أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - المدينة المحترقة















المزيد.....



المدينة المحترقة


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 2528 - 2009 / 1 / 16 - 10:51
المحور: الادب والفن
    


الغيوم الرمادية الداكنة تجوب الفضاء, تسرح وتعبث في سماء مدينة يوتوبوري, تغطي صباحات الخريف والشتاء, تضفي على النفس الكآبة والحزن والإنكسار.
البحرهائج, يدفع الضباب, ليسوح في الشوراع, في الجادات والممرات الضيقة, ليرسم على العام /1880/ لون قاتم, مضلل بالمرارة.
استيقظ فيكوعلى صراخ الصغير/أوّلىَ/, الطفل الذي لا يتجاوزالخمسة أشهر من عمره. صراخه الحاد والمستمر, ينذر بإنه مريض جداً.
لقد استيقظ فيكو مرات كثيرة خلال تلك الليلة على صوت بكاء الرضيع/ أوّلىَ/. احياناً كثيرة يشتد صراخه ليصل إلى سمع المرأة العجوز بلوم كرين, التي تقطن في الدور الأول من المنزل.
نزل فيكومن سريره, راح يزحف بصمت تام, دون أن يلفت انتباه سارة ومودس النائمان معاً على السرير. تابع زحفه إلى أن وصل إلى المطبخ.
جلست أم / أوّلىَ/ جانباً, وضعت طفلها الصغيرفي حضنها, راحت تهزه برفق وحنان. أخذت تمشي بصمت وهدوء, ذهاباً ومجيئاً. ذهب فيكوإلى المطبخ ليجلس بجانب أمه وأخيه الصغير. كانت الأرض باردة للغاية. سحب قميص النوم من الأسفل, ووضعه على أقدامه, ثم وضع يديه على كتف أمه.
ـ بالتأكيد ليس لديه مغص حاد, وآلام قوية في بطنه؟ قالها فيكو بحذر.
ـ ليس مغصاً عادياً, قالت الأم.
التفتتْ ناحية فيكو, تأمّلته بعمق, متوسمه منه أشياء كثيرة. حدقت طويلاً في عينيه. قالت في نفسها, ليس صعباً علي أن أعرف إنه يشبهني. الأن هوفي الثانية عشرة من العمر, قريباً سيصبح طويلاً مثلي.
كانت عينا الأم مملوءتان بالخوف والتعب.
ـ لن يموت / أوّلىَ/, قالت الأم موجهة كلامها لأبنها فيكو.
بالتأكيد, لم تنم الأم طوال الليل, بقيت سهرانة ترعى صحة وليدها الصغير.
وإلا لما بان عليها اليائس والحزن والقلق.
ـ أين والدي؟ سأل فيكو.
عدلت الأم من جلستها.
ـ قلت لسورين, عليه أن يذهب إلى الورشة, حتى يعمل. قلت له لا أن يشغل باله ب/ أوّلىَ/, وجوده في البيت لن يحسن وضع صغيرنا, أخيك أوّلىَ.
ـ نعم, أعرف, قال فيكو. لقد تأخرنا في نقل البراميل الخشبية الصغيرة إلى المديرفيسلي.
لقد اعتاد فيكو أن يمرعلى ورشة والده, الكائنة في الجادة الجديدة من المدينة, في طريق عودته من المدرسة.
كان أبو فيكو يقوم بصناعة البراميل والأحواض الخشبية, الصغيرة والكبيرة, المستخرجة من جدوع الأشجار. كان رجلاً نشيطاً وذكياً, تعلم هذه المهنة من والده عندما كانا يقطنان في الدنمارك.
كان طموح فيكو أن يكون مثل والده, يصنع البراميل والحاجيات المنزلية الخشبية. أنها مهنة نظيفة وعمل مريح. روائح الأخشاب مع القطران لذيذة ومنعشة.
ـ يجب أن تكون البراميل جاهزة, قالت الأم. وإلا لن يكون لدينا المال لنستقبل عيد الميلاد ورأس السنة.
ـ ما زال الوقت مبكراً للعيد ورأس السنة يا أمي.
ـ كارلسون سيأتي ليأخذ أحواضه الخشبية الكبيرة. إذا لم نكن مستعدون, جاهزين لتأمين طلبه سيعمل على خصم المبلغ, عندها سنكون مدينون له, قالت الأم هذا الكلام وهي تسحب من أعماقها تنهيدة قوية.
كارلسون لديه محل في وسط المدينة يبيع للناس سمك الرنكة والزبدة والملح وأشياء أخرى. أنه رجل بخيل, نكدي, مشاكس, ويتشاجرمع الناس, فيما إذا لم يدفع أحدهم في الحال.
نهض فيكو من مكانه وذهب إلى الخزانة, تناول مزماراً خشبياً, كان بجانب الصحون, ثم عاد وجلس على الكرسي مقابل أخيه الصغيروأمه.
بهدوء وتأن, مضى فيكو يمرريديه وفمه على نايه, يجود بألحانه الشجية, ويملأ الغرفة نغماً عذباً جميلاً.
لقد تعلم فيكو الكثيرمن الألحان من أمه وأبوه, أو من العزافين الجوالين في الشوارع. لم يكن في ذاكرته لحناً محدداً, لهذا ترك لنفسه أن تجود, أن تخرج المكبوت والدفين من داخل روحه وصدره.
عزف لحناً شجياً هادئاً, في هداءة الليل العميق.
بعد لحظة قصيرة, تناهى إلى سمع الطفل الرضيع, أوّلّىَ, صوت لحن جميل, ينبعث من ناي رقيق. كان يهلث من المرض, بصمت. بعد لحظة صغيرة, لم تدم إلا هنيهات, حتى أصبغ على وجهه اللون الأحمرالقانئ, والهدوء اليقظ. تحرك جسد الصغيركله, راحت يداه تلوح وتهزفي الأفق, في الأعلى والأسفل, مضى صراخ يأخذ سمتاً آخر, ووجعه يسترخي عند الحدود العادية.
ـ أوّلىَ, أوّلىَ, صرخت الأم. حاولت أن تهدأ حركات الطفل الصغير.
رفع الطفل الصغير رأسه وراح ينظرإلى فيكو.
ـ هل لكَ أن تضعه في حضنك بعض الوقت, قالت الوالدة. يجب علي ان أذهب إلى المرحاض.
لقد لفظت والدة فيكو كلمة المرحاض بطريقة مغايرة للسكان في هذه المدينة , لكونها قد قدمتْ من مدينة أخرى, اسمها / أوروست/, القريبة من يوتوبوري, المقيمة فيها حالياً.
يقع المرحاض في أسفل المبنى, بالقرب من فناء المنزل المجاور للاسطبل, والوتد الذي يربط عليه الحصان, وإلى جواره غرفة الحطب وبرميل الزبالة الخشبي.
جلس فيكوعلى الكرسي مسترخياً, في حالة انسجام مع أخيه الصغير. يرفع يدي/أوّلىَ/ إلى الأعلى, يناغيه ويلعب معه. يمسك به, يحرك أطراف أخيه مثلما يفعل مع القطة أو جرو الكلب. لم يكن وزن الطفل شيئ يذكر.
ـ طير وغني يا عصفور, طيروغني يا عصفور. كان فيكو, يدندن بعض الألحان, ويغني بصوت أقرب إلى الهمس, يهدهد بها الرضيع.
أغلب الأوقات كان جالساً حاملاً الصغيرعلى رجليه, يحاول أن يأخذه بين يديه, ثم يضعه بالقرب من قدميه في حالة اضطجاع, يهزه بهدوء, ويمررراحتيه على وجهه, وعلى شعره, ماسحاً العرق المتصبب على جبينه وخده.
شهق الطفل الصغير/أوّلىَ/ بعمق وراح يتنهد ويرجف. مرة بعد أخرى.
لبست الأم سترة صوفية في طريق عودتها من بيت الخلاء. في هذه الأثناء راح فيكويقطع المكان ذهاباً ومجيئاً, لكن دون جدوى أو فائدة من شفاء / أوّلىَ/.
بدأ الصغيرفي البكاء مجدداً.
ـ عليكِ أن تأتي إلى هنا يا أمي, عليكِ أن تجلبي له طبيباً.
ـ إلى أين سأذهب في هذا الوقت من اليوم, لأجلب له طبيباً. لا أعرف أي إنسان يمكن أن يساعدني على ذلك.
يوجد في منطقتنا يا أمي, الكثير من النساء الكبار في السن, حكيمات, يمكنهن أن يساعدوا المرضى. أعرف أن والدي لا يثق بهن, لهذا أنا أيضاً أميل إلى عدم الاعتماد عليهن. لكن عندما يتعلق الأمرب/أوّلىَ/ يجب أن نفعل شيئاً ما حقيقي, يمكن أن يخلصنا من هذا المأزق الصعب الذي نحن عليه. بعد قليل تذكر.
ـ الدكتور/ سكوك/ يقطن في شارع الاتحاد, قال فيكو.
ـ هذا ممكن, ردت الوالدة والألم يعصر فؤادها وقلبها. أنت تعرف أن هذا الرجل/ الطبيب/ لا يزورالناس العاديين, علاوة على ذلك أن الوقت جد مبكر. إننا في الهزيع الأول من النهار, ولا يمكننا أن نذهب إلى المشفى, لخوفي أن يودع أولّىَ عندهم, وهذا لا يمكن أن أسمح به.
كانت الأم في حالة صمت كامل, عندما فتح باب الغرفة على حين غرة. كانت سارة قد أستيقظت للتو, تمشي على غير هدى, تتمايل يميناً وشمالاً, وعلامات النوم بادية على ملامحها, على عينيها ووجهها, تلتمس الخطا من أجل أن تجد لها مكاناً في المطبخ لكي تكمل نومها على الأريكة الموجودة فيها.
تقدمت الأم إلى الأمام, وراحت تمسد بيديها على شعرها. بعد لحظات قليلة, شاهدت فيكو.
ـ أنت لطيف, قالت سارة. أنت على حق! ليس لدينا المال لندفع للدكتور, نحن ناس بسطاء, فقراء لا نملك المال.
فتحت باب المطبخ بحذر ومضت تنزل الدرج.
لم يخطر على بال فيكو إنه رأى أمه على ما هي عليه الأن, من حيث الحزن والخوف العميقان.
بحذر وانتباه كبيران, مسك فيكو الطفل الصغير, المريض /أوّلىَ/ بيد, واليد الأخرى مدت إلى الناي, ثم إلى الفم.
وراح يعزف.
لم يصرخ /أوّلىَ/ كثيراً عندما بدأ فيكو يعزف على الناي. لكن الألم الشديد جعله يتلوى ويئن, ويبان عليه التثاقل.
في داخل البيت, في الغرفة المجاورة, دقت ساعة الحائط الكبيرة ثمانية دقات, ببطئ وتأن.ٍ متزامنة مع خروج العمة بلوم كرين من الاسطبل, وفي يدها لجام الحصان تقوده, إلى الخارج. حوافرالحصان الثقيلة تدق الطريق الحجري القاسي. كانت العمة/ بلوم كرين/ تحمل على ظهره, بعض السلع والبضائع الأخرى التي يحتاجها الناس في حياتهم اليومية.
كانت العمة إنسانة مريضة, تبقى طوال الوقت في الدورالأول, مضجعة في غرفة المطبخ, نتيجة الآلام التي تعاني منها. تغسل السجاد الثقيل المصنوع من بقاية الأسمال والخرق البالية, مع الزمن وعبء الأعمال الكثيرة والثقيلة كسرظهرها.
ـ سارة, قال فيكو. ارتدي ثيابك بسرعة, سخني الطعام وإلا ستتأخرين في الذهاب إلى المدرسة.
ـ وأنت, قالت سارة. هل ستبقى في ثياب النوم جالساً هناك طوال الوقت.
ـ دبري أمورك في المدرسة اليوم من دوني, قال فيكو. أعرف أشياء كثيرة, أنهار نورلاند, القسم الشمالي من خارطة السويد, متى توفي الملك كارل الثاني عشر, حفضت على الأقل خمسين مقطعاً من المزامير, والوصايا العشرة, هذا كاف, حتى لا أذهب إلى المدرسة.
لم تجب سارة, ربما فهمت أن على فيكو أن يبقى في البيت من أجل مساعدة أمهم. علاوة على ذلك, هذا العام هو الأخير له في المدرسة. وقتها سيكون شاغراً طوال الوقت, يساعدها أو يعمل من أجل الحصول على المال.
عادت الأم من باب المطبخ, حاملة المفاتيح في علاقة طويلة.
ـ اعتقد أن هناك رائحة دخان يأتي من أعالي الجبل.
ـ ربما بعض الشباب الصغارأشعلوا النارفي الحشائش, قالت سارة.
ـ الحشيش مبلل ورطب, لقد أمطرت قبل قليل, لا يمكنه أن يشتعل في هذه الأقات, قال فيكو.
ـ ربما أشعلوا النار في العيدان الجافة, ثم وزعوها في كل مكان, ردت سارة عليه بهدوء. اعتقد أنهم سرقوا عيدان الكبريت من مكان ما.
كان لدى فيكو خوف دائم من النار, والحرائق. مرات كثيرة توقظه سارة من النوم, على أثراشتداد صراخه في الليل, لدى رؤيته حريقاً ما في حلمه.
لم تجب الأم, كانت تنبعث من عينيها بريق بللوري لامع, دموع مدرارة. تستغل فرصة ذهابها إلى المرحاض, لتبكي هناك بمرارة.
