أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - الرحيل إلى المجهول النهاية















المزيد.....

الرحيل إلى المجهول النهاية


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 2205 - 2008 / 2 / 28 - 10:41
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


كانت الحافلة التي تقلنا مملوءة بالركاب. وجوه الناس كئيبة, قاسية, مثقلة بالهموم, غائصة في المجهول والحزن. نظراتهم تائهة. كل واحد منهم منكمش على نفسه, مغروس في ذاته, في داخله, يجول في ثنايا ثناياه. كنت مستغرباً من هذا الانطواء الغريب لهؤلاء الناس على ليلها المنهك, تأملها الملتوي, المنحازإلى السراب الراحل إلى نهاية لا تنتهي.
لم أربسمة عجولة على وجه امرأة جميلة أوضحكة عابرة على محيا شاب في مقتبل العمر. كما لم اسمع صرخة بكاء من طفل صغيريحرك الركود الساكن في المكان.
وحدها شاشة التلفزيون المربوطة بالفيديو تشيئ لفعل حركي مصطنع.
لأول مرة أسمع الموسيقا والرقص, أرى النساء الجميلات يرقصن ويغنين ويدبكن على صدرهذه الشاشة المعلقة في أعلى الحافلة من الأمام.
كما لم أرمن قبل هذا النوع من الحافلات الجميلة.
كل شيئ كان غريباً, مختلفاً أمام ناظري.
ظل القمرطوال الطريق مبتسماً, حنوناً, رؤوفاً بنا متمدداً في قبة السماء, مغموراً بالضوء والأغاني. يبعث نوره الوردي كأجنحة فرح, كنخلة مسترخية, متوجة في عرش الكون. يغرد بإسراف مرمري اللون على تويجات الدهرالمنغرسة في جذرالحياة على طول المسافات المفتوحة أمامه.
كان الليل حلو المذاق, أليفاً, معروش الخواطر, مسترسلاً بالهمسات الحلو.
عبرنا دير الزوروجسورها, الفرات والأشجارالمحيطة به. كانت عيني تدرس كل التفاصيل التي نمرعليها, الطريق الأسود الطويل, عرضه, البادية الممتدة خلف النار الصاعدة من أعمدة الغازالصاعدة من باطن, التغييرات التي طرأت على وطني بعد هذه السنوات الطويلة التي غبت فيها عنه.
الحافلة تشق طريقها في عباب الليل المطمئن, قاطعة المسافات المتوجعة. كلما كنا نقترب من مدينة الحسكة أكثر كلما كان قلبي يدق في صدري أكثر. أخاف المفاجأة, أن أرى ما لا تحمد عقباه. لم يكن لدي أية فكرة عن أهلي. خائفاً من لحظات اللقاء الأول والآثارالتي ستتركها عليهم
سألني السائق الكريم:
ـ هل تعرف بيتكم. ألم تنساه. المدينة توسعت كثيراً. أريد أن أضعك أمام باب البيت. قلت:
ـ نعم أعرف البيت. لكني لن أذهب إليه الأن, لأنني لا أعرف أي شيئ عن أهلي. من مات, من عاش, من بقي. أخاف أن أرى شيئاً لا أريد ان أراه الأن. قال:
ـ كما تريد وترغب. أين تريد أن أضعك يا أخي. أي مكان تريده سأضعك بجانبه, الركاب لن يزعلوا. قلت:
ـ ضعني على الطريق العام, بجانب الملعب, وأكمل طريقك.
