أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رويدة سالم - عالق على الحدود يا وطني















المزيد.....

عالق على الحدود يا وطني


رويدة سالم

الحوار المتمدن-العدد: 3300 - 2011 / 3 / 9 - 08:28
المحور: الادب والفن
    


التفت حواليه. أقشعر جسده الذي تنبع منه رائحة البنزين، إعياء. ضاق صدره فبحث عن الهواء النقي في هذا المكان الذي يتراص فيه ألاف العالقين وراء الحدود. لا يذكر منذ متى ينتظر هاهنا العبور إلى الجانب الأخر. يتوق للعبور مهما يكن ما سيلاقيه هناك. تونس ستكون الجنة الموعودة.
"الجنة" لطالما سكن خياله هذا المكان الساحر منذ كان طفلا. الجنة حيث تتحقق الأحلام. سيترك جحيم ليبيا لجنة من الحرية والأمل وسيعود إلى مصر الوليدة وسيجدها تنتظر باسمة. عيونها تلمع فرحا وينساب صوتها الطفولي كموسيقى عذبة لما تقول "أحبك أنيس" فيحلق في فضاء لا متناهي من السعادة ويكبر الأمل.
ترى هل سيعود؟
سيعود لأنه عليه أن يفي بوعد وأن يمنح الكائن الذي يصارع من أجل البقاء حقه في العيش الكريم في نور الشمس.
يعاوده الدوار. يحاول أن يرفع رأسه لكن جسده متصلب لا يستجيب. البرد والألم ينخران عظامه. بجهد كبير يتمكن من ضم ساقيه لصدره العاري. يتحسسهما. نمل كثير يتسابق ليقضم من جسده العاري بعض غذاء. قالت له منى ذات يوم:
أتمنى أن أتحول لما أموت إلى شجرة تفاح تمنح الظل والغذاء.-
لكن الشجرة التي بحث فيها عن نصيبه من الراحة والغداء كانت عاقرا لا تمنح شيئا. ليمنح هو إذا لهذه الآلاف من النمل التي تغزوه بعضا مما بخلت به عليه الحياة.
أحلامه بسيطة ومطالبه لا تتجاوز أي سقف ممنوع في الشرائع السياسية لبلده المثخن بجراح القهر والتبعية. لم يطلب يوما أكثر من الدفء والأمان والكرامة. عملة نادرة في بلاد تعتبره مجرد رقم في دفاتر الإحصاء.
- يااااه يا وطني كم أحب ترابك وكم يهون عليك دمي. احتملت يا وطني كل إهاناتك. قبلت الذل والخزي لأجلك لعقت التراب من على جبينك ليبقى ناصعا فهل سيحتمل النمل الذي يغزوا جراحي كل القي وقذارة السنين التي أحمل؟ انه يتقدم رغم كل هذه الرائحة العفنة.
تساءل : ترى لماذا فعلوا بي ذلك؟
مرت بخياله المرهق وجوه مشوهة سكرى وعابثة. إلتقاه احدهم هاربا متخفيا فعرض عليه المساعدة. ما أبشع الإنسان لما يخلع عنه ثوب الحضارة ويبقى الوجه الوحشي القاسي.
بعد كل المجون والعربدة قرروا حرقه. رجاهم باسم الإنسانية والتاريخ والحب الذي ينتظر عودته في مصر أن يتركوه فارتفعت القهقهات. بداوة وجهل أُطلقت من عقالها فرامت البطش.
ماذا سيقول المسئول الليبي المتوحش والمصري الذي سرق الأحلام والعالم "الحر" الذي يشاهد في عجز لما تبدأ مرحلة جمع الأشلاء؟
لكنه لن يكون أشلاء إنسان أبدا. منى تنتظر وفي أحشائها حياة تتكون. يجب أن يبلغها قبل فوات الأوان.
التف بحثا عن صوتها الذي ارتفع في المكان فجأة. ابتسم ومد يده يلامس خدها. شعر بحرارة جسدها فسرت قشعريرة رغبة مجنونة في أوصاله. كم هي فاتنة وكم يعشقها. وضعت رأسها على صدره وانساب شعرها الأسود الطويل فداعبه مرددا "أحبك يا بت".
ضحكت بدلال رفعت عيونها إليه وسألته
"هل ستعود قريبا ؟ لم اعد أطيق الانتظار."
ازدادت جمالا مع الأيام وسنوات البعد. التقى بها لأول مرة بعد سنوات من التيه في القاهرة. جاب الشوارع طويلا بحثا عن كسرة خبز سرقتها برجوازية قذرة في عالم تقتل فيه الأوطان أبنائها. لم يكن لديه ما يفعله في تلك المدينة الكبيرة بشهادة في التاريخ القديم فعاد للقرية الريفية النائية التي أهملتها حتى كتب الجغرافيا.
منى حلم جديد ولد في زمن القحط. لأجل عيونها الفرحة دوما، سافر. مارس أصنافا من الأشغال القاسية وجمع من المال ما يكفي ليصنع قدره ويستعيد أرضه السليبة من عمه.
لأجل الحلم سيصمد. سيبلغ الجنة الموعودة وسيعود لحضن منى وستزهر شجرة المشمش في صحن الدار ويقطف زهرة ويضعها في الشعر الأسود المنسدل. رفع عينيه للفضاء يبحث عن الوجه الحبيب فرآه مرسوما على القمر باسما كما عهده يشد على يديه ويعده بالوفاء.
في مكان آخر من هذا الكون الرحب نظرت عروس صغيرة للقمر وسالت من العين دمعة. جلست على طرف سرير كبير ونظرت إلى البعيد. تفهم الآن من أين أتى المال الوفير الذي غير وجه بيتهم المتداعي. تناهى إلى سمعها صوت والدها يضحك وصدى نص مقدس يرتفع في صحن بيت الشيخ العربي الذي جاء لصيد غزال فتي.
تراءى لها أنيس يمد يدا ويعد بحلم كبير. قفزت نحوه. خجلت من ذكرى. فتشت في حقيبة صغيرة أخفت فيها أحلامها البسيطة عن ثوب صغير ابيض أهداه لها في ليلة عشق وذوبان. قبلته. ضمته إلى صدرها. ارتدته على عجل. وقفت عند النافذة. ابتسمت. أنيس ينتظر والكائن الصغير الذي ينمو يتحرك بدلال يطلب لقاء والده. أسدلت شعرها فشعرت بيده تمتد لتلامس خدها وترفعها وتأخذها خارج البيت الكبير نحو البرية. جرت بكل قوتها نحوه. اصطدمت بشيء قاس. تعثرت وتهاوى الجسد. مدت يديها تطلب مساعدته. احتضنها. قبلها بشوق ولهفة وشبق. وانحدرا معا في هوة سحيقة.