ـ سارة, تحدثت الأم بهدوء. جهزي نفسك الأن.
مررت سارة يديها على رأس وخد أمها. مررت يديها عليهما, تمسدهم بحب وحنان. بعد قليل نهضت من مكانها وذهبت إلى موقد النار, حاملة معها طنجرة الطعام, ثم وضعته جانباً. مضت إلى غرفة الحطب, أخذت حاجتها منه, كومة أخشاب يابسة, سارت إلى فتحة الموقد ووضعتهم فيه.
كانت سارة تخدم أمها في كل شيئ, في المطبخ, الجلي, الكنس والغسيل والطبخ. تساعد الطفل الصغيرمودس أبن الأربعة أعوام في كل ما يحتاج, تحمله, تهتم بشؤونه. تصعد معه إلى أعلى المبنى وتتركه ليتزحلق من هناك بخفة ورشقة, تلعب معه أطول وقت ممكن حتى يتسلى ويفرح.
حملت الأم, الطفل الصغيرالمريض, أوّلىَ بالمقلوب, رأسه وبطنه إلى الأسفل. علّ هذا الوضع يحسن من حالته. لكن لم يطرأ أي تحسن على المسكين. بقي يصرخ طوال الوقت, جسده يرتعش ويرجف.
دخل فيكوإلى الغرفة وجلب معه قميص نوم رجالي. توقف عند البناطيل والقمصان والستر والجوارب. كان الناي أمام عينيه, معلقاً على الجدار, بجانب السراويل. رأى أجزاء الخزانة من تحت, سحب درجاً منها إلى الخارج. تحت الثياب, وجد فيكوقطعة ورق مالية من فئة العشرة كرونات. مبلغاً كبيراً جداً من المال, كان قد تركها الأب عندما باع عدة براميل خشبية كبيرة فيما مضى من الأيام.
أخذ فيكوالمبلغ من المدير فيسلي في الصيف الذي مضى, عندما كان والده في السجن.
لقد سجن والده لمدة ثلاثة اشهرلأسباب سياسية, لمشاركته في مظاهرة, تناضل من أجل تحقيق بعض المطالب للعمال, كتحسين شروط مكان العمل في المصانع, تحديد ساعات العمل, أن لا يبقوا مدة طويلة في هذه الأماكن المملوءة بالغبار والضجيج.
في هذه الفترة, يعمل الكثير من الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم الثانية عشرة, في أماكن عديدة صعبة, يغطون العجز المالي لعائلاتهم.
في طريق عودة فيكوإلى البيت, قادماً من زيارة أبيه في السجن, رأى صديقه سيمون مع حصانه, يسيروعلامات الحزن والألم والقهربادية عليه.
كان سيمون يعمل عند المديرفيسلي.
تطوع فيكولمساعدة سيمون, أخذاً لجام الحصان الذي يقطرالعربة وراءه عبر البوابة. دخلا مع بعضهم إلى البيت. أخذ سيمون يشكرفيكوعلى ما قدمه له من مساعدة, وعلى قطعة الكعكة المحلاة بالسكرالذي ضيفها له.
بعد أن ذهب صديقه, مضى فيكو يمشي مثل التائه أوالسكران, بأتجاه البيت الجميل والكبيرللمديرفيسلي. كان الأخير مسترخياً, مطرقاً الصمت في صالة الطعام الكبيرة والأنيقة. دخل فيكو, أخذ الناي الذي جلبه معه, وراح يعزف للسيد فيسلي وزوجته مقطوعة موسيقية جميلة. بعد أن انتهى من وصلته, تناول السيد الغني مبلغاً مالياً كبيراً, عشرة كرونات, وأعطاها له. كما تناولت السيدة حرمه, سلة مملوءة بالطعام بمناسبة مجيئ المولود الجديد, لأمه, أوّلىَ.
بعد فترة وجيزة, أخذت أم فيكو, السلة التي جلب أبنها الطعام فيها, وذهبت إلى بيت فيسلي, لتشكرهم على المعروف الذي قاموا به من أجلها وأجل ولديها الجديد. تقدمت من السيدة فيسلي بهدوء, طالبة منها, إن كانت تحتاج إلى المساعدة, بمناسبة حلول يوم زفاف أبنتهم.
ـ أستطيع أن أنقش أسم أبنتكم العزيزة على الشراشف واللحف, الوسائد والمناديل, والمناشف.
لم يكن للسيدة فيلسي, إلا ساعد واحد, لأن اليد الأخرى, قد فقدتها في حادث. لم يكن لديها القدرة على القيام بالتطريز أو الخياطة أو أية أعمال تحتاج إلى جهد كبير. لهذا جلست الأم, وأبنتها سارة بجانب الطاولة, ومضوا يطرزوا, غرزة وراء غرزة, نقاط صغيرة ودقيقة على غطاء الوسائد وكل الحاجات التي تهم زواج وعرس أبنة السيد فيسلي وزوجته.
دفعت زوجة فيسلي للأم وأبنتها ثمن أتعابهم من العمل المجهد الذي قاموا به. كان ذلك أتفاقاً مقبولاً بين الطرفين.
أعطى فيكو المبلغ الكبير, الورقة المالية من فئة العشرة كرونات إلى أمه, إلا أنها لم تقبل ذلك, لم تقبل أن تأخذها منه. طلبت منه أن يحتفظ بالمبلغ في حصالته. صحيح إنه حصل على المال لوحده, بمجهوده, لكنه كان ثروة كبيرة بالنسبة له.
ـ سيأتي اليوم الذي نكون فيها بأمس الحاجة لهذا المبلغ, قالتها الأم. في يوم من الأيام, سيلزمنا المبلغ.
اليوم حدث ما كانت تتوقعه, جاء الوقت الذي يحتاجون فيه إلى المال.
خرج فيكو من المطبخ, مادا خطوات واسعة إلى الأمام, منتعلاً حذائاً جديداً, كان والده قد حصل عليه من أحد أصدقائه المقربين إلى قلبه. في الواقع كان الحذاء, واسعاً على مقاس قدم فيكو فيما مضى من الأيام. الأن أصبح فيكو كبيراً, إلى حد الذي يمكنه من لبس هذا الحذاء الكبير والواسع. كما تناول من على العلاقة معطف أبيه الجلدي القديم.
بعد أن لبس المعطف, قال:
ـ أنا ذاهب.
لقد ساورها الشك, أن أبنها ذاهب إلى المدرسة, أوإلى ورشة والده, كي يساعده.
وقفت سارة حائرة, تنظر إليه خلسة.
عندما نزل فيكو إلى فناء المنزل, أسرع في السير إلى الأمام, مجتازاً البيت ذي الاضلاع والسقف الرباعي. في الجادة الضيقة, لم يكن هناك شيئ غير عادي أويلفت الانتباه. كل شيئ يسيربشكل سلس ومألوف, الناس, الخيول التي تجر العربات, بعض القطط الأليفة, هنا وهناك.
راحت الأنوار الخافتة, تنثرضوئها الخافت على الشوارع الصغيرة والضيقة. من خلال السديم الرمادي المضضب, بان لفيكو البيت القديم, أكثرشحوباً وحزناً عما كان عليه في الماضي.
مضى الصيف, بجماله وبهجته, بهوائه العليل. روائح الليلك المنبعثة من خلف السياج الخشبي القادم من بعيد. ورود الهندباء البرية تزهر, تلمع أوراقها بين الحجارة والصخور.
وقف فيكو, لحظات طويلة في مكانه, يلتفت وينظرفي كل الأتجاهات. كانت رائحة الدخان حقيقية, تنبعث من مكان ما. لم يكن الحريق كبيراً, لكنه كان كاف, أن يجعل فيكو قلقاً جداً. لكن هذا القلق, لم يصل إلى الدرجة التي تجعله يخاف, أكثرمن خوفه, على أخيه الصغير, الرضيع أوّلىَ.
مد فيكو بصره بدقة واهتمام كامل على طول الجادة التي وقف فيها, راقب البيوت والممرات, هجس في داخل نفسه قائلاً:
ـ يبدو أن كل شيئ هادئ ومألوف, ولا يشيرإلى حدوث ما لا تحمد عقباه. لأن, أغلب مواقد الحطب في البيوت, تنبعث منها هذه الرائحة المعروفة, رائحة احتراق الخشب, والنارالبطيئة فيها.
انعطف فيكو يميناً, راح يمشي مواصلاً سيره إلى الأمام, وصل إلى رأس الزاوية, التفت يميناً وشمالاً, حدق في البيوت مرة أخرى بدقة واهتمام, ليتأكد أين يقع منزل الدكتورسكوك.
في أوقات الفراغ, كان فيكو معتاداً أن يتمشى في هذا المكان, يدورويسرح في جاداتها وشوارعها. مرات كثيرة يتابع سيره, قاطعاً الجسرالربط بين الحي الذي يعيش فيه, ليذهب إلى حي هيسنين, وعندما يتعب يجلس على ضفة النهر, يعدل من مكانه, ثم يتناول الناي ويعزف.
وقف فيكو في مكانه للحظات, حائراً, لا يعرف ماذا يفعل. نظر إلى أسفل الهضبة, إلى اليسارمن الشارع الواقف عليه, إلى المكان الذي يقطن فيه الدكتورسكوك. كان المنزل جديداً وكبيراً وبني اللون. راح فيكو يهجس مرة أخرى في داخل نفسه:
ـ ربما تقترب الساعة الأن من التاسعة صباحاً, لا اعتقد أن الدكتورسكوك يستطيع أن ينام لمدة أطول من هذا الوقت.
وقف فيكو على باب منزل الدكتورسكوك, للحظات, تنهد بعمق, ملتقطاً أنفاسه, ثم قرع الجرس. في البدء لم يبدرأي شيئ غير طبيعي, بقي الصمت مخيماً على المكان, مدة طويلة من الزمن. بعد قليل فتح الباب من قبل السيدة حرم الدكتورسكوك.
ـ ماذا تريد يا فتى, طرحت المرأة هذا السؤال وهي تتثاءب.
ـ يجب أن أتحدث مع الدكتورسكوك, قال فيكو.
ـ في هذه الساعة المبكرة.
ـ أخي الصغيرأوّلىَ يقترب من الموت, ولا أعرف ماذا أفعل. أعرف أن الوقت ليس مناسباً, لكن الظروف الصعبة التي نمر بها أجبرتني على المجيئ.
ـ الدكتور سكوك في المستشفى منذ أكثر من ساعة, قالت السيدة حرم الدكتور. عليك أن تأخذ أخيك الصغير إلى هناك, إلى المشفى.
ـ على الأرجح أن علينا أن نجلبه إلى هنا, إلى بيتكم. لأن عمر أخي أوّلىَ لا يتجاوز الخمسة شهور ونحن مستعجلون جداً, ولا يمكننا أن نغامرونأخذه إلى المشفى. بالإضافة إلى ذلك, أن أمي قلقة جداً من وضع أخي المريض, لدرجة لم أعهدها عليه من قبل.
وقفت زوجة الدكتوربضعة لحظات تفكروتنظر إلى وجه فيكوالقلق والحزين, متزامنة مع مجيئ رجل, من أسفل الدرج. وقع خطواته يصل إلى سمعهم, من الطرف الأخر, من قاعة البهو. كانت ملامحه تميل وتقترب من عمر والده, مما دفع هذا الأمر, أن يقدر, أن هذا الرجل الكبير في السن هو الدكتور سكوك.
ـ مع من أنتِ واقفة, طرح الدكتورسكوك هذا السؤال بلطف جم.
ـ يقف إلى جانبي شاب, يريد منك أن تأتي إليه, قالت زوجة الدكتورهذا الكلام وعلامات التعب بادية عليها.
اقترب الدكتورسكوك من الباب ووقف إلى جانبهما.
ـ هل تريد أن تقابلني, طرح الدكتورهذا السؤال.
نظر فيكو إليه بأهتمام تام.
هناك بعض الناس ليس لديهم أي اهتمامات في الحياة, وليس لديهم أي شيئ مثير ليتحدثوا عنه, مثل السيد كارلسون صاحب البقالية أويوهانسون الذي يطيب له البقاء في هذه الأماكن دون أن يهتم بشيئ. هؤلاء البشر لا يريدون ان يعرفوا أي شيئ أو يفهموا ما يدورحولهم.
أما الدكتور, فيبدو إنه يفهم ما يحدث حوله من أشياء. إنه هادئ, رزين ولطيف. لكن لا فائدة من ذهابه معه إلى أمه وأخيه الرضيع أوّلىَ.
ـ على أي حال, قارب أخي الصغير على الموت يا دكتور, هكذا طرح فيكو سؤاله.
ـ لماذا تعتقد ذلك يا فتى, قال الدكتور.
ـ يكاد أن يختنق طوال الليل, يبكي ويصرخ ولا يهدء أبداً.
أومأ الدكتورقليلاً, مطرقاً يفكر, مدركاً أن الصبي فيكو قلقٌ للغاية على وضع أخيه الصغير.
ـ أغلب الأطفال الصغار يتعرضون للمغص وآلام البطن, وربما يستمرهذا الأمرمدة طويلة. ما هو عمر أخيك الصغر بالضبط؟
ـ خمسة شهور يا دكتور, قال فيكو.
راح الطبيب يفكرقليلاً.
على هذا المنوال فهم الطبيب, أن وضع المريض ليس بالشكل الذي يتصوره, ليس مغصاً عادياً أو وجع بطن عابر.
