أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد حمودي عباس - ألشيطان رجل .. ( قصة قصيره )















المزيد.....


ألشيطان رجل .. ( قصة قصيره )


حامد حمودي عباس

الحوار المتمدن-العدد: 3113 - 2010 / 9 / 2 - 22:50
المحور: الادب والفن
    


منذ أن امتلأت اجواء قريتنا بالحزن على فقدان الحاجه حسينه ، وعبله ابنتها لا تنقطع عن زيارتنا كل مساء ، بحجة المذاكرة مع اختي فوزيه ، في حين كانت في حقيقة الامر ، تسعى للاختلاء بأمي ، والحديث معها عن شيء لم أكن ادركه .. كانتا تجلسان بعيدا عنا ، حتى ان والدتي لم تكن تسمح لاختي بالاشتراك في ذلك الحديث ، مما أثار في نفسي ريبة جعلتني احاول في كل مرة ، التلصص من خلال أي مكان قريب ومتاح ، علني احصل على اطراف مما يتحدثن فيه .
كانت أمي تفهم أية حركة كنت اقوم بها ، فتعمد الى تحذيري من خلال نظراتها الحاده ، لتجعلني انسحب في كل مره ، مبتعدا عنهما ، وفي نفسي تلهف لمعرفة ذلك المجهول المتخفي .

وذات ليلة .. وبينما كانت امي تلح على عبله ، بأن تسرع بالعودة الى دار ابيها قبل هطول المطر ، وكانت عبله متمسكة بها لا ترغب بمغادرة المكان ، اشتد صوت البريق في الخارج ، معلنا بداية ليلة شتوية ، تتخللها زخات من المطر، سوف لن تنتهي على ما يبدو قبل حلول الصباح ، مما اضطر عبله الى الرحيل بعد ان ودعتها امي الى الباب .

تطلعت من خلال الشباك الوحيد في الجانب الايسر من غرفة فوزيه ، الى خارج الدار ، وكأنني تواق لمعرفة وجهة عبله ، بل راغب باللحاق بها لمعرفة سرها مع أمي .. في حين راحت اختي تقلب كراسة مدرسية بيدها ، وهي تجلس وسط سريرها المائل ، بسبب فقدانه لاحد ارجله الخشبية منذ زمن ، وكم رجتني باصلاحه ، غير أنني كنت في كل مرة ، اعدها خيرا دون ان أنفذ وعدي .

زجاجة الشباك المطلية بالبخار المنبعث من الداخل ، حالت بيني وبين ان ارى شيئا في الخارج ، فانسحبت لأستلقي بكامل جسدي على ما تبقى من مساحة على سرير فوزيه ، مبديا رغبتي بالتحدث معها :
- صاحبتك لم تشاركك الدرس في كل يوم تأتي فيه لزيارتك ، ويبدو انها تذاكر مع الوالده فقط .
- لا تتحدث بخبث .. ولا تتدخل فيما لا يعنيك .
إعتدلت جالسا وكنت قريبا جدا منها ، وقد هبطت نبرات صوتي خشية من ان تسمعني امي .
- لماذا لا تساعدينني على فهم ما بين عبله وامك ؟ .. ترى لماذا يتهامسن كلما التقيا بعيدا عني وعنك ؟ ( ممسكا بذقنها رافعا وجهها الى الاعلى ، محاولا ان استفيد من نظراتها في العثور على أي معنى يقصر المسافة بيني وبين ما اود معرفته ) .. ها ؟ .. قولي لي ما هو السر في حديثهما الذي لا يريد ان ينتهي ؟ .
هبطت من السرير وقذفت بكراستها باتجاهي وردت بعصبيه :
- اسألها .. اسل امك ؟ .. لماذا انا ، وانت تعرف جيدا بانني لم اشترك باي حديث معهما البته ؟ .. أو .. اذا كنت قادر فاسأل عبله نفسها ؟ .
- لا أمي ولا عبله ، سوف تستجيب لرغبتي في معرفة ذلك الطلسم الغريب .. وعلينا انا وانت ان نتعاون في الوصول الى الحقيقه .
- ( وهي تغادرني الى خارج الغرفه ) .. ابق اذا في حيرتك .. ودعني بعيدة عن وساوسك وهذيانك هذا .
لم تكن فوزيه تخشاني حينما تتحدث معي بهذه الطريقه ، على عكس ما كانت تلقاه بقية بنات القرية من اخوانهن .. فكثير ما بلغ سمعنا صوت جارتنا صبيحه ، ابنة الثامنة عشره ، وهي تصرخ جراء ما يسلطه اخوها مجيد عليها من عذاب ، ولأسباب لا تتعدى ردة فعل بسيطة قد يترجمها مجيد بكونها وقاحة بنات .