ارتفع في الفضاء صدى شيء يسقط في بئر عميقة ويختفي في لجة مياه آسنة.
تكسر حلم في لجة حب محرم على جدار واقع قاس لا يرحم في بلاد لا يعرف أحد فيه عذوبة أحلام العشاق وقداسة الطفولة.
سرت رعدة قاسية في جسد أنيس. تأوه. تململ في ركنه البارد في حين تكدست حوله أكوام من الأحلام المسروقة. أحلام داستها نعال الجهل والعنجهية والجنون. كسرهم الوطن وسرقت دمائهم الشركات الكبرى. وبين هذا وذاك ضاعت كل الثمار التي جمعوها بسبب الاضطرابات التي تهز هذا الجزء البائس من العالم.
تاهت كل الموازين بدون أي اعتبار لإنسانية أو كرامة. يقتلهم الجوع والبرد والخوف وصدى صراع دموي بين شعب ثائر وثعلب يرقص على حبال المراوغة والمكر والجريمة.
بؤساء رمى بهم القدر الأحمق في كل صوب. محرمون من العبور في هذا السجن البارد على مرمى حجر من الجنة.
زفر فسمع من حوله كلمة الجنة تتردد في الفضاء الرحب وتكسر السكون الثقيل.
ارتفع من بين الجمع صوت يردد:
- رحماك ربي ولا مرد لقضائك.
ترددت الكلمات في حين علا نشيج:
أريد أن أرى أولادي قبل أن أموت.-
ربت احدهم على كتف الباكي.
- إنه قدرنا. تقتلنا الأوطان ويسرق كلاب خبزنا ويغتالون أحلامنا.
- يجب أن أعود سريعا أمي مريضة. أخبروني أنها تموت وتتوق لرؤيتي. يجب أن أعود.
- سنعود حتما يا بني أعدك فثق بي. ضربوني وسرقوا أموالي وأوراقي ولم أنكسر ولن أفعل. سنعود حتما.
- سنعود فنحن أبناء الفراعنة بناة أقوى الحضارات. نحن من يصنع قدره لذا سنعود. قال هذه الكلمات بصوت مرتفع، شاب في الثلاثين من العمر نحيل، اسود الشعر، أشعثه.
بدى الصوت الهادر مشبعا ألما ويأسا وان ترك مسحة من الفخر في بعض النفوس. تماسك الشاب قليلا ثم تهاوى. ارتطم رأسه بالجدار خلفه فأن وسالت دموع كثيرة. دموع بسبب الم الاصطدام أو هوان السنين والأحلام المشروخة. لكم خطب في جموع الطلبة بالجامعة يوم كان نقابيا يعشق السياسة ويحلم بالمجد. في أعماق غرفة مظلمة في وزارة الداخلية تعلم كيف يكون السياسي في البلاد العربية الثقافة حليما متسامحا. تعلم أن يقبل أحذية الضباط لكي لا تركله ولا تهوى العصي على جسده المنهك من طول التعذيب.
ثورة مصر كانت علاجا ناجعا للعامل في إحدى شركات البترول في ليبيا
لكن ما يحدث منذ أن وصلوا الحدود يجعله يشعر بألم صفعات المحقق في السجن السياسي لما يصيح به
- أصمت يا كلب يا ابن الز... ستتعلم كيف يركع كل الرجال أمام الريس ورجالاته إجلالا وإكبار.
يعم حزن صامت ثقيل ألاف اللاجئين المنتشرين في العراء. يخنقهم البرد والجوع وحلم باهت في الخلاص. يقوم رجل يصلي. يقف آخر ثم آخر. تنتظم الصفوف ويهرب الكل لأله يمنحهم الأمل والرجاء.
يرتفع الدعاء في كل مكان. لكن أنيس الجالس القرفصاء في ركنه القصي عاجز حتى عن الحراك. تتردد كلمة الجنة في أعماقه. يرى وجه والده باسما يمد إليه يدا بيضاء ناصعة كثوب منى.
يحاول أن يقبله. يعجز عن الوقوف. يحاول ثانية بعزيمة اكبر وشوق لكن الأرض تكبله ورائحة البنزين تخنقه وتزيده دوارا. وتتراءى له وجوه ألفها وأحبها بعيدة تتوالى سريع دونما توقف. يمد يده ليلامسها. تتلاشى وتضيع كما ضاع العمر في احباطات لا تنتهي إلا لتتعمق من جديد. لا يذكر أي وضع شهادته الجامعية في التاريخ القديم. فكر أن يعطيها لمنى. لن تجدي نفعا يوما فلماذا لا تكون هدية لمنى التي لا تعرف من الأسماء إلا اسمه. بحث عنها قبل سفره الأخير لكن لم يجدها. لقد تغيرت الأوضاع وكبر الأمل. لما يعود سيبحث عنها وسيقدمها للمسئولين وسيجد عملا محترما. وظيفة تجعل منى تفخر وسط قريناتها. الدنيا تبتسم وعليه أن يصمد لأجلها ولأجل الحياة التي تنمو سرا في أحشائها.
متى رآها آخر مرة؟
غامت الذكريات في عقله. ولم يعد يسمع سوى صوت المحكمة الماجنة التي أصدرت ضده حكم الإعدام.
- سنحرقك قربانا للقذافي العظيم
لم يعد يفقه لماذا أرادوا حرقه وإن كان طقسا دينيا لإله مقدس أم شيطان فقد عرشه. رويدا رويدا تاه الصدى ولم يبقى سوى وجه طفولي لشابة لم تبلغ بعد الثامنة عشر من عمرها تبتسم له وتمد يديها لتحتويه.
- يا ملاكي الحارس الحنون هل ستأخذينني للجنة؟؟
وتبتسم الشابة، تربت على خده وتضع في حضنه طفلا يضحك. تغمره الراحة والسعادة. يضم المخلوق الصغير إلى صدره يقبله. يمد لها يده. تساعده على الوقوف. يتوهان في قبلة حالمة. تتملص منه وتجري في الحقل الأخضر الممتد. يلاحقها ويرتفع في الفضاء صدى عذبا لضحكات فرح لا يخبو.



