أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - سعد هجرس - الثورة.. »المفخرة«















المزيد.....


الثورة.. »المفخرة«


سعد هجرس

الحوار المتمدن-العدد: 3278 - 2011 / 2 / 15 - 16:47
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


1
من حق المصريين أن يفرحوا، وأن يشعروا بالفخر، فقد انتصرت الثورة المصرية، وأذهلت العالم بأسره من أكثر من زاوية.
الزاوية الأولي: إنها ثورة »شعبية«، بكل ما في الكلمة من معني، حيث اجتذبت »الملايين« ــ أكرر الملايين ــ من المصريين بطول البلاد وعرضها، في وقت ظن فيه الكثيرون أن »عصر الشعوب« قد انتهي إلي الأبد، وأن الشعب المصري بالذات قد استقال نهائيا من الاهتمام بالشأن العام، وقنع بالبحث عن »لقمة العيش« والسير بجوار الحائط.
وعلي عكس هذه الخرافات التي وجدت من يحاول »التنظير« لها.. نفض الملايين من المصريين التراب عن معدنهم الأصيل وقدموا لوطنهم وعالمهم العربي والعالم بأسره ثورة فريدة في نوعها وحافلة بــ »الإبداع« الثوري المصري.
الزاوية الثانية: إنها ثورة »مصرية« بامتياز، بمعني أنها ليست حركة اجتماعية لفئة من الفئات.. أياً كانت هذه الفئة.
صحيح أن »الشباب« هم الذين أطلقوا شرارة هذه الثورة العظيمة، وصحيح أنهم هم الذين قدموا التضحيات العظيمة، ومئات الشهداء وآلاف الجرحي، علي مدار تلك الأيام الخالدة والمدهشة.. لكن الصحيح أيضا أن كل »الأجيال« انضمت إلي صفوف الثورة، وأعطتها هذه القوة الهائلة التي استطاعت التصدي لجحافل »الأمن المركزي« ولقسوة بطش وزارة داخلية حبيب العادلي ووابل أسلحته المفرطة في الوحشية بدءا من القنابل المسيلة للدموع والعصي الكهربائية والرصاص المطاطي ومدافع المياه وانتهاء بالرصاص الحي الذي تم إطلاقه ـ بدم بارد ـ إلي صدور زبنائنا العزل وبناتنا المسالمات.
واضافة إلي تكامل أجيال المصريين، تميزت الثورة الشعبية المصرية بـ»التعددية« الاجتماعية للمنخرطين في صفوفها، فإلي جانب شباب »الفيس بوك« الرائع كان هناك عمال وفلاحون وأساتذة جامعات ودبلوماسيون وصحفيون وكتاب وفنانون ومبدعون.
بيد أن الطبقة الوسطي تبقي هي القسمة الرئيسية لهذا المشهد الثوري الفريد.
ومع التعددية الاجتماعية، والـ»جيلية«، تظهر أيضا قسمة لا تقل أهمية هي »التعددية الثقافية« والفكرية والايديولوجية، فعندما تذهب إلي ميدان التحرير ـ علي سبيل المثال ـ ستجد »العلماني« إلي جانب أنصار »الإسلام السياسي«، و»الليبرالي« إلي جانب »الاشتراكي« اليساري، و»الأكاديمي« إلي جانب »الشعبوي«.
فضلا عن أن التعددية الثقافية والجيلية والاجتماعية تأتي علي خلفية »مكانية« متميزة، حيث ثورة 25 يناير أبعد ما تكون مجرد »ظاهرة قاهرية«، شأن كثير من الظواهر المصرية.
صحيح أن القاهرة احتلت صدارة المشهد الثوري، وصحيح أن »ميدان التحرير« خطف أبصار المصريين من سائر أنحاء البلاد كما اجتذبت أضواؤه الساطعة وسائل الإعلام العربية والعالمية.. لكن الثورة ظلت تنتشر من مكان إلي آخر، ومن محافظة إلي أخري، حتي شملت أرض الكنانة بريفها وحضرها من الإسكندرية إلي أسوان في مشهد يذكرك بثورة 1919.. إن لم يكن أفضل.