ـ أمي خبيرة بهذا الموضوع, ليس مغصاً أو وجع بطن بسيط, هي تعرف, لأن أوّلى ليس ولدها الأول, إنه طفلها ومولودها الرابع. لدي أثنان من الأخوة, غيرأخي الرضيع أوّلىَ.
ـ هل أمك, هي من أرسلتك إلي, لتطلب مني أن أعالج أخيك, سأل الطبيب سكوك.
ـ لا.. لا. قال فيكو.
بدأت الحقيقة تتضح, ولا حاجة لتضييع الوقت من أجل شرح أكثر للموقف. لماذا لم تأخذ أمي أبنها المريض إلى المشفى. والكثير, الكثير من الأسئلة. بدلاً من ذلك, وضع فيكو يديه في جيبه وأخرج منها كمية كبيرة من المال, عشرة كرونات.
ـ أستطيع أن أدفع, قال فيكو.
أومأ الدكتور رأسه, مطرقاً يفكر, لكنه لم يأخذ النقود.
ـ أنت قلق جداً على أخيك.
أومأ فيكورأسه بحزن وملل.
لم يكن لديه الوقت ليقف هنا, ويتحدث مدة طويلة من الزمن حول أشياء لا طعم لها ولا رائحة. يفكرفي البيت, في أخيه وأمه وما حدث لهما في فترة غيابه, يريد ويتمنى أن يعرف أوضاعهما الأن. هل سارة في طريقها إلى المدرسة, هل مات أخيه أوّلىَ, ماذا حدث مع مادس, هو أيضاً ما زال صغيراً ويحتاج إلى أن يقف إلى جانبه.
ـ هل ستأتي معي, قالها فيكو وهوعلى عجلة من أمره. البيت ليس بعيداً من هنا.
التفت الدكتورسكوك. تناول من زوجته اللفحة والمطف البني.
ـ سأخذ هذا الطريق الذي يقودني إلى المشفى, قال سكوك. قبل أن يغادر, حضن الدكتور زوجته, ضمها إلى صدره, ثم قبّلها. كان من عادته أن يفعل هذا الشيئ مع زوجته كل يوم.
ـ بالمناسبة, ما هو أسمك؟ سأل الدكتورسكوك, عندما هما في النزول إلى الشارع والسيرمعاَ.
ـ فيكو.
ثم راح فيكو يوضح. لأنه كان معتاداً على هذا النوع من الأسئلة.
ـ أسمي فيكو, واسم أبي سورين نيلسين, جدي دانماركي. والدي يعمل في صناعة البراميل الخشبية.
ـ الأن عرفت من أنتَ, قال الدكتورسكوك. والدك, هو ذاك الرجل الذي يدعى المشاغب. يطلقوا عليه هذا اللقب, لأنه ناضل وكافح من أجل تحقيق العدالة للناس البسطاء والعاديين. لكن, لم يبق في السجن مدة طويلة, فترة الصيف الماضي.
ـ نعم, ثلاثة أشهر, قال فيكو. في هذه الفترة جاء لأمي مولودها الرابع, أوّلىَ.
صمت الدكتورمدة قصيرة من الزمن, وبدلاً من أن يطرح على الفتى فيكو المزيد من الأسئلة راح ينظرإلى الناي الذي كان فيكو يحمله معه.
ـ هل تستطيع أن تعزف على الناي.
ـ نعم, قال فيكو.
ـ هل عزفك متقناً, جيداً, أم سيئاً.
ـ ربما جيداً, قال فيكو.
ـ هل لك أن تعزف, أن تسمعني قليلاً ما تجود به أناملك الجميلة والصغيرة؟
لم يكن لدى فيكو الرغبة في العزف في هذا الوقت بالذات. لأنه قلقاً وباله مشغولٌ على البيت. راح الدكتور سكوك يرافق فيكو في الطريق, بالرغم من أنه لا يعرفه, بالرغم من أنه علم أن والده كان في السجن مدة ليست قصيرة, لأسباب سياسية, تتعلق بمطالب الناس وحقوقها.
حاول فيكوالبحث ما في جعبته من ألحان, عله يعثر على نغم, عمل من أجل العثورعلى شيئ مميز. بحث في ذاكرته المسكونة بالمشاكل, أن يجد مقطوعة موسيقية مناسبة. بشكل فجائي وسريع, قفزإلى عقله, شيئ خفيف, مثل وميض الضوء إلى رأسه. لقد سمع لحن جميل في يوم ما, عندما هم ليفتح النافذة المطلة على الشارع الجنوني من الميناء. أحدهم كان يعزف لحناً جميلاً على البيانو, عدة مرات, مرة بعد أخرى, مثلما يتمرن المرء على مقطوعة موسيقية, تاركاً للمارة أن تسمع.
وقف فيكو, ماداً رأسه خارج النافذة من أجل أن يلتقط اللحن, يسمع, ويسمع كثيراً, كل ما تجود به أنامل العازف, يسمع بدقة واهتمام حتى تأكد أنه أتقن اللحن بالكامل.
أخذ فيكو نايه, وراح يعزف ذاك اللحن بهدوء واسترخاء, بينما كانا يشقان طريقهما سيراً على الأقدام في الشارع الرمادي العجوز.
ـ هل تعرف ما هو اللحن الذي عزفته؟ سأل الدكتورسكوك عندما أنهى فيكو وصلته أو مقطوعته الموسيقية.
أومأ فيكو رأسه ولم يجب.
ـ موزارت, قال الدكتورسكوك. أنها معزوفة لرقصة كلاسيكية بطيئة الأيقاع.
لم يكن فيكو يعرف شيئاً عن موزارت أوالمعزوفة الراقصة, ولا شيئ عنهما. لكنه كان يحب المعزوفة كثيراً. كانت المقطوعة صعبة للغاية, لكنه كان يعرف كيف يعزفها بحرفنة, ويتقن لحنها فوق ما يتصوره الخيال, وأين تتوزع أبعاد اللحن.
عندما عبروا الكنيسة, دخلوا شارعاً عريضاً, بين البيوت. التفت فيكوإلى اليسار. هناك توقف.
ـ تنبعث من هنا رائحة دخان.
ـ أنها رائحة عفن, رطوبة وترسبات الأوساخ الخارجة من المراحيض, ومن المحتمل وجود أشياء كثيرة قديمة بين الأبنية القديمة المتداعية, قال الدكتورسكوك. من هو الذي علمك هذا اللحن المميز.
ـ لا أحد. لقد تعلمته لوحدي, قال فيكو.
كان الدكتور سكوك على حق, لأن الرائحة المنبعثة من بين البيوت كانت قوية. لكن الأن, أكثرمن قبل. بدأت الرائحة تتضح, أنها رائحة دخان منبعثة من حريق قريب.
عندما اقتربوا من حول زاوية الشارع, توقف فيكو. دون أن يفكرأو يخطر على باله شيئ ما, مسك يد الدكتور سكوك.
في الجانب الأخرمن الشارع العريض, على المرتفع المقابل للجبل, بناية عالية تحترق. اللهب الأحمروالأزرق ينبعث, يتصاعد ويخرج من النوافذ العالية. الشرارالعالي يرتفع من أعالي السقف ليصل إلى أعلى السطح.
كان صوت عربات الإطفاء التي تجرها الخيول تسمع من على مسافة بعيدة جداً. الناس تبكي وتصرخ وتولول.
بدأ قلب فيكو ينبض بسرعة, ويقرع في قفصه الصدري بقوة.
النيران القوية في طريقها إلى الانتشاربسرعة. ستنتقل قريباً من بيت إلى بيت, ومن حارة إلى حارة. لأن جميع البيوت مبنية من الخشب السميك, القريبة والمتداخل من بعضها البعض. تستطيع النيران أن تلتهم بسرعة شديدة, كل من يقف في طريقها, فيما لو هبت نسمة هواء خفيفة من البحر القريب من المدينة.
راحت الأفكارالسوداوية تغزوعقل فيكو, تلف وتدورفي رأسه, تأخذه هنا وهناك. يقول لنفسه:
ـ يجب على والدي أن يأتي إلى البيت, يساعدنا في مصابنا الأخير. عليه أن يحمل جميع المفروشات الموجودة في المنزل, أن ينقلها إلى فناء وساحة الدار. الشراشف واللحف والوسائد التي وعدت الوالدة أن تحيكهم في الصباح, قبل أن تأخذهم النيران, وتلتهم كل من يقف في طريقها, وقتها سيكون على والدتي أن تدفع النقود مقابل هذه الأشياء الأخيرة, التي ستحترق. حينها, ربما يستطيعون, أن يأخذوها إلى السجن ويضعوها فيه, لأنه ليس لديها النقود الكافية لكي تسدد المبلغ المترتب عليها. ومن المؤكد ان أخيه الصغيرأوّلىَ في طريقه إلى الموت.
ـ لا.. لا, همهم فيكو بصوت عالي وتابع. لا .. لا!
شدّ الدكتورسكوك على يد فيكو.
ـ يجب أن لا تخاف, قال الدكتور.
على الأرجح أن رجال الإطفاء في طريقهم إلى هنا لإخماد النيران والحريق. علينا أن نأخذ كل مشكلة على حدة, حتى نحلها. في البدء يجب أن نذهب إلى أخيك الصغير.
ـ في أي حي تقطن؟ سأل الدكتور.
كان الدكتورسكوك على حق فيما يقوم به من حيث الأولويات, خاصة فيما يتعلق بموضوع الطفل المسكين, الصغيرأوّلىَ. هذا إذا لم يمت فعلياً إلى الأن من البكاء والصراخ.
ـ تعال, قال فيكو. علينا الدخول من البوابة التالية.
قبل دخول الدكتورسكوك إلى المطبخ, مع فيكو, توقف عند حافة الباب. راح ينظف حذائه بشكل كامل ومضبوط حتى لا يترك أي أثرللوسخ عليه, عند دخوله المنزل. لم يكن في المنزل قاعة استقبال, أوركن لتعليق الملابس, أو الأشياء التي يحملها معه المرء من الخارج, كالمظلة المطرية أوغيرها. دخل الدكتورمباشرة إلى المطبخ, ومنها تابع سيره إلى الأمام, إلى داخل الغرفة الجوانية من المطبخ.
صرخ أوّلىَ بصوت مخنوق, لأنه لم يعد قادراً على البكاء العالي من كثرة المرض والإجهاد والتعب. صار يئن ويتأوه بصعوبة بالغة, يخرج صوته على شكل حشرجة.
نظرالدكتورحوله, ماداً بصره في كل أرجاء البيت, رآه نظيفاً وجميلاً.
ـ محل بيع الحليب, الكائن في هولدا لوندستروم يحترق, النيران تشتعل فيه, قال فيكو.
ـ نعم, لقد سمعت عربات الإطفاء تتجه إليه, قالت الأم.
نظرت إلى الدكتورسكوك بلطف وهدوء وحيادية, في محاولة أن لا تبد منها أي إشارة تنم عن إعجاب أو اهتمام خاص. ربما اعتقدت أن أبنها فيكوقد جلب معه إلى البيت أحد المشردين الذي فقد بيته بسبب الحرائق والنيران.
ـ نهارك سعيد, مدام نيلسين, قال سكوك. لقد أحضرني فيكو إلى هنا, إلى بيتكم. أنا الدكتور سكوك.
ـ فيكو, قالت الأم هذا مع تنهيدة عميقة خرجت من صدرها. كان عليك أن تسألني قبل الإقدام على أي شيئ.
أخذ الجزمة, والمعطف الجلدي. حمل أخيه الصغيرمادس وجلس على الأريكة.
قرب الدكتورسكوك يديه من الموقد, فركهما, اليد بالأخرى, ثم قربهما فوق النار, حتى يحصل على المزيد من الحرارة. بعد قليل, بعد أن أحس بالدفئ والحرارة تدخل في أوصاله, اقترب بحذر شديد من الطفل الرضيع, أبن الخمسة شهور, من أوّلىَ.
ـ احياناً كثيرة يكون من المفضل أن لا يسأل المرء أي شيئ, قال الدكتور سكوك. فيكوعمل الشيئ الذي يجب أن يعمله, الشيئ الصحيح. أنا أسمي الدكتور سكوك. أعرف زوجك, إنه رجل شجاع ومكافح صلب من أجل الحق والعدالة. هل تسمح السيدة نيلسين أن تجلب لي منشفة نظيفة وتضعها على الطاولة.
تحدث الدكتور مع السيدة حرم نيلسين بلطف وهدوء وأدب جم, حتى يضفى على روحها الهدوء ويبعد عن نفسها الخوف والقلق. لكن مادس لم يكن هادئاً. أحس أن جسد أخيه الصغير, يرجف ويرتعش.
ـ تعالي يا سارة, قال فيكو. هل لك في مساعدتي, هل تستطيعين أن ترتبي السريرفي الغرفة المجاورة.
ليس لأنه لا يعرف ماذا سيفعل الدكتور سكوك, وأنما حتى لا يراه الصغير مادس. مادس إنسان حساس, سريع التأثر مثل والده. على أية حال, هذا ما تقوله السيدة حرم بلوم كرين.
كانت الأم وسارة هادئتان ومتزنتان.
ـ أنت هادئ تماماً, يا فيكو. هكذا قدرت مدام بلوم كرين.
بالرغم من أنه لم يعط أي صورة مغايرة لما قالته مدام بلوم كرين, إلا أن فيكوكان خائفاً مثل أخيه الصغيرمادس, حتى لو لم يكن يرجف أو يبان عليه ملامح الخوف كثيراً.
