أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأمكنة الكمائنُ 12: السّفح المُتسكع















المزيد.....

الأمكنة الكمائنُ 12: السّفح المُتسكع


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3162 - 2010 / 10 / 22 - 18:07
المحور: الادب والفن
    



عامُ مُنتصف السبعينات، المُوافقَ بلوغي سنّ الثامنة عشر، كانَ مَنذوراً غالباً لمُتعة التسكّع.
غبّ مُغادرَة شقيقتي وزوجها إلى منزل آخر، أضحَتْ حجرَة الجدّة لي وَحدي. إلا أني بقيتُ على صِلة، شبه يوميّة، بحجرَة الإيجار تلك، الجديدة، الكائنة في زقاق " وانلي "؛ ثمّة، أين تقيم بكرُ أسرتنا. الصّهرُ، الجزراويّ الجذور، كانَ على شبَهٍ في الهيئة بالمناضل الأمميّ، المَعروف؛ " ريجيس دوبريه ": إنه مسئول فرقتنا الحزبيّة، في تنظيم " الشباب الديمقراطي "، مَن تكرّمَ مرّة بذاكَ التشبيه؛ وربما بنبرَة مُتهكّمة. هذا الرفيقُ، سليلُ آل " قاسو "؛ كانَ ابنَ أستاذي في المدرسة الابتدائيّة، ومن كانَ بدَوره رفيقا لشباب والدي، الشيوعيّ. خالة الفتى، كانت امرأة قريب صهرنا ومُقيمَة مع أسرتها هناك، في مركز محافظة الجزيرة. ويبدو أنّ الفشلَ بتعزيز القرابَة، عن طريق رهن بنت الأستاذ لقران مُماثل، قد جعلَ الصهرَ لاحقا على مَرمى التهم بالتطرّف اليساري والديماغوغيّة.
حجرَة الإيجار، إذاً، صارتْ مَحجّ شبّان ثوريين، من الطلبَة الكرد، خصوصاً. كانَ هؤلاء يُعبّرون عن توقهم لبديل ما، تنظيميّ، جدير بملأ الساحَة السياسيّة، الشاغرَة. وكانَ أيضاً من ضيوف الصهر، المثقفين، من هوَ مُنتم لمَشارب أخرى ـ كأريتريا والسودان. وربما هيَ المرّة الأولى، مذ زمن بعيد، المُتعيّن فيها على العِرْق الأفريقيّ، الأسمَر، أن يَخطوَ في دروب سفح الجبل، الأوّل: قبلاً، كانت منازل سُراة الحَيّ، المُنيفة، مَشهودة بحضور للخدَم، من ذوي البشرَة النحاسيّة. واعتادَتْ والدتنا، في استعادَتها لمَرحلة الطفولة، أن تنعتَ بـ " العبد " سائقَ الوَجيه " علي زلفو آغا "، والد صديقتها " ملك "؛ التي كانت أيضاً زميلتها في مدرسة " ستّ الشام ". أما والدنا، فكانَ من جهته يَربط بشرة " عمر شمدين آغا "، الشديدة السّمرَة، لكون أمّه بالأصل " جاريَة سَوداء "؛ على حدّ تعبيره.
خالُ رفيقنا ذاك، كانَ مُهندساً معماريّا، ولديه مكتبٌ في المدينة. إنه ذكرُ والدته، الوَحيد. على ذلك، انتقلتُ هيَ للعيش معه عندما تزوّج. من جهته، فإنّ " كيمو "، صديقي ورفيقي أيضاً في الخلية الحزبية، كانَ يَعملُ في ذلك المكتب الهندسيّ، المُحتفي بجيرَة " جسر فيكتوريا ". عندَ تجنيد صديقي، أقترحَ عليّ أن أحلّ بمَكانه في العمل. في اليوم التالي صباحاً، وما أن سألني المهندسُ عن أصلي وفصلي، حتى تبسّمَ من فم مَطبوع بوَشم السّخريَة: " إننا أقاربُ، إذاً "، قالها هوَ يهزّ رأسَهُ بمَرَح.