الزاوية الثالثة: إنها ثورة »سياسية« في المقام الأول، فهي لم تطرح مطالب فئوية ضيقة أو حتي مطالب اجتماعية عامة (كتحسين مستوي المعيشة مثلا)، بل ذهب الثوار إلي »أم المطالب«.. السياسة بل »ذروة السياسة«، أي »رأس السلطة« دون لف أو دوران.
ومن هنا رأينا الشعار الرئيسي الذي تردد علي ألسنة الملايين (الصامتة منذ سنوات وعقود): »نحن نريد إسقاط النظام«.
وتحت هذا العنوان الرئيسي كانت هناك عناوين عريضة أفضل أهمته أهمها تجسد في الشعار القائل »تغيير..حرية.. عدالة اجتماعية«.
وفي المطالبة بالتغيير لم يغرق الثوار أنفسهم في أمور جزئية، بل ذهبوا رأساً إلي المطالبة بـ »تنحية« الرئيس شخصياً.. وهو أمر اعتبره »المحاربون القدماء« شططا وقلة خبرة تؤدي إلي التهلكة.. لكن ثمانية عشر يوماً بدأت يوم 25 يناير أثبتت أن الثوار كانوا علي حق وأن حنكة »الحكماء« قد انتهي تاريخ صلاحيتها.


2
كثيرة جدا هي المزايا التي تسوغ الفخر بثورة 25 يناير، منها أنها ثورة »شعبية« بكل ما في الكلمة من معني، و»مصرية« بامتياز، و»سياسية« في المقام الأول من حيث مطالبها وشعاراتها، علي النحو الذي فصلناه في مقال سابق.
لكن ليست هذه كل مزايا تلك الثورة المدهشة.
فهناك أيضاً تلك الميزة الفريدة التي يجسدها »التوقيت« فهذه ثورة تحدث في مطلع القرن الحادي والعشرين، أي في بدايات الألفية الثالثة، وهذا ما يميزها عن سائر الثورات الكبري التي عرفتها البشرية، مثل الثورة الفرنسية، والثورة الأمريكية، فتلك الثورات »القديمة« تنتمي إلي عصر الثورة الصناعية، التي يطلق عليها البعض اسم »ثورة المداخن«.
أما ثورتنا المصرية فهي تنتمي إلي عصر »ثورة المعلومات« والتكنولوجيا التي تعيد صياغة العالم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً علي نحو غير مسبوق.
هذا التوقيت ليس بلا معني. بل إنه فرض تأثيراته علي جميع الأطراف.
فمن ناحية، نجد أن الذين فجروا شرارة هذه الثورة هم فرسان الإنترنت والفيس بوك وتويتر وغيرها من أدوات التواصل الاجتماعي الإلكترونية.
هؤلاء هم »طليعة« التغيير الثوري في العصر الحديث، عصر ثورة المعلومات والتكنولوجيا ومما له دلالة بهذا الصدد تلك الرمزية المدهشة التي تجسدت في المحاولة اليائسة والهمجية لقمع الثوار بفريق من البلطجية ومعتادي الإجرام جاء بعضهم ممتطياً الحمير والجياد والجمال، ومدججاً بالسنج والمطاوي والسيوف.
هذا المشهد اللامعقول يلخص المسألة برمتها: إنها مواجهة بين المستقبل والماضي، مواجهة بين العلم والتكنولوجيا وبين البداوة وشريعة الغاب، مواجهة بين »اللايتوب« و»الهراوة«، مواجهة بين الإنترنت والحمار!
الاعتبار الثاني المتعلق بالتوقيت هو »التنشين« الصائب في عملية اختيار يوم انطلاق الثورة.
فهذه الثورة المصرية ربما تكون الثورة الوحيدة في العالم ـ وفي كل العصور سواء في عصر ثورة الزراعة أو عصر ثورة الصناعة أو ثورة المعلومات ـ التي تم تحديد وإعلان موعدها وساعة الصفر علي الملأ وقبل اندلاعها بأسابيع وشهور.
هي الثورة الوحيدة في التاريخ المعروفة الزمان والمكان سلفاً.. علنا وعلي رءوس الأشهاد!!
العبقرية كانت في اختيار يوم 25 يناير لانطلاق الثورة.
