أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - الرحيل إلى المجهول تدمر 9















المزيد.....


الرحيل إلى المجهول تدمر 9


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 2136 - 2007 / 12 / 21 - 12:40
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


جلست على المصطبة العارية أتأمل توريقة الجدران المجروحة. ذاكرتي راحت في شرود:
وجه رشا الطفولي البريء, ذات الخمائل السائحة وراء الدمع, نائماً على صفحة خدي ووجهي. لا أنسى ملامحها الغاصة بالشهقات. نظراتها ذات النبرات الخائفة. رشا أبنة أختي.. الطفلة ذات الإحدى عشرة ربيعاً.. بطّلتها النضرة, ببوحها النائم على تخوم الخيال, مصفوفة كوردة, كباقة مزينة على هديل الريح, محمولة على سواعد الصباح.
جاءت, تسبقها ثيابها الجميلة المهفهفة. تركض مسرعة, تتطلع, تبحث عن وجهي بين الوجوه المأسورة. تفتش عني, تسرح في البحث عني, من أجل رؤيتي. سنوات طويلة لم تكن قد رأتني.. منذ أن كان عمرها ثلاثة أعوام ونصف العام. ما أن وقعت عيناها على عيني في الزيارة عندما كنت في سجن عدرا, حتى ملكتها الدهشة المغلفة بالحيرة والخوف. كان بيني وبينها شباك, حدود وحواجز, مسافات وأزمان. كانت عيناها مشوشتان, وجهها وشفتيها ترتعشان وترتجفان من الصدمة والخوف. ما أن وقفت أمام الشبك, حتى بادرتني بلوعة السؤال المر, والدموع تتساقط من عينيها بغزارة وحرقة.. تبكي والألم يعتصر فؤادها. مطت رأسها وعنقها الممسوس بالغرابة والدهشة من أجل أن تبقى على حافة التواصل. قالت:
ـ خالو.. لماذا أنت هنا, لماذا وضعوك هنا.. ماذا فعلت؟ قلت متمتماً, مصعوقاً من رعشة السؤال, فجائيتة, فجاجته عندما يخرج من فم طفل صغير, لا يقوى على هضم الكلمات وفهم مردود السؤال:
ـ لم أفعل شيئاً يا رشا.
ـ إذاً. إذاً لماذا أنت هنا, في هذا المكان! لماذا أنت في السجن, وراء القضبان, الشباك الحديدية المحلزنة ذات الثقوب الصغيرة المقطعة. قلت في حيرة وحذر:
ـ الحكاية طويلة يا رشا. حكايتنا حكاية. الأن, لا أستطيع أن أشرح لك. أخاف أن يقترب الجلاد منك ويأكلك. أنه يأكل لحم الأطفال الصغاريا رشا, دموع الأطفال, عظام الأطفال الطرية, الطازجة. عندما يخمن الجلاد أن وراء السؤال سؤال, غيوايات تستولد حكايات, وحكايات تستولد تساؤلات لا تدخل في جوف الطفل كثمرة عابرة, أوحدس فيه تورية. هو يعرف أن الطفل لا يتمرن على معرفة هكذا نوع من الأسئلة العميقة يا رشا. أصبري يا صغيرتي, قليلاً أو كثيراً, حتى تكبري وتعرفي. الأن لن تفهمي ندائي, وكلامي المحفورفي ثنايا قلبي.
لم أكن أعرف كيف أشرح لها, كيف أفهمها أنني لم أفعل شيئاً. كل ما فعلته, إنني كنت أفكرفي صور الممكنات, في الأعاجيز, في الوطن الآخرالجميل.
لم أكن أعرف شكل الجمال في هذا الآخر, لكني حلمت به كثيراً.
