أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - فتحى سيد فرج - لماذا لم يكتمل تشكل الدولة الحديثة في مصر ؟ 2 من 3















المزيد.....


لماذا لم يكتمل تشكل الدولة الحديثة في مصر ؟ 2 من 3


فتحى سيد فرج

الحوار المتمدن-العدد: 2774 - 2009 / 9 / 19 - 14:59
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


جاء تطور الدولة القومية الحديثة في أوروبا، نتيجة لنضج عوامل موضوعية داخلية، تمثلت في انتصار الرأسمالية على الإقطاع بعد صراع مستميت امتـد قرونا عديدة، سبقتها ورافقتها عوامل مساعدة فقـد جاءت النهضة في القرن الخامس عشر حيث انهمكت البرجوازية الجنينية في التنمية والتصنيع، ترافق مع هذه النهضة حركة الإصلاح الديني التي أنهت سطوة الكنيسة الكاثوليكية وبزوغ المذهب البروتستناتي على يد (مارتن لوثر) اعتبارا من عام 1517، ثم جاءت حركة التنوير في القرن السابع عشر والتي استمرت حتى الثورة الفرنسية في عام 1789، تلك الحركة التي توسلت الأدب والفلسفة في محاربة الجهل والخرافة والتخلي عن المعارف التقليدية، والتي ترافقت مع حركة التطور في العلوم بالانتقال إلى نظريات العلم الحديث، كل هـذا مهـد للثورة البرجوازية والصناعية فتحررت أوربا من ربقة المجتمع التقليدي القـديم وتحقق فيها تطور وتنمية غير مسبوقين، وكانت أهم سمات هذه الدولة إعطاء الأولوية إلى مفهوم الفرد الحر المتعقل الذي أصبح مناط أهتمام هذه الدولة والعنصر الرئيسي لإكتسابها الشرعية. هـذا في أوربا، أما فيما يسمى بالعالم العربي فهناك من يرى أن بعض معالم الدولة الحـديثة قد جاءت في بـدايات القرن التاسع عشر مع تطلعات محمد علي باشا في مصر لتأسيس دولة حديثة على غرار ما تحقق في أوربا، فقد عمل على تنظيم اقتصاديات مصر فى الزراعة والصناعة والتجارة، واهتم بالتعليم لخدمة دور الدولة فى الاقتصاد والادارة، وقام ببناء جيش قوي وحديث، وعمل على تنظيم الادارة المصرية لتخدم أغراض مشروعات البناء والتنمية فأقام لكل مجال ديوانا يختص بشؤونه (الديوان وزارة بالمعنى المعاصر) من ذلك دواوين : البحرية والحربية والتجارة والخارجية والمدارس، وتمشيا مع قاعدة الاحتكار التى أدار محمد على الاقتصاد على أساسها نراه يعيد النظر فى التقسيم الادارى للبلاد لتوحيد الأعباء المالية المفروضة فقسم البلاد الى سبع مديريات متساوية، وفى مجال القضاء استحدث محمد "جمعية الحقانية" (1842) وهى هيئة قضائية تختص بمحاكمة كبار الموظفين ، وأنشأ مجلس التجارة وهو محكمة تجارية تختص بالفصل فى المنازعات التجارية التى تنشأ بين الأهالى أو بينهم وبين الأجانب .