فهذا اليوم كما هو معروف هو عيد الشرطة، الذي عادة ما يحتفل به الحكم في مهرجان يشارك فيه رئيس الدولة وينظمه وزير الداخلية الذي يستعرض »إنجازات« وزارته، ويقوم الرئيس بالثناء علي هذه الإنجازات وكيل المديح لجهاز الشرطة ورجال البوليس باعتبارهم حراس الوطني وعيونه الساهرة للحفاظ علي الأمن والأمان.
واثر اختيار هذا اليوم بالذات لانطلاق الثورة سارع الكثير من »الحكماء« وكبار الكتاب والمحللين السياسيين لتسفيه هذا القرار، واعتباره متضمنا لـ»جليطة« و»قلة ذوق« تتجاهل تضحيات الشرطة من أجل الحفاظ علي الأمن في مواجهة مؤامرات الارهاب من ناحية ومخاطر عالم الجريمة والعالم السفلي من جانب آخر.
ونسي هؤلاء الوجه الآخر للسياسة المعتمدة للشرطة منذ سنوات ليست قليلة، وهو وجه بالغ القبح حيث أصبحت مراكز الشرطة أماكن لإهدار كرامة المواطنين حتي لو كانوا قد ذهبوا إلي هذه المراكز للمطالبة بحقوق ضائعة أو مسلوبة، وليس فقط من يدخلونها كمتهمين ناهيك عن التعذيب الذي أصبح سياسة منهجية منتشرة رصدتها أكوام هائلة من تقارير منظمات حقوق الإنسان المصرية والعربية والعالمية عاما بعد عام دون رادع ودون اكتراث.
أضف إلي ذلك استشراء وتغلغل دور الشرطة في مجالات لا علاقة لها بجوهر عملها مثل تدخل أجهزة الأمن في العملية التعليمية وتعيين عمداء الكليات وأعضاء هيئات التدريس وطبخ انتخابات الاتحادات الطلابية وغير ذلك من ممارسات تتعارض مع ألف باء الحرية الأكاديمية.
ناهيك عن استشراء سياسة الابتزاز والإتاوات والرشاوي التي أصبحت كالوباء في جميع تعاملات المواطنين مع الأذرع المختلفة جهاز الشرطة، وما أكثر هذه الأذرع وما أطولها!
ولا ننسي بهذا الصدد أن المجموعة الأساسية التي أطلقت الدعوة لاختيار يوم 25 يناير لبدء الثورة كانت مجموعة »كلنا خالد سعيد« وهي مجموعة تأسست احتجاجا علي »الافتراء« والبطش والقهر والإذلال وضرب القانون بالحذاء في تلك العملية الشهيرة التي انتهت نهاية مأساوية بمصرع الشاب السكندري خالد سعيد علي يد بعض رجال الشرطة المجردين من الإنسانية ومن احترام القانون، ثم محاولة التغطية علي هذه الجريمة البشعة بجرائم لا تقل بشاعة تنطوي علي تزوير وكذب وتضليل للعدالة وإخفاء للأدلة وترويع للشهود.
وبوضع كل هذه الحقائق الوحشية في الاعتبار والتي يعاني تبعاتها أغلب المصريين وبالذات البسطاء منهم، كان اختيار يوم عيد الشرطة رفضا لتلك الممارسات الهمجية.
وجاءت النتيجة الفعلية مؤيدة عبقرية هذا »التوقيت« حيث انضم الملايين إلي الثورة بصورة غير مسبوقة في تاريخ مصر القديم والحديث علي حد سواء.
وهذا يعني أن هذا التوقيت مس وترا حساسا لدي أغلبية المصريين الذين شعروا بإهدار كرامتهم علي يد الشرطة »حتي مع الاعتراف بأن التعميم خطأ خادع والاعتراف بأن هذا الجهاز الضخم ليس خاليا تماما من وجود عناصر محترمة وبعيدة عن هذا العبث الهمجي«.
وبهذا تحددت إحدي قسمات هذه الثورة الفريدة، فهي باختصار ليست »ثورة جياع«، ليست ثورة »الخبز« ولقمة العيش إنها ثورة »الكرامة«
ثورة تقول باختصار: نحن نرفض المعادلة القائلة: »كلوا عيش وامشوا جنب الحيط«.
ثورة تقول علي النقيض من ذلك: »الخبز.. بدون كرامة ودون حرية لا يكفي«.
إنها ثورة انتصار المصري لكرامته وحريته ورفضه لمقايضة هذه الحرية وتلك الكرامة بلقمة العيش.