ثمّة، في المَكتب، فتِحَ لعينيّ عالمٌ آخر، مَجهول.
مُعلّمي، النحيل والغامق البشرَة، كانَ كذلك مُتعهّدَ عماراتٍ. شريكه الأساس، كانَ زوجَ شقيقته، الكبرى. إنه ذلك الرّجل الأنيق، الغامض الهيئة والبرونزيّ اللون، المُناهز منتصف الحلقة الخامسَة من العُمْر. بالرغم من كونه ابن عمّ الزعيم الشيوعيّ؛ إلا أنّ دماءه، الكرديّة، كانت حارّة على ما يَبدو. وعلى الأرجح، فإنّ هذا الدرَكيّ، المُتقاعد، هوَ من عرّف شقيقة امرأته على قريب صهرنا؛ طالما أنّ جانباً من خدمته قضاها في الجزيرَة.
" لم أعُدْ إلى تلك المَنطقة، المَلعونة، منذ وفاة ابني الطفل في حريق سينما عامودا "، قال ذات مرّة مُحدّقا فيّ خلل نظارَتيْ عينيْه، المُعتمتيْن. قبلَ ذلك، حينما أخبرتُ الشرطيّ السابق عمّن يكونه والدي، فإنه أجابني دونما اكتراث: " بلى، أعرفه.. ". أمّا الأبّ، فإنّ ضحكته، المُقتضبَة، كانت تعليقا وَحيداً على خبَر لقائي بالرّجل المُتعهّد. على أيّ حال، وبغض الطرْف عن الجملة تلك، المُشتعة على المنطقة الشماليّة؛ فإنّ صاحبَها كانَ على علاقة وَثيقة، شخصيّة وعمليّة، مع الكثير من أهاليها المُتواجدين في العاصمة. عقدان من الأعوام، على الأثر، واتفقَ أنّ أحدَ أولئك المُقيمين كانَ هوَ من تعهّدَ سلّ روح الرّجل، المُتعهّد. يومُ الجريمة، وافقَ نهار جُمعة كئيب؛ شهدَ عشرات الطعنات، الحاقدَة، المُسدّدة لجسَد العجوز وعلى خلفيّة عمليّة ما، تجاريّة. امرأة قريب صهرنا، وكانت قادَمة تواً من السّفر، لم تدر عندئذٍ سببَ وفاة زوج أختها. وإذاً، دَخلتْ صالة العزاء، هاتفة ً بوَرَع: " لقد شاءَ الله أن يأخذ أمانته في يوم جمعة، مُباركٍ ".
بيْدَ أنّ حادثَ موتٍ آخر، عليه كانَ أن يَطغى على مُبتدأ عملي في مكتب المهندس. ابن أخت هذا، ذو الأعوام الغضة، فقدَ حياته على رصيف مَبنى مدرسته، الابتدائيّة. ولكنّ سائق الحافلة العموميّة، الأرعن، المُتسبّب بدهس الصبيّ، كانَ قد سُجّل في خانة المَجهول: شركة الحافلات، الخاصّة، كانت إذاك مَملوكة لمُفتي الجمهوريّة؛ " الشيخ كفتارو ". على ذلك، جرى الافتراض، بداهة، إلى أنّ التغطيَة على جنايَة قتل الصبيّ هيَ من واردات العنايَة، العليا.
" لو أنّ أحدهم شتمَ الرئيس، ولو تحت سابع أرض، لتمكنَ الأمنُ من مَعرفته وتوقيفه "، صرَخَ معلمي بحنق مُتوجّهاً لصهره، الحاضر. هذا الرّجل، أصبحت سحنته على مُنقلبٍ آخر، غير برونزيّ بحال. كانَ برفقة الصهر، في ذلك المساء، شخصٌ غريبٌ لم يَسبق لي رؤيته. وبطبيعة الحال، كان المهندسُ على جهل بحقيقة، أنّ ذاكَ الغريب هوَ مديرُ جهاز المخابرات العامّة.

