تتوفران معا باتحاد كلي لا انفصام فيه وحالما يكون هناك موضوع عيني يجتذب الإرادة ليكون موضوعها يتسلل الموت إليهما معا في العديد من مواضع اتحادهما وينمو بدلا عنهما نقيضهما المتمثل بشتى أشكال القمع العرفية والقانونية والمؤسساتية سواء كانت فكرية محضة أو ما بعد ذلك .
إن المسافة بين الإرادة بوصفها مشروع تجسد تحرري فكري ذاتي بشكل خالص وبين تجسدها الواقعي بوصفه مسيرة صراع وكبت واسع واصطدام ، تمتلأ بالعديد من الحلول والاستنتاجات الجزئية حيث يعي بعضها حقيقة جزئتيه وينطلق نحو نشاط واقعي تجريبي فعال يتم البرهنة على صحة استنتاجاته تجريبيا وبسيل لا ينقطع من المنجزات الفكرية العلمية المترسبة بشكل أدوات وتقنيات ومنتجات حضارية أخرى بينما يغرق الآخر في وهم كلية مصطنعة تبني حولها قشرة سميكة لا تمكنها من الرؤية الواقعية السديدة في إطار عملية توليد ميتافيزيقية معقدة ومصطنعة بقدر ما هي ضرورية .
وعندما يرسم هيجل طريق الإرادة فإنه يبتدأ بالروح التي تكون في البداية "ذكاء ثم تمر بمجموعة من التعينات من الشعور إلى التفكير عن طريق التمثل إلى الفكر بمعناه الدقيق حتى تنتج نفسها كإرادة "، وهي بهذا فكر حر أو خالص ، أما تجسدها الواقعي فهو عند هيجل معنى ثان للإرادة " فالفرد بالواقع لا يمكنه أن ينفي كل وضع جزئي بل لابد له من إيجاد وضع يواصل منه حياته " أي أن الإرادة بتجسدها الواقعي إنما تكتسب معنى يبتعد الى حد كبير من أن يكون حرا بمستوى ابتدائه وذلك ما يؤكد حتمية الصراع والكبت والاصطدام .
وفي رؤية تدقيقية فإن الروح الهيجلي المتموضع بصيغة إرادة ( وكذلك التعريف الكانطي الجازم )يقع في معناه الأول في شرك وهم المضمون الفعلي للحرية فالإرادة التي تعي نفسها بأنها حرة تماما ما دام بمقدورها التنقل بالغ الرشاقة في عالم الأنا المتجرد من كل شيء هي في الواقع لا تعي تماما كونها حاصل اضطراري لجدل عالم الأنا الداخلي وأيضا جدله مع عالم اللاأنا في اطار شروط الخلق والتاريخ الإجبارية ، وفي محصلة قريبة من استنتاج مهم فأن حرية الإرادة في المعنى الهيجلي الأول ناتج عن وهم الاستقلال الكامل وبالتالي وهم قدرة الامتلاك الذي يشمل كل عناصر خلقها بالغة التنوع والأبعاد بينما تكمن الحقيقة بالافتراض المعاكس فالمالك والمنتج الفعلي هي العناصر وليس الإرادة .
إن عناصر خلق الإرادة تتمثل في مستويات عدة منها الذاتي الخالص ومنها الخارجي الخالص ومنها ما يترواح بينهما داخل عملية التأثر والتأثير الجدلية ، ولكل من تلك العناصر كيانه التاريخي المتضمن سياق تطوره السابق والممكن ، فالدوافع أو الغرائز المتحكمة بالفرد تخلق الرغبة أصلا والتي بدورها تتطور لتكون إرادة مجردة من أي صلة بالموضوع وحالما تتحقق تلك الصلة فسوف تفرض قيودا تأجج صراعا واقعيا ينتهي يتسوية ما يقبلها العقل وفق شروط تبدو لشدة تعقيدها مبهمة وموهمة .
