أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - فاطمة ناعوت - وردةُ أنطلياس، عصفورةُ الشمس














المزيد.....

وردةُ أنطلياس، عصفورةُ الشمس


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 2911 - 2010 / 2 / 8 - 00:07
المحور: سيرة ذاتية
    


دخلتُ كنيسةَ مار إلياس القديمة، بضيعة أنطلياس جوار بيروت، تملؤني رهبتان. رهبةُ وجودي في حَرَمٍ قدسيّ؛ أتأمل المصلّين جالسين في خشوع على المقاعد الخشبية. لا أحدَ يشعرُ بأحدٍ. كلٌّ مربوطٌ بخيطٍ أثيريّ يشدّه نحو السماء، بقدر ما يبعده عن الأرض، ومَن عليها. لم يشعر بدخولي المرتبكِ أحدٌ. ورهبةٌ أخرى وراءها معرفتي أنْ ها هنا تأتي فيروز كلَّ عام للصلاة. استقرَّ بصري على المذبح الواقع بين تمثال المسيح يسارًا والسيدة العذراء يمينًا. جال بصري إلى حيث النافذتين الرُّكنيتين تدخل عبرهما أشعةُ الشمس فتتكسّرُ على الأرضية الرخامية. ثمة فتاةٌ تجلسُ في الركن تطالعُ الكتابَ المقدس، وثمة طفلٌ يجلسُ جوار أمّه، تتمتم شفتاه بأسئلة حائرة يوجهها للسماء. تجول عيناي هنا وهناك بحثًا عنها في أرجاء المكان. لابد سأراها تجلسُ في مكان ما، تهمسُ: "أقولُ لطفلتي إذا الليلُ بردُ/ وصمتُ الرُّبى رُبًا لا تُحَدُّ/ نُصلّي فأنتِ صغيرة/ وإنَّ الصغارَ صلاتُهم لا تُردُّ/ أقولُ لجارتي ألا جئتِ نسهر/ فعندي تين ولوزٌ وسكر/ نغني فأنتِ وحيدة/ وإن الغناء يُخلّي انتظاركِ أقصر/ عندي بيت/ وأرضٌ صغيرة/ فأنا الآن يسكنني الأمان/ لا أبيعُ أرضي/ بِذَهبِ الأرض/ ترابُ بلادي/ ترابُ الجِنان/ وفيه ينامُ الزمان/ أقولُ لبيتنا/ إذا صِرتُ وحدي/ وهبّتْ ليالٍ بثلجٍ وبردِ/ ليالي وبيتي نارُ/ ويمضي الشتاء/ رفيقًا كغابةِ ورد." كَم خيطًا من الجمال والأمل والنورانية نمسكُ به ونحن نُصغي إلى تلك الكلمات؟ الطفولةُ التي تسكنُ قلبَ السماء. الصلاةُ التي تصلنا بخالقِنا الجميل. النظرُ إلى الآخر بعين الحبّ والحنوّ. صحنُ اللوز والتين والسكر الذي يطوّفُ بين الجيران. الشَّدو الذي يُخلّي العذابَ عذوبةً. أرضنُا التي نجودُ بدمائنا زودًا عنها. بلادنا التي غفوةٌ على أرضها تجعلُ الزمنَ يغفو جوارنا فنأمنَ مكرَه. بيتنا الدافئُ الذي يجعل قسوةَ الشتاء كمثل وردةٍ رفيقة حنون.
يرنُّ صوتُها العذبُ في أرجائي وأسمعُها تقول: "أومن أنْ خلفَ الحبّات الوادعات/ تزهو جنّات/ أومن أنْ خلفَ الليل العاتي الأمواج/ يعلو سراج/ أومنُ أنَّ القلبَ المُلقى في الأحزان/ يَلقى الحنان/ كُلّي إيمان/ أومن أنْ خلفَ الريح الهوجاء شفاه/ تتلو الصلاة/ أومن أنْ في صمتِ الكون المُقفلِ/ مَن يُصغي لي/ إنّي إذْ ترنو عيناني للسماء/ تصفو الأضواء/ تعلو الألحان/ كُلّي إيمان." فأعرفُ أن مع العسرِ يسرًا، وأن في قلبِ العتمة ثمة شعاعًا من نور يترقبُ عيونَنا.