بينما كان مادس يساعد في طوي الشراشف والوسائد والأغطية مع بعضها, ويلف الفرشة, ثم يرميها على الأريكة, سمع فيكوصوتاً يصدرمن المطبخ. ذهب إلى مصدر الصوت فرأى بقعة من براز أوّلىَ على صدرأمه, بينما الدكتورسكوك يتحدث معه بهدوء ولطف جم.
نظر فيكو حوله. كان كل شيئ جميل وهادئ, البيت والمكان. لم تكن والدته خجولة من الموقف. السجاجيد على الأرض, العديد من اللوحات والمرآيا معلقة على الجدران.
ـ ماذا يفعل الرجل مع أخي أوّلىَ, همهم مادس بصوت خافت. لا نسمح للرجل أن يأخذه معه.
ـ لن يأخذه, لا تخف, قال فيكو. مهما حدث, حتى في غياب والدنا.
فجأة بان الغضب على محيا فيكو, لأن الأفكار والخيالات, راحت تحمله من مكان إلى أخر:
ـ ماذا تعني الحياة, النقود, البراميل والأحواض الخشبية, فيما إذا مات الطفل الرضيع أوّلىَ. وبدلاً من أن يفكروالدي في قضايا العدالة والمساوة والفقروالعمال الكادحين, كان الأجدربه أن يكون في البيت مع والدتي وأولاده.
قبل أن يسترسل فيكوفي تفكيره أكثر, فتح الباب من جهة المطبخ المطل على الدرج. سمع وقع خطوات قوية واثقة, تقترب من مكان جلوس العائلة. فتح الباب. أخيراً جاء والده.
أخذ فيكو يد أخيه مادس وذهبا إلى المطبخ. بقي والده واقفاً في فم الباب, عند عتبة المطبخ, دون أن يمد خطوة واحدة إلى الأمام.
ـ ماذا يحدث هنا, سأل والد فيكو.
ـ لا تقلق, حاول أن تكون هادئاً, قال الدكتور سكوك وابتسامة لطيفة على قسمات وجهه. بالتأكيد أبنك سيشرح لك كل شيئ, إنه ولد ذكي وعاقل.
ـ فيكو أحضر الدكتورسكوك, قالت الأم.
ـ لقد قمنا بعمل بسيط, إذا جاز التعبير, قال الدكتور سكوك. ثم مضى يمسد بيديه بحذروانتباه فوق بطن الطفل الرضيع أوّلىَ.
ـ المسكين أوّلىَ, قال الدكتور. بطنه قاساً مثل الحجر, لديه إمساك شديد. ثم نظرإلى الأب.
ـ أعرف من أنتَ, وجه الدكتوركلامه للأب. أنت سورين نيلسين. أنا اسمي الدكتورسكوك.
ـ لم أكن أعرف أن وضع أبننا الرضيع إلى هذه الدرجة من الخطورة, قال الأب. جئت على وجه السرعة لأنني سمعت بالحريق الذي يجتاح المدينة.
ـ لم تكن لتستطيع أن تفعل شيئاً يذكرفيما لوكنت هنا, قالت الأم.
قالت هذا الكلام, كما لو أنها تريد أن تعتذر, أو تقدم اعتذاراً للأخرين, نيابة عن زوجها, عن غيابه عن البيت مدة طويلة.
ـ لقد قلت لزوجي سورين فيما سبق من الوقت, من الأفضل له أن يتم الانتهاء من العمل الذي بين يديه, طلبات الزبائن من البراميل والأحواض الحشبية الأخرى, تابعت الأم كلامها. نحن بحاجة إلى النقود لتأمين مصاريف البيت والعائلة والأولاد.
ـ لقد فهمت عليك, قال الدكتورسكوك.
ـ لكن, العامل الحرفي سيد نفسه. ليس مضطراً أن يبقى في المصنع أو الورشة أثنتا عشرة ساعة في اليوم, ستة أيام في الأسبوع.
نظر الدكتور سكوك إلى الأب.
ـ أنا لست مستعداً لذلك, قال الأب. لست مستعداً على الأطلاق للعمل كل هذا الوقت الطويل, ولا يوجد إنساناً مستعداً لذلك. ماذا عن الأولاد؟ هل تستطيعون أن تفعلوا لهم شيئاً؟ أنهم بؤساء, صغار. هؤلاء الأطفال يدفعون المرء لليأس التام.
ـ في البدء, علينا أن نسرع في معالجة بطن الصغير. أن أحضر شيئاً, أعطيه له. ثم سأعود في الليل لأطمئن عليه ومراقبة وضعه. أنا قلق جداً على وضع زوجتك, قال الدكتور سكوك. إذا لا تفضفض ما في داخلها, لا تفرغ ما في صدرها من الضغوط المتراكمة, سيكون هناك مشكلة كبيرة.
كان الطفل الرضيع أوّلىَ صامتاً, ينظرباهتمام إلى الدكتور سكوك.
في هذه اللحظات وقف سورين بالقرب من زوجته وراح يضمها إلى صدره ويحضنها.
دخل الدكتور إلى الغرفة الثانية.
ـ بيتكم لطيف وممتع ونظيف, قال سكوك.
ـ لا تكلفنا شيئاً, فيما إذا نظفنا حولنا, ردت الأم.
ـ لقد أحترقت زاوية البيت, قال الأب ثم أشار. هناك, في ذلك المكان, في هولداوندستروم, في محل بيع الألبان والحليب.
ـ لا اعتقد أن الحريق الذي حدث كان بهذه الدرجة من الخطورة, قال الدكتورسكوك بهدوء. رجال الإطفاء سيخمدون النار بأسرع وقت ممكن.
ـ من المؤسف, ستكون مصيبة كبيرة, فيما إذا اجتاحت النيران المكان وانتقلت من بيت إلى أخر, قال الأب.
ـ وإلا, يمكن لهذه المنطقة كلها أن تحترق بسهولة ويسر. الناس لن يقبلوا أن يمكثوا فيها بعد اليوم.
ـ مكاننا جميل, إننا نسكن في مكان حلوومريح, قالت الأم. الكثيرمن الناس, ليس لديهم مكان آخريلجأوا إليه, أويسكنوا فيه, غير هذه المنطقة.
ـ أنا اتفق مع زوجك تماماً, قال الدكتورسكوك. لكن, للأسف الشديد لا يمكنني أن أقف في الساحة العامة وأشارك في مظاهرة سياسية مثلك.
ـ ما رأي السيدة نيلسين في مشاركة زوجها في التظاهرة, والتي تقوده في نهاية المطاف إلى قضبان السجن, طرح الدكتور سكوك هذا السؤال.
ـ يفعل سورين ما هو مقتنع به, قالت الأم بهدوء وثقة. أثناء بقاءه في السجن, علي واجب واحد:
أن اعتني بالأولاد والبيت, تأمين متطلبات حياتهم ورعاية شؤونهم بتفان وجدية.
ـ وأنت, أشار الدكتورإلى الصبي فيكو. ما هو رأيك في ما يفعله والدك, في القيام بالمظاهرات المناؤئة للحكومة.
لم يكن فيكو بحاجة إلى أن يفكرليقرر.
ـ أنا مع رأي والدي ووالدتي.
كان رأي الدكتور يصب في رأي الوالد والوالدة. أن من الخطأ الفادح أن يعمل الصبيان والبنات الصغار السن في المعامل والمصانع.
باستثناء العطلة الأسبوعية, التي تقع في يوم الأحد. يكدح العمال أغلب أيام الأسبوع, طوال شهورالسنة. لا يتوقفون عن العمل لأي سبب, حتى في الصيف, لا يسمح لهم, أن يجلسوا قليلاً تحت أشعة الشمس الجميلة لبضعة لحظات, يفرحون بالضوء الساطع القادم من البعيد.
ـ كان حموي, أبو زوجتي, يحتل منصبا رفيعاً, يقررمصيرالناس, ويتحكم في حياتهم. حاولت جاهدا أن اعترض على سلوكه, وعملت من أجل تغييره, قال الدكتور سكوك.
ـ هذا جيد ورائع, قال الأب. يحس المرء بالفرح والسرور, عندما يفهم الناس لماذا ناضلتُ وكافحتُ مع بقية رفاقي.
مررالأب يده على شعررأسه الأسود الفاحم. كانت الأم تقول, أنه يتهيا لها, أن زوجها, يبدو لها, إنه يشبه الطليان إلى حد كبير, بشعره الأسود المجعد وعينيه السود, الجميلة.
ـ لقد جئت بزيارة قصيرة إليكم بعد العمل, لاطمئن على سيروضع الرضيع أوّلىَ, قال الدكتورسكوك ثم حمل معطفه وقال لهم, وداعاً.
جلست الأم على الأريكة, كانت متعبة للغاية.
ـ أنا قلقة جداً على العمة كلارا, قالت الأم, ثم نظرت إلى الأب. الحريق وصل إلى سوق الألبان.
ـ نعم, لكنها في أعلى الشارع, قال الأب. هبوب الريح يتجه ناحيتها.
ـ العمة كلارا تعيش في المنطقة القريبة من سوق الألبان, قالت الأم. وضعها يجعلني قلقة طوال الوقت. أنت تعرف كيف هي العمة كلارا. وحيدة, غريبة الأطوار, تبقى جالسة في بيتها طوال الوقت. ربما تتسمم من الدخان المتصاعد من النيران والحرائق.
ـ أنا متأكد أن أحدهم سيهتم بها. لا تقلقي عليها على الأطلاق. يكفي إنك تعتني بأبننا أوّلىَ.
التفت الأب فرأى أبنه مادس, مسكه ورفعه إلى الأعلى بيديه.
ـ في يوم من الأيام كنت مثل أخيك الصغيرأوّلى, قالها الأب بمرح وسعادة بالغة.
ـ وكان لدي وجع في بطني؟ سأل الصغير مادس.
ـ لم يكن لديك وجع في بطنك, قالت الأم. كان لديك وجع في أذنك.
ـ آه, لو أن أحدهم يهتم بالعمة كلارا ويساعدها في الخروج من محنتها.
لا ينبغي لأمي أن تقلق على العمة كلارا دون داع, هذا ما خطر على بال فيكو. ثم ذهب إلى باب المطبخ, أدخل أقدامه في الجزمة الكبيرة, ولبس معطفاً جلدياً يعود لأبيه, وخرج.
من الطبيعي أن تكون الأم قلقة. أغلب الناس قلقين, لاقتراب النيران من بيوتهم. أحس فيكوباليأس والحزن, بعدم القدرة على فعل شيئ في هذه الأوقات.
البيوت كثيرة, مكتظة بالسكان, تصطف الواحدة بجانب الأخرى في ذلك الحي. في كل مزرعة يوجد عدة مباني كبيرة, بين المزرعة والأخرى, سياج عالي من الخشب السميك.
الريح القوية, تستطيع أن تنشرالنارفي محيط واسع من البيوت والأبنية والمزارع, وتمتد بسرعة كبيرة, لتأخذ كل من يقف عثرة في طريقها.
في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها الناس, شعر فيكو, إنه يستطيع الذهاب إلى الناس, مثل أبيه والدكتورسكوك, والتحدث معهم, حول الحريق, البيوت التي طالتها النيران, البيوت المهدومة, التي شوهت ودمرت من جراء ذلك. فكرمع نفسه:
ـ يمكننا أن نبني بيوتاً جديدة, شقق سكنية أفضل وأحسن, شقق مؤلفة من غرفتين. ومضى خياله يأخذه:
ـ تتوق نفسي, العيش في شقة سكنية فيها غرفتين, أن يكون لدينا غرفة جميلة, تستطيع والدتي ووالدي وأخي أوّلىَ الانتقال إليها, وترك المطبخ والعيش في غرفتهم الجميلة الجديدة. في الغرفة الأخرى, غرفتنا, يستطيع والدي أن يصنع سريراً لكل واحد منا. يمد أنابيب المياه الحلوة والمالحة من وإلى المطبخ, مثل بقية البيوت الجميلة التي تقطنها العائلات الغنية, مثل بيت المديرالعام فيسلي. أن نتفادا سحب الماء من محطات التعبئة في المزرعة ثم جر الماء الملوث من البيوت ورميها في مكان بعيد, تحت ثقل البرد والثلج وزمهريرالطقس القاسي في بلادنا.
الرياح هبت من الجهة الغربية, دفعت النيران إلى الانتشارفي كل مكان تطاله, على طول المسافة الممتدة من الأبينة المحاذية للجبل, وحوله. أكلت الكثيرمن زوايا البيوت, التابعة لمبنى سوق الألبان المسمى هولدالوندستروم.
لم تكن النار بالسعة التي تجعله يأخذ المبنى كله, فقد أبقى على السقف من الانهيار.
يبدو أن البيت التي تقيم فيه العمة كلارا لم يتضررإلى تلك الدرجة من الأذى.
في البيوت الأخرى, الكثيرمن الرجال الأقوياء والشجعان, يحملون ما يمكن حمله, الأرائك والأسرة والكراسي والطاولات. وضعت النساء على الأسرة, الفرش والشراشف, الوسائد والمناشف في الشارع, بالإضافة إلى المفروشات الباقية على امتداد الأماكن البعيدة عن النار.
عندما وصل فيكوإلى زاوية المبنى المحترق, أوقفه أحد رجال الشرطة.