نزلت من الحافلة وسرت إلى بيت أختي القريب. كانت الساعة تشيرإلى الحادية عشرة ليلاً. لم يكن في الشارع أحد من الناس الذين أعرفهم. دخلت باب الحديقة وقرعت الباب. خرجت أختي فاتحة الباب. نظرت إلي ملياً. رجل عجوز, وزنه لا يتجاوزالأربعين كيلوغرام, يلبس الأسمال البالية وينتعل الشحاطة والبنطال المقطوع. سألتني أختي زوفينار:
ـ ماذا تريد يا عم, ما هي حاجتك؟. وقفت مبتسماً. نظرت إليها ملياً وهي تنظرإلي مستغربة. أقتربت أخت زوجها ووقفت بجانب أختي موجهة سؤالها لأختي:
ـ ماذا يريد هذا العم العجوز. ردت أختي:
لا أدري. أسأله ولا يجيب. تدخلت الأخرى وقالت:
ماذا تريد يا عم. هل تريد خبزاً, حاجة ما يمكننا أن نقدمها لك. وجهت جوابي بأتجاه أختي وقلت لها:
ـ أنا أخيك. هل نسيت؟ نسيتي شكلي! وقفت مذهولة, وضعت يدها على فمها مستغربة. قالت:
ـ أخي, غير معقول. ثم راحت تولول وتقول:
ـ لست الذي أعرفه, لقد تغيرت كثيراً, ماذا فعلت بك الأيام يا أخي. ثم سقطت على الأرض مغشية عليها. التم الجيران والناس. لا أعرف من أين جاءت الناس كلها في تلك الساعة. رشوا الماء على وجه أختي التي كانت ترجف من الخوف والقلق والذهول وصدمة المفأجاة. قلت لها:
ـ هل أبي وأمي على قيد الحياة, أخوتي البنات, أخي. قالت:
ـ نعم.. أنهم على قيد الحياة, لا تقلق. إنهم مسافرون. ثم أردفت:
ـ لقد تغيرت كثيراً. قلت:
ـ هذا قدر, علينا التأقلم معه.
طوال الوقت كانت فاغرة فاها, تنظر إلي مستغربة, تغطي فمها بيديها من هول التتغيرالذي طرأ على شكلي ولوني وملامحي.
امتلأت الناس في البيت وفي الشارع. حدث هرج ومرج. صراخ من هنا وزعيق من هناك. بكاء الأطفال الصغار, المحادثات بين الناس بصوت عالي, دعاء من امرأة, وزغردة من أخرى. كنت أقول بين الفينة والأخرى:
ـ خففوا الصوت أيها الأخوة. صوتكم عالي. لا أستطيع أن اسمع الأصوت العالية. سنوات طويلة عشناها في صمت مطلق. إنني متعب. خففوا الصوت العالي قليلاً. الأصوات العالية تتعب أعصابي. رد أحدهم:
ـ إننا فرحون بك, بخروجك من السجن بالسلامة. قلت:
ـ شكراً لكم من كل قلبي. الفرح أيضاً يتعبني. كنت أخرج الكلمات من حنجرتي بصعوبة بالغة, لإرتخاء عضلات الحبال الصوتية. لأن الكلام كان ممنوعاً في ذلك الجب العميق, لذلك لم أستطع التكلم إلا بصعوبة. كانت الكلمات تخرج كحشرجة مبحوحة الصوت.
كنت أنظرإليهم باستغراب لقدرتهم على لملمة العتمة المسدلة بين عينيهم وجفونهم.
عندما أقتربت الساعة من الرابعة صباحاً استئذنت أختي ودخلت لأنام. لكني لم استطع. حاولت مرات كثيرة. تمددت على الفراش لكن سلطان النوم بقي بعيداً, غائباً. قلت لنفسي:
ـ إنها المرة الأولى التي تستلقي فيها على فراش نظيف منذ عدة سنوات دون طماشة, دون رقيب يحسب عليك خطواتك ويعد عليك أنفاسك. حاول أن تنام وتسترحي بعد هذا العناء الطويل. ها.. إنك خارج السجن وسط أهلك. لماذا لا تنام, ما الذي يشغل ذهنك وروحك. كل شيئ على ما يرام. لكن صوتاً أخركان يطرق أذني ويمنعني من النوم, لم أكن أعرف هذا الآخرالذي يرشق جفوني باليقظة والأرق. بقيت سهراناً, أمسك حبال الفجرورداً ليتدلى ويقترب من هضابي وسفوحي.