المكان من حولي وانا لا زلت جالس على سرير فوزيه ، بدأت تغمره برودة مشوبة برائحة التراب الآتية من الخارج ، وبدا لي وكأن سقف الغرفة ، راح يستجيب للطقس المحمل بالرطوبه ، فيظهر على البعض من اركانه لمعان يشبه اللمعان الذي تكتسي به صفحات الطين ، حينما تنسحب عنها ذنائب النهر ، ويخال لي بان المطر الهاطل من فوق ، اخذ يسيل داخل الجدار المتهالك ، ليشكل مساحة رمادية تنسحب رويدا رويدا من حافات السقف الى الاسفل ، منذرة بخطر لم نعد نهتم لحدوثه بحكم العاده ..

الفانوس النفطي القابع هناك على الارض ، بعد ان قامت فوزيه بازاحة الحصيرة المفروشة على ارض الغرفة من تحته ، لتتكون طية من تلك الحصيرة ، اوحت لي حينما نظرت اليها بامعان ، وكأنها انبوب من تلك الانابيب البلاستيكية التي تركناها صباح اليوم الفائت ، ولم نستخدمها لتكون متنفسا للمياه المتدفقه من حمام الدار .. وثمة صورة تتدلى على الجدار المقابل لباب الغرفة ، لحصان ابيض يجري على ساحل بحر من بحور العالم ، وقد امتقع لون احدى حوافره بتأثير لطخة من شاي ، او سائل ساخن آخر ، تجوار الصورة هناك على اليمين ، سلسلة رفيعة من المعدن ، تدلت من طرفها السفلي لوحة من القماش ، مطرز عليها اسم الله ، تحيطه مجموعة من الطيور المختلفة الانواع ..

باب الغرفة يفضي الى فضاء آخر صغير، هو المساحة التي نستقبل فيها الزوار ، وهناك على الكنبة الخشبية الوحيده ، كانت امي وعبله ، تجلسان على الدوام ، حيث لا يسمع منهن ما يدل على حديث ، غير همس يصاحبه هز الحواجب وحركة الايدي ، وتكرار مسح حبات العرق الناضح من الوجوه ، رغم ان الموسم هو موسم شتاء ، والجو بارد في الداخل الى حد ما .

الغرفة المقابله لغرفة فوزيه ، هي المخدع المخصص لوالدتي ، وقد استمرت على ابقائه عبق برائحة البخور ، حتى بعد مرور اكثر من اربعة اعوام على وفاة والدي متأثرا بمرض السرطان .. ولم توافق ابدا على إحداث أي تغيير في اثاث تلك الغرفة ، معلنة على الدوام بان فيها بقايا ابو العيله ، ولا يمكن ان يمس تلك البقايا أي سوء .. إنها امرأة مع ما تحمله من سمات صارمه ، لا زالت ذات محيا ينطق بالانوثة ، تلك الانوثة التي تمتلكها اغلب من يبلغن سن الاربعين ، وهن يبالغن في ان تكون الواحدة منهن حاضرة وبقوة ، في ذهن أي رجل .

لقد كانت تحرص على أن تتدلى ظفائرها المطلية بلون الحناء ، منسابة من اعماق رأسها ، من تحت شال أسود ، مرورا باذنيها اللواتي لم اراهن طيلة عمري الا مرات قليله ، في حين تنحسر نهايات الكم في فساتينها ، الى مواقع تظهر من خلالها زنودها المكتنزه ، وكفوفها المحاطة بهالة من القدسية الموحية بانهما مصدر للعطاء ، ومحفز للأيمان بالحياة دون استسلام .
- الحمد لله الذي قدرني على تزويج بناتي الثلاثه ، ولم تبقى لدي الا فوزيه ومحسن ، وأملي كبير بأن الله سيرزقني بمستقر لهما قبل أن أموت .. هكذا كانت تردد على الدوام وهي تقبل يدها حمدا لله على منته ورحمته .