في هذا المعنى يقول كانط " إن العقل يكون سليما في ذاته أو بالنسبة للمبدأ الذي يتبعه إذا ما أمكن له أن يتعايش مع حرية الإرادة لكل فردآخر بحيث يكون كل فعل متفقا مع قانون كلي " والكلية هنا تعني قبول معظم الإرادات بالقانون حتى لو مثل لها عامل سلب جزئي ، لكن كل ذلك لا يتطرق و لا يفسر قطعا التطور التاريخي للعناصر ولا يحدد غايتها بدقة كذلك يتجاوز أسباب رضوخ الإرادة وقبولها تبديد جزء من حريتها ، ومن الواضح أن القانون الكلي الممثل للتحضر هو وليد ضرورات موضوعية تحرض العقل على اختراع بنى فكرية إيهامية تخديرية ملحقة بها يتم على أساسها تمجيد الموقف السلبي لإرادة الفرد دون تقديم أيا من التفسيرات المطلوبة .
غير أن تطور العقل ونضوجه واشتداد وعيه بذاته مكنه من تطوير تلك البنى الفكرية وتوسيعها بحيث استطاعت تقديم افتراضات دينية وفلسفية متنوعة تعاملت كلها مع الفرد كونه وحدة عاقلة واحدة غير مؤلفة من أجزاء رغم أن تلك الوحدة هي في الحقيقة ناتج لتلك الأجزاء وحاملة لصفاتها وممثلة لغاياتها ، وما وجود عناصر خلق الإرادة إلا تجسيد لتلك الحقيقة وهذا هو موضوع جوهري سنطرحه لاحقا وبدراسة مستقلة . لكن ومادامتا الإرادة والحرية متحدتان في عالم الفكر المحض سيتكرر السؤال محيرا : هل كانت الإرادة في ولادتها ونموها حرة حقا" ؟ أم أنها وجدت اضطراريا وبفعل عناصر وجودها ودوافعه ؟ ثم ماهي الغاية من كل تلك العملية على افتراض ضرورة الغاية بكونها ضد العبث ؟ لن تكون الإجابة ممكنة ما لم يجري استعراض جزء أساسي من تاريخ تطور مفهوم وواقع حرية الوجود الإنساني وذلك ما سنحاوله في المقاطع التالية لنعود فيما بعد إلى تحري أجوبة لعلها تكون مقنعة أو على أقل تقدير مفيدة .
يقول جان بول سارتر :"إن الإنسان وجد بلا ضرورة وبلا مسوغ " و" إن الإنسانية واقع من وقائع الطبيعة والإنسانية نوع من الأنواع الكثيرة " وإذا كان الجزء الثانى من قوله أمر لا شك فيه فإن افتراض الوجود الإنساني عبث لا طائل منه هو موقف عاطفي يائس مقطوع عن الحالتين الممكنتين للعقل : الاطمئنان الديني المرتبط بـميتافيزيقيا مبشرة و التفاؤل العلمي المرتبط بوقائع تجريبية تفتح أبوابا تلو أبواب وهو إذن ليس موقفا فلسفيا جادا حيث أن الوجود خارج أية ضرورة أو مسوغ مستحيل تماما أي لا يوجد شيء مطلقا موجود دون ضرورة إلا إذا عنى سارتر بالضرورة والمسوغ الفائدة والنفع وهذا يعيدنا إلى احتساب موقفه كما سبق عاطفيا صرفا .
إن تناول الوجود الإنساني وعده صدفة ليس إلا لاينفي الضرورة التي جاءت به بل يؤكدها فالصدفة تقاطع للضرورات حسب الفهم الماركسي الممتع والتساؤل عن مغزى ذلك الوجود يأتي حتما في سياق التساؤل الأعظم عن مغزى الوجود الكوني برمته وإن ألغينا أو أجلنا التساؤل الأخير فإن الوجود الإنساني واقع حتما في الحيز الاحتمالي الممتلئ الصلد للتجارب الكونية أي في مساحة التجارب اللانهائية للكون والبيئة الأرضية بداهة جزء منه ، ومفهوم إذن أن تلك التجارب تبتدئ بالعناصر الأولى وتستمر مع سير التطور التاريخي الدائم لأنواع وأشكال الوجود ولا تبتدئ مع الإنسان في مستواه التطوري الحالي .
