أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كريم الثوري - تقديم لديوان: السواد... يا لونيَ المفضّل.. ! للشاعر كريم الثوري















المزيد.....


تقديم لديوان: السواد... يا لونيَ المفضّل.. ! للشاعر كريم الثوري


كريم الثوري

الحوار المتمدن-العدد: 2951 - 2010 / 3 / 21 - 11:00
المحور: الادب والفن
    


تقديم لديوان: السواد... يا لونيَ المفضّل.. ! للشاعر كريم الثوري
د. حسين سرمك حسن
المقدمة:

أصابع عامل البناء الخشنة..

تقطر شعرا !!


حسين سرمك حسن

بغداد المحروسة – 2009





(في الطريق

سأله قلبه: الى أين هذه المرة؟

أيها الغريب

أما آن لك أن تستريح

التفت إليه ساهماً

وهو يتحسس شفتيه

فقد علق شيء فيهما

من فمها.. كانت تسبح

بعدما كانتا ذابلتين بدمه

مرَرَ إصبعه على شفته العليا

ليتفقد ماذا يحصل بالضبط

فغارت شفتهِ السفلى

خاصمته...

منذ ذلك اليوم والى الآن

ما شك قط بإصبعه

فهو إشارته

وما كذبه

وهو دليله

وما خذله

حتى صار الرجل الوحيد

من صنف الذكور

في العالم اجمع

حينما ينام

وحينما يصحو

يضع إصبعه في فمه

ليتحسس أمان العالم

ويطرد الملل كلما يباغته

ويمضغ دونما حليب رضاعة

رضابها....

وقد عاد كطفل صغير

بملابس أهل مدينة الثورة

الممزقة

حافي القدمين

كانت عيناه

كبيرتين وشرستين..)

(كريم الثوري)

من قصيدة (محراب الكلمات)



«إيه أبانا (نانا)

إنّ تلك المدينة قد حوّلت إلى رميم

وملأ شعبها، وليس كسر الفخّار، كل محلاتها

وتصدعت جدرانها والناس يئنون

في أبوابها العالية، التي كانوا فيها يتنـزهون

رميت جثث الموتى

وفي شوارعها المشجرة، حيث كانت تُنصب الولائم

استلقوا متناثرين

وفي كل طرقاتها التي كانوا فيها يتنـزهون

سجت جثث الموتى

وفي ميادينها حيث كانت تقام الاحتفالات

استلقى البشر بالأكوام

(أور) التي أكل الجوع أقوياءها وضعفاءها

وكوت النيران الآباء والأمهات الذين لم يبرحوا منازلهم

والأطفال المضطجعون في أحضان أمهاتهم

كالأسماك حملتهم المياه بعيداً

وفي المدينة هجرت الزوجة وهجُر الابن

وانتثرت الممتلكات في كلّ جانب

أوّاه يا (نانا)

لقد دُمّرت (أور)

وشرّد أهلها..»

هذه قصيدة ترثي (أور) المدينة العراقية العظيمة التي أحرقها العيلاميون بعد أن وصلوا أسوارها التي بناها (أور – نمو) عالية (كعلو الجبل المضيء) وبعد انقضاء عدة سنين، عندما أصبحت (أور) مدينة مزدهرة مرّة أخرى كانت فاجعة دمارها تُذكر بالأسى وترثى بألم من قبل السومريين الذين اعتبروا خرابها كارثة وطنية.

.. وهكذا يمتد على أرض الرافدين، ومنذ فجر التاريخ نشيجٌ دامٍ متواصل، وحبل أسىً ودموع ورثاء غليظ يصل قلوب ووجدان الأبناء الممزقة في عام 2009 بأرواح الأجداد المثكولة التي كتبت بمداد انسحاقها هذه القصيدة قبل (4000 سنة) في لونيها المفضلّين هما: الأحمر والأسود، وليس على طريقة (ستندال) في روايته الشهيرة بطبيعة الحال. بلاد كانت الآلهة فيها تبكي مشفقة، وهي تخلق الإنسان الأول فيها وتتساءل: في أي أرض سألقيك؟ وأيّ عذاب ستتحمل؟ وفي أيّ جحيم ستصطلي؟.ولـيس غريبـاً أنّ شـعراء العـراق المقتدرين قد حملوا الراية، راية الرثاء، وصانوا الأمانة بمثابرة وحماسة، ماداموا يقفون محطّمي النفوس ومحبطين وهم يرسلون النظرة نفسها التي نظر فيها الشاعر السومري القديم إلى مدينته (أور) وهو يسطر بدموعه مرثيته الشهيرة تلك.