هذا وقد سارت عديد من بلدان العالم العربي على نفس النهج المصري خاصة بعد تحررها من النير الاستعماري وبدأت في تشكيل بعض معالم الدولة الحديثة، ورغم كل ذلك فهناك من يرى أن مشروع بناء الدولة القومية الحديثة كما حدث في أوروبا لم يتم تشكيله في مصر أو غيرها من البلدان العربية الأخري، ويعود ذلك لأسباب عديدة من الصعب الإحاطة بها لذا سوف احاول استعراض بعضها في الآتي :

أولا : التكوين الحضاري وطبيعة نشأة الدولة
لا شك أن بلدان ما يسمى حاليا بالعالم العربي على وحه العموم ومصر على وجه الخصوص تختلف في تكوينها الحضاري وطبيعة نشأة الدولة بها، ومن ثم مسار تطورها التاريخي عن طبيعة التكوين والتطور في أوروبا، فمن الصعب أن نقارن تاريخ تكون الدولة في مصر بتاريخ تشكل أي دولة أخرى في العالم، فمصر لم تسبق العالم كدولة مركزية فقط وإنما هي أطول دولة حافظت على وحدتها القومية عبر التاريخ، وفي بلاد الرافدين شكل السومريون أول "دولة مدينة" ثم توالت دول المدينة للأكاديين والبابليين والآشوريين والآراميين كدول اسر يطلق عليها سلالة، كانت كل دولة تقضي على ما قبلها ولم تتوحد إلا لفترات قليلة، وكذلك تكونت دول مدن هامشية في فترات تاريخية متعاقبة استمرت لفترات قصير في مناطق آخري في هذه المنطقة كدولة سبأ في اليمن، وبعض دول المدن في بلاد المغرب .
من هنا لا يمكن النظر إلى ما يسمى بالعالم العربي بشكل شمولي أو كوحدة واحدة فهو يتشكل من ثلاثة مناطق شديدة الاختلاف في بناها الاجتماعية وتنظيماتها السياسية والاقتصادية، فهناك المشرق العربي، وبلاد النيل، وأخيرا المغرب العربي، في هذا المجموع لمصر سمات خاصة حيث أن النظام الاجتماعي القديم قد استقر على عدد من الملامح المميزة، استند إليها التطور اللاحق، فعلى خلاف المناطق الأخرى في المشرق والمغرب العربي التي كان الرعي والزراعة على الأمطار الشحيحة يدران عائد ضعيف، كان النشاط الزراعي النهري في مصر يدر عائدا وفيرا، وهو المصدر الرئيسي للفائض الاقتصادي، وقد حتم نظام الري الهيدروليكي وجود الدولة المركزية، التي كانت تقوم باستغلال الأراضي الزراعية والموارد الطبيعية، وحين كان الملك يهب المنح للأمراء وكبار الكهنة والموظفين وقادة الجيوش، فكان ذلك ينتقل إليهم عن طريق حق "الانتفاع" دون حق الرقبة، بحيث يظل في مقدور الملك أن يسترد هذه المنح ويعيد توزيعها.
وقد تحقق الدمج بين الدين والدولة منذ نشأة الدولة المصرية، فقد ورث الملك الحكم عن الإله- ذلك الحاكم القديم لمصر- بحكم البنوة، وقد اتسم التكوين المصري بالانقسام إلى طبقتين رئيستين، الطبقة الحاكمة، وطبقة عريضة من العمال والفلاحين والحرفيين، لذا فأن الصراع الاجتماعي في مصر كان يدور على طرفين، صراع بين الفلاحين والطبقة الحاكمة، من جهة .وصراع آخر بين المصريين بصفتهم مزارعين، مع البدو الرعاة، حيث مثل التناقض بين الفلاحين والبدو، وقد اتخذ شكل الصراع بين الزراع والبدو أشكالا عديدة، فبينما كان طابع الدفاع من جانب الزراع الذين قنعوا بما تحت أيديهم، كان الهجوم شبه الدائم من جانب الرعاة الذين طمعوا فيما يعوزهم، كما اتخذ الصراع أحيانا شكل التسلل أو الهجرة، وأحينا شكل الغزو والاحتلال، وهكذا خضعت مصر لغزوات من قبل الهكسوس والقبائل الليبية، وغزو ثم احتلال من قبل الفرس واليونان والرومان والعرب .
ومنذ الغزو الذي قام به الإسكندر دخلت مصر في إمبراطورية مؤسسة على التجارة الكبرى كأحد الأقاليم : هكذا كانت مكانتها في العالم الهيليني ثم البيزنطي كما في العالم العربي، وحتى حين كانت التجارة مزدهرة وعرفت مصر حضارة مدنية تجارية بقيت غريبة ومقتصرة على مدن البلاط أو التجار التي لم تتمصر إلا عندما يتدهور وضع التجارة البعيدة ، هذا ما حدث للإسكندرية في الحقبة اليونانية، للفسطاط ثم القاهرة في الحقبة العربية الأولى . أما العالم الريفي المصري فيظل بعيدا عن هذه التقلبات، لم يتغير إلا أن الفائض الذي كان يدفعه للطبقة القائدة الفرعونية قد أصبح يذهب إلى عواصم الدول الأجنبية الغازية .