إن ولادة النوع الإنساني وغيره هو تحرير جزئي لإرادات كونية محكومة بعناصر تكوينها موحدة في فعلها الشامل وحرة في مستوى وجودها "المفكر" حيث لا نمتلك إلا هذه المفردة للتعبير عن طراز من وعي مجهول لدينا ( ونستحضر هنا قول انشتاين الشهير " أي إيمان عميق بالعقل الذي يتخلل هذا الكون لدى رجال مثل كبلر أو نيوتن " ) وفي هذا الفهم أساس هيجلي نراه صحيحا إلى حد يلامس الإقناع . وعندما اتصلت "وتتصل دوما" تلك الإرادة بموضوعها فقد لاقت وستلاقي مقاومة وقمعا نتج عنه ذلك الصراع المشار أليه بالانفجار الكبير وصولا إلى الى الصراع الدامي بين المخلوقات الأرضية ذاتها والمتمثل باعتماد منهج تسلسل الفرائس في إطار توازن دقيق بينها وبين قوى وظواهرالطبيعة أيضا بل بين قوى الطبيعة كذلك لتتعاقب حالات الاضطراب والاستقرار والخلق مما شكل فعل التوليد الدائم لأنظمة وصياغات قانونية كونية وطبيعية تكفل لجم الحريات المتضاربة وتسمح بالتطور المتبادل ـ وحسب المتحكمات الضرورية لكل شيء ـ وتنفيذ الغايات .
قال تروتسكي ذات مرة "إن الثغرة القائمة بين التطلعات والإنجازات ستبقى دائما ظاهرة من ظواهر الحياة الإنسانية بحيث تكون الروح المأساوية ذات صلة دائمة بالحياة الإنسانية "و إذا وضعنا هذه الحكمة العميقة موضع التعميم الكوني فإن الحديث عن عناصر تكوين الإرادة الكونية يسمح بل يحتم ( في إطار السؤال الكوني : لماذا ؟ ) الإشارة إلى وجود معاناة مأساوية شاملة عميقة تنتاب الكون بما يشبه ألم الفناء أو التعرض للموت (مسألة الانتروبي مثلا ) مما انعكس على كل الموجودات بصيغة المحاولة الحزينة الدائبة و الضرورية للوصول إلى حلول تنقذ الكون وتنقذ وجودها بالطبع من تلك المعاناة ومن ذلك الخطر ، ولو أن الكون بدوافعه وعناصر ولادة إرادته تمكن من أن ينتج وعيا فرديا متفوقا وقادرا على التطور والسيطرة وإيقاف الألم ، ما لجأ إلى هذا الكم اللامتناهي من تجارب الخلق التي هي في معظمها فاشلة تماما ( رغم حتميتها ) وكذلك ما لجأ إلى أسلوب إبقاء النوع عبر التزاوج والتوالد والتبرعم ونفي الفرد باستخدام مصطلح الاستغناء عنه بواقعة الموت ، إن الأمر لو ارتبط بوعي حر تماما لكان ما لجأ إليه نوع من الانحطاط لكنه مرتبط بقدرة تجريبية متأصلة لا تعرف وعلى نحو مطلق غير خوض الاحتمالات .
وللآن تبدو التجربة البشرية ناجحة إلى حد كبير في هذا الإتجاه ، فالسيطرة على الضرورات التي تدفع الكون للفناء تبتدء تماما من السيطرة على الضرورات التي تحكم الموجودات بالموت وهذه المعادلة خطيرة للغاية في فهم أهمية الوجود البشري ، حيث يتأكد أن حرية الفرد البشري المتمثلة بالتخلص النهائي من واقعة الموت هي حجر الأساس في حل الإشكال الكوني ، وبهذا تحملت الإنسانية مسؤولية كونية هائلة تستوعب الزمن والمكان معا وتحدد لها دورا كونيا متعاظما.