تقولُ فيروز لا تنسي يا فاطمة أغنيتي التي تقول: "غنيتُ مكّةَ أهلَها الصيدَ/ والعيدُ يملأ أضلعي عيدا/ فرحوا فلألأ تحتَ كلِّ سمًا/ بيتٌ على بيتِ الهُدى زيدا/ وعلى اسم ربِّ العالمين على بُنيانهم/ كالشَّهبِ ممدودا/ يا قارئَ القرآنِ صلّي لهم/ أهلي هناك وطيب البيدا/ مَن راكعٌ ويداهُ آنستاه/ أنْ ليس يبقى البابُ موصودا/ أنا أينما صلّى الأنامُ رأتْ عيني السماء تفتحتْ جودا/ لو رملةٌ هتفتْ بمبدعها شجوًا/ لكنتُ لشجوها عودا/ ضجَّ الحجيجُ هناك فاشتبكي/ بفمي هنا يغر تغريدا/ وأعِزَّ ربِّي الناسَ كلهمُ/ بيضًا فلا فرقتَ أو سودا/ لا قفرةٌ إلا وتُخْصِبُها/ إلا ويُعطَي العطرَ لا عودا/ الأرضُ ربي وردةٌ وعِدَتْ بكَ أنتَ تقطفُ/ فاروِ موعودا/ وجمالُ وجهك لا يزالُ رجًا يرجَى/ وكلُّ سواه مردودا." وأقولُ لها ومَن ينسى يا أمُّ زياد؟
تُعلّمُنا فيروزُ كيف نحبُّ. تعلّمنا الحبَّ بمعناه الواسع الشاسع. حبَّ الله، وحبَّ الجمال، وحبَّ الخير. حبّ الوداعة، وحبَّ الآخر، مهما اختلفَ معنا. وحبَّ الطبيعة حتى في لحظات شراستها.
كنتُ مدعوة للمشاركة في مؤتمر "بيروت رائدةُ الحريّات في الشرق" بمؤسسة "الحركة الثقافية- أنطلياس" على مدى أيام ثلاثة من 5-7 نوفمبر. ولم أقدر أن أقاوم رغبةً ألحّت عليّ منذ سنوات. استرقتُ دقائقَ اختلستُها من برنامج المؤتمر المكثف الحاشد. خرجتُ خلسةً من إحدى الندوات وذهبتُ نحو كنيسة مار إلياس القديمة على مرمى حجر من الكنيسة الجديدة التي تجاور مقر الحركة الثقافية. سألتُ كلَّ عابرٍ قابلني في الطريق: "صحيح فيروز تأتي إلى هنا؟" وسبابتي تشيرُ إلى مبني الكنيسة القديم. فيبتسمون ويومئون: أنْ نعم، تأتي أمُّ ريما لتقيم قداسها هنا كلَّ عام. ثم أُردِف بسؤالي الثاني: "بمَ تشعرون وفيروز ابنةُ وطنكم: لبنان؟" فيجيبون: "ولو، عم نشعر بكلّ الفخر!"
ليس مثل صوتِ فيروزَ صوتٌ، وليس مثل كلماتِ منصور الرحباني كلماتٌ، ولا مثل موسيقى الرحابنة موسيقى. شيءٌ يشبه الحُلمَ الفردوسيّ في أرفع صوره وأعذبها. ثم يكبر "زياد" الابن، ويبدعُ في الموسيقى التي صدحت في أركان بيته صغيرًا، وفي جنبات طفولته. يكبرُ ليرسمَ بموسيقاه الحداثية وجهًا جديدًا لصوت فيروز. يحطّم الحائطَ الرابع، مثلما فعل بريخت في المسرح. فيطعِّم أغنياتِ أمّه بمقاطعَ من البروفات، لكي نتعلّم أن الجمالَ منثورٌ في كافة تفاصيل العمل الفيروزي. وخرج علينا بقطعة من أبدع ما يكون عنوانها "كيفك أنت".
وفي يوم خريفيّ جميل، الحادي والعشرين من نوفمبر، قررتِ السماءُ أن تهبَ الأرضَ هديةً جميلة تُزيلُ بها عن وجه الكوكب بعضَ أحزانه التي صنعتها الطبيعةُ وصنعها الإنسانُ وصنعتها الحروب، فمنحتنا طفلةَ الأبد وعصفورةَ الشمس وجارة القمر "نهاد حداد". عرفناها باسم فيروز، بعدما نثرت عذوبتها على أرجاء العالم على مدى نصف قرن. ولن يخمدَ صدى شدوها بين أرجاء الكون ولا بعد قرون. وأنا، ومنذ سنوات، آليتُ على نفسي عهدًا أن أكتبَ لها َّ كلَّ عام في عيدها مقالا، كهدية لا تليقُ بقامتها، ولا تفي بالقليل من الكثير الذي منحتنيه فيروز من رُقيٍّ وجمال وإيمان وحبٍّ للحياة وللسماء في آن. أدينُ لها بمثل ما أدينُ لكل الرموز التي علّمتني كيف أفكر وكيف أحب وكيف أحيا: غاندي، الأم تريزا، علي بن أبي طالب، أفلاطون، فلورانس نايت إنجيل، ابن رشد، طه حسين، محمود أمين العالم، وسواهم من تلك الأقانيم الجميلة التي منحتنا السماءُ إياها لكي نتعلم منها فكرةَ الحياة على نحوها الصحيح.-