والآن.. يأتي كريم الثوري في مجموعته هذه: (السواد.. يا لوني المفضل) ليلتقط الخيط الأسود ويواصل المسيرة بتفرّد منذ لحظة الإهداء، إهداء النص الأول في كتابه الشعري هذا وهو (عائلة الخراب الجميل)، حيث أهداه إلى: العراق.. عائلة متشابهة في الموت والاختفاء. ومن الظواهر الهامة جدا هي أن أكبر كم في تاريخ الأدب العراقي -شعرا ونثرا -في إهداء النصوص والكتب والمؤلفات إلى العراق وما يتضمنه من معاني، يحصل الآن بعد احتلال بغداد المحروسة من قبل الأمريكان الخنازير الغزاة، ولعل أخيرها وليس آخرها الذي بين يدي مجموعة (ذات وطن) للشاعرة (نجاة عبد الله) التي جاء إهداؤها: إلى وطني السعيد.. العراق عليه السلام.. ثم أهدتها إلى أمها وابنتها.. أي إلى عائلتها، وهي سمة ثانية تسم النص الراهن، وهو العودة إلى العائلة، فلعل من الحالات الاستثنائية في تاريخ الشعوب على وجه الأرض هو أن يُختصر تاريخ بلاد بأكمله في تاريخ العائلة الصغيرة التي تكون شعبه وهي أصغر وحدة اجتماعية كما تُعرّف عادة في أدبيات علم الاجتماع. إنها حالة تطابق غير مسبوقة، أن "تتشخصن" محن البلاد وشدائدها الفاجعة في مصائر أفراد العائلة المحدّدة:

(أين أبي

ذهب في المُنعطف.... واختفى

أين أمي ؟

لحقتْ به وإلى الآن لا ندري...

أين اخي ؟

جمجمةٌ تبحث عن وحدها في القبر

غير خيطٍ من الدماءِ قد استدل عليها

أين أخي (سامح) ؟

ذهب بعشر سنيّه فرأى

قبور الموتى تمسح نصف الكون

وتزحف نحو الإمام علي.......)

وكريم يضرب هنا – وباقتدار – على الوتر الأسود – وهنا يبرز توفيقه في اختيار عنوان كتابه الشعري – لكارثة وصمت تاريخ بلاده وتتمثل في محنة "الاختفاء"، حيث يمكن القول أن بلاد الرافدين صارت أنموذج الأرض التي تبتلع أبناءها فيختفون.. ولا نبالغ إذا قلنا إن من اختفوا في الحروب والمجازر والمقابر والسجون والمعتقلات.. و.. و.. يعد بالملايين. اختفى الأب وتبعته الأم ثم الأبناء.. وبهذا ينكسر العمود الفقري للشعب بمجموعه.. ولعل الصورة الباهرة التي يصف الشاعر فيها رحيل شقيقه "سامح" إلى مقبرة تزحف نحو النجف تكتنز بالتعابير الدقيقة الجارحة.. فمن المفارقات التي يعيشها وطن كريم هو أنه سيصبح البلد الأكثر قبورا ومدافن بالقياس إلى عدد سكانه.. قد يقترح الشاعر توزيع القبور مع البطاقة التموينية المباركة.. المقابر تحاصر المدن وتقرضها تدريجيا وقد نصل الحد الذي كان فيه السومريون يدفنون موتاهم في سراديب في بيوتهم!! ولعلها مفارقة أخرى مضافة طاعنة في الدلالات أن مقبرة النجف وهي من أكبر المقابر في العالم اسمها (مقبرة السلام)!! حيث لم يعد العراقي يجد السلام الحقيقي والطمأنينة إلا في ظلمة القبر وبيئته السديمية الخانقة. يتكرر التساؤل: أين أخي؟ ليكشف أمامنا وجها آخر من وجوه محنة وطن كريم:

(أين أخي ؟

هو الذي استعصى عليه الموت

وقد نفق كل من اتصل بخليته الثقافية)