إن تاريخ مصر خلال الاثني عشر قرنا ، منذ الغزو العربي إلى حملة بونابرت لا يمكن فهمه إلا من خلال استمرار طابعه الفلاحي الذي اندمج بشكل عرضي في شكل اقتصادي تجارى أوسع، وخلال القرون الثلاثة بعد الغزو العربي تحولت مصر إلى مجرد إقليم في إمبراطورية تجارية لها مركزها في مكان خارج مصر، وقد فقدت مصر شخصيتها وتاريخها المميز دون أن تحصل على موقع لامع في العالم الجديد .
ورغم اختلاف السمات بين التكوين المصري المعتمد على الزراعة النهرية، وبين التكوينات القبلية العربية المعتمدة بشكل رئيسي على الرعي والزراعة الهامشية، جاءت التجارة بعيدة المدى التي اندمج بها كلا التكوينيين كنمط اقتصادي يقوم بالأساس في الحصول على الفائض من قبل الريع، إضافة إلى اندماج الدولة بالدين في كلا التكوينيين، مما شكل طابعا مشتركا بينهما، لذا فليس من قبيل التعميم المخل أن نرى امتداد بعض ملامح النظام المصري في طبيعة السلطة وعلاقاتها، سواء داخل الطبقة الحاكمة، أو مع طبقة المنتجين .
فقد كان الخليفة بوصفه الحاكم الأعلى والذي يستمد سلطته باعتباره خليفة للرسول و لـ ألله في أرضه، هو المالك القانوني للأرض ومصادر الموارد الطبيعية، شأنه في ذلك شأن الملك الفرعون أبن الإله، لذا كان يقطع من يشاء ما يشاء، فكان يقطع رجال العائلة، وكبار رجال الدولة، والقادة العسكريين، ولكن ذلك لم يكن سوى انتقال حق الانتفاع إليهم، دون الملكية القانونية، كما كان من حق الخليفة استعادة ما اقطعه، وحين يتغير الخليفة يعاد التوزيع .

ثانيا : التطور الاقتصادي وعدم ظهور الملكية الفردية ( اختلاف النشاط الاقتصادي بين أوروبا والعرب)
تتحدد الملامح الرئيسية لنمط الإنتاج الذي ساد في أغلب مناطق العالم العربي، كونه كان في غالب الأحيان يحقق الفائض الاقتصادي عن طريق الريع، فسواء كان المصدر الرئيسي للفائض في التاريخ العربي بعد الإسلام يأتي من الفيء، أو الخراج، أو الجزية، أو من التجارة البعيدة المدى فكلها أشكال للريع المتحصل دون الدخول إلى العمل الاجتماعي المنتج، وبما أن نمط الإنتاج السائد في أي مجتمع من أهم المحددات للبنى و التكوينات الاجتماعية، وأن الموقع الذي يحتله الفرد في العملية الإنتاجية هو الذي يحدد نظرته إلي كافة الأشياء، وموقعه من كل الأمور، وكيفية تصرفه وسلوكه العام، فأننا نعتبر الدخل المتحقق من العمل المنتج والنشاط الاستثماري هو الدافع للتطور والارتقاء بنوعية الحياة، كما أن النمط الاقتصادي المنتج يؤدى إلى تشكيل كيانات وطبقات اجتماعية تحرص على تحقيق مصالحها من خلال خوض صراعات اجتماعية وسياسية لتحسين فرص حصولها عل أفضل عائد من الاستثمار المنتج .