قلت لها ذات يوم .. دعيني يا أمي اترك المدرسة ، واعمل مع الحاج مظهر في حقل تربية العجول ، كي اتقاضى اجرا يكون عونا لنا ، الى جانب الراتب التقاعدي للمرحوم أبي .
وافقت على الفور ، متعذرة بان الحاج مظهر ذاته ، لم يكن يحمل اكثر من تعليم الملالي ، وقد اصبح من تجار بيع اللحوم في المحافظة باسرها .. في الوقت الذي كان فيه أبي يمتلك الشهادة الاعداديه ، ومات وهو لا يزال مجرد موظف بسيط في مديرية الري ، وحين طالب بزيادة راتبه ذات يوم ، صاح المدير بوجهه .. الا تكتفي بأننا لا نلزمك بالحضور يوميا الى مقر المديرية في مركز المحافظه ، ونكتفي بتقاريرك عن منسوب نهر الفرات بالقرب من بيتك واسرتك ؟ .

منذ ذلك اليوم ، وأنا منشغل بالاشراف على تربية ما لا يقل عن عشرين عجل في الوجبة الواحده ، متضامنا مع مجموعة من العمال ، كان الحاج مظهر قد استورد أغلبهم من القرى المجاوره .

خرجت من غرفة فوزيه ، فلم اعثر عليها في فناء الدار، ولاحظت وجود امي وهي تعالج شيئا ما في احد أضافر يدها ، مستخدمة ابرة خياطه .. جلست قبالتها تاركا مسافة بيني وبينها ، مستندا على كومة من ملابس يبدو بانها كانت معدة للغسيل .. لمحت امي وهي تنظر الي وابتسامة لا تخلو من خبث ، تعلو شفتيها وكأنها تشعر بما في داخلي من حيرة ..
- كيف ستخرج يوم الغد الى العمل ، والمطر على هذه الدرجة من الشده ؟ .
قالتها وهي لا زالت تحفر في طرف اصبعها بحذر .
- أمي .. ما بال عبله ، لا تذاكر مع فوزيه و...
- وما بالك انت تبدو منشغلا بهذا الامر .. إنني اعلم كم انت فضولي بتتبع شؤون غيرك .
- أمي .. اعتبريني فضولي ومتطفل .. ولكن اخبريني عن ماذا تتحدثين انت واياها على مدى هذه الفترة الطويله ، وعن امور لا تريدين ان نطلع عليها انا وفوزيه .
غرزت الابرة الصغيرة في طرف كمها المنحسر الى الاعلى ، واشارت لي بالاقتراب ..
- محسن .. اتعدني بان تكون رجل ؟ .. أتعدني بأن لا تخبر احدا بما ساقوله لك ؟ .
- اعدك يا أمي ، بل ساكون عونا لكما في حل المشكلة ان كانت هناك مشكله .
- اسمع ما سأرويه لك ، وحينما تأتي فوزيه ساتوقف عن الحديث .
- اين هي فوزيه الان ؟
- مستلقيه على سريري ولابد انها ستغفو هناك .. اسمع .. وقبل ان ابدأ ، قم واخرج الفانوس من غرفة اختك خشية ان يشب حريق ، الجو غير مريح هذه الليله ..
نهضت بسرعة لانفذ الامر خشية ان تستثني امي عن نيتها باخباري بسرها الدفين .
- عبلة ياولدي ، تتعرض يوميا لضغط نفسي مهول ، جراء ملاحظتها المستمره ، بان والدها يصطحب معه في كل ليله ، صبيا لم يتعدى عمره الخامسة عشره ، وتقول بانه يبالغ في التستر على ذلك الصبي ، والانزواء معه في غرفة مغلقة ، وحينما تقترب عبله من باب الغرفة ، تسمع كلاما .. ( وبدأت أمي تتفتف في صدرها مع ترديد كلمة العياذ بالله ) ..
- ماذا كانت تسمع ؟
- تقول بأنها تسمع الصبي ، وهو يضحك بصوت مسموع ، وتسمع ايضا اصوات اخرى ، اللهم اعوذ بك من شر خلقك ..
- امي .. ماذا كانت عبله تسمع بالضبط ؟ .. وما هو سبب ضحك الصبي ؟ .
رنت امي الى وجهي باستغراب ، ونهضت من مكانها دون قصد بعينه ، وهي تقول :
- يبدو انك لا تريد ان تفهم ..
- وهل فهمت انت شيئا مما تقولينه ؟ ..
- صبي في الخامسة عشره ، يحضر مع رجل في سن الخامسة والاربعين ، ويدخل الى غرفة مغلقة ، ويضحك ، و ..
- وماذا يا أمي ؟
- عبله تشك بابيها بانه قد يكون شاذ مع الصبي ، افهمت ايها الغبي ؟ .
لاحضت امي تدفق الدم الى وجهي ، وتراجعي الى الخلف ، وكأن صعقة قد اصابت جسدي ، فنهضت من مكانها مرة اخرى ، وأطلت من باب غرفتها لتتأكد من كون فوزيه بعيدة عن احتمال اقتحام حديثها معي .. ثم عادت لتقترب مني وهي لا زالت واقفه :
- ما رأيك بهذه المعضله ؟ .. ألا تستحق اهتماما استثنائيا ، وعلينا مساعدة المسكينه عبله ؟ .. قد تقول باننا مالنا والدخول في مصيبة كهذه .. ولكن عبله إستنجدت بي وطلبت مني ان أعينها في التخلص من ورطتها الكبيره .. هل لديك الان رأي أو حل بعينه ؟ .
- كيف يمكنني ايجاد حل ، وانا لم اتأكد بعد من وضع الصبي ؟ .. كيف لي ان احكم على نتائج لم اراها ، ولم يبلغني عنها سوى ما ترويه عبله ، وهي في النهاية لم ترى شيئا بعينها وبشكل مباشر ؟ .
- على كل حال .. هذا هو سر حديثنا يوميا ، وانا احاول في كل مرة ، ان اتابع الامر معها ، طمعا في العثور على حلول تساعدها في الخروج من محنتها الكبيرة هذه .. أي رجال هؤلاء ؟ .. كيف له ان يشذ ، ولم يمضي على وفاة زوجته الكثير ؟ .. لماذا لايتزوج على سنة الله ورسوله ؟ .
كانت أمي وهي تعلن استغرابها من عدم زواج صابر والد عبله ، تمسح بضفائرها وتغير من خطوط استرسالها ، وعيونها مثبتة على السقف ، وقد لاحت لي ملامح من حياء ، كست وجنتيها فجعلتهما أكثر رونقا وجمال .
- أمي .. سوف احاول مساعدة عبله .
- كيف ؟ ..
- لو تمكنت انت من ان تشركيني معكما في ذات الحديث ، كي تطمئن عبله لي ، واحصل منها على المزيد من التفاصيل ، فسوف استطيع المساعده .
- مع ان الامر صعب جدا ، ولكنني ساحاول .