.. وتتمثل في وجه مرعب من وجوه الإختفاء الذي يتأسس على الانتماء السياسي الذي عبر عنه الشاعر بوصف ملطّف ومحايد (الخلية الثقافية)، فكريم، كما يبدو، وهو محق في موقفه هذا، قد نفض يديه من تراب اللعبة الحزبية وانحاز إلى وطنه الممزق مرة واحدة وإلى الأبد. وينتقل التساؤل الآن إلى الطرف المكمل لأضلاع مربع العائلة، بعد الأب والأم والأخ، وهي الأخت التي تلخّص محنة المرأة العراقية بل محنة العراق بأكمله:

(أين أختي ؟

مفعمة بالسواد تسترق النظر إليهم

خلف الشعار

أين أُختي ؟؟

وقد اجتزت شعرها

بمقص النعِاج

تلوح من فوق السطح

لعريسها الذي لن يأتي أبداً)

والأخت "مفعمة" بالسواد، السواد الذي هو البنية اللونية والمصيرية الطاغية على النصوص. ومن العجيب أن اللون المفضل للمرأة العراقية في الحياة اليومية الآن ومنذ سنين طوال هو اللون الأسود !!. ويهمني هنا أن أتوقف عند أطروحة نقدية هامة تثيرها نصوص الثوري وتتعلق بمصطلح "الناقد الموضوعي" الفولاذي. وهذه الأطروحة تحيلنا إلى معضلة مركزية في المعرفة البشرية عبر تاريخها وتتمثل في صلة الذاتي بالموضوعية، والتي قدم التحليل النفسي أعظم أفكاره الريادية في مجالها حيث يرى أن:

(الذاتية حال في الموضوعية. فالمعرفة في صميمها إنما هي علاقة بين ذات وموضوع , المخاطب فيها إنما هو حال في المتكلم, فإذا ما اكتملت معرفة الذات كان ذلك إيذانا بمعرفة الآخر في الذات، ومن ثم ستظل الموضوعية الحقة هي الفطنة إلى حتمية الذاتية. ولما كان الأمر كذلك إذ يستحيل أمر الموضوعية المطلقة للإنسان, فأحسب أن الأمر واجب عليّ هنا بأن اعلق الحكم (أن أضع العالم بين قوسين) مهما كان تصوري لموضوعية تدرك حتمية الذاتية ن تلك الموضوعية التي تغيب عن منظري جمهرة من المدارس التي استندت إلى وهمها في رحلة اصطناعها لمفاهيمها, بتقليدها للعلوم الطبيعية متناسين أنه لا وجه للقياس بين قطعة الحديد والإنسان, أو حتى كلب بافلوف أو فأر تورنديك, بل وقرد كوفكا او كوهلر. وقد رأينا كيف أن نظرية تعلّم تنطلق من الكلب اختلفت نتائجها وقوانينها عن نظرية تعلم أخرى انتقلت من القرد, آنئذ أحسب أن القارئ سيعضد معنا رأي (اميرسون) إذ يرى أن ما في مخ العالم آنئذ,إنما هو ذاته ما في مخ الكلب (أو الفار أو القرد, أو أي سياق آخر غير الإنسان بما هو إنسان). ترى أنستبدل الذي هو أدنى , بالذي هو خير؟*.

إن أول شيء أثاره تساؤل كريم الموجع: أين أخي ؟ في نفسي، هو المشهد الذي علق بأقدامه الأميبية اللزجة في ذاكرتي حتى اليوم وسيلاحقني حتى الموت، وهو مشهد الدائرة الحمراء التي خلفتها إطلاقة القناص المعادي في الناحية اليسرى من صدر أخي الشهيد. ولا أعلم أي موضوعية حديدية تُطلب مني عندما يتساءل كريم بحرقة عن أخيه الراحل المغدور "سامح". ورغم ذلك فإن وعي كريم الشعري بأصول العملية الشعرية وباشتراطات بناء القصيدة لم تتخلخل بانفعاله الجامح، ظلت بصيرته الشعرية صاحية وحادة النظر وهي تبني الصور المتلاحقة المعبرة عن التساؤلات المتتالية، وها هو يسترجع شيئا من مخزون لاشعوره الجمعي في استعارة قرآنية تلاحق "المختفين"؛ السابقين.. السابقين:

(أين أخي ؟

والسابقون السابقون

أولئك المقربون

في جنات النعيم)

لكن كريم لا يستطيع أن يصنف ذاته إلا ضمن: اللاحقين.. اللاحقين كما توحي دلالات الإحالة القرآنية السابقة.. ففي بلاده تحول العالم الأسفل – ولأول مرة في التاريخ البشري – إلى عالم أعلى تعبث فيه بحرية متناهية غيلان الموت والخراب وهي تولغ في دم أبناء وطنه.. أبيه وأمه وأخيه وأخته.. والآخرين الذين لا يستطيع التنصل عن مسؤوليته تجاه مصائرهم:

(الفرق الشاسع بيني وبينكم

أيُها الأموات

إنني اسكنُ ها هنا

جسداً مبعثراً

وأنتم

الأنفاس التي أستَنشقها.

أرواح مسعورة

تشدني

إلى عطبكم السرمدي.

جميل هو خرابكم

أيتها الأرواح الشريرة)

ومن الفرضيات التي اشتغلت عليها كثيرا هي أن النص الأول الذي يختاره المبدع لأي من كتبه، يجمع، غالبا، الثيمات المركزية لنصوص كتابه المتبقية، فاختيار النص المعبر لا يأتي عبثا، وكل سلوك بشري بدءا من زلات القلم واللسان والنسيانات العابرة – كما أثبت معلم فيينا – محكوم بقصدية مستترة كامنة في اللاشعور. ومن ثيمات السواد والموت والعائلة المثكولة والاختفاء.. تنسل خيوط نسيج النصوص اللاحقة لتلتحم وتتظافر في وحدة خلاقة. يتضح هذا بدقة في النص الثاني: "شيء آخر" ومنذ مقطعه الأول الذي يفتتح بالفعل "توارى" الذي يشي بالاختفاء -المعضلة المركزية في الحياة الجحيمية التي تحياها بلاد الشاعر -:

( توارى بالصمت

فالنملة عمياء

وتعرف أن قدما ً تتعقبها

ما شغلها صَخب الأثر الآتي

رفعتها من قدرها العارف

وهي تسعى...)

ولكن مطاردة النملة العمياء -وهي صورة باذخة -وهي تؤسس مجدها المؤثل على أساس عمى القدم العدوانية التي تلاحقها عن إكمال مسيرة "السعي"، والسعي بحد ذاته هدف بالنسبة لكريم كما سنرى.. فالمهم أن لا تستكين الإرادة ولا تجتث أسسها، المهم هو المحاولة المستميتة التي ترتعش فيها خلجات الأمل في أحشاء سواد ظلمة اليأس، ظلمة لا تشل انطلاقة الأمل الشعري حيث يتوحد الشاعر بالطبيعة في تجسد صوفي بالغ الدلالة:

(في الصباح الباكر

وقبل حلول الضوء الصادق

ثمة هسيس غير مباغت

حين يستفيق النهار

ليسدل الستار على ظلمة أخرى

تستفيق الكائنات

كلٌ حسب ترتيبها

وقربها في تفعيل اللحظة

وأنت تراقب...)

وهنا – في خاتمة المقطع السابق يتحول الشاعر إلى استخدام ضمير المخاطب بعد أن استخدم ضمير المتكلم – وهذان الضميران سيستوليان على ساحة الخطاب النصي كلّه في ما يتعلق بالطرف الذكوري في الخطاب، أما بالنسبة للطرف الأنثوي – كما سنرى – فسيكون التعبير بضمير المخاطب والغائب وسنستكشف أسباب ذلك لاحقا. إن الشاعر يخاطب ذاته، يغلق دائرة الخطاب على ذاته، لكنها -الدائرة -تنفتح من خلال كوّة التشارك -وهذه ميزة نصوص كريم – بين دائرة الهم الفردي ودائرة الهم الجمعي، وفي منطقة التقاطع الرمادية – هل السوداء أدق؟؟؟ -يقدم الشاعر تأملات فلسفية عميقة في الوجود والحياة والكون.. تأملات عميقة يوظف فيها الشاعر قدراته المعرفية الخلاقة لتأصيل معرفة الإنسان بقدره الأسود الذي ينتظره.. من التراب جئت وإلى التراب تعود.. هذه الحكمة المقدسة المتوارثة.. لكن بالنسبة لكريم، فإن حكمته الحاسمة: من السواد جئت، وإلى السواد تعود!!