كنت متوتراً, مستفزالأعصاب. قلقاً دون سبب محدد. تقلبت مرات كثيرة على الميمنى والميسرى, على الظهروالبطن, لكن سلطان النوم لم يأت. قلت لأختي سأذهب إلى بيتنا. أريد مفتاح البيت. عندما لفظت اسم البيت أحسست بالرهبة والخوف, راح قلبي يخفق بين ضلوعي بسرعة.
مشيت في الشارع المفتوح على نفسه, غارفاً الصمت. الشارع خال من المارة, منتظراً انقشاع الليل المتدحرج إلى الزوال والأنهاك.
الحرارة لافحة تكاد تقطع أنفاسي.
سرت في الشارع الذي لفني تحت عباءة جناحيه الواسعتين, وحضنني تحت قبة سراجه المضيء فيما مضى من الزمن. راح قلبي يأخذني إلى بيت حبيبتي. وقفت أنظرملياً إلى الحيطان النائمة على الحيطان, إلى شحوب الصمت. كان قلبي يدق في صدري كإيقاع الأجراس القديمة. قلت:
ـ أنا غريب.. غريب, لا أحد يعرفني.. وأنا لا أعرف نفسي.
تابعت المشي على الأرض الاسفلتية الصلبة مطأطأ الرأس, مستغرباً من قدرة الناس على دفن أصواتها في حنجرتها وصدرها وروحها. رحت أمشي شارداً, أراقب الطريق الأسود, مستعذباً قافلة الزمن التي أخذتني من جذوري ورحلتني إلى الغياب الطويل. لم أرالحبيبة! قنديل بيتهم كان غارقاً في العتمة. طأطأت رأسي مرة أخرى, مستسلماً, مشيت بأتجاه بيتنا الكائن على الصفحة اليمنى من خد الخابور.
تنهدت طويلاً, سرت في لجج الشوارع, أتنفس زغب الشمس النائمة وراء نبيذها الخمري المشرئب, اتدلى كناقوس مضجرفي خمرة السكون. مسكون بالأسئلة النائحة النائمة وراء شح الصمت وأرقْ الكلمات. قامتي منكسرة ومنكسة مخنوقة الصوت.
لاح بيتنا من بعيد, متألقاً بصمته وسط الأشجار. أحسست بالارتباك وضراوة اللهفة التي تأخذني إلى مزالق متعددة.
لم يكن بمقدوري أن أبدد السكون المنتشر في كل مكان. اقتربت من المدخل, صعدت الدرج المضني. وقفت على المصطبة متهامساً مع نفسي عن قدرة المكان على تهييج الخواطرورفع نبرة الآهات الخارجة من الصدر.
طوال القوت كنت حاملاً روحي بيدي.
فتحت الباب بهدوء ودخلت ببطء شديد. كنت خائفاً من نفسي, مستغرباً, متمهل المشية, مغموراً بشهق الأنفاس, مندفعاً بسيل من الاحاسيس المركبة تتداخل في نفسي كنارتلج في خنق خفقان قلبي. عيوني تتأمل الفراغ, تتأمل أغصان الماضي ووشوشاتها. أنظرإلى البيت, الحيطان والصمت في مهابة. ناثراً شحوبي وحزني على الألوان الغائبة. مشيت خطوة إلى الأمام ووقفت منكمشاً, متدفق الخلجات العارمة. أسراب من الأفكارالغريبة تدخل وتخرج من وإلى عقلي وفكري. غمامة من الوميض الغامض ينهض من بين الأوتارالنائمة فوق فلوات الريح داخل داخلي ينتشرعلى شكل شريط من الذكريات والحيرة, يغرقني لينتشلني ثم يحطني في القاع ليدفعني إلى مجريات مختلفة.
غرقت في كومة من الضباب الكثيف, محمولاً على ثوب منثورفي الهواء.