كما أدي التغير المتوالي لفئات المنتفعين بالأرض إلى عدم استقرار حق الملكية الخاصة للأراضي الزراعية، وبالتالي لم تتبلور طبقة اجتماعية شبيهة بطبقة الاقطاعيين في أوروبا، خاصة أن هؤلاء المنتفعين لم يكن لهم حق توريث حيازتهم، ولم يكن لهم سلطات قضائية أو تنفيذية أو حق الحصول على الضرائب، ولم يتمتعوا بالاستقلال كما حدث في أوروبا، بل كانوا في علاقة عضوية مع الملك أو الحاكم أوالخليفة، بما جعلهم كلهم (المنتفعين والحكام) طبقة واحدة في صراع دائم مع الفلاحين والحرفيين وصغار التجار، الذين كانوا يتعرضون بصفة دائمة لأعمال النهب التي تتخطى تحصيل الخراج والجزية المقررة، إلى اعتصار كل الفائض، بما حال دون وجود تراكم اقتصادي يؤدي إلى استثمار رأسمالي، وبالتالي تم سد الأفق أمام هذه الفئات للتحول إلى طبقة وسطي، كما حدث في أوروبا بنشأة الطبقة البورجوازية، وهكذا لم تتبلور طبقات اجتماعية تتصارع من أجل مصالحها الاقتصادية وتبحث عن دور لها في المجال السياسي .

ثالثا : المجال السياسي (السلطة والمجتمع في الغرب وبلاد الإسلام)
على صعيد المقارنة بين الدولة القومية الحديثة في أوروبا، وبين الدولة في بلدان العالم الإسلامي يشير محمد عابد الجابري إلى أننا نجد أقوى تعبير عن ذلك عند "برتراند بادي" وهو باحث سوسيولوجي فرنسي، وذلك في كتاب صدر في سبعينيات القرن الماضي بعنوان "الدولتان : السلطة والمجتمع في الغرب وفي بلاد الإسلام"
والسؤال المركزي الذي أراد المؤلف الإجابة عنه في هذا الكتاب هو : لماذا تطورت "الدولة في أوروبا من دولة "الأمير" أي الملِك، ومن الإمبراطورية إلى دولة "الحداثة السياسية"، دولة القانون والمؤسسات، الدولة التي تستمد الشرعية من كونها تمثل إرادة الشعب، المعبر عنها بواسطة انتخابات حرة، وتعمل لخدمة المصلحة العامة... وبالمقابل لماذا لم تتطور الدولة في بلاد الإسلام خلال القرون الوسطى إلى دولة حديثة من هذا الطراز؟ ثم لماذا فشلت المحاولات التي قامت بها النخب العصرية في بلاد الإسلام من أجل نقل "الحداثة السياسية" الغربية تلك إلى بلدانها؟
وقد استشف بادي من خلال قراءة هادئة و معمقة للتاريخ أن انتقال الغرب من امبراطورية الأمير الى دولة المؤسسات و الحداثة السياسية كان نتيجة تحول تاريخي أفضى الى ظهور مجال جديد في الحياة الاجتماعية هو " المجال السياسي" مجال خاص بالممارسة السياسية ينافس "الأمير" والكنيسة ويقدم نفسه كبديل عنهما في الحياة السياسية، بل كطرف ثالث وهو "الشعب" و"المصلحة العامة" الذان أصبحا أساس اكتساب شرعية الدولة ومناط أهتمامها .
لقد ظهر هذا المجال نتيجة الصراع بين "الأمير" والكنيسة خلال القرون الوسطى، ذلك النزاع الذي كان من نتائجه ظهور نظرية "التعاقد" (أو العقد الاجتماعي) التي بشر بها روسو حيث يقول : إن سلطة الكنيسة من الله، وبالتالي فهي أعلى، بينما سلطة الأمير من الشعب، وبالتالي فهي أدني، وقد أدى هذا التوزيع في مصدر السلطة إلى القول إن الأمير يمكن عزله إذا لم يعمل لخدمة الشعب ولفائدة المصلحة العامة .