مر شهر على ذلك اللقاء بيني وبين أمي ، كنت خلاله مشحون بكل ما من شأنه أن يقربني من الحقيقة المتوارية وراء باب غرفة والد عبله .. ورغم أنني لم افلح بالحصول على امكانية التحدث مع عبله مباشرة لشدة حيائها من طرق الموضوع امامي .. فقد كنت احصل منها ، وعن بعد ، تفاصيل يومية عن مجريات الاحداث .. فصابر والدها لا زال مستمر باصطحاب ذلك الصبي كل يوم تقريبا ، وفي موعد محدد من النهار ، واول ما سعيت له ، هو معرفة من يكون ذلك الصبي بالضبط .. فعلمت بأنه يتيم مات ابوه في الأسر إبان الحرب العراقية الايرانيه ، فلحقته امه بعد اقل من شهرين ، ليبقى محمود ، وهذه هو اسمه ، بعهدة صهره ، زوج اخته ، حيث الحق بالعمل في احدى الورش المتخصصة ببناء تنانير الخبز المصنوعة من الطين ، ليوفر معيشته على الاقل ، كما كان ذلك الصهر يقول امام من يحتج على تشغيل الصبي بعمل شاق .

الوقت يمر ، ونفسي مشدودة لايجاد فرصة استطيع من خلالها ان اكون بالقرب من الغرفة اللعينة تلك ، كي اتمكن من رصد ما يجري في داخلها .. كنت تواق لسماع أي طرف من حديث بين الرجل والصبي ، وسأكون حينها متيقن جدا من سبب ذلك الاختلاط المريب بين الاثنين .... ولكن كيف ؟؟ ..

انتظرت حتى حان يوم السبت ، وهو اليوم الذي قرر الحاج مظهر ، صاحب الحقل الذي اعمل فيه ، أن يكون يوم عطلتي حسب التوزيع المعمول به لمنح العطل بين العمال ، وتهادت الى نفسي حزمة من قرارات استطعت اخيرا ان أمسك بواحد منها .. سوف اتسلل من خلال البستان الممتد على الطرف الشرقي لدار والد عبله ، فأشجار النخيل الكثيفة هناك ، كفيلة بتوفير ستر كاف لي لبلوغ الهدف بسهوله .