كل شيئ كان يخلد إلى الصمت, مرتدياً بحة موجعة ملتصقة في أنفاس الجدران وأنفاسي المتقطعة. رحت اشهق وازفر بصعوبة, عائداً إلى الصور. هنا كان يجلس أبي, أمي. هناك أخي, أختي. هنا المدفأة وهناك الكرسي, الطاولة, ركوة القهوة, إبريق الشاي. رائحة الجدران تنطق بإيقاعات الفصول المتبدلة. تبددت تلك الحركة التي كانت تضج بالحياة والحيوية.
أرى وجوه الجميع غائبة, غائمة في غابات الذكرى. دخلت غرفة النوم رأيت كل شيئ مرتب ونظيف. رائحة الأهل جاءت كغيمة محملة بالأمطارالغزيرة فوق ترانيم المرايا العاكسة لوشوشات الألفة والمودة.
تمددت على السريرالذي رتبته لي والدتي قبل سفرها. صوري, عندما كنت شاباً معلقة على الجدران. كانت في كل ركن وزاوية, على السرير والحيطان. حاولت النوم مرة أخرى لكني لم أستطع. جلست على طرف السرير. فتحت النافذة المطلة على الجنينة الموردة. هبت رائحة الطين الطري المعجون بالماء والهواء الطلق. شممت طراوته الممزوجة برائحة الأعشاب الملتصقة بقطرات الندى. الأشجاركبرت وعمرت, ظلالها معرشة على أطراف بيتنا وبيوت الجيران. كان التراب الحنون يصرخ بعذوبته ورقته, راسماً على صدره لون الماء المنهمرفي قلب التراب والأرض. قلبي أخدود عميق متلهف لغرف منحوتات الزمن, أبحث عن معبريدلني على إيقاف التبعثرفي حواسي.
حاولت أن أنام لكن لم استطع. تمددت على الفراش مرة بعد مرة, لكن عيوني بقيت سهرانة. دخلت غرفة الاستقبال والحمام. لقد غيرت والدتي كل حاجيات البيت, غرفة النوم, الفرش, الكراسي, النوافذ وورق الجدران.
لم تقبل روحي ذلك الخلاء وذلك الصمت. تهزني ملامح أهلي وغيابهم.
نزلت إلى الشارع مرة أخرى وحيداً. ذهبت إلى بيت صديقي ضياء الدين نجم السلمان القريب من بيتنا. قرعت باب بيته لكن لامن مجيب.
عدت إلى الرصيف المضني, اتدلى كعنقود حطب جاف. مشيت بأتجاه الخابورالذي لا يبعد عن بيتنا سوى مئتي متر. سرت في الشوارع الصامتة. أنظر إلى نفسي, إلى الأماكن التي احتضنت بوحي في غابات الوقت المعرشة. سارالسكون والهدوء معي موزعاً فضائه على الجنبات. اقتربت من الجسرالمنحني, أحسست بالحرارة العالية تلفح وجهي. مددت بصري لأرى الماء, الخابور, الزمن والطفولة والذكريات والفرح.
رأيت ما لم يكن في الحسبان:
رأيت أرضاً جافة لا حياة فيها. أرض منكسة الجدايل, حسناء ممزقة الوجه والأنفاس, متكورة, منتهكة الجسد, دمها يسيل على فخديها وساقيها, مرمية تحت نار الشمس الحارقة كجثة متحللة, ميتة تحت قلاع الموت والصمت المخنوق. أرض مضطجعة على نفسها ملفوظة الاحشاء والقلب. أخاديد الأرض منبهقة كالجراح المفتوحة. جسد الخابورينام فوق الرمال والغبار, على ثغورالجهات الأربعة, قابعاً تحت رماد السنين الثقيلة. قلت بصوت متقطع حزين:
ـ رباه أين الخابور, أين الماء, أين الشجروالسمك. أين الجمال والبهاء, أين سحر الخابوروألقه وتألقه في المساءات المفرحة, عند المشاوير أو تدويرة الصباحات الرائعة. أين ذهب هذا كله. كيف غرق الخابورومات. وقفت مذهولاً أنظر إلى الخراب الساكن على طول حدود رؤيتي. قلت:
الخابور كان طفلاً, شاباً يافعاً في عمرالصبا والورد. فتنة الوجود, ذرية من خلايا الكون مكنون في هذا السمت المكنون. أين راح, من قتله, من ذبحه, من فرغ حقده في قلبه. أين دفن. إلى أية بقعة من العالم سافرت جثته. أي يد غادرة هتكت عرضه وقلبه وروحه.