3
»شعبية« مائة في المائة، و»مصرية« بامتياز، و»سياسية« في المقام الأول، و»تعددية« من حيث التوجهات والمشارب الفكرية والسياسية والجيلية، وتنتمي إلي الثورة العلمية والتكنولوجية وعصر ثورة المعلومات من حيث التوقيت والمضمون والروح والإلهام و»الطليعة«.
تلك هي الملامح الأساسية التي رصدناها وحاولنا تحليلها ــ بسرعة ــ في المقالات السابقة لتلك الثورة المدهشة التي أذهلت العالم بأسره.. ثورة 25 يناير المصرية.
لكن تبقي ملامح أخري لا تقل أهمية، لعل من أبرزها »الصمود« و»الجذرية« ونبذ المساومات وأنصاف الحلول.
ويتجلي هذا في استمرار الثورة منذ يوم انطلاقها في الخامس والعشرين من يناير حتي 11 فبراير ،2011 وبالحساب »الكمي« تعتبر هذه من أطول ــ إن لم تكن أطول ــ فترات الاحتجاج والتمرد علي السلطة في مصر عبر تاريخها.
وبالحساب »الكيفي« يتضاعف عدد هذه الأيام أضعافاً مضاعفة، لأن يوم الثورة يعادل سنوات من أيام الخمول والركود والإذعان السياسي.. ولا ينطبق هذا علي مصر فقط بل ينطبق علي كل بلدان العالم. فأيام الثورات ــ زادت أو قلت ــ تشكل مستقبل أوطانها، وربما العالم بأسره، سنوات أو عقود عديدة من الزمان (تذكر مثلا كتاب جون ريد عن »العشرة أيام التي هزت العالم« الذي تحدث فيه عن الثورة البلشفية).
وإلي جانب الحسابين »الكمي« و»الكيفي« لأيام الثورة المصرية المشهودة، تجلي ملمح آخر هو »الصمود« أمام جحافل قوات الأمن المركزي التي لم تتورع عن استخدام أقصي درجات الخشونة في استخدام القوة المفرطة، ثم الصمود أمام استعانة قوات الأمن بجيوش من البلطجية المحترفين المسلحين بشتي أنواع الأسلحة البيضاء القاتلة، ثم الصمود أمام القناصة الذين أطلقوا الرصاص الحي علي صدور أبنائنا وبناتنا العزل المصريين علي أن تكون ثورتهم »سلمية«.. »سلمية«.
ورغم استشهاد أكثر من 300 من هؤلاء الأبطال وإصابة أكثر من 5000 أخرين استبسل الثوار وصمدوا بفضل إصرارهم وبفضل اجتذاب صمودهم لفئات متزايدة يومياً من المصريين انضموا إلي صفوف الثورة ودعموها بشتي السبل.
وإزاء هذا الصمود المذهل، وانتشار الثورة من القاهرة إلي باقي المحافظات، اضطرت جحافل الأمن المركزي إلي تشتيت قواتها التي كانت تتصور أن ساحة »الحرب« لن تتجاوز ميدان التحرير بالقاهرة فإذا بها تتسع بطول البلاد وعرضها. ولم تستطع قوات الأمن المركزي بالتالي أن تقسم نفسها علي »ورديات« أو »نبطشيات« واضطرت إلي البقاء بدون نوم لمدة أربعة أيام متتالية انهارت مقاومتها بعدها، واضطر حكم مبارك إلي الاستعانة بالجيش الذي لم يطلق رصاصة واحدة إلي صدور الثوار. وهذا خطأ قاتل لنظام الرئيس المتنحي ـ أو المنحي ـ حسني مبارك. والعجيب أنه رغم مبارك جاء إلي منصب الرئاسة من بين صفوف الجيش المصري فإنه لم يفهم أن »الانتما«ء الوطني للمؤسسة العسكرية المصرية ـ باعتبارها مدرسة للوطنية المصرية ـ أكبر من »ولائه« لشخص الرئيس.
وبعد فترة من »الحياد« انتقل الجيش في اللحظات الحاسمة إلي تأييد مطالب الثورة المصرية الوطنية الديمقراطية النبيلة. ولايزال يحرس أهدافها ومطالبها النبيلة والمشروعة كما يحمي الوطن والأمة.