الطقس كان يميل الى الاعتدال ، والساعة تشير الى الواحدة ظهرا ، وهو الوقت الذي يكون فيه صابر ورفيقه في الدار كما علمت من أمي .. وقد انتهى بي طريقي عبر البستان المجاور للدار، الى ان اجلس القرفصاء ، قرب السياج الخارجي ، اترقب اية حركة من حولي .. الارض من تحتي كانت لا زالت موحلة بفعل زخات المطر في الايام السابقه ، وثمة مجموعة من طيور البط الداجنه ، غير بعيدة عن مكاني ، وهي تنبش باحثة عن طعامها في بركة آسنة .. افزعني كلب يقف على ربوة صغيرة امامي ، وقد اكتفى بالنظر باتجاهي ، يتلاعب بأذنيه ليكونا في وضع مناسب يتيح له تركيز عنصر المراقبه ، ليتحول بين لحظة واخرى لتفحص شيء على الارض ، ثم يعود للنظر إلي وبشكل جعلني مرتابا مما سيفعله.. إذن لابد من اجتياز الحاجز دون إبطاء ، وهكذا فعلت .. فقد قفزت وبخفة الى داخل الدار ، فوجدت نفسي وسط مساحة تختلط فيها النباتات البرية وقطع من حديد الخرده ، وبعض القناني الفارغه .. انه الاهمال بعينه لمساحة كان يمكن ان تستغل لزراعة الخضروات الموسمية كما نفعل نحن في دارنا .. لم اطل النظر لما حولي ، وتحركت بحذر باتجاه البناية الداخلية ، باحثا عن مكمن مناسب لي ، اتمكن من خلاله معرفة موقع الهدف ، وكان هدفي ، هو الوصول الى أقرب موقع يتيح لي سماع كلمة او حديث استدل منه على صحة شكوك أمي وعبله .

لم يكن صابر على وفاق مع أبي ، حين إختلفا على طبيعة التعامل مع البنوك الحكومية من حيث حرمة او جواز ايداع الرواتب فيها ، فوالدي كان متحمس للاستفادة من خدمات البنوك في عمليات التوفير ، غير ان صابر كان يرى في ذلك مسلكا لبلوغ الحرام .. انهما عدا ذلك يختلفان في كل شيء ، وكثير ما تنتهي سجالاتهما في مقهى القرية الى قطيعة .. واطول قطيعة حدثت بينهما عندما واجه ابي وبحزم ، قضية تزويج صفية ، وهي الابنة الوحيدة لمختار القرية ، الى مأمور المركز ، رغما عنها ، كونها تحب ابن خالتها وترغب بالزواج منه ، يومذاك ، وعندما إستنجد الشاب بأبي للتوسط في القضيه ، وكان والد عبله حاضرا في دار المختار ، اتهمه بكونه كافر ينتسب الى الشيوعيين الملحدين ، ولذا فهو يتصدى لكل مشروع يفضي لمرضاة الله .

وجدتني ابتسم حينما تذكرت تلك الحادثة ، والتي انتهت بقطيعة بيننا وبين عائلة صابر دامت لسنين .. وفجأة تهادى الى سمعي صوت عبله وهي تجيب على سؤال من أحدهم داخل الدار ، إنه والدها على ما يبدو ، إذ لايوجد أحد آخر معهما .. فاخيها الوحيد والذي يكبرها سنا ، غادر القرية في العام الماضي الى مركز المدينة بعد ان تزوج من ممرضة عملت في المستوصف الحكومي الوحيد في القريه ، رغم اعتراض ابيه حيث كان يرى في الممرضات تجسيدا للشيطان ...
- انا هنا يأبي ..
- أين وضعتي معطفي وقميصي الابيض ؟
- في نفس المكان .. على الكرسي كما تركتهما أنت .