أخذته يد المنون والغدرمن العيش بين أحضان بلادي وأرضي.
لماذا سكتت الناس؟
لماذا لم ينحب عليه أحد, لماذا لم يبكوه, يمشوا في جنازته.
من هو القاتل. هل طعنه في خاصرته أم ظهره أم قلبه. أين بقايا جسده وروحه لاصلي عليه واصرخ.
تلفت حولي كثيراً لعلى هناك خطأ ما أوضيعت السبيل.
لم يكن هناك ماء على الإطلاق على طول المجرى. أرض جافة تماماً. كأنما لم يكن هذا النهر موجوداً في ضيافة الجزيرة في يوم الأيام.
نزلت الدرجات التي تؤدي إلى أرضه. وقفت على ضفة الخابورالتي كانت تضمنا. توقف بصري على الصمت والفراغ. أنظر إلى تباريح الأرض والماء, إلى الخريف الطاغي الذي يزرع أنفاسه في جذورالأرض. أقف مشدوداً مدهوشاً للقوافل الراحلة قلت:
أين أنت يا عيد الحياة, يا رمزالصورالحلوة, يا باقة البقاء. كنت نجماً من السماء, نيزك مضيء من وهاد الكون. عشت كقامة عالية فوق أرض الجزيرة مئات الآلاف من السنين واليوم رحلت كأنك لم تكن.
يا خابور, يا حبيبة, يا عرش السماء على الأرض, يا كوكباً فوق الكوكب. كنت عرافة الغيوم, سحابة من جمال, عرين الآلهة فوق قطرات الشفق. أين أنت, أين ساخبأ وجدي وحزني بعد اليوم, لمن احكي وأشكي خيالات بحثي عن ملاذ احتمي به.
رحت أمشي داخل المجرى الجاف, أبكي بحرقة ومرارة. أقول:
هنا كنا نسبح, هنا نلعب, هنا نركض ونغني ونرقص مع الصبايا قصائد الشوق للحنين, نبث لبعضنا سكرات أيامنا وليالينا.
أين قلبك يا مهاجر. هل رحلت إلى كون آخروربوع بلاد لم تلد.
مسكت حفنة من ترابه وقلبه ورحت أحضنه وأشمه وأضعه تحت كبدي وقلبي. بكيت طويلاً, بكيت ونحت, حلقت كالبوم فوق شقوقه. وضعت يدي وزندي وساعدي في شقوق الخابورالغائرة في العمق لعلى تبقى منه رائحة ماء, رطوبة أو سحابة عابرة أوملامح حياة. لعل في قلبه بقايا نبض أوحركة.
كان الخابورتأريخاً ونبضاً ووجداناً.
أين ذهب هذا الكائن الجميل, أين رحل, لماذا لم يودعني. لماذا لم يقل إنه مسافرأو مغادر أوراحل أو مريض أومقبل على الموت.
آه على آه.
لو تدري يا نهرالخابورحزني عليك وعلى نفسي. كان ماءك شرايين ينبض في خاصرتي وفؤادي. عندما كنت أحزن أو أتوجع أو تهجرني الحبيبة أعود إليك وأحضن ماءك وترابك واتطهربك لأنسى النسيان والهم الذي يلاحقني. كنت حبيباً وملاذا آمناً وقلباً يحمل الأسرار.