" كانَ عليكَ أن تتحفظ بالقول، في حضور رجل لا تعرفه "
التفتَ الصهرُ إلى مُعلمي مُعاتباً، إثر مُغادرَة المسئول للمكتب. فردّ هذا بنبرَة أسف: " آه، لا أدري كيف سمّيتُ الرئيسَ على لساني. ولكن، ليتَ أنكَ بادرتَ أولاً إلى التعريف بصاحبكَ "
" كنتُ في سبيلي لفعل ذلك، عندما كلّمكَ أحدهم بالهاتف بخصوص الولد، المرحوم "، أجابَ الشرطيّ المُتقاعد. ثمّ أضافَ مُهوّنا من شأن المُشكلة " لا تشغل نفسك بالأمر، بعدُ. سأعتذر منه بنفسي، وفي مناسبة قريبة ". برطمَة المُعلم، الجليّة، ظلتْ مطبوعة على وجهه طوال المساء. ولم أدر عندئذٍ، أكان ذلك بسبب الحنق على دمّ الصبيّ، المَهدور، أم لخشيته من هدر المزيد من دَم آل " قاسو ".
وكانَ في محله، تقديرُ الصهر. إنّ علاقة البيزنيس، جَعلتْ أقطابَ الأمن أكثر تسامُحاً؛ مع رجال الأعمال، على الأقل. جهاز المُخابرات، عليه كانَ آنذاك أن يَحلّ في المُجتمع حلول خليّة من السرطان في جسم إنسان، سَليم. ففي مُنتصف السبعينات تلك، كانَ الناسُ قد نسوا بكلّ تأكيد اسمَ " اللواء خليفاوي "؛ أوّلَ رئيس وزراء، فعليّ، في عهد الحركة التصحيحيّة، المُباركة. وبما أنني كنتُ مُدمناً على مجلة " الصيّاد "، اللبنانيّة الكاريكاتوريّة، فقد اعتدّتُ على شراء ما فاتَ من أعدادها، القديمَة. في إحداها، كانَ الغلافُ مُرقشاً بصورَة الوزير الأوّل ذاك، وتحتها كلمته العريضة الحروف: " انتهى عهدُ المُخابرات ".
" اللواء خليفاوي "، كانَ قد أحيلَ باكراً على المَعاش، بما أنه أصرّ على تعكير عَيْش المُفسدين في الأرض. كانَ قد استهلّ، مُتحمّساً، حملة عنوانها " من أين لكَ هذا "، عندما صدَرَ فجأة قرارُ إعفائه من مناصبه الرسميّة والحزبيّة. من جهتي، كنتُ أكنّ احتراماً للرّجل، تأثراً بما كانَ يَرويه عنه " محمد زلفو "؛ العقيد المُتقاعد وصديق والدي الأقرب. في بدايَة الخمسينات، كانَ العقيدُ في مكتبه بالأركان، عندما تدخلَ في مَشادة بين نقيب وملازم . هذا الأخير، تذكّرَ فيما بعد اسمَ الآمر، الشهم؛ الذي وَضعَ شقيق رئيس الدولة في السّجن : إنّ النقيبَ، المُعتدي، لم يكن سوى " صلاح الشيشكلي "؛ المَرهوب الجانب.
وإذاً، ما أن عادَ العقيدُ من منفاه، التشيكيّ، حتى وَجَدَ نفسه تحت الإقامة الجبريّة في جمهورية البعث، الأولى. حينما مرّ اسمُ " محمد زلفو "، المُشنع بإشارَة حمراء، تحت بَصَر المسئول البعثيّ، فإنه بادرَ إلى شطبه فوراً. منذئذٍ، أضحى الرّجلان على صداقة مَتينة، واشجها شعورُ الوفاء.