إن الإنسان أحس منذ بدايات وعيه بشعور غامض يشده بقوة نحو الكون ذلك الشعور الناتج عن علاقة التأثر والتأثير القائمة حتما بين الخالق والمخلوق ما داما يتواجدان ضمن جدلهما غير المنتهي ، وظل عبر تاريخه يبحث عن حلول لمعضلته التي يتعمق وعيه لها دوما بذات الأسلوب الكوني متعدد التجارب وبما تتيحه له الضرورات التاريخية والطبيعية قكان أن اتخذ نشاطه في سبيل حريته المتوجه لممارسة واجبه الكوني الخلاق عند مستويات وعيه المتعاقبة أنماطا وأشكالا متنوعة لدرجة كبيرة مما ضيع حقائق الأمر وأخفى غايات بحثه تحت ثقل الناتج العقلي النظري والعملي الهائل .
لقد ضيعت البشرية بحكم الضرورة زمنا طويلا قي استكمال نضجها وتوفير شروط اضطلاعها بدورها الكوني المحتوم فابتدأ الإنسان المفكر البسيط بحثه المضني بتكوين أول دين له كما ذهب إلى ذلك "دوركايم" فيما أورده السيد علي النشار في كتابه ( نشأة الدين ) وكان ذلك فيما عرف بالطوطمية لكن سيجموند فرويد العالم الشهير ومؤسس مدرسة التحليل النفسي ذهب بعيدا إلى تـاريخ أقدم وعد حادثة قتل الأب البدائي المتكررة ومن ثم عبادته كأول دين بشري على الإطلاق ، ولم يكن بمقدور العقل البشري أن يتحمل أي معنى تجريديا بداية ًوظل أسير الرعب الذي تسببه له حادثة الموت ، لكنه في مراحل طوطمية لا حقة طور مفهوم قوة المايا كما ورد عند قبائل الملانزيين أو قوة الواكان عند قبائل سيوكس الأمريكية أو الأروندا عند غيرهم وكان ذلك مع بداية تكون مفهوم المزدوج الروحي ـ المادي وعلى الأغلب بداية القدرة الدماغية على توليد الأحلام ، ولعبت محدودية الوعي وحداثة تكونه درورا أساسيا في حصر أبعاد الكون لدى الإنسان البدائي بالعشيرة وطوطمها المقدس ولا شيء آخر ( وسنقدم في مناسبة أخرى توسعا وتحليلا مفيدا بشأن الطوطمية والتابو ) ، والتطور اللاحق الجدير بالاهتمام هو عبادة قوى الطبيعة والتطلع إلى فهمها ومن ثم تكون الديانات المؤلهة لتلك القوى ، لكن ارتقاءا عظيما وجد لدى العقل البشري تمثل في النشاط الأدبي والفلسفي الذي انعكس بقوة على الديانات اللاحقة حيث طرحت مسألة الحرية والموت وسقوط البشرية المتكرر دون تحقيق معالجة واقعية لمآسيها الناتجة عن معضلة الموت فكانت هناك ملحمة جلجامش التي ناقشت المسألة جهارا ودون مواربة وتوصلت لنتائج مخيبة عكست يأس الإنسانية في مستوى وعيها حينذاك من تحقبق أمانيها وابتدأت مسلسل المقترحات البديلة لخلود الإنسان بتخليد أعماله العظيمة وبذلك فتحت المجال لتغييرات عظيمة طالت كل الاعتقادات الدينية والفلسفية التالية . ومن كل تلك الديانات القديمة تبرز الديانة المصرية شامخة في عظمة معالجاتها ومدى اقترابها من فهم دقيق للمشكلة البشرية إذ بشرت باندماج الإنسان بالآلهة في تعبير رمزي نابض بالحيوية وآمنت بقدرته على النهوض من الموت بعد الوثوق من انعدام فرصة منع حدوثه وتحصيل الحياة الأبدية ويمكن اللاطلاع على تفاصيل ذلك في ( كتاب الموتى ) المصري المعروف ( الفصل الثاني والأربعين ) ونورد عبارة المتوفي الأخيرة وهو ينشد الخلود الفاعل عبر الاتحاد مع المطلق ، مع الآلهة العظام إذ يقول : " ما من عضو في جسدي ليس عضوا لأله ، إن (تحوت) ليستر جسدي كله وأنا هو ( رع ) يوما بعد يوم " وذلك يذكر بتعريف شيلر للمطلق كونه ( وحدة هوية الذات والموضوع ) .