ـ لا يمكنك دخول المبنى بدون تصريح مسبق, قال أحد رجال الشرطة. يسمح للناس القاطنين هنا فقط, بالمرور.
ـ أنا مقيم هنا, قال فيكو.
ربما نطق فيكوالحقيقة. حينها, اقترب رجل أخرمن الشرطة, تعرف على شخصية فيكومن خلال الدوريات العادية التي كان يقوم فيها في الحي الذي يقطنه, من أجل المحافظة على الهدوء والنظام.
ـ ألست فيكو, قال الشرطي بلطف وهدوء.
ـ أمي قلقة على العمة كلارا.
ـ هل هناك صلة قرابة بين كلارا وأبيك, سأل الشرطي.
ـ لا.. لا. أمي تهتم بها وتعتني بصحتها. العمة كلارا لديها وضع خاص, أنها وحيدة ولا معين لها, قال فيكو.
ـ على الأرجح أن رجال الإطفاء ساعدوها. مع هذا لن نسمح لك بدخول المبنى, ثم إلى بيتها. ربما النارتنتشر إلى أجزاء أخرى من المبنى, تابع الشرطي كلامه.
في هذه الأثناء اقترب بونتوس, وأمسك فيكو من قبة معطف وجره. لقد كان بونتوس في عمرفيكوورئيس العصابة, في مجموعة الفتيان المشاكسين في المدينة.
كان فيكو في عصابة أخرى, يمارس هذه الهواية, عندما تسنح له الظروف في القيام بذلك. أحياناً كثيرة, كانوا يطاردوا بعضهم, بين الأقبية المظلمة, أو فوق أسطح المنازل. يعرفون كل ساحة, كل بيت, كل شارع أو جادة. يستطيعون أن يعبروا بوابات المزارع والأفنية, يتسلقون الأسيجة الخشبية العالية, يهربوا من خلالها إلى الشارع أوالجادة أوإلى الحي الأخر. عندها عليهم, أن يكونوا حذرين من أذى عجوز شمطاء غاضبة, أو كلاب شاردة.
بالرغم من التغيرالكبير الذي طرأ على كليهما, فيكو وبونتوس, عما كانا عليه من قبل. لقد كبروا, وفي السنة الأخيرة من الدراسة. يحاول كل واحد منهما, أن يعمل في أعمال صغيرة, من أجل الحصول على المال لإعالة أهله, مثل إحضاربعض الحاجيات من السوق, أوضرب السجاد بالعصا من أجل تنظيفها.
بونتوس مثل فيكو, كلاهما لديه العديد من الأخوة الصغارالمحتاجين للرعاية والاهتمام.
خلال الخريف فهم فيكو أن بونتوس يرغب أن يكون صديقه. لقد تحدثوا مع بعضهم في أوقات الاستراحة, عندما كانوا بصحبة بعضهم في المدرسة.
ـ إلى أين ستذهب, قال بونتوس.
ـ إلى بيت العمة كلارا. رد عليه فيكو.
ـ هل تمكث لوحدها في البيت, سأل بونتوس. أين تقيم.
ـ هناك. أشار فيكوإلى الجهة التي تقيم فيها العمة كلارا. الشرطة لا تسمح لي أن أذهب إليها.
الحريق يلتهم المنزل المجاور, بينما الرياح تهب من الجهة الأخرى. يمكن تدبرالأمر, لأن رجال الإطفاء يعملون بجد.
ـ لكن المنازل مملوءة بالدخان. ربما العمة كلارا تختنق من الدخان, قال فيكو.
ـ على الأرجح سيكون هناك من يساعدها في الخروج من المحنة التي هي عليه, قال بونتوس.
ـ من هو؟ سأل فيكو.
ـ حاول أن تسأل رجال الإطفاء من هذا الطرف, وأنا أسأل من الطرف الأخر, قال بونتوس.
كان الشارع مملوءاً بالناس الفضوليين, دائماً يكون الوضع هكذا في حالات الحرائق. ثم حشر فيكونفسه مع بونتوس ومشى كل واحد في أتجاه. بعد عدة دقائق التقوا مرة ثانية.
ـ لا.. لا, قال بونتوس. لم يرها إنسان في هذا الجانب.
ـ القليل من الناس, يعرف مكانها, قال فيكو.
ـ في هذا, أنت على حق, قال بونتوس.
العمة كلارا, امرأة طويلة, نحيفة, لم يرها إنسان أو فكربها. امرأة كبيرة في السن, يغطي جسدها النحيف, دائماً, معطفاً طويلاً أسود اللون, وحذاء أسود, وقبة عالية تغطي كل جسدها من الأعلى, وحقيبة يد سوداء طويلة.
إحدى المرات, تحدثت والدتي معها, عندما كانت في محل بيع الألبان. ساعدتها في الصعود على الدرج للوصول إلى غرفتها في العلية.
بعض الأحيان, كانت والدتي تذهب إلى بيتها, تكنس وتنظف لها غرفتها, تغسل لها الشراشف واللحف والوسائد, ترتب لها سريرها, تساعدها في ترتيب منزلها بعد عزل كل شيئ.
العمة كلارا إنسانة وحيدة دائماً. وحيدة, كبيرة في السن, مشلولة الإرادة والقلب. لقد فقدت زوجها وحبيبها, في رحلة, في البحر. كما مات أبنها أثناء مشاجرة, تعرض لطعنة سكين نالت قلبه. كما مات أبنها الأخر, نتيجة مرض عضال أصابه في رئتيه. ربما هذا الشيئ أمرعادي للناس, لكن هذا الوضع شل العمة كلارا وأفقدها عقلها. وما زاد الطين بلة, أن أبنها الثالث, الأصغر, صعد على متن إحدى السفن التي تجوب البحار, ورحل إلى الولايات المتحدة الأمريكية ولم يعد.
ـ أمرها مفجع, قال بونتوس.
ـ نعم, أمرها مفجع للغاية, دائماً, تكرروالدتي هذا الكلام.
ـ ومأساوي, قال بونتوس
ـ نعم, إن وضع العمة كلارا مأساوي, هذا ما يقوله والدي بشكل دائم. الوضع العام, مأساوي للكثيرمن الناس.
عندما تعرفت والدتي على العمة كلارا, ساعدتها في عدة أشياء. عندما تطبخ كمية كبيرة من الطعام, أخذ بعضاً منه, أضعه في إناء محكم, وأسرع في الذهاب إليها, وأقدمه لها. لكنها, عندما ترى الطعام, لا تتكلم أو تبدي أي شكرأواهتمام به, كما لوأنها ليست في هذه الحياة أولا تعيشها بشكل سوي مثل بقية الناس.
ـ لا بد لي من الذهاب والبحث عنها, قال فيكو لبونتوس. لا تستطيع البقاء في تلك العليا.
ـ في بقاءها هناك ستتحول إلى جثة هامدة أومثل سمكة الرنكة المجففة بالملح, قال بونتوس.
اقترب الشرطي وأمسك يد فيكو.
ـ لا تقترف أي حماقة يا فيكو, قال الشرطي. أتمنى منك أن تفهم هذا الأمر.
ـ أنظرإلى هناك, أترى نيس كارلسون, قال بونتوس. إنه واقف بجانب سلم إطفاء النيران. على الأرجح إنه يستطيع أن يفعل شيئاً.
نيس كارلسون سيصبح بنّاءً. إنه شاب قوي وصلب, وخال بونتوس من حيث النسب. إنه يعمل كمتطوع في فرق إطفاء الحرائق. عندما تشتعل النيران في مكان قريب أو مجاور, يسرع نيس كارلسون راكضاً, ليصل إلى المكان, من أجل إطفاء النار المشتعلة.
اندفع بونتوس بأتجاه خاله, نيس كارلسون, الذي لمحه قبل لحظات قليلة.
تعال يا فيكو, صاح بونتوس.
هرب فيكومن رجال الشرطة وراح يركض بكل طاقته.
طوال الوقت تتحطم المواد, في المباني المحترقة, يرافقها الصخب العالي, صراخ وعويل, أصوات صهيل الخيل, حركة خبب أقدامهم وهي تنقل عربات الإطفاء من مكان إلى آخر. النيران تشتعل, تأكل الأخضرواليابس. بينما على الأطراف, يتعالى الصوت القوي الخارج من مطافئ الحرائق.
ـ أين نافذة العمة كلارا؟ سأل بونتوس.
ـ هناك, قال فيكو, وأشارإلى الجهة التي تقيم فيها. في الطابق العلوي.
ـ انتظرهنا, قال نيس كارلسون.
تحدث مع بضعة رجال من عناصرالإطفاء. بعد ذلك عزموا على تنفيذ ما طلبه نيس منهم. أحضروا السلالم الطويلة والعالية, مدوها على الجدران.
ـ إلى الأعلى قليلاً.. إلى الأعلى, قال فيكو.
عندما وضعوا السلم على النافذة المطلوبة, نافذة الغرفة التي تعيش فيها العمة كلارا, بدأ نيس كارلسون يتسلق السلم ويصعد.
ـ هذا لن ينفعنا بشيئ, قال فيكو. العمة كلارا لن تأت معك. لا يمكنك أن تتحدث معها.
قبل أن يلحقه أحدهم أو يوقفه, صعد فيكوعلى السلم وراء نيس كارلسون إلى الأعلى, إلى نافذة العمة كلارا.
ـ هذا غير معقول ما تفعله يا فيكو, صرخ بونتوس.
ـ أنزل يا فيكو, قال نيس كارلسون, ستقع إلى الأسفل. السلم قديم ومهترء, يهتزتحت الحركة بقوة, ربما يتمزق.
لم يرد فيكو على نداء كارلسون وصديقه بونتوس. راح يصعد بعزم لا يلين على السلم. يندفع بقوة إلى الأعلى, درجة بعد درجة.
احياناً تأتيه دفعة قوية من الدخان, ملفوفة على بعضها, على شكل كتل مصرورة, تضرب وجهه وجسده. لكن كل هذه الأمواج العاتية, التي تلفحه لم تعدل من رأيه او تغير من قراره أو تثنيه عن عزمه, كي يعود أدراجه وينزل. حتى إنه لم يسمح لنفسه أن ينظر إلى الأسفل ليرى الشارع والناس. وبدلاً من ذلك تمسك بقوة وصلابة بالسلم, إلى أن أجتازجميع الدرجات, لأحساسه أن رُكبّه كانت طرية ومرنة ساعدته على التسلق مع بعض الألم على ذراعيه. في النهاية وصل إلى جانب النافذة, قرب الموقع الذي وقف عليه نيس كارلسون. من خلال النافذة, رأى فيكو العمة كلارا جالسة في غرفتها غير مهتمة عما يدور حولها من أحداث.
تناول نيس كارلسون بلطة من على خاصرته, من أجل تحطيم ألواح الزجاج القابعة على النوافذ.
ـ انتظر, قال فيكو. لا تكسرالزجاج, راح يدق بقوة على اللوح الزجاجي للنافذة. استغرق الأمرمدة قصيرة. لكن في النهاية فتحت العمة كلارا النافذة, وراحت تنظرإلى فيكو ونيس كارلسون باستغراب وتعجب.
ـ ماذا تريدون, قالت العمة كلارا. ماذا تفعلون هنا.
نيس كارلسون تسلق النافذة, ودخل إلى الغرفة, ثم تبعه فيكوبحذر, بينما رُكبّه ترتعش بشدة.
ـ العمة كلارا, قالها فيكوبلطف وتهذيب جم.
ـ البيوت حولك تحترق. نيس كارلسون وأنا, جئنا لنساعدك من أجل الخروج من هنا. بينما كانوا يتحدثون معها, هبت كتلة دخان سوداء من على الجوانب ومرت بمحاذاة النافذة. لكن إلى ذلك الوقت, لم يكن الدخان مملوءاً في غرفتها, إلى ذلك الحد الذي يجعلها تختنق.
ـ أنوي البقاء هنا, قالت العمة كلارا.
ـ أمي ترغب من كل قلبها, أن تأتي معي إلى بيتنا. هكذا شرح فيكو المسالة لها.
ـ لم يسبق لي أن زرت بيتكم, أو جئت إلى منزلكم على الأطلاق, قالت كلارا.
ـ لكن الأن, هل ترغبين في البقاء على قيد الحياة, أم تموتين, قال نيس كارلسون ذلك, ثم مسك يدها ليجرالعمة كلارا. سنساعدك في الخروج من هنا عبر السلم.
ـ أنا جالسة في مكاني لن أتحرك أبداً, قالت العمة كلارا. ثم أنا لا أخرج من بيتي من خلال النافذة.
ـ لا يمكن أن ننزلها من على السلم, قال فيكو.
ـ لكن الدرج مملوء بالدخان يا فيكو.
أحس فيكوهوالأخربعدم الرغبة في النزول عبر السلم القديم لرجال الإطفاء. بالإضافة إلى ذلك, فإن الطابق الثالث عالي جداً بالنسبة لامرأة كبيرة بالسن وفاقدة الوعي.
ـ سنختارالنزول عبر الدرج, قال فيكو. علينا الإسراع في ذلك.
ـ سنضع المرأة الطاعنة في السن, في الوسط, بيني وبينك, وننزل الدرج؟ قال نيس كارلسون. كما ترغب وتريد, سنفعل ذلك بحذر وانتباه.
أخذ نيس كارلسون منشفتان معلقتان فوق موقد النارالحديدي, وغمسهما في دلوالماء, الذي كان إلى جانب الموقد. بعد ذلك عصر المناشف بشكل مضبوط.