" هذا الشعورُ، كانَ مَعدوماً بالمُقابل عند خالد بكداش "
قالها صديقُ أبينا مُفتتحاً حكايَة أخرى، من حكايات زمنه السّعيد، المُنقرض. لقد كانَ العقيدُ، كما هوَ مَعروف، من أبرز العسكريين التقدميين في مرحلة ما بَعد الانقلابات العسكريّة. لقد اشتهرَ، خصوصاً، في حادثة المؤامرة على الرئيس " أديب الشيشكلي ": إذاك كانَ هذا الانقلابيّ، المُغامر، في زيارة لتركية. أحدُ مرافقيه، وكانَ من مجموعة الزعيم " عفيف البزري "، سرّبَ عبرَ الهاتف خبراً لرفاقه من محلّ إقامته ثمّة: " الرئيس، كما يُقال، في سبيله لعقد اتفاقيّة عسكريّة مع تركيّة ". وبما أنّ الشكوكَ حامَتْ حول مَوضوع " حلف بغداد "، فما كانَ من المجموعة التقدميّة إلا الاتفاق على اعتقال الرئيس حالما يَصل إلى الشام. أحبطتْ المُحاولة، ثمّ اعتقلَ من تورّط فيها. بيْدَ أنّ الرئيسَ، المَوْصوم بنعت " الديكتاتور " في التاريخ المَدرسيّ، أطلقَ بسرعة سَراح المُعتقلين. وهوَ نفسه، من تنازل عن السلطة دونما إراقة دماء، حينما تمرّدتْ بعض القطعات العسكريّة.
" في تلك الآونة، توثقتْ العلاقة مع مصر الناصريّة، على مَبدأ العداء للغرب وأحلافه. فوَجدتني ضمن بعثة من الضباط، للتخصّص في أكاديميّة " القاهرة "، العسكريّة. ما أن مَضت أشهر قليلة على وجودي هناك، حتى حلّ " بكداش " ضيفا على الحكومة المصريّة. كانَ مقرّ الأكاديميّة في ضاحيَة " هليوبوليس "، النائيَة، ولم يكُ ثمّة وقتئذٍ وسيلة نقل غير عسكريّة. على ذلك، كانَ الزعيمُ الشيوعي، الشديد الإعتداد بالنفس، مُجبراً على التسكّع كلّ مرة لأكثر من ست كيلومترات ذهاباً، ومثلها إياباً، كي يلتقي معي في مَبنى دراستي. بعد ثلاثة أعوام، وفي المنفى التشيكيّ، كنتُ مع " بكداش " في نفس الفندق. غيرَ أنه لم يَتنازلَ مرّة، قط، بالقدوم إليّ أو حتى بمجرّد السؤال عن وَضعي "، قالها العقيدُ مُختتماً روايَة ذلكَ الفصل من عُمْره.
صفحة صداقة " محمد زلفو " لوالدي، الناصعة والنقيّة، كانت أيضاً مَمهورة بختم الوفاء. إنّ الأبّ، ولا رَيْب، من كانَ له فضلُ نجاة العقيد من المَقصلة، الناصريّة. بُعيدَ الهجوم على الحريّات العامّة من لدُن أجهزة دولة الوحدة، كانَ على المجموعة التقدميّة، العسكريّة، أن تواجه مَصيراً وَخيماً. أثناء تحضير والدنا وصديقه خطة التسلل إلى لبنان، أنضمّ إليهما " حسين عرَبيْ ". هذا الرفيقُ الشيوعيّ، كانَ أحدَ أقربائنا، البعيدين، من آل " لحّو ". العقيدُ، من جهته، كانَ على علاوة على جرمه، الضخم، مُصاباً في الظهر إثر حادث سيارَة عتيق. خلل عبور مَسالك الجبال والوديان، بدأ المُصاب يَفقد رويداً قواه.