ذلك ما حصل في أوروبا، أما في بلاد الاسلام فيرى برتراند بادي أن عدم حدوث تحول تاريخي وقطيعة بين الأمير والدولة راجع بالأساس الى خلو هذه البلاد من مؤسسة دينية مستقلة تضاهي الكنيسة، وبالتالي خلو التاريخ الاسلامي من صراع بين المؤسستين الدينية والمدنية هذا عن الماضي، أما بالنسبة للحاضر فإن المؤلف يرى أن النخب العصرية العربية فشلت في استيراد الحداثة في بلدانها بسبب استمرار المجال السياسي في هذه البلدان مراوحا في مكانه الذي كان عليه في القرون الوسطى. إن ذلك هو ما يفسر، من وجهة نظر بادي، تركز الحركات الاعتراضية التي يشهدها العالم العربي والإسلامي في الحركات المتطرفة التي تتجه بمعارضتها ليس إلى السلطات السياسية وحدها فحسب، ولكن أيضا إلى النخب العصرية وحكوماتها وبرلماناتها, لقد فشلت تلك النخب، كما فشلت أيديولوجياتها المنقولة والمستوردة للحداثة السياسية الغربية، ولم يبق أمام الجمهور إلا موروثهم المتمثل في الدين، ومن هنا كانت "الصحوة الإسلامية" المعاصرة .
يتعقب المؤلف في الفصلين الثاني والثالث، المخاض الطويل لولادة حداثة الدولة الأوربية، والأشكال المختلفة التي أخذتها، وذلك تبعا للعلاقة الثلاثية بين: الأمير، والأسياد، والكنيسة. ليقارن هذا كله بتجربة التحديث السياسي الإسلامي، فعلى الرغم من اختلاف مسارات التحديث السياسي الأوربي، إلا إن مآلها المشترك ـ حسب بادي ـ هو الوصول إلى استقلال المجال السياسي عن الديني. في إنكلترا وفي غيرها من بلدان أوروبا .
ومن فرط اهتمام الجابري بكتابات برتراند بادي نراه يعرض لمقالة حديثة له بعنوان "الغرب والعالم الإسلامي" يقول فيها : تحدي الحداثة فرض نفسه كاستيراد كثيف لنموذج جاهز في عهد سليم الثالث (العثماني) ومحمد علي (مصر) أحمد بك (تونس) فرفاعة الطهطاوي، وابن أبي ضياف، وخير الدين التونسي، عملوا على التوفيق بين نوع من الحياة الاجتماعية خبروها في الغرب. حيث كان المطلوب منهم عملية تحديث خاضعة لرؤية مستمدة من الإسلام .
في مرحلة تالية، سيتغير الوضع، بعد أن أصبح القانون الغربي مسيطراً، سيخضع مطلب الحداثة إلى تركيب جديد. وسيظهر رجال جدد: الأفغاني، عبده، رشيد رضا، مقدمين رؤية جديدة للحداثة: إن الاقتداء بالغرب مرفوض، وغير مجد. وشددوا على استبعاد الآخر كنموذج، وعلى بناء صيغة جديدة للحداثة، وعلى إعادة فتح باب الاجتهاد لتكييف الشريعة مع المعطيات الجديدة، وأعادوا تجديد رؤية كلاسيكية (عن أمير مقيدّ بواجب احترام القوانين، وبمجلس يرتبط بمبدأ الشورى أكثر من ارتباطه بمبدأ السيادة). وكان مثال عبده (أميراً عادلاً، وليس أميراً ديمقراطياً). واعترف للشعب بالحق في طلب العدالة، وليس بحق السيادة، فظلت نزعته التجديدية تقوم على إعلاء فكرة العدالة، يقود هذا التصور ـ حسب بادي ـ إلى تهافت منطق الدولة، بإزالة فكرة السيادة، والمجال السياسي، وإحلال مبدأ (العرفان) محل مبدأ السلطة. ويوضح استنتاجه هذا، بعرض نظرية أبو الأعلى المودودي، الذي تحدث عن ثلاثة أسس للنظام السياسي في الإسلام:
1 ـ التوحيد: ينكر فيه سلطة البشر لصالح سلطة الله .
2 ـ الشرعية، رسالة الله هي دستور الدولة المسلمة .
3 ـ الخليفة المدير الذي يحترم أوامر الله ومشيئته .
لا يخص (بادي) سوى القليل من تحليله لمشروع (النظريات الوافدة من الغرب) كما يسميها، فبالإضافة للليبرالية، التي ظلت مرتبطة بحلقات إصلاح القرن التاسع عشر، فإن الماركسية والاشتراكية قدمتا منافذ أكثر تطبيقاً، دون أن يبذل حاملوها جهوداً لإعادة ترتيب نماذج إيديولوجية تتوافق مع معـطيات الثقـافة الإسلامية. فالاستيراد دون قيد أو شرط، يُستخدم كموجّه لفكرة الحداثة، وهذا ما يشكل، برأي المؤلف، مكمن ضعف تلك النظريات .