ونرى انتكاسة شديدة وقعت في الديانة اليهودية كونها بالأصل امتداد للديانات البابلية والعراقية القديمة المتصفة باليأس وعدم القدرة على الإنطلاق الميتافيزيقي والمقتنعة تماما بحصيلة جلجامش من رحلته فاستغنت عن كل محاولات الحرية والإندماج الكوني بخواء فكري دنيوي مستسلم تماما وأقرت بذلك في سفر التكوين الإصحاح الثالث الآية الثالثة والعشرين ( هو ذا الإنسان صار واحدا منا عارفا بالخير والشر والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة ويأكل ويحيا إلى الأبد ، فأخرجه الرب من جنة عدن ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة ) ولم تذكر شيئا قط عن مرحلة ما بعد الموت حتى أن الرب يحسم مسألة العقاب والثواب دنيويا وهو حريص أيضا على مواصلة إنقاذهم بعدد كبير من الإنبياء والملوك الذين لم يبشروا يأي عالم آخر لكن المسيحية أعادت بصيصا من نشوة التطلع للإندماج الكوني بشخص السيد المسيح المتأله والقادر على قهر الموت بإحيائه الأموات أو بقيامته الجسدية وتركه القبر فارغا وبالحديث الغامض عن التواجد في ملكوت الله و أعيدت تفاؤلية الديانة المصرية بقوة وبنضوج أكبر على يد الديانة الإسلامية بموضوعة الجنة والنار حيث يوم البعث العظيم إذ ينهض البشر جميعا ( أي تعميم لتجربة السيد المسيح ) من رقدتهم المأساوية الطويلة بأجسادهم التي سيعاد إكساءها اللحم والجلد ليتعرضوا إلى حساب شبيه بما يحصل في الديانة الفرعونية ثم يخلد الجميع إما بنعيم في جنات مذهلة أو جحيم مرعب ، وفي كلتا الحالتين فقد حقق الإنسان همه في الخلود لكنه خلود ما بعد الموت ويمكننا ببساطة أن نلاحظ انقطاع هذا الخلود الإنساني الإسلامي عن أي دور كوني لاحق فإلى ذلك الحد تتوقف فعالية الإنسان تماما إذ ( في الجنة حصرا ) يتم اشباع الحاجات والغرائز تماما على افتراض تجددها وتجدد حاجتها ( رغم أن وجودها أصلا كان لغايات إبقاء النوع ) وليس هنالك أي دور آخر وكأن الموت قد خطف من الإنسان الفرد وعيه بدوره الكوني الذي هوجدير به بعد أن مات الكون مع موته وحوله إلى محض كومة غرائز مستجابة لحظيا وعلى الدوام.
وقد وصف أحد أصحاب المذاهب من المعتزلة ( وهم فرقة دينية عقلية ) وهو أبو هذيل حمدان بن الهذيل العلاف صورة الجنة بقوله " إن حركات أهل الجنة والنار تنقطع وأنهم يصيرون إلى سكون دائم وتجتمع اللذات في ذلك السكون لأهل الجنة وتجتمع الآلام في ذلك السكون لأهل النار " وهذا وصف مريع لعالم أموات أكثر منه لعالم أحياء مبعوثين ومكافئين .
و لابد من الإشارة إلى محاولات الصوفية الدينية الثورية للإرتباط بالمطلق عبر طرح مفهوم الشخصية المتألهة وهو وعي متقد مذهل للدور الكوني للبشرية كما هو حال الحسين بن المنصور الحلاج الذي عده كريمر من دعاة وحدة الوجود .