ـ ضع المنشفة المبللة, على فمها وأنفها, وأربطها برقبتها من الخلف, قال نيس موجهاً حديثه لفيكو.
بعد ذلك أخذ مناشف أخرى, ووضعها على وجه العمة كلارا. لم تتكلم المرأة المسنة شيئاً , ربما لأنها فهمت أن الأمرجدي, ولا يمكن لها أن تضيع الوقت, ولثقتها الكاملة بفيكو.
أحضرت معها حقيبتها اليدوية السوداء, ومضت تمشي بصمت إلى قرب النافذة. راحت تنظرإلى الميناء. قالت أم فيكو, في ما مضى من الزمن, أن العمة كلارا لا تقف أطلاقاً على النافذة, أو تتأمل مجيئ أحدهم من مكان ما, لأنه لا يوجد في ذاكرتها إنسان ما, يجعلها تنظر.
أحس فيكو أن المنشفة المبللة موجودة بشكل جيد على فم وأنف العمة العجوز.
ـ لكنك؟ وجه فيكو سؤاله إلى نيس كارلسون. ألا تحتاج أنت أيضاً إلى منشفة مبللة؟
ـ أنا معتاد على ذلك. أحبس نفسي, الشهيق والزفير, إلى أن أصل إلى تحت.
لم يكن الدخان بالكثافة الكبيرة على الدرج مثلما كان يتوقعها فيكو.
لكن الرائحة كانت لاذعة وقوية, بالإضافة إلى ذلك, كان مدخل الدرج مظلماً.
حمل نيس كارلسون العمة كلارا وراح ينزل الدرج وهي بين يديه, يمشي بخطوات وئيدة, يترنح تحت ثقل جسدها. تقدم ثلاثة رجال من عناصر الإطفاء لمساعدته, وراحوا يتعاونون معه في حمل المرأة العجوزإلى أن وصلوا إلى أسفل المبنى, ثم إلى الشارع.
أخذ نيس كارلسون يد فيكوعلى جنب, وراح يتحدث معه.
ـ ضع المنشفة على كامل وجهك, حتى تتجنب دخول الدخان إلى عينيك.
أحس فيكو كما لو إنه في حلم مرعب, بالرغم من أن نيس كارلسون كان إلى جانبه طوال الوقت.
في النهاية نجو من النار, صاروا أحرار في الشارع.
أحس فيكوبضجيج إرتطام الحجارة تحت النوافذ.
ـ من حسن حظي إنك كنت معي, قال نيس كارلسون. دونك لم أكن أستطيع أن أفعل شيئاً. لما أستطعت أن أخرج العمة كلارا.
على جانب السلم الذي يتسلق عليه رجال الإطفاء وقف بونتوس مع العمة كلارا.
ـ إنني واقف بجانب العمة كلارا, قال بونتوس. والدك ينتظرك في الجهة الثانية, وأشار بونتوس إلى المكان الذي يقف عندها والد فيكو.
وقف فيكوهادئاً, وتتنفس الهواء النظيف, بعيداً عن رائحة النيران والدخان. بالتأكيد لن ينسى الدخان المتصاعد داخل بيت الدرج.
الأب, الدكتورسكوك والعم بلوم كرين, وقفوا بجانب رجال الشرطة, ينتظرون نزول فيكو ومجيئه إليهم.
ـ يكفي أن أخيك أوّلىَ مريض, قال الأب. من حسن الحظ أن والدتك لا تعرف إنك تسلقت السلم الذي يستخدمه رجال الإطفاء.
ـ العمة كلارا تفعل ما تريد. لم يكن لديها الرغبة, لم تكن لتقبل أن تنزل مع نيس كارلسون لو لم أكن معه في غرفتها في العليا, قال فيكو.
تقدم الأب وحضن أبنه بحرارة وحب.
ـ أنت على حقاً تماماً, لكني كنت خائف عليك, قال الأب.
فيكو وأبوه مضوا إلى عند العمة كلارا الواقفة بجانب صديقه بونتوس.
في هذه اللحظات, حدق بونتوس في وجه فيكو.
ـ الناي, سأل بونتوس. أين الناي يا فيكو.
بحث فيكوعن الناي في جيبه, خلف حزامه. في العادة يكون في المكان الذي يضعه بشكل دائم, في خزانة المطبخ.
وقف فيكوجامداً في مكانه.
ـ إنه هناك, همس بصوت منخفض. لقد رميته في بيت العمة كلارا, ويجب علي أن أجلبه. يجب!
التفت حوله حتى لا يراه أحدهم, من أجل أن يصعد على السلم.
ـ قف, قال الأب. قف مكانك لا تتحرك يا فيكو.
ـ الإنسان يمكنه أن يشتري ناياً جديداً يا فيكو, قال الدكتور سكوك هذا الكلام, وراح يمسد بيديه على شعره.
أصاب فيكو الدواروالحزن والقلق. لقد أخذ الناي من خاله, أخو أمه. لا يمكنه أن يشتري ناياً آخر, لأنه لن يكون بجودة هذا الناي الذي كان بحوزته.
كان فيكو صامتاً تماماً, وهادئاً جداً.
الأب والدكتور وبونتوس نظروا إلى فيكو. وضع يديه على وجهه, وراح يئن من الألم كما لو إنه مريض.
ـ لقد دبرت الأمر, قال بونتوس. هدء روعك يا فيكو.
ـ لا يمكنك أن تصعد السلم العائد لرجال الإطفاء مرة ثانية. أنت تخاف من الأماكن المرتفعة والعالية, كما أن الدرج مملوء بالدخان والسخام السام.
ـ إذا أراد الإنسان أن يفعل شيئاً, ووضعه نصب عينيه, بالتأكيد سينجح, سيسعى إليه, سيفعل ذلك ويصل إليه, قال بونتوس.
قبل أن يلحقه أحدهم, من أجل إقافه, أندفع فيكوعائداً إلى نيس كارلسون. بدأ التسلق على السلم يزاحمه بونتوس, كل واحد يدفع الآخرحتى يكون في المقدمة ليصعد قبل الأخر. من أجل أن يكون أمامه. بهدوء وبطئ وثبات, بدأوا الصعود إلى الأعلى. استغرق الأمرمدة طويلة, طويلة جداً, قبل أن يختفوا في نافذة العمة كلارا.
خلال هذه المدة من الزمن, استمر الناس في حمل حاجياتهم التي لحقها الضررمن المنازل. شاهدوا بحزن وألم كبير, المفروشات والكثيرمن الأشياء الأخرى مرمية في الشارع.
نجح رجال الإطفاء في إخماد النيران في العديد من المنازل.
الأن, تلتف في الهواء كتل كبيرة, وموجات قوية من الدخان بفعل النيران, ولا يزال يتدفق الكثيرمن الرجال وفي يد كل واحد منهم سطل ماء, أحضره من بئرأحدهم. يناوله لرجال الإطفاء, الذين يقومون بدورهم برش الماء على الحريق, على الجدران وفي داخل المنازل.
ـ الوضع ليس سيئاً, قال الدكتورسكوك فجاة.
وقف نيس كارلسون عند أسفل السلم, وراح يسند بونتوس الذي نزل وفي يده الناي العائد لفيكو.
في النهاية صاروا في الشارع. جاء بونتوس يسعل ويتبعه فيكو.
ـ كان الناي مرمياً أمام النافذة, قال بونتوس. ثم ناول الناي لفيكو.
مسك فيكو الناي ونظرإلى بونتوس.
ـ أنت صديق حقيقي, قالها فيكوبشكل جدي. ثم حضن بونتوس وضمه إلى صدره.
ـ الأن, أذهب إلى البيت يا فيكو, أنت مبلل بالماء, جسدك وثيابك مملوءة بالسخام, خذ معك العمة كلارا. أنا والدكتورسكوك سنبقى هنا, قال الأب ذلك, وراح ينظر إلى الدكتور سكوك.
ـ نعم, ربما سيكونون بحاجة لي هنا, قال الدكتور سكوك. قل لوالدتك إنني سأتي قريباً.
ـ الأن علينا الذهاب, قال فيكو موجهاً كلامه للعمة كلارا.
ـ إلى أين سنذهب, سألت العمة كلارا.
يبدو أن العمة كلارا لم تكن تفكر أن تذهب مع فيكو وبونتوس. وقفت على طرف, وراحت تنظرإلى سخام البيت.
ـ دائماً كان هذا البيت قبيحاً, قالت العمة كلارا.
ـ ربما يبنون بيتاً جديداً, قال بونتوس. لقد فعلوا هذا الأمرمع بيتنا, بالرغم من أن البيوت أصبحت غالية جداً.
علم فيكو, ما يعنيه بونتوس في حديثه عن البيت الذي يقطن فيه. لكن بونتوس تحدث في الوقت الحالي بما فيه الكفاية, لأنه عليهم أن يأخذوا العمة كلارا معهم.
ـ يجب علي أن أشتري الحليب من محل هولدالوندستروم في الصباح الباكر, قالت المراة الطاعنة في السن. أنا معتادة على شراء الحليب منهم.
ـ سنتدبر الأمرعلى كل حال, قال فيكو.
ـ إنه لأمر مؤسف أن يصبح الناس دون مأوى, بينما الحكومة لا تحرك ساكناً, قال بونتوس. إنه لشيئ رائع أن يتظاهر والدك ويحتج على الاوضاع القائمة ويطالب بتحسين شروط حياة الناس الفقراء.
استمركل واحد يمشي على جنب العمة كلارا, يسندها كل واحد من طرف, إذا وقعت أوتترك لتتابع سيرها. لكن العمة كلارا, على ما يبدوإنها لم تكن تبالي بما يحدث حولها.
عند البوابة وقف العم بلوم كرين ومعه حصانه.
ـ يبدو أن ما ينتظرنا هو الأسوأ في الأعلى, قال العم. البيت قديم ورطب, النيران تشتعل فيه ببطئ. البيوت الجديدة سيئة هي الأخرى, لأن خشبها الجميل, جاف, وتلتهما النيران بسرعة.
ـ ينبغي لنا أن نتوقف هنا, قالت كلارا بانزعاج.
ـ أمي قلقة عليها, قال فيكو لعمه بلوم كرين. لهذا قمنا أنا وبونتوس ونيس كارلسون بأحضارها إلى هنا. أومأ العم رأسه إلى الأسفل, بينما يديه تمسد أنف الحصان وجبينه.
ـ أمك حريصة, كثيرة الاهتمام والعناية بالآخرين, قال العم. لكن ماذا ستفعلون بالعمة كلارا. ربما سيستغرق بقائها وقتاً طويلة, يمتد لبضعة أيام قبل أن تعود إلى بيتها.
وقف فيكو يفكر. لكن, يمكننا أن ندبرلها مكاناً تنام فيه بأمان وسلام وراحة.
ـ انتظر, سأتكلم مع هنّا, قال العم بلوم كرين.
هنّا هي زوجة العم بلوم كرين. إنها امرأة لطيفة مثل العم بلوم كرين.
ـ لكن العمة هنّا لديها أوجاع هائلة في ظهرها, قال فيكو.
ـ مع ذلك, يمكننا مساعدة المشردين, قال العم بلوم كرين ثم مسك يد العمة كلارا وأخذها معه. قال لها, تعالي معي. سنتدبرالأمر.
مشت العمة كلارا مع العم بلوم كرين بينما فيكو وبونتوس, واقفان, ينظران إلى بعضهما باستغراب وصمت.
في فناء المزرعة كان كل شيئ هادئ وصامت وساكن.
فتح بونتوس أنفه, وضغط على خشميه بإنزعاج, ثم انتقل إلى الجهة الأخرى.
ـ تنبعث منك رائحة كريهة, مثل رائحة سمك الرنكة, قال بونتوس هذا الكلام لفيكو. هل لديك ثياب أخرى تستبدلها بهذه التي عليك.
عندما وصلا البيت, تذكرفيكوفجأة أخيه الصغيرأوّلىَ. لم يسمع بكاء وأنين أخيه, لأنه كان مستغرقاً في النوم.
ـ كيف هو وضع أخي الصغيرأوّلىَ يا أمي, سأل فيكو.
ـ إنه أحسن مما كان عليه من قبل, قالت الأم. الدكتور سكوك رجل ذكي وعظيم. لكن, أين كنت كل هذه المدة؟ ما زالت ثيابك مبتلة إلى الأن, ومن هو الذي يرافقك.
ـ صديقي بونتوس يا أمي, قال فيكو. نحن أصدقاء. سأقول لك كل شيئ بعد قليل. ثم مضى فيكو يتحدث مع أمه عن الحريق والدخان, عن العمة كلارا ونيس كارلسون. كيف أنقذ بونتوس نايه من النيران, وأن العمة كلارا مقيمة الأن في بيت العم بلوم كرين.
ـ أحيانا يكون الأمر جميلاً, عندما لا يعلم المرء ما يحدث حوله. أحياناً يكون الأمرممتعاً, أن لا يعرف ماذا يفعل أبنه, قالت الأم. قم الأن, أذهب إلى الحمام واستحم وبدل ثيابك الوسخة. خذ الثياب التي كنت ترتديها, عندما كنت تساعد والدك في صناعة البراميل الخشبية. إلى أن تنتهي سيبقى بونتوس معي, أرغب في معرفة المزيد منه, حول الناروالأشياء الأخرى.