(تنام وحيدا

وتنهض دون نهار

فما عاد المكان يطيقُ المكان

ولا الزمان بذات جدوى

الوعي المرعب...

فتثمل حتى تُروى

كلمات...

بعدما فقدت اتزانك المحزوز

لتعرف ريثما تكتشف

أن لا جديد

في جمجمتك الزرقاء

الخاوية...)

فهو ينهض دون نهار.. أي في ظلمة الخواء الدامسة.. في ظلمة اليأس التي تحيط بوجوده حتى أنه يخرج يده فلا يراها.. حتى الحب صار مشروع كلمة بائسة.. عظام حروف على مائدة الكلام يتساءل عنها الشاعر بحرقة:

(الحب كلمة سمعتها يوما

لمذياع قديم

يوم كنت طرياً تتمايل

آمنت بها

فدلتك على الطريق

اللارجعة فيها

تعيش غريبا

لتموت متمردا

ترقبها بقربك

تلك التي لم تلتقِ من قبل

ورسمتها دون مقدمات

طيف أنثى

يؤنس وحشتك

ويدلك على ما فاتك

وما لم تطله يوما

أنت ولا ظلك...)

هنا يدخل الظل الأنثوي الذي يكفي حضوره لإشعال الإحساس بالأمومة والمحبة ودفء الرحم الأمومي، لكن الشاعر الذي لم تبق له النوائب الفاجعات التي عصفت بوطنه – وهذا الوطن الجريح هو المكافيء الفعلي والرمزي للرحم الأمومي الحاني وقد مُزّق بلا رحمة – فسحة للمتعة بعطايا الحب ودفئه، يلاحقه حدّ اللعنة عبء مميت من "التضاد الوجداني – ambivalence "، بين إقبال وإدبار، وتقدم وتراجع، ولهفة وخيبة، وهذا الموقف المتضاد سيحكم استجابة الشاعر في نصوصه كلها، وحتى نهاية هذه المجموعة. لنأخذ المقطع الأول من القصيدة التالية وسنرى قوة إحكام الوحدة الموضوعية لهذه النصوص رغم تباعد عنواناتها الماكرة:

(المرأة التي تولد كل ليلة

تموت في الصباح الباكر

وقبل سطوع الشمس

يعجبه هذا الإحتمال

فهي تطرد مللها مساءً

وهو يعيد تركيبها في النهار

لعبة حلوة

بين اثنين من المجانين

بالوكالة

هي على طريقته

وهو على طريقتها..)

إن اللعبة المفتوحة على عذاب -أو لذة لا فرق -الروح المازوخية -وهي سمة في الشخصية العراقية تتجلى في الشعر خصوصا -بين ميلاد المرأة ليلا واختفائها -موتها -صباحا في لعبة مفتوحة تتكرر بلا رجاء لخاتمة قريبة، هي (لعبة حلوة) كما يصفها الشاعر، حلوة بعذاباتها المريرة التي ستمتد حتى نهاية الكتاب الشعري هذا. لنأخذ هذا المقطع من قصيدة لاحقة:

(تلعب عليه لتطرد مللها

يلعب عليها ليُعيد المستحيل

انتصارها عليه

رغبتهُ المقموعة

في استعادة خليته

يوم كان يجمع التبرعات

لحزبه المهزوم...

انتصارهُ عليها

انتصابه الخائب

لمجانسة غير متزنة

كهولة عمره

بكارتها المغتصبة

سلفاً...)

وهنا سنواجه بصورة صادمة تُحسب للشاعر في تصميمه لبناء قصيدته العودة إلى الطرق على مفاصل اللعبة السياسية التي ضيّعت آمال وطنه وأجهضت رؤاه المفعمة بتجليات مستقبل صار بعيدا.. وقد يكون أجهض إلى الأبد.. لقد نفض الشاعر – كما قلت -يديه من تراب أمل النماء والنهوض.. سواد في سواد في سواد.. وأينما يولي الشاعر وجهه في العراق – أو في مناخ ذكرياته عنه وهو في المنافي الجائرة التي أكره عليها – فثمة وجه الموت الكالح القاسي الملامح.