ترى هل هو بمفرده الان ، أم أن الصبي معه ؟ .. لابد من التحرك وبسرعه صوب الغرفة ، ولكن اين هي بالضبط .. حسنا .. لاجرب ذلك الشباك ..
- خذ هذه ياولد .. ولا تعارض .
- لقد اعطيتني بالامس الكثير ، ولا استطيع تناول المزيد .
- لا عليك .. خذها حتى استطيع التفاهم معك بسهولة اكثر .
- لا أستطيع .. لا أريد ..
- لا تعاند .. سأغضب منك .. حسنا .. لنكمل حديثنا .. كم أنت سعيد بمصاحبتي ، أم انك لست سعيد بهذه المصاحبه ؟ .
لم اسمع ردا من الصبي ، بل حركة غير مفهومة بدت وكأنها اصطدام بقطعة أثاث .
- كن عاقلا .. ما بك ؟ .. لقد تغيرت حالك معي .. لماذا ؟ .
- انا متعب .. اريد الذهاب .. دعني اذهب .
- لا بأس .. ولكن عليك ان تخبرني الان .. ما بك ولماذا انت مرهق ؟ .
- اريد الذهاب .. احس بالتعب .. رأسي تدور ..
- طيب .. اذهب ولا تحدث اي ضوضاء اثناء خروجك من المنزل .
تراجعت الى الخلف ، متوجها وبسرعة الى سياج الدار ، وقفزت من فوقه لأجد نفسي في الخارج ، وجريت متوجها الى مكان يتيح لي رؤية الصبي وهو يخرج من الباب الرئيسية للمنزل .. كان الصبي محمود ، يسير ببطيء وكفه اليمنى مثبتتة على جبهته .. ويترنح بشكل يثير الشفقه .. اعترضت سبيله وبطريقة اوحت له بأنني كنت اسير بعكس اتجاهه لبلوغ هدف ما ..
- ما بك يا محمود ؟ .. هل أصابك مكروه ؟ .
- كلا .. لا شيء .. لا ..
- تعال .. لنجلس قليلا هنا .. وحدثني ما بك .. اراك وكأنك مريض .. أو لنكمل طريقنا الى حيث داركم .. ها .. قل لي ما بك ؟ .
- لا شيء .. لا شيء .
- لقد شاهدتك تخرج من بيت صابر ..
تهاوى فجأة وجلس على الارض ..
- صابر .. نعم كنت هناك .
- ماذا تفعل يامحمود هناك ، صابر ليس له اولاد في سنك ؟ .
لقد كانت معركة طويلة ، تلك التي خضتها مع محمود ، قبل أن افلح في الحصول على مكامن الحقيقة في علاقته مع والد عبله .. ومن يومها .. وأنا عازف عن الاقتناع ، بأن لتداعيات الجسد البشري حدود يمكن ان تتوقف عندها ، أو يجري ايقافها قسرا ، وخلافا لما فيها من طبيعة ترتد احيانا الى أصولها في الغابه ..
لم يطل بي المطاف وأنا أحبس في داخلي سر تلك الصحبة غير السوية بين والد عبله ومحمود ، فقد توفي الرجل بعد شهرين بالسكتة القلبيه ، وهو يسير في طريقه الى داره عائدا من مقهى القريه .. وانتقلت عبله للعيش مع اخيها في المدينه .. ولم تعد أمي منشغلة بغير حالها ، والبحث عن فرصة لزواج ابنتها فوزيه ..



#حامد_حمودي_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رافقوني إلى القاع .. فذلك أجدى لمعايشة الحقيقه .
- اليسار في بلادنا ، وتخلفه عن ريادة الحركة الشعبيه .
- رمضان .. شهر الفقراء
- حينما تؤمن أمة ، بأن سكينا تنطق !! .
- مصير كادت أن تقرره حبة تمر
- إحكام العقل ، وما ينتظرنا في رمضان .
- للرجل ذكرى ، مازالت موقدة في ذاكرة العراق .
- لماذا نحن ( خارج منظومة العصر ) ؟؟
- تحريف المناهج التربوية في العراق ، لمصلحة من ؟ ..
- يوم في دار العداله
- أللهم لا شماته ....
- رغم ما يقال .. سيبقى النظام الاشتراكي هو الافضل .
- وجهة نظر من واقع الحال
- من قاع الحياة
- خطاب مفتوح لمؤسسة الحوار المتمدن
- لماذا يلاحقنا إخواننا في الكويت ، بديونهم في هذا الزمن الصعب ...
- ألقطة سيسيليا ...
- المرأة في بلادنا .. بين التمييز والتميز .
- من هو المسؤول عن مأساة ( منتهى ) ؟؟ .
- أنا والمجانين


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد حمودي عباس - ألشيطان رجل .. ( قصة قصيره )