ولم يكن صمود الثوار في مواجهة قوات الأمن المركزي والبلطجية والقناصة فقط وإنما كان صموداً سياسياً أيضا في مواجهة مناورات سياسية متعددة قام بها النظام القديم المترنح الذي قدم تنازلات متتالية، علي أمل أن يكتفي بها الثوار أو أن يتبناها »حكماء« من هنا وهناك يزينونها في عيون الثوار إنطلاقا من الحكمة الخالدة: »ما لا يدرك كله لا يؤخذ كله«.
لم يرفض الثوار هذه الحلول الوسط فقط ـ رغم إغرائها ـ بل قاموا بتصعيد سقف مطالبهم وتمسكوا بأعلاها علي الإطلاق وهو »تنحي« الرئيس.
وظلوا صامدين ويجتذبون كل يوم مددا جديدا من شتي طبقات الأمة حتي جاءت اللحظة التي كان يراها الكثيرون من رابع المستحيلات، في بلد كانت »الحكمة« الشائعة لمعظم فصائلها المعارضة هي أن تقنع بالفتات الذي يمكن أن يتكرم الحكم بتقديمه لها.
وتحت الضغط الثوري المتزايد اضطر الرئيس إلي أن يعترف بالهزيمة ويذعن لإرادة الملايين من أبناء شعبه، في مشهد لا مثيل له عبر تاريخ مصر العريق.
وكان هذا الإذعان مجرد الجزء البارز من جبل الجليد، لأن تنحي الرئيس المتمتع بصلاحيات »إلهية« ـ كما رأينا من قبل ـ كان مجرد مؤشر علي ترنح نظامه بأسره. وهو النظام الذي كان يظن الكثيرون في الداخل والخارج أنه حصين ومنيع وراسخ رسوخ الأهرامات.. فإذا به يترنح ويتداعي بسرعة مذهلة.


4
"الابداع" .. سمة أخرى لافتة فى ثورة 25 يناير, وهو إبداع يتجلى على أكثر من مستوى.
فى مقدمتها أنها أول ثورة فى العالم بلا "زعيم" أو "قائد" واحد أحد.
بل قيادتها جماعية وبصورة مبتكرة أيضا انبثقت بصورة عفوية من جماعات مواقع الاتصال الاجتماعى الالكترونية المتعددة التى شكلت مؤخرا "ائتلاف شباب الثورة" والذى يتألف من خمس مجموعات اساسية هى :
"6 أبريل" و"العدالة والحرية" و"حملة دعم البرادعى" و"شباب الأخوان المسلمين" و"شباب حزب الجبهة الديموقراطية ". وإلى جانب هذه المجموعات الخمس توجد جماعة "شباب الجمعية الوطنية للتغيير"، فضلا عن كوكبة من "المستقلين".
هذا "الائتلاف" العريض يتكون من عناصر متنوعة من حيث الرؤية الفكرية والسياسية لكنها اتفقت على قيام الثورة ولا تزال تتفق على ضرورة متابعة تحقيق أهداف الثورة وإبقاء شعلتها متقدة والدفاع عنها ضد محاولات اختطافها أو سرقة أهدافها أو احتوائها، ناهيك عن ضربها وإجهاضها من جانب قوى الثورة المضادة.
وهذا "الائتلاف" – الذى يمثل أبرز التطورات وأخطرها فى المعادلة السياسية المصرية الراهنة – لا يخاصم المجتمع أو قواه الحية أو النخب المعارضة التقليدية.
قد يختلف معها فى هذه المسألة أو تلك، لكنه يحرص على مد الجسور معها والتنسيق والعمل المشترك.
نحن إذن إزاء تجديد لدماء النخبة المصرية، التى تكلست وانتهى تاريخ صلاحية الكثير من مكوناتها منذ سنوات. وعبر عن ذلك "توازن الضعف" الذى استمر فى السنوات الماضية بين نخبة حاكمة عاجزة عن القيام بواجبات ومهام الحكم الرشيد ونخبة معارضة عاجزة عن إسقاط النظام الحاكم الكسيح أو حتى إجباره على الالتقاء معها فى منتصف الطريق.