ذهب فيكو إلى أمه مباشرة. بحذروانتباه مسد بيديه على رأس أخيه أوّلىَ. شعره الخفيف ما زال رطباً. ثم مضى إلى الغرفة الثانية يبحث عن ثياب أخرى يلبسها. من خلال الباب سمع فيكوالحديث الذي داربين بونتوس وأمه عن أبوه والدكتورسكوك اللذان ما زالا على مقربة من الحريق والنيران.
ـ كان شيئاً رائعاً إنني أمسكت بالدكتورسكوك عندما هم بالخروج من المطبخ. المرء يحتاج إليه في حال تعرضه للإصابة, قال فيكو. كما أن أبي يحب الدكتور سكوك.
ـ على الرغم من الحادثة المفجعة للوندا لونستروم, ظلت العمة كلارا معتادة على البقاء في سوق الألبان. أما الأن, فأنها لا تتواجد مدة طويلة, قال بونتوس.
ـ حدث خراب كبيرة في كل مكان طالته النيران, قالت الأم.
ـ ما تحتاجه هولدالونستروم هومخزن بارد, يحفض الحليب من أن يحمض. يوجد مثل هذا المخزن عند العم بلوم كرين, قال فيكو.
ـ هل هو بارد حقيقة, قال بونتوس.
ـ مثل هذه المقترحات لا لعب فيها, قالت الأم. الناس بحاجة إلى الحليب كل يوم, ومخزن بلوم كرين بارد إلى حد كبير, إنه رجل مفيد, ويحب مساعدة الناس.
ـ لكن يتعين على الناس أن يعرفوا مكانه, حتى يحصلوا على الحليب الطازج, قال فيكو.
ـ نستطيع أن نضع لوحة أو لافتة في أعلى الزاوية, قال بونتوس. لوحة من الخشب, عليها كتابة سوداء بأحرف كبيرة, نقول فيها, لدينا الأن في هولدالونستروم, سوق الألبان, حليب طازج, في مخزن بلوم كرين.
بينما كانوا يفكروا في المقترحات المطروحة التفت فيكو إلى أمه.
ـ كيف حالك يا أمي, قال فيكو. ماذا قال الدكتور سكوك.
ـ صغيري أوّلى في طريقه إلى التحسن, الشيئ الرائع الذي قمت فيه, أنعكس أيجابياً علي, قالت الأم. والأن بدأ يأكل. هذا يخفف علي الأمرعلى الأقل. الدكتورسكوك وعدني أن يعود إلينا قريباً.
ـ إنه يحب والدي, قال فيكو.
ـ من هو الذي لا يحب سورين, أبيك, قالت الأم. أذهب الأن وجهز نفسك.
بعد بضعة لحظات عاد فيكو, ودخل المطبخ مرة ثانية.
ـ فيكو, هات البطاطا, ضعها في الحوض الخشبي, كي تغسلها, قالت الأم. مضت مدة طويلة على غياب سارة, قريباً ستأتي من المدرسة. ربما أبوك أيضاً. صحيح إنه يبتعد عنا مدة طويلة, لكنه في النهاية يأتي. مادس يقضي جل وقته, يلعب في الساحة, أسفل البيت. لا أجرؤ أن أزعج الصغيرأوّلىَ الأن, ربما هو مستغرقاً في النوم.
الجميع يعمل أو يذهب إلى المدرسة, لا يلتقوا إلا لبعض الوقت, ربما لساعة أو نصف الساعة, وأغلبها يكون في الاستراحة وقت الظهيرة.
بالرغم من أن الأب لديه عمل في ورشته الصغيرة الخاصة, إلا أنه لا يستطيع مغادرتها, أو أن يتوقف عن العمل. رغم إنه يعمل في صناعة البراميل والأحواض الخشبية الأخرى, لكنه لا يستطيع أن يغادرالمكان أويأكل قبل أن يجهزالقطع أوالألواح المقسمة ويضعها في مكانها المناسب.
غسل فيكو البطاطا عدة مرات. ذهب إلى الخارج, راح يضخ الماء عبر مضخة يدوية, فرغها في الدلو, ثم حملها في مغرفة ماء, وجلبها إلى البيت, ووضعها في الطنجرة. مضى مرة أخرى إلى الخارج, إلى غرفة الحطب, جلب الخشب الجاف, ووضعه في الموقد.
ـ سأذهب إلى البيت الأن, وإلا ستقلق أمي علي كثيراً, قال بونتوس.
ـ فهمت عليك, قالت أم فيكو. سلم عليها. حقيقة, إنك فتى ذكي.
أومأ بونتوس رأسه خجلاً. أدخل قدميه في حذائه ثم فتح باب المطبخ.
ـ يمكنك أن تعود وقت ما تشاء, قال فيكو.
ـ طبيعي جداً هذا الكلام, قال بونتوس.
ـ لا يوجد أي مغزى من وراء ذهابك إلى المدرسة بعد الظهر, قال فيكو. يجب علينا, أنا وأنت أن ننصب اللوحات التي تحدثتَ عنها, حتى يعرف الناس المكان الذي يمكنهم من خلاله شراء الحليب, لأنه كما تعرف, لا يوجد الأن في هولدانستروم سوق, لبيع الحليب ومشتقاته.
ـ أنا قادم, قال بونتوس. ثق بي. يجب أن نتعاون في نصب اللوحات.
أومأ فيكو رأسه. عرف إنه يثق ببونتوس, أنهم أصدقاء.
أنهى فيكو غسل البطاطا, ووضعها في الطنجرة كما قلنا, عندها بدأ أوّلىَ يبكي قليلاً, لكن ليس بتلك الدرجة التي كان عليها قبل عدة ساعات, عند أشتداد المرض عليه كثيراً قبل مدة من الزمن.
ـ حبيبي, صغيري المسكين, أوّلىَ, قالت الأم مع تنهيدة عميقة خرجت من صدرها. يجب علي أن أطبخ الغذاء الأن, هل فهمت.
تناول الأب وسارة ومادس وفيكو طعام الغذاء. سأقلي سمك الرنكة الأن, إنه رخيص ومفيد وجيد.
اعتقد فيكو أن تناول السمك المقلي المدخن, سمك الرنكة, ممل ومضجر. عندما كان أبوه يملك النقود, تناولوا الكثيرمن الأطعمة المختلفة كاللفت السويدي, لحم الخنزير, شوربة البازلاء, الفطائر المحمسة بالسمن, شرائح لحم الخزير المشوي أو المقلي, في أعياد ميلادهم. هكذا يجب أن تسير عليه الأمور, كما يظن فيكو.
ـ إنه شيئ رائع أن تبقى العمة كلارا في بيت العم بلوم كرين, قال فيكو.
ـ دائماً, العم بلوم كرين وزوجته لطفاء, قالت الأم ذلك وهمت في وضع الطفل الصغيرأوّلىَ بحذروصمت على الأريكة.
تذكر جيداً يا فيكو, عندما لم يكن لدينا مكان نقيم فيه, مكثنا في اسطبل العم بلوم كرين, إلى حين أن وجدنا هذه الشقة التي نحن فيها. في ذلك الاسطبل, ولد أخيك أوّلىَ, في الفترة التي كان فيها أبوك في السجن. حبيب قلبي أوّلى. إنه هادئ الأن.
ـ إنني اعتني به دائماً يا أمي, قال فيكو. أستطيع أن أعزف له قليلاً.
عانق فيكوالناي, عندما تناوله. وقبل أن يبدأ العزف, شعر بالفرح والإنشراح, لأن الناي بقي معه. قال في دخيلة نفسه:
ـ لو أن بونتوس لم يصعد على السلم العائد لرجال الإطفاء, وغامربنفسه لما كان هذا الناي بين يدي. ثم قال:
ـ سيكون الأمرشنيعاً, بغياب هذا الناي الرائع.
في البدء عزف نغمة صغيرة, حتى يوقف بكاء أخيه أوّلىَ, ويخفف من تنهداته المتعبة بفعل المرض. بعدها بقليل, عزف اللحن الذي اسمعه للدكتور سكوك, والذي سماه, اللحن الموسيقي الكلاسيكي الراقص.
خلال هذا الوقت راح ذهنه يعيد كلامه أمه, ويفكربكل كلمة قالتها. لقد مكثوا في اسطبل العم بلوم كرين, عندما كانوا دون مأوئ, مشردين. بالرغم من أن الوقت كان صيفاً, والحرارة مقبولة.
بعد لحظات قصيرة نام الرضيع أوّلىَ, عندها توقف فيكو عن العزف.
ـ يا للمساكين, قالت الأم. بينما كانت تملح البطاطا, وتضعها في المقلاة. العديد من الناس فقدوا كل أملاكهم في هذا الحريق.
ـ العديد منهم استطاع أن يحمل الكثير من حاجيات البيت ويضعها في الشارع, قال فيكو. على كل حال, الكثير من المفروشات, لهؤلاء الناس ما زالت موجودة.
ـ لكن الناس فقدت الكثير من الأشياء المهمة لها, قالت الأم. السجاد, الستائر, المدخرات. النارأكلت الكثير من الأشياء الخاصة التي لم يستطع الناس أن يحملوها, لهذا أصبحوا مشردين دون مأوى أومكان يلجأون إليه, كما فقدوا كل شيئ.
أسند فيكوالناي الذي بيده على خده وراح يسمع إلى ما تقوله والدته.
يوجد شيئ أسمه التأمين, لكنه على الأرجح, جاء لحماية أملاك الناس الأغنياء, الذين لديهم قدرة مالية عالية. يعوض التأمين الأموال, فيما إذا تعرض البيت أو بعض أملاكه للحريق. حينها فهم فيكوالموضوع.
سارة جاءت إلى البيت قادمة من المدرسة وقت الاستراحة التي تقع في ساعات بعد الظهر. نظرت إلى أخيها الصغيرأوّلىَ وعانقت أمها قبل أن تذهب إلى المجلى وتجمع الصحون.
كانت سارة دائماً تفرش المائدة, وفيكو يحمل الماء والحطب ويرمي المياه المالحة خارج البيت عبر حملها في سطل الزبالة.
جفل أوّلىَ وراح يبكي. من المفضل لوأن الدكتور سكوك عاد إلينا ليطل على الصغير أوّلىَ.
بعد قليل جاء الوالد ومعه أبنه الصغيرمادس. كان مادس هو الأخرقد ذهب مع والده ليشاهد الحريق والخيول القوية التي تجرورائها عربات الإطفاء الكبيرة.
ـ توجب على الدكتور سكوك أن يذهب إلى المستشفى, لكنه سيعود إلينا لاحقاً هذا المساء. كيف تشعرين, قالها الأب بقلق وهو يتكلم مع الأم.
ـ أشعر بالارتياح الأن, أجابت الأم. عندما عزف فيكو على الناي, نام أوّلىَ.
ـ يبدو إنه لا يستطيع أن يقاوم سحرموسيقة فيكو, قالت سارة.
وقف فيكو غاضباً, مهدداً ساره, بأنه سيضربها بالناي لسخريتها منه. لكن سارة ضحكت قليلاً, رافق ذلك أبتسامة لطيفة.
كانت سارة دائمة الضحك, حتى بدون سبب محدد. وأحيانا أخرى تبكي, حتى تنهمر الدموع من عينيها مثل المطر, دون انقطاع, دون أن يعرف فيكوالسبب الذي يجعلها تفعل ذلك. لكن في الغالب الأعم هي فتاة لطيفة للغاية
الأن لم يعد فيكو يبالي بها. فكر, أن عليه أن يفعل شيئاً. الوالدة على حق, العديد من الناس فقدوا كل أملاكهم, وما زال غيرهم دون مأوى, مشردين في الشوارع. يجب أن نفعل شيئاً لهم, يجب أن نساعد الناس في هذه اللحظات الصعبة.
وقف الوالد جانباً, يمسد على شعر الطفل الصغير أوّلىَ, إلى أن نام بصمت وهدوء. جلس في محاذاة الطاولة, وراح يتناول بعض من سمك الرنكة المدخن مع البطاطا وعناب الجبل.
ـ لقد جهزت البراميل الصغيرة للمديرفيسلي, قال الأب. لدينا متسع من الوقت لكي نجمع بعض النقود لشهرحزيران.
ـ نأمل أن تسير الأمور على ما يرام, قالت الأم. أنهم ناس لطفاء.
إنها تقول عن الناس جميهم على أنهم لطفاء. أما إذا كانوا غيرلطفاء فإنها تتأسف لذلك. وتبرر تصرفهم بقولها:
ـ بالتأكيد لديهم صعوبات تجعلهم هكذا.
ـ سأعود إلى مكان الحريق وأرى, إذا كان بالإمكان مساعدة الناس المحتاجين, قال الأب ذلك, ثم نهض من على السفرة قائلاً:
ـ شكراً لك, على تحظيرالطعام لنا.
عندما أنتهوا من تناول الطعام, جاء بونتوس. وقتها كان فيكو قد فكروقررما يريد. أدخل الناي في حزامه, ومضى يتبع بونتوس, الذي كان ينتظره في الشارع.
كان العم بلوم كرين واقفاً يكنس الفضلات والقمامة المتجمعة.
ـ نعم أيها العم, بلوم كرين. أنا وبونتوس فكرنا في هولدالونستروم. يمكننا ان نفعل شيئاً لمخزن الألبان الذي ستديره.
ـ كنت أتحدث مع بونتوس حول هذا الموضوع, قال بلوم كرين. إنه أمر رائع ما تقدمون عليه, والأمورستسيرعلى مايرام.