" بالله عليكم، دَعوني هنا وتابعوا أنتم المسيرَ "
قالَ لهما العقيدُ بإعياء، من مكانه على الأرض. إلا أنّ الوالدَ، المَوْصوف بالعناد والتصميم والإخلاص، رَفضَ بطبيعة الحال الإصغاء لطلب صديقه. فما كانَ منه، وهوَ الضعيف الجسم نوعاً، إلا احتمال ثقل العقيد والمُضيّ به في الطريق الصعبة، الوَعرة. نباحُ كلاب الرّعاة، نبّه لاحقا قوى الجندرمَة ، اللبنانيّة. أحتجز الثلاثة في مَخفر، هناك على الحدود. " العقيد زلفو "، سيقَ وَحيداً إلى العاصمة " بيروت "، بعدما أبرز أوراقه الرّسمية، المُفصحة عن خطورة منصبه. أما الوالد وقريبه، فقد سُلما فيما بعد لرجال الأمن، السوريين. أثناء توقيف الأبّ، تعرّض لتعذيب مُطوّل، مُمضّ، ثمّة في سجن " المزة ": كانَ المُحققون على ريبَة، بأنه هوَ من دبّرَ تهريب أسرة الزعيم الشيوعيّ إلى لبنان؛ أينَ عليها كانَ أن تتابع من هناك السّفر، وصولاً إلى " براغ ".
" على جَميل أن يُعيدَ المُسدس، الحزبيّ؛ لأنه أمانة لديه.. "، هكذا قالَ " بكداش " لأحد رجاله إثرَ عودته من مَنفاه. ذلك السلاح، كانَ في حفظ الأبّ مُذ فترَة عمله في مكتب الزعيم الشيوعيّ. إلا أنّ والدتي، المَلولة، قامتْ بتسليم المًسدس لشقيق رجلها. العمّ، وبدون علم أخيه الأصغر، السّجين، ارتأى بيع السلاح كي يُسهمَ في مَصروف أسرتنا. هوَ إشكالُ، طاريْ؛ ولكنه ضافرَ من برودة العلاقة بين والدي وقائده، القديم. هذا الأخير، كانَ على الدوام يأخذ على مُريده عاطفته القوميّة، الحارّة.
" لديكَ ضيقُ أفق، قوميّ.. "، خاطبَ الزعيمُ ذات مرّة الأبّ على خلفيّة وَسمه لأحد مواليده، الإناث، باسم " مهاباد ". عند ذلك، أشارَ والدُنا بيده نحوَ " يوسف فيصل "، قائلاً: " عندما يُسّمي هذا الرفيقُ أولادَهُ بأسماء كرديّة، فإنني حينها سأسِمُ أولادي بأسماء عربيّة ". الرفيقُ العربيّ، كانَ مَمقوتاً بشدّة من الآخر؛ الذي لطالما أتهمه بتأجيج الشعور المُعادي للكرد داخل الحزب. منزل " الرفيق فيصل "، كانَ في طفولتنا على مرأى العين؛ هناك، في البناء الحديث، المُطلّ على الحديقة العامّة؛ التي كانَ أبي يَعملُ فيها مُراقباً.
" عمّاه.. بابا يَرجوكَ الحضور إلى منزلنا، كي تساعده في زراعة بعض الورود "، قالَ ابنُ الرفيق ذاك، مُتوجّهاً للأبّ المُنهمك في شؤون الحديقة. كانَ الولدُ، الذي يَصغرني ببضعة أعوام، يُشير بيدَه نحوَ شرفة منزلهم؛ ثمّة، أين بدا المسئول الشيوعيّ، البارز. فما كانَ من والدنا، إثرَ مُتابعته للإشارَة الطفلة، إلا الصياحَ بصاحبها حانقا ومُنتهراً: " امْش ِ من هنا، امش.. ". لقد رفعَ عندئذٍ من صَوْته، كي يَصلَ إلى مَسْمَع الآخر؛ الخصم القديم.