وبعد أن تعود النظام الحاكم على قواعد اللعبة المملة، وغير الخطرة، مع النخبة المعارضة "التقليدية" – بشقيها العلمانى والأصولى – والتى ظلت تتواضع وتتنازل فى مطالبها وتقدم التنازل تلو التنازل راضية بالفتات الذى يقدمه لها نظام الحكم... كرسى فى مجلس الشورى أو مقعد فى مجلس الشعب أو زاوية فى صحيفة "قومية" أو تواجد شكلى وصورى فى أحد المجالس الوهمية التى تفوق الحصر..
بعد أن تعود النظام الحاكم على تلك القواعد الخائبة.. فوجئ – كما فوجئ الجميع- بنخبة من نوع جديد.. لا يبدأ من حيث انتهى الآخرون وإنما يصوب سهامه إلى قلب لوحة التنشين، وهو "إسقاط النظام" لا إسداء النصح له أو "تسول" إصلاحات جزئية فى هذا المجال أو ذاك.
وكانت مكافأة هذا الابداع السياسى الجديد سريعة جداً بصورة تفوق كل الحسابات، حيث رأت الملايين من المصريين فى هذه النخبة الجديدة وخطابها المباشر غير الملتوى أملا، فالتفت حولها وانضمت إليها فى ساحة المواجهة فرادى وزرافات، حتى عمت الثورة أرجاء البلاد.
***
هذا الإنجاز الثورى بدون "زعيم" فرد ليس مجرد صدفة، وإنما هو تعبير عن التحول الأعمق الذى أشرنا إليها من قبل وهو دخول البشرية عصر ثورة المعلومات والثورة العلمية والتكنولوجية. ففى عصر ثورة الصناعة كان الحزب السياسى التقليدى هو إبن هذا العصر والتعبير الحقيقى عن "المصنع": خطوط الانتاج وآلاف مؤلفة من العمال والفنيين والإداريين فى إطار تقسيم صارم للعمل داخل مكان محدد تحيطه الأسوار من الاتجاهات الأربع، ينتظرون "الزعيم" الذى يقودهم ويحقق مطالبهم. وكان الحزب السياسى "التقليدى" هو هذه الاستجابة.
هذا الوضع اختلف تماما فى ظل ثورة المعلومات.. حيث "الكهف الالكتروني" هو الأساس، وحيث نشأت علاقات واتصالات من نوع جديد تماماً متجاوزة لمعظم قواعد الضبط والرقابة ليس داخل الحدود فقط وإنما خارجها أيضا.
ومن جراء ذلك تم سحب البساط من تحت أقدام الأحزاب التقليدية لصالح الفضائيات من ناحية والإعلام الالكتروني ومواقع الاتصال الاجتماعى الرقمية من ناحية أخرى.
ونتوقف هنا لحظة لنعيد تذكر دلالة تلك المواجهة المثيرة بين "الفيسبوك" وبين "الجمال" و"البغال" و"الحمير" فى الموقعة اللامعقولة التى دارت رحاها فى ميدان التحرير بالعاصمة المصرية والتى تلخص لنا جانباً مهما من مستجدات هذا الصراع بين الماضى والمستقبل، وبين العضلات والعقل، وبين الخرافة والعقلانية.
***
المستوى الثانى لـ "الإبداع" الذى تجلى فى ثورة 25 يناير لا يخص "الطليعة" التى جددت دماء النخبة المصرية فقط، وإنما يخص "المواطن" المصرى العادى غير المشارك بصورة مباشرة فى المظاهرات والاعتصامات الثورية.
هذا "المواطن" الذى فرضت عليه السلبية وفرض عليه التهميش والإذعان والسمع والطاعة لسنوات وعقود، وجد نفسه ليس فقط أمام ثورة مذهلة تتطور يوماً بعد آخر وإنما وجد نفسه أيضاً فى مواجهة خطر "وجودى" إثر الاختفاء المفاجئ لقوات الشرطة التى "تبخرت" فى لحظة تآمر بالغة الغموض، تاركة البلاد والعباد بدون أى غطاء أمنى ومكشوفة أمام جحافل البلطجية ومعتادى الاجرام بل وفلول فاسدة من الشرطة الهاربة أيضاً.
هنا – كما فى تونس – ظهر الإبداع الثورى فى تشكيل "اللجان الشعبية" التى تكفلت بحماية الأهالى والممتلكات العامة والخاصة فى ظل هذا الفراغ الأمنى المخيف. ولا يمكن لأحد أن ينسى تلك السلسلة البشرية من شباب مصر التى التفت - مثلا – حول المتحف المصرى لحماية تراث الأجداد.