#رويدة_سالم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعيدا عن أوهام القداسة: الإسلام. المبحث 5 الجزء 3
- ما المصير ؟
- سري من بلاد قمعستان
- دكتاتورية الحكام وارادة الشعوب
- تونس تُسقط حائط برلين العرب ... شعب يصنع الامل .
- بعيدا عن أوهام القداسة: الإسلام. المبحث 5 الجزء 2
- ثقافتنا العربية بين عدائية التراث ومتطلبات العصر
- بعيدا عن أوهام القداسة : المسيحية. المبحث 5 الجزء 1
- أباء مقدسون أم بحث عن أصالة (المبحث4 )
- العشيرة المُصطفاة و وهم القداسة : المبحث 3
- المبحث 2 : الله: خالق قدسي او مخلوق ميكافيلي
- حضارات الديانات الابراهيمية بين العقيدة و السياسة (جزء1)
- دين الإنسان البدائي و سيوف التوحيد الإبراهيمي
- أحلام رهن الاعتقال/ خيبة الاله
- أحلام رهن الاعتقال : هكذا رأيت الإله
- القطيع العربي : كرة القدم نموذجا
- أحلام رهن الاعتقال/ الحرية شمس يجب ان تشرق
- القطيع العربي و ثور الدالية
- أحلام رهن الأعتقال / الإله يتعثّر بجلبابه
- شفير الهاوية [الجزء 3 و الاخير ]


المزيد.....




- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رويدة سالم - عالق على الحدود يا وطني