مُتعة تلصّصنا على حفلة " فيروز "، السنويّة، كانت من ضحايا الحرب اللبنانيّة، الأهليّة.
كانت الحربُ في عامها الثاني، إذاً، عندما ترَكَ والدنا، نهائياً، العملَ الصيفيّ في الجناح السوفياتي بمعرض " دمشق "، الدوليّ: الجناح الأمريكيّ، الذي دُشِنَ إثر الزيارَة، التاريخيّة، للرئيس الأمريكيّ " نيكسون "؛ هذا الجناح، تعرّض ليلاً لمُحاولة تفجير بعبوَة ناسفة. أجهزة الأمن، العاجزة عن القبض على الفاعلين، ما لبثت كعادتها أن قامت باعتقالات عشوائيّة في مُحيط المَكان. سيق والدي إلى أحد فروع المخابرات، كي يَستعيدَ أيام النضال والسّجن، الفائتة. إلا أنهم أطلقوا سراحه، وفي اليوم التالي على الأثر.
على أخفاف ذلك الواقع التعِس، المُستجَدّ، كانت مُراهقتي تتسكّعُ هنا وهناك. كنتُ ذات عصر، صيفيّ، قد انتهيتُ إلى خيمَة بيع البطيخ، الكائنة على مشارف مَوقف " الجَوْزة "، سعياً للقاء " آدم ". هذا الصديق، كانَ أحياناً يتواجدُ ثمّة؛ بما أنّ شقيقه، الأكبر، يَعمل مع جماعة " كفتارو ". وكنتُ أهمّ بترك المَكان، الضاج بصوت المُنشذ " عبد الباسط عبد الصمد "، المُسجّل، حينما حضرَ أحد أولاد آل " لحو ". كانَ غاضباً للغايَة، يُردّدُ من حين لآخر وكأنما يُخاطب أطيافَ، غير مرئيّة: " وَلكْ أنا أبو الحَسَن.. ". ولم أفهم حقيقة ما كانَ مَبعث الغضبَة، إلا حينما ظهرَتْ على غرّة سيارَة بيضاء، من ماركة " رانج روفر ". ما أن حاذتْ موقفنا، حتى هتفَ بنا أحدُ ركاب سيارة الأمن تلك: " ولاه، ألم تنقلعوا بعدُ مع خيمتكم؟ "
" وبأيّ حقّ تمنعوننا من الرّزق، في آخر الأمر..؟ "، ردّ عليه " أبو الحسن " بقوّة وتحدّ. دقيقة على الأثر، وكانَ المُتحدّي مُتهالك القوى يتوسلُ لرجال الأمن، المُنهالين عليه لطماً ولكماً ورَكلاً. جَرْجروه إلى مَركبَة الرّعب، ثمّ مضوا به في سبيلهم وبأقصى سرعة. بيْدَ أنّ إطلاق سبيل صاحب الخيمَة، لم يكُ بأقلّ سرعة. هذا الفتى، الذي يكبرني بعام واحد على الأقل، أضحى فيما بعد داعيَة ً شهيراً. نعتُ " الدكتور "، الرّصين، صارَ يَسبق اسمه وكنيته؛ المُحيلة لكنيتنا نفسها: كنتُ، وما أفتأ، على حيرَة من أمر النعت ذاك؛ طالما أنّ صاحبَهُ قد رسبَ عدّة مرات في الشهادة الإعداديّة حتى زهدَ فيها، أخيراً.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأمكنة الكمائنُ 11: المَخطر المَشبوه
- الأمكنة الكمائنُ 10: الجوار المُتأجّج
- الأمكنة الكمائنُ 9: المَحفل المُزدوَج
- الأمكنة الكمائنُ 8: أسطحُ الأصحاب
- الأمكنة الكمائنُ 7: خرائبُ الرّغبة
- الأمكنة الكمائنُ 6: أوابدُ الوَجاهة
- الأمكنة الكمائنُ 5: بيتُ بَديع
- الأمكنة الكمائنُ 4: مَأوى آموجنيْ
- الأمكنة الكمائنُ 3: كهف الفتوّة
- الأمكنة الكمائنُ 2: حجرة الحَديقة
- الأمكنة الكمائنُ: جنينة جَميل
- الأوانس والجَواري 5
- الأوانس والجَواري 4
- الأوانس والجَواري 3
- الأوانس والجَواري 2
- ثمرَة الشرّ: الأوانس والجَواري
- المُتسكعون والمَجانين 4
- المُتسكعون والمَجانين 3
- المُتسكعون والمَجانين 2
- ثمرَة الشرّ: المُتسكعون والمَجانين


المزيد.....




- أولاد رزق 3.. قائمة أفلام عيد الأضحى المبارك 2024 و نجاح فيل ...
- مصر.. ما حقيقة إصابة الفنان القدير لطفي لبيب بشلل نصفي؟
- دور السينما بمصر والخليج تُعيد عرض فيلم -زهايمر- احتفالا بمي ...
- بعد فوزه بالأوسكار عن -الكتاب الأخضر-.. فاريلي يعود للكوميدي ...
- رواية -أمي وأعرفها- لأحمد طملية.. صور بليغة من سرديات المخيم ...
- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...
- فرنسا: مهرجان كان السينمائي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في تد ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأمكنة الكمائنُ 12: السّفح المُتسكع