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المهذّبون يموتون غرقًا
- اقرأوا تصحّوا!
- انظرْ خلفك -دون- غضب
- كلَّ عام ونحن أجمل!
- حوارٌ متمدِّنٌ في ثماني سنوات
- رجلُ الفصول الأربعة
- اسمُه: عبد الغفار مكاوي
- أولى كيمياء/ هندسة القاهرة
- المحطةُ الأخيرة
- هُنا الأقصر
- وتركنا العقلَ لأهله!
- لا شيءَ يشبهُني
- طيورُ الجنة تنقرُ طفولتنا
- المرأةُ، ذلك الكائنُ المدهش
- مصنعُ السعادة
- شباب اليوم يعاتبون:وطني حبيبي الوطن الأكبر
- سور في الرأس، سأسرق منه قطعةً
- التواطؤ على النفس
- حاجات حلوة، وحاجات لأ
- التخلُّص من آدم


المزيد.....




- أجزاء من فئران بشرائح خبز -توست- تدفع بالشركة لاستدعاء المنت ...
- مسؤولون يوضحون -نافذة فرصة- تراها روسيا بهجماتها في أوكرانيا ...
- مصر.. ساويرس يثير تفاعلا برد على أكاديمي إماراتي حول مطار دب ...
- فرق الإنقاذ تبحث عن المنكوبين جرّاء الفيضانات في البرازيل
- العثور على بقايا فئران سوداء في منتج غذائي ياباني شهير
- سيئول وواشنطن وطوكيو تؤكد عزمها على مواجهة تهديدات كوريا الش ...
- حُمّى تصيب الاتحاد الأوروبي
- خبير عسكري: التدريبات الروسية بالأسلحة النووية التكتيكية إشا ...
- التحضير لمحاكمة قادة أوكرانيا
- المقاتلون من فرنسا يحتمون بأقبية -تشاسوف يار-


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - فاطمة ناعوت - وردةُ أنطلياس، عصفورةُ الشمس