وتجلى إبداع "المواطن" المصرى العادى فى صور أخرى كثيرة مثل التطوع لتنظيم المرور والإدارة الذاتية لكثير من المرافق الحيوية. فضلاً عن أشكال مذهلة من "التضامن" مع الثوار المتظاهرين والمعتصمين من جهة، ومع بعضهم البعض من جهة أخرى، فى تلك الأيام الصعبة، والتى ربما كان أعداء الثورة يظنون أنها ستؤلب الناس على أبنائهم وإخوتهم وأخواتهن الثوار وستجعلهم يلقون عليهم اللوم وتحميلهم مسئولية هذه المصاعب الأمنية والمعيشية التى كانت مرشحة للتفاقم نتيجة حلول موعد صرف المرتبات فى أول شهر فبراير أى بعد أسبوع من اندلاع الثورة.
لكنه كان رهاناً خاسراً .. والفضل فى ذلك يعود إلى أشكال متنوعة ومدهشة من صور الإبداع فى خلق شبكة تضامن مذهلة وفائقة الفاعلية جعلت من الممكن استمرار صمود ملايين المصريين فى ساحة النضال ثمانية عشر يوماً متصلة كانوا يحتاجون فيها إلى الإمداد المستمر بالطعام والشراب وتلبية الاحتياجات الطبيعية والحيوية الضرورية.
وبينما دأبت الدعاية الخائبة للثورة المضادة على ترويج أكاذيب رخيصة وفجة عن وجبات "كنتاكى" ودولارات يتم توزيعها على المعتصمين والمتظاهرين، كان التضامن الأهلى يرسم معالم ملحمة إنسانية ونضالية للشعب المصرى الذى أطلقت الثورة أجمل ما فيه من طاقات وقيم كانت محبوسة وكامنة لسنوات طويلة .. أطول من صبر المريض.
وللحديث بقية.



#سعد_هجرس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- »موضة« الموت حرقاً!:بيانات سياسية بالأجساد
- قانون تغريبة زين العابدين: الخبز بدون حرية وبلا كرامة.. لا ي ...
- المرجئة!
- ثلاثية خروج مصر من فخ الطائفية
- هل أصبح ل»القاعدة«.. قاعدة في مصر؟!
- مصر .. على حافة المجهول
- حائط برلين لا يزال قائماً!
- الورطة!
- أربعاء الغضب -الأعمى-
- تقرير نبيل عبدالفتاح.. أفضل رد علي تقرير هيلاري كلينتون
- دليل الصحفي النزيه .. للوصول إلي قلب القارئ الذكي
- فوضى خصخصة الأثير.. فاصل ونواصل
- عماد سيد أحمد .. وحديث المحرمات
- «الشيوعى» فى حضن «الإسلامى»
- مصر .. فوق المسجد والكنيسة (2)
- مصر... فوق المسجد والكنيسة
- اختطاف مصر!
- محمود محيي الدين.. الدولي!
- سعد هجرس مدير تحرير«العالم اليوم»: لست من أنصار جمال مبارك.. ...
- موائد الرحمن الرمضانية.. وداعاً .. يحدث في مصر فقط: الفقراء ...


المزيد.....




- قد تعرض حياتك للخطر.. كيف تتفادى الاصطدام بغزال شارد في أمري ...
- نواب ديمقراطيون يطالبون بالضغط على إسرائيل لزيادة مساعدات غز ...
- تعزيز الإجراءات الأمنية في القدس قبل انبثاق النار المقدسة
- سياسي فرنسي يحذر من تداعيات إرسال قوات من بلاده إلى أوكرانيا ...
- الجيش الأوكراني يشتكي من الحالة التقنية السيئة لراجمات الصوا ...
- ابتكار -بلاستيك حي- يحتوي على جراثيم تمكنه من التحلل
- طبيبة توضح فوائد وأضرار القهوة الصباحية
- وفد حماس ومدير CIA يصلان إلى القاهرة في إطار مفاوضات غزة
- رئيس لاوس يزور روسيا للمشاركة في احتفالات عيد النصر يوم 9 ما ...
- الدبلوماسية الأمريكية هالة هاريت تكشف دوافع استقالتها من وزا ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - سعد هجرس - الثورة.. »المفخرة«