وهو لا يخفي الصعوبات أمام الحداثة، فبالإضافة إلى المحاكاة الإيمائية المستهجنة للغرب، فقد جابه العمل من أجل المركزية السياسية، في الدولة العثمانية وفارس، القوى التقليدية، كما اصطدم بدور الأقليات الاقتصادي والثقافي المميزّ، ودعم القوى الأجنبية للقوى المحلية. وعلى عكس الدولة الأوربية، لم يقمُ المركز بوظيفته الاقتصادية، فتعزز القطاع الرأسمالي المتوافق مع الانشقاقات الدينية، مستفيداً من الامتيازات والحمايات، فساهم في الانشطار الثقافي، الذي أثار حذر المجتمع التقليدي، وهو ما تجلى في الفتن والاضطرابات. وقد قوى هذا الحذر كون الدول الغربية، وجدت أن من مصلحتها الحث على التحديث (الاصطناعي والمراقب)، وأنها لم تقف إلاَّ مع تحديث يقود إلى التبعية، ويحارب أي نموذج حداثوي لا يتماشى مع مصلحته فغدا التحديث محصوراً في دائرة ضيقة، وأخفق في دمج الجملة الاجتماعية فيه.
الخيارات الثلاثة، التي غذَّت جدل الحداثة، انتهت إلى الفشل: فشلت السلطة التقليدية: الدولة العثمانية، أو الأمير، في فرض لعبة سياسية حديثة، مما سمح باستمرار الثقافات المذهبية، وفشل أصحاب التحديث، الذين جعلوا من الحداثة هويتهم المميزة، فلم يبق أمامهم سوى خيارين: اللجوء إلى صيغة السلطة الكاريزمانية، أو الرجوع إلى الممارسات الوراثية، وإلى الخصوصية الثقافية. وستفشل المعارضة الإسلاموية، التي استمدت حججها من المفاعيل السلبية للتحديث، لأنها تتجه بالنهاية إلى إنتاج مواقع السلطة على حساب مشروعها التجديدي، فلا يبقى لديها ما يحقق هويتها سوى المجال الرمزي الوحيد: التشديد على اللباس أو على الأخلاق!
يكشف لنا المؤلف، أن كل شيء، في تجربة الحداثة، في ديار الإسلام، يقود إلى المعارضة العارمة، التي تتميز عن نموذج المعارضة الغربية! وهذا يعود في قسم كبير منه إلى أن المدينة الإسلامية التقليدية لم تتشكل بها مؤسسات سياسية، فلم تُزوَّد بنظام تشريعي، ولم تُنظَّم على أساس تمثيلي، ولم تُنجز مهمة تدريب المواطنين على التجمُّع، ولم تكن مركزاً لتشكل برجوازية تطمح بوظيفة تمثيلية.
على الرغم من تحذير بادي من الثقافوية المطلقة، إلا أن منطق سرده الضمني، يدعو إلى استنتاج مفاده، أن الخاصية الجوهرية للثقافة العربية ـ الإسلامية تؤثر على التطورات اللاحقة، وعلى نمط بناء الدولة، وعلى تشكل الحقل السياسي. محملاً بذلك المعايير الحضارية الجوهرية في الإسلام ـ رغم ملامسته للدور الغربي ـ مسؤولية فشل الحداثة، والتنمية، وبناء الشرعية. جاعلاً الماضي يمسك بالحاضر، والميت بالحي. فالتمايزات الحضارية التي تحكم كلتا المدنيتين: الإسلامية والمسيحية في العصر الوسيط، هي التي ضبطت تطورهما اللاحق، ومنعت العرب والمسلمين من الانخراط في الحداثة: منعت بناء المجال السياسي المستقل وجعلت المعارضة تدور في حلقة الرفض المطلق .