استغرب فيكوأكثرفأكثر, لأن بونتوس, لم يكن على ما يبدو في انتظاره, لكي يقرروا سيفعلونه مع بعضهم. لم يكن لديه فيما سبق, صديق حقيقي يلتقي به كل يوم, ويستطيع أن يتحدث معه في كل شيئ. لكن اليوم, لديه بونتوس, صديق حميم وواضح ووفي.
ـ اللوحات مرمية في الاسطبل, قال العم بلوم كرين.
ـ وهناك يوجد علبة فيها حبر, لونه أسود, قال بونتوس لفيكو. لقد فحصتها.
ـ خذ ما تريد, قال العم بلوم كرين. يجب أن نساعد الناس الذين تعرضوا لحادثة الحريق.
ـ جيد, قال فيكو. ما زال الوقت مبكراً حتى يحل الليل. نستطيع أن ندهن اللوحات قبل العتمة. الأن ينبغي أن نبدأ, أن نقدم لهم شيئاً, لأولئك الناس المشردة. أولئك الذين تعرضوا للإصابات بفعل حادثة النار والحريق الذي طال البيوت وما في داخلها.
ـ هل قرأت الصحف, قال بونتوس.
ـ عادة ما يقوم الناس بجمع التبرعات, قال فيكو. عندما يتعرضوا للإصابة في الحوادث.
كلاهما, الأب والأم يعتقدان أن عليهما الحصول على الجريدة. يرغبان أن يعرفا ما يحدث في الوطن والعالم الخارجي. الجريدة غالية, لكن المرء يمكنه أن يوفر بعض المال لشراء مثل هذه الأشياء المهمة.
فيكو أيضاً قرأ الجريدة. في المساء تناول فيكو الجريدة مرة أخرى, وراح يقرأها بصوت عالي لأمه وأخته سارة, بينما كانوا جالسين يخيطون المناشف والفوط لأبنة زوجة فيسلي.
ـ هل تتذكرعندما كنا نقيم في الاسطبل, قال فيكولعمه بلوم كرين.
ـ أنا لا أنسى شيئاً على الأطلاق, قال بلم كرين. كنتم لطفاء للغاية.
ـ هل يمكنك أن تأوي بعض المشردين في الاسطبل الأن؟ سأل فيكو. جميع المشردين ليس لديهم أقرباء أو أصدقاء يهتموا بهم في هذه الأوقات العصيبة.
ـ العديد من الناس انتقلوا إلى هنا, قال بلوم كرين. على الأرجح بعضهم يعيش لوحده. أنا لا أفكر في إيواء أحد.
ـ حصانك يمكنه أن يبقى في الخارج. يمكنه أن يتدبر أمرنفسه, بوضع بطانية عليه في أوقات البرد. موقدك الصغيرالذي وضعته هناك يمكنه أن يبقى في الداخل, طرح فيكو ذلك للتساءل.
ـ نعم, يمكن أن تسيرالأمور, قال بلوم كرين. والحصان لديه بطانيته.
ـ سيكون هناك أسر لديها أطفال, قال بونتوس.
وقف للحظات, يفكرفي أخوته الصغار. كيف سيكون وضعهم فيما لو ناموا في العراء, تحت غطاء السماء الواسعة, وتحت ألسنة البرد القارس. وماذا سيفعلون عندما تتساقط ندف الثلج ويشتد البرد إلى أخفض درجاتها؟
ـ هل لي أن أذهب, وأحضر معي عائلة, سأل فيكو.
ـ نعم, يمكنك, قال العم بلوم كرين. سأذهب لأزيل بعض الأشياء من على جوانب الاسطبل.
ـ وكيف ستسيرالأمور مع العمة كلارا, سأل بونتوس.
ـ أنها مشوشة قليلاً, قال العم بلوم كرين. لكن زوجتي تحدثت معها بلطف.
نزل فيكووبونتوس إلى الشارع, مضوا إلى رأس الزاوية, إلى هولدا لونستروم, الذي فيه سوق الألبان.
كان رجال الإطفاء ما يزالون هناك. ثلاثة بيوت خربت بالكامل. وبقية البيوت تلوثت من الدخان الأسود والسخام.
العديد من العائلات أيضاً جرى الاهتمام بها ورعاية شؤونها من قبل أقربائها وأصدقائها. البعض الأخرنام في العراء المكشوف, تلتحف بالمفروشات التي بقيت بحوزتها, من بقايا البيت المحترق. وآخرين لم يكن بمقدورهم تحمل البقاء في الخارج.
ـ هناك, قال بونتوس لفيكو. انظر, أبوك واقفاً هناك.
كان والد فيكو واقفاً يتكلم مع إحدى العائلات, أم شابة تبكي, ومعها العديد من أطفالها الصغارالملتفين حولها في العراء القارس.
ـ بأي طريقة من الطرق سنتدبرالأمر, ونؤمن لك ولأطفالك الصغار مكاناً تلجأون إليه.
عزم فيكو على عرض الأمرعلى أبيه
ـ لقد رتبنا الوضع, قال فيكوهذا الكلام بصوت منخفض أقرب إلى الهمس. يمكنهم المكوث في اسطبل العم بلوم كرين, إذا تقبلْ.
ـ تريدهم أن يمكثوا في الاسطبل, سأل الأب. المكان بارد, على الأقل بالنسبة للأطفال الصغار.
ـ الموقد جاهز, قال فيكولأبيه. العم بلوم كرين حضر الحطب كما يجب.
ـ لقد فقدنا, كما تعرفون أسرتنا واللحف والوسائد والشراشف وبقية معدات ولوازم النوم, قال المرأة أم الأطفال, وهي تنتحب بصوت مخنوق. وفقدنا كل ما نملك.
نظر الأب حوله, كما لو إنه لا يعرف ماذا يفعل, وعن ماذا يبحث.
أخرج فيكونايه من طرف حزامه, وراح يعزف لحناً جميلاً, لطيفاً وهادئاً. في هذه الأحيان, كان فيكومعتاداً في مثل هذه اللحظات, على تذكر أشياء ذكية, من أجل إدخال الأثرالإيجابي على النفوس اليائسة والمتعبة من الناس.
ـ أذهب معهم إلى اسطبل بلوم كرين, قال فيكو. سأذهب مع بونتوس على جمع بعض التبرعات, لا يمكنهم النوم على الأرض العارية.
ـ نجمع التبرعات لأولئك الناس الذين تضرروا من الحريق, قال بونتوس.
نظرالأب إلى فيكو. ثم التفت بعد قليل إلى الرجل.
ـ وأنت يا يوُهنّا, خذ عائلتك واتبعني, قال والد فيكو. لقد أمنوا لكم مكاناً أخر. في هذا المكان لا يمكنكم البقاء.
ـ لقد جئنا من منطقة فارملاند, قالت المرأة. كما تعرفون, ليس لدينا أقرباء أو أصدقاء هنا, ولا نعرف أي إنسان هنا.
ـ ماذا سنفعل, فيكو؟ سأل بونتوس.
لم يجب فيكو. من الواضح, أن فيكوأقدم على شيئ من المستحيل تحقيقه. لهذا, يجب عليه الأن أن يحاول, أن يفعل شيئاً.
ركض فيكوفي الشارع, اجتازحي ألأين وتابع سيره إلى الطرف الأخرمن حي فالكرافين. وصل إلى المكان الذي تغسل فيه العمة بلوم كرين سجادتها.
عندما انطلقوا من ميدان كرونسكا, كان طريق السير مزحماً. عربات الترام التي تجرها الأحصنة, أجراس الكنائس تقرع, عربات الجرتسير الهوينة في الشوارع, السرافيس التي تجرها الخيول, المزارعين الذين يبيعون سلعهم, الناس الذين يذهبون في كل الإتجاهات.
من هناك, على امتداد الرصيف النائم على طرف القناة, جاءت السيدة فيسلي مع أبنتها.
أوقف فيكو صديقه بونتوس وانحنى. فعل بونتوس الطريقة نفسها, ثم مسك قبعته بيده, ورفعها في الهواء.
ـ فيكو, قالت زوجة فيسلي. بعض الناس قالوا أن النيران والحريق كانت بالقرب من منزلكم. أنا قلقة جداً على ذلك. قلت لإيزابيث, يتوجب علينا أن نرى فيما إذا حدث شيئ لعائلتكم. هل ذلك الذي هناك هو أخيك؟
ـ إنه بونتوس, صديقي, أجاب فيكو. منزلنا نجا من الحريق. حدث الحريق على مسافة ليست بعيدة عن شارعنا.
ـ هذا شيئ حسن, قالت زوجة فيسلي. بالتأكيد هناك الكثير من الناس, شردوا وأصبحوا دون مأوى.
ـ نعم, لقد دبرنا أمور بعض العائلات, إنهم سيقيمون في اسطبل العم بلوم كرين, تحدث فيكو.
ـ تذكرت, المكان الذي مكثتوا فيه من قبل, قالت زوجة فيسلي.
ـ الذين سيمكثون في اسطبل بلوم كرين, ليس لديهم مأوى, قال بونتوس. ليس لديهم شيئ على الأطلاق. لديهم خمسة أطفال.
في الواقع, كانوا أربعة أطفال, لكن بونتوس لم يكن دقيقاً.
ـ يا للناس المساكين, قالت زوجة فيسلي. هل يمكننا أن نفعل شيئاً؟
ـ يحتاجون للبطانيات, قال بونتوس بحماس. الطعام, وأشياء أخرى, فيها فائدة لمثل هكذا وضع.
قاد فيكو صديقه بونتوس إلى الطرف, من أجل أن يهدئ من أندفاعه.
ـ المعذرة, قال بونتوس ذلك, ثم انحنى لها بلطف, هاماً بالمغادرة.
ـ انتظروا, لقد قال بونتوس الشيئ الذي يجب أن يقال, قالت زوجة فيسلي. لقد فهمت المسألة بشكل جيد. إنهم مشردون, دون مأوى, ليس لديهم أي شيئ يساعدهم, يحمي أجسادهم من البرد والجوع.
ـ قلت إنهم بحاجة إلى الثياب أيضاً, همس بونتوس في أذن فيكو.
ـ سمعت شيئاً, قالت زوجة فيسلي. سأرسل إليزابيث لتتحدث مع بعض العائلات. سأرى سيمون من أجل أن يجلب عربة, ويؤمن الحاجيات الذي ذكرتها.
ـ لم أظن أن الناس الأغنياء لطفاء إلى هذا الحد, قال بونتوس ذلك قبل يلحق بفيكوكي يوقفه.
ـ بعضهم هكذا, قالت زوجة فيسلي. الأخرين يغمضون أعينهم حتى لا يروا. أذهب الأن إلى البيت, وقل لهم, أن المساعدات في طريقها إليهم, وسلم على والدتك.
فيكو وبونتوس انحنوا للسيدة فيسلي مرة ثانية, لكن فيكو توقف.
ـ كيف عرفت زوجة فيسلي أن النار كانت قريبة منا.
ـ الدكتور سكوك تحدث عن ذلك. لقد قال لي ذلك, وهو في طريقه إلى المستشفى. أنا خالته, وتحدثت معه عنك:
ـ إنك عزفت على الناي في بيتنا, بشكل رائع في الصيف الفائت. فهم في الحال من أنتَ, وإلى أي عائلة تنتمي. من السهل معرفتك, قالت زوجة فيسلي.
مشى فيكو وبونتوس بصمت, وهم في طريق عودتهم إلى فالكرافين عبرأولين.
ـ الأن, قمنا ببعض الأشياء الضرورية, قال فيكو.
ـ عادة ما نفعل ذلك, فيما إذا أردنا أن نفعل شيئاً. لكن, من حسن الحظ أننا التقينا زوجة فيسلي, قال بونتوس.
لقد مريوم طويل, شاق ومجهد من العمل. الصغيرأوّلىَ في طريقه إلى الشفاء, بفضل الجهد الذي بذله فيكو, في ذهابه إلى بيت الدكتور سكوك وإحضاره.
تابع فيكو وبونتوس سيرهم على طول الشارع. تناول فيكو نايه من وراء حزامه وراح يعزف بحذر المقطوعة الموسيقية, التي قال عنها الدكتور سكوك, أن الموسيقارموزارت هومؤلف هذا اللحن العذب.
ـ من حسن الحظ أنني عثرتُ على الناي, وإلا كنتَ ستبقى حزيناً إلى الأبد, قال بونتوس.
ابتسم فيكو ومضى يعزف بضعة ألحان ممتازة من نايه الغالي على قلبه.
الكاتب السويدي
هانس بيترسون





#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيف نقطع الوقت في سجن تدمر
- عن الفعل السياسي في الحاضر والمستقبل
- الذئب يشم ويطارد 4
- الذئب يشم ويطارد 3
- أي سلام هذا
- حزب الله والمفاعيل اللبنانية والاقليمية والدولية
- امرأة سويدية اسمها كريتل 4
- امرأة سويدية اسمها كريتل 3
- امرأة سويدية اسمها كريتل 2
- امرأة سويدية اسمها كريتل
- حول طبيعة النظام الدولي
- الرحيل إلى المجهول النهاية
- الرحيل إلى المجهول تدمر 13
- الذئب يشم ويطارد 2
- الذئب يشم ويطارد
- الرحيل إلى المجهول تدمر12
- الرحيل إلى المجهول تدمر11
- الرحيل إلى المجهول تدمر10
- الرحيل إلى المجهول تدمر 9
- الرحيل إلى المجهول تدمر 8


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - المدينة المحترقة