أما خط التطور التاريخي الفلسفي فلقد خاض تجارب كثيرة وكبيرة لكن نشاطه انشغل بالتفسير دون التبشير إذا ما استثنينا الثورة الفلسفية الماركسية التي وعدت الانسانية بالعدالة والسعادة الدنيوية في رحلة قد تطول لكنها ستنتهي حتما من دون أن تبذل جهدا في التنظير لموقع انساني فعال على المستوى الكوني كما لم تبحث مسألة الهم الانساني الأكبر الخلود وحولت المسألة إلى هدف اجتماعي محض تمثل في بناء المجتمع الشيوعي حيث تشبع كل الرغبات وتشيع العدالة لتتحقق السعادة التي قدمها هربرت ماركوز مخطئاً ( بوصفها تحقيقا لكل الطاقات الكامنة لدى الفرد فهي تفترض الحرية في جذورها ، إنها الحرية ) ولم يذكرا شيئا عن معاناة الفناء الكونية أو الإنسانية مع أن هذه المعاناة أكثر جذرية وأصالة في الوجود من أي تمايز طبقي وأظهر للفكر الفلسفي بل إن استلاب الحرية الإنسانية بالموت هو الدافع الأساسي في تطور الإنسان الفرد و المجتمعات البشرية وفي نشوء التكوينات الطبقية وبذلك تساوت الشيوعية مع الجنان الدينية في المساهمة في تآكل الحرية الإنسانية بنفي الدور الكوني الإنساني عبر تحقيق هدفه العظيم بالخلود الفردي والإنتقال إلى مراحل الفعل الشامل .
أما المدارس الأخرى فاكتفت بالمناقشة وحللت معظم احتمالات معنى الانسان ووعيه لكنها لم تستطع أن تتفهم أي دور كوني للبشرية وتناولتها كمجموعة كائنات أرضية ذكية ضعيفة وبائسة وذلك بالطبع لا يقلل مطلقا من الأدوار الضرورية والبالغة الأهمية المتمثلة بالجهد الفلسفي العظيم لفلاسفة مذهلين أمثال ديكارت وكانت وسبينوزا وهيجل وشيلر وغيرهم ممن ارتقوا بالوعي الإنساني إلى مراحل متقدمة .
غير أن النشاط العقلي العلمي المنصب على التعامل الفعلي مع الموضوع ضمن الجدلية العقلية ــ الواقعية أنتج معرفة صادقة أكدت الدور المستقبلي للإنسان على المستوى الكوني ، فمن المفاهيم الإنشتاينية إلى سبر غور الأسرار الجينية إلى تعزيز تكنلوجيا المعلومات والفضاء وغيرها من المنتجات الإنجازية العظيمة ، كل ذلك أهدى البشرية البشارة الحقيقية بإمكانية الخلود الفردي ومغادرة الكرة الأرضية نحو أبعاد الكون اللامتناهية في رحلة تحقيق الهدف الذي وجدت من أجله.
إن جدل الإنسان والكون القائم على وحدتهما يقدم مسالة خلود الإنسان الفرد كضرورة كونية متحققة لا محالة وذلك هو معنى الحرية بصدق كامل وإن ما ضيعه جلجامش وأجبره على الاقتناع بوهم الحرية ستعثر عليه الإنسانية قريبا بنشاطها العلمي الخلاق وعندها فقط سيبدأ التاريخ فما مر إلى الآن هو زمن ما قبل التاريخ ..وللحديث بقية وتفاصيل .

عباس يونس العنـزي



#عباس_يونس_العنزي (هاشتاغ)       عèçَ_حونَ_الْيïي_الْنٍي#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة إسرائي ...
- وزير الخارجية الأيرلندي يصل الأردن ويؤكد أن -الاعتراف بفلسطي ...
- سحب الغبار الحمراء التي غطت اليونان تنقشع تدريجيًا
- نواب كويتيون يعربون عن استيائهم من تأخر بلادهم عن فرص تنموية ...
- سانشيز يدرس تقديم استقالته على إثر اتهام زوجته باستغلال النف ...
- خبير بريطاني: الغرب قلق من تردي وضع الجيش الأوكراني تحت قياد ...
- إعلام عبري: مجلس الحرب الإسرائيلي سيبحث بشكل فوري موعد الدخو ...
- حماس: إسرائيل لم تحرر من عاد من أسراها بالقوة وإنما بالمفاوض ...
- بايدن يوعز بتخصيص 145 مليون دولار من المساعدات لأوكرانيا عبر ...
- فرنسا.. باريس تعلن منطقة حظر جوي لحماية حفل افتتاح دورة الأل ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عباس يونس العنزي - مقدمة في صراع الحرية والوهم والموت