من هذا المنظور، يبدو صعود الحركة الإسلاموية اليوم، وكأنه مظهر لجوهر الثقافة الإسلامية، والحال أن الدولة لا يمكن إرجاعها إلى التصورات الدينية، أو المذهبية فهي كيان سياسي دهري يعبر عن التوازنات الاجتماعية الكبرى، وعن تطور التكوين الاجتماعي بوجوهه المختلفة، الدينية والزمنية. والحقيقة، أن العلاقة بين الدولة والدين، كما يشير غليون، كانت في التاريخ الإسلامي، علاقة تعايش لا اندماج، وأن مفهوم الجماعة الإسلامية، هو الذي حل، في الذاكرة الاجتماعية، محل مفهوم الدولة، ولقد أدى إخضاع الدين من قبل الدولة إلى نثر سلطته في كل ثنايا المجتمع، وتحويله إلى الجماعة، أي تحويله إلى لحمة عامة، ومقر للسياسة الحقيقية، بما هي تنظيم لمعاملات الناس، وتزويدهم بأخلاقية مدنية تؤسس لتعايشهم، بينما أدى تحويل الدين إلى دولة، وسيطرة الكنيسة على الدولة في الغرب، إلى الدفع باتجاه تحرير السياسة والدولة من الدين، والتركيز كلياً على الدولة .
لعل الدور السلبي الذي لعبته الدولة في الإسلام، في لجم تطور المستوى السياسي، وانطلاق الحياة السياسية، لعبته الكنيسة بسيطرتها على الدولة، فغدت المهمة الأساسية لتحرير السياسة في الغرب، هي تحرير الدولة من سلطة الدين والكنيسة، أما في الجانب الإسلامي، فصار التحرر من الطابع الاستبدادي للدولة، أي الديمقراطية شرطاً لخروج الجماعة من الأسر، ولتأسيس مجال للسياسة .
للـحـد يـث بـقـيـة






#فتحى_سيد_فرج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا لم يكتمل تشكل الدولة الحديثة في مصر ؟ 1 من 3
- تقارير التنمية الإنسانية تثير الجدل حول تردي الاوضاع العربية
- زمن ال -مابعد - 2 - 2
- زمن ال - ما بعد - 1 من 2
- زمن ال - ما بعد -
- دفاعا عن المنظمة التي تدافع عن حقوق الإنسان
- على طريق الهند
- بدر الدين أبو غازي ... الناقد والرسالة
- نظرية اللعب في دراما الأطفال
- الحكومات العسكرية في العالم العربي
- ثقافة النخبة المصرية ودورها في التنمية (كامل)
- ثقافة النخبة المصرية ودورها في التنمية 3 من 3
- ثقافة النخبة المصرية ودورها في التنمية 2 من 3
- ثقافة النخبة المصرية ودورها في التنمية 1 من 3
- دور منظمات المجتمع المدني في مواجهة مشكلات التعليم3-3
- دور منظمات المجتمع المدني في مواجهة مشكلات التعليم 2-3
- دور منظمات المجتمع المدني في مواجهة مشكلات التعليم 1-3
- الحكومة أم المجتمع المدني .. من أقدر على مكافحة الفساد
- رؤى مستقبلية
- البلطة والسنبلة ، مصر والعرب


المزيد.....




- وزيرة تجارة أمريكا لـCNN: نحن -أفضل شريك- لإفريقيا عن روسيا ...
- مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية
- استئناف محاكمة ترمب وسط جدل حول الحصانة الجزائية
- عقوبات أميركية وبريطانية جديدة على إيران
- بوتين يعتزم زيارة الصين الشهر المقبل
- الحوثي يعلن مهاجمة سفينة إسرائيلية وقصف أهداف في إيلات
- ترمب يقارن الاحتجاجات المؤيدة لغزة بالجامعات بمسيرة لليمين ا ...
- -بايت دانس- تفضل إغلاق -تيك توك- في أميركا إذا فشلت الخيارات ...
- الحوثيون يهاجمون سفينة بخليج عدن وأهدافا في إيلات
- سحب القوات الأميركية من تشاد والنيجر.. خشية من تمدد روسي صين ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - فتحى سيد فرج - لماذا لم يكتمل تشكل الدولة الحديثة في مصر ؟ 2 من 3