كانت أرض الخابور قلقة وكنت قلقاً. أنفاسي مضطربة, ضربات قلبي مثل الصاعقة في قلبي. لاح المجرى وادياً فارغاً, متعباً, منهكاً, عابساً غاصاً في الحزن. بقع الجفاف موزعة على شكل أشكال هندسية غير متناسقة, تفسح لضربات الجفاف بالتمدد على طول المكان. تحول حضنه إلى خربة خرابة يحمل في طيأته لون الكآبة والضنا.
صار مثل الذبيحة, أشجاره ميتة, زله وصفصافه رماد, أرضه تستنبئ الطوزوالعجاج, رياحه رمال مدورة وجسده امرأة مغتصبة.
لم أرطيرأليف أو جارح في السماء أوعلى طول المدى. كأنها هاجرت أوماتت هي الأخرى.
كنت واقفاً, أو ساجداً أو راكعاً أعيد رحى الذاكرة والذكرى إلى بصري في ذلك الامتداد الغامض للأرض الجافة. هبت سحابة من الحرارة اللاسعة على شكل موجات دافقة, محملة بالغبارالأحمرالداكن. رأيت نيرون يخرج من بين شقوق الأرض المتيبسة يزغرد ساخراً. قال:
فتكت بالخابور. شربت دمه ودموعه, عينيه وقلبه, شرايينه وأوردته. خلعت عنه الماء والرطوبة والمطر. رملت زوجته, سبيت بناته وقتلت أولاده. لم يبق لي إلا تصحيرالأرض والسماء والتراب والروح ليحل الخراب في كل مكان. ثم أردف:
لدي الكثيرلأعمله. سأزرع الملح في كل بقعة خضراء. وقال:
أما زلت تحلم بالنجوم والخيروالحرية. ألم تشبع من الخيبات والهزائم. ها هو حلمك يخبو بين يديك, ويموت تحت أفق نظرك. ماذا ستفعل بعد اليوم. قلت:
لا أعرف, لكني سأبدأ من جديد.



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرحيل إلى المجهول تدمر 13
- الذئب يشم ويطارد 2
- الذئب يشم ويطارد
- الرحيل إلى المجهول تدمر12
- الرحيل إلى المجهول تدمر11
- الرحيل إلى المجهول تدمر10
- الرحيل إلى المجهول تدمر 9
- الرحيل إلى المجهول تدمر 8
- الرحيل إلى المجهول تدمر7
- الرحيل إلى المجهول تدمر 6
- ملكة دول الشمال مارغريتا الجزء الأخير
- ملكة دول الشمال مارغريتا الجزء الثاني
- ملكة دول الشمال مارغريتا
- الرحيل إلى المجهول تدمر5
- الرحيل إلى المجهول تدمر 4
- الرحيل إلى المجهول تدمر3
- الرحيل إلى المجهول تدمر2
- الرحيل إلى المجهول سجن تدمر1
- الملك السويدي كارل الثاني عشر
- الملكة السويدية كريستينا


المزيد.....




- متوسط 200 شاحنة يوميا.. الأونروا: تحسن في إيصال المساعدات لغ ...
- -القسام- تنشر فيديو لأسير إسرائيلي يندد بفشل نتنياهو بإستعاد ...
- إيطاليا.. الكشف عن تعرض قاصرين عرب للتعذيب في أحد السجون بمي ...
- -العفو الدولية-: كيان الاحتلال ارتكب -جرائم حرب- في غزة بذخا ...
- ألمانيا تستأنف العمل مع -الأونروا- في غزة
- -سابقة خطيرة-...ما هي الخطة البريطانية لترحيل المهاجرين غير ...
- رئيس لجنة الميثاق العربي يشيد بمنظومة حقوق الإنسان في البحري ...
- بعد تقرير كولونا بشأن الحيادية في الأونروا.. برلين تعلن استئ ...
- ضرب واعتقالات في مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في جامعات أمريكية ...
- ألمانيا تعتزم استئناف تعاونها مع الأونروا في غزة


المزيد.....

- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان
- نقش على جدران الزنازن / إدريس ولد القابلة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - الرحيل إلى المجهول النهاية