إن عنوانا مدروسا مثل (السواد.. يا لوني المفضل!) والذي يتضمن كل معاني الخراب التي يرمز إليها باللون الأسود الذي هو لون هذه الأرض منذ فجر تاريخها، يلخص الفكرة المهيمنة على نصوص المجموعة بأكملها. ففي اللون الأسود تتجمع معاني الخراب والدمار واليأس والثكل والموت. ففي النص الذي يحمل عنوان المجموعة نفسه يصدمنا الشاعر بالبنية السوداء والسوداوية التي تخيم على حياته منذ ولادته، فهو الاستثناء الوحيد بين المواليد البشريين الذي يأتي ملفوفا بالسواد، يلتصق به هذا اللون بصورة لا مهرب منها كجلده أو كملامح وجهه.. السواد واليأس والخيبة هي قدره المحتم:

(الشارع مُزفَت بالأسود

قبور الموتى ووحشة القبر

عيون تتصيدني

رمادها أسود

الأحياء نواح أزلي

فقراء الأزقة والحارات

وشاح أمي

حين تفك عصابتها

قبلات أبي

حين يرمي كوفيته

تحت السرير

أسرار سود تعبث بها الفئران

الفأر الأبيض محض مصادفة

فينقض عليه القط الأسود

معطوب العين والساق اليسرى والذيل المبتور

قبلات معللتي

وهي تراقبني بزاوية حادة

مراسيل حبيبتي السرية

دون علم وليها الفقيه)

... ومن الخراب العائلي الذي افتتح به كتابه، إلى الخراب الشخصي ثم الخراب الوطني. وطن الشاعر استبيح تماما، أرضا وتاريخا ومقدسات ومقدرات، وخيم عليه ليل أسود.. طويل.. طويل:

(كم ليلة ستجيء وكم ليلة ستمضي ؟

كم نهار سيذهب وكم نهار سيأتي ؟

والعراق جريح

مَن تَلمَسَ جرحهُ ليعرف

أيّ كائن خرافي يرفس تحته

وأيّ مارد يمتطي صهوة جواده

كم ليلة ستجىء وكم نهار سيمضي

وكم سيطول بنا المقام مشرذمين

في بلدنا الأم وفي غربتنا كلاجئين

دائنا من دائهِ ودوائنا في شفائه

يئن فنئن.....فيطول بنا الأنين

من يوقف أنينه والمقاولون يحفرون الخنادق

لحروب الردة بعد الردة

كم هو مُمل النهار

كذا هو الليل طويل

طويل يا عراق

ومُمل....؟)

تابع القسم الثاني من الدراسة



#كريم_الثوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مصلى في مقر الحزب الشيوعي العراقي
- وهم معرفة
- حكايتي مع كمبيوتري القديم
- اصبعي منقع بالورثة 2
- حوار مع كلب عراقي 2
- اصبعي منقع بالوراثة
- مهر حواء
- الجمال ومدلول القبح في الجميل
- الديمقراطي الأخير
- الموت الذي تفرون منه
- انا منافق اذن انا موجود3
- رسالة نصية الى صديق العمر علي السعدي : دعك من السياسة واكتب ...
- ادم وعقدة التكوين
- خلود المطلبي في دور الراهبة
- بائع الاوهام
- انا منافق اذن انا موجود2
- انا منافق اذن انا موجود
- ماله هو من دون سائر الخلق
- السواد يالوني المفضل
- 3 دجاجات ...وديك ؟


المزيد.....




- أولاد رزق 3.. قائمة أفلام عيد الأضحى المبارك 2024 و نجاح فيل ...
- مصر.. ما حقيقة إصابة الفنان القدير لطفي لبيب بشلل نصفي؟
- دور السينما بمصر والخليج تُعيد عرض فيلم -زهايمر- احتفالا بمي ...
- بعد فوزه بالأوسكار عن -الكتاب الأخضر-.. فاريلي يعود للكوميدي ...
- رواية -أمي وأعرفها- لأحمد طملية.. صور بليغة من سرديات المخيم ...
- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...
- فرنسا: مهرجان كان السينمائي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في تد ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كريم الثوري - تقديم لديوان: السواد... يا لونيَ المفضّل.. ! للشاعر كريم الثوري