كان هذا الآخر, الوطن, الممكن, معي. أحلام متداخلة بالذكريات, مسترخية معي في الزنزانة, في قلبي ودمي. أنذر له الشموع والقرابين من بقايا دمي, من أجل أن يبقى فرحاً, أن تبقى قامته عالية. لم يكن يعنيني أن أكون أرمنياً أوعربياً.. مسيحياً أو مسلماً. كنت أنساناً. ولد في هذا هذا المكان, عاش وترعرع على ترابه الأسمرالجميل. أكل من خيراته. كنت وما زلت أريد أن أعيش كأنسان له الحق في الحياة والحرية والجمال. كان بيننا رفاق وأخوة وأصدقاء, أكراد وعرب وشركس.. علويين وسنة, دروز وأسماعيليين.. مسيحيون ومسلمين. لقد جمعنا هذا الجميل, الحلم, الوطن, الأرض, الآخر, لهذا بقينا وتحملنا أقسى الظروف والمأسي من أجل أن تبقى هذه الأرض الجميلة للجميع ومن أجل الجميع. أقول:
الإنسان هو زمن, مسيرة لحظات, جملة لحظات أو كتلة لحظات مكثفة. يجب أن لا يكون منتمياً لهذا الطيف أو ذاك. أن يكون أنتمائه إلى ذاته, إلى شروط زمانه ومكانه, إلى حريته.
كان الوقت شيخاً عجوزاً طاعناً في السن, طاوياً عباءته القديمة تحت عبه استعداداً للرحيل. جلست على ركبتي أنظر إلى ثنايا وجهه المتجعد, أفكر, قلت:
ـ يا شيخ إنك دائم التجدد, لا تفنى ولا تموت.
كانت الجدران الصادة السميكة تتسلق وجهي, تجلس في حوض عيني, لا تبارحني أبداً.
مسك محمد خير الماكنة اليدوية. قال:
ـ تعال, من أجل أن أحلق شعرك ودقنك. وقف الجميع بصعوبة بالغة. نظرنا في وجوه بعضنا, كأننا نرى بعضنا لأول مرة أو نودع بعضنا لأخر مرة, أو كأننا نكتشف بعضنا للوهلة الأولى. ننتظرلحظات الأنتقال من شكل إلى أخر. قلت:
ـ أصبر علي قليلاً من أجل أن اشلح ثيابي.
بعد أن شلحت الجزء العلوي مني.
راحت الماكنة الحقودة, طائر الليل العجول, متهيبة, تسرح في مراعي رأسي, تأكل زادها من سنابلي. راح ليل الشتاء يمضغ جلدي, يدرس خرائطه فوق المزاميرالراحلة من رأسي. الشعرالاملس الغريب, يتساقط بحياء على شكل أكوام أكوام. رحت أنظر إليه بحسد أقرب إلى الفجاعة, قابعاً على الارض بحيادية باردة, منفصلاً عني, كأنه لم يكن مني.
بقي الشتاء جالساً فوق جسدي, يلسعه ببرده الكاوي. في ذلك الشتاء البارد, في تلك المساحات المفتوحة على شرارات البرد, وقفت مثل شجرة هرمة لا تقوى على التصدي لهذه اللفحات القادمة من وراء الرياح العاكسة لجذوري. لبست ثوب الحزن مرغماً, أنظر إلى قصاصات الليل, وهي تتناسل ببطء من على كتفي, تنزل من على رأسي بحزن وقهر.
مخموراً أنا بالحزن, وشوشات خافتة تتصدرأنفاسي, ممهورة بالعار, تسترخي على نفسي.
آه.. وآلف آه من هذا الليل الطويل.
يا أبانا! يا أبانا إلى متى تبقى الشمس نائمة وراء الغيب, مختفية, تحجب لونها الجميل عنا. لماذا يا أبانا تبقى بلادنا, بلاد الشمس غارقة في الظلمة.
ما أن بدأت ماكينة محمد خيرفي جرد نصف شعري, حتى سمعنا فتح أبواب, إغلاق أبواب, تسبقها حركات غريبة, مترافقة مع صراخ عالي يصل إلى عنان السماء. يفتح باباً, ثم يطرق بقوة. تنتشرفي محيط الفضاء الأهليلجي, رائحة أحذية عتيقة, رائحة واخزة كالزرنيخ, رائحة صنان متماسك, أوعفونة قديمة تلسع مكامن الشم في الدماغ, بالإضافة إلى حركة هرج ومرج غير منتظمة.
أصوات متوعدة, أصوات متقافزة.. متنافرة, تتقافز بين خلائط الجدران وأذاننا, تترفل بالقلق المتوعد, تمشي في حضرة الصدى, متنقلة, خارجة من كل حدب وصوب. صراخ وشتائم. بعد فترة ليست طويلة, فتح باب مهجعنا بقوة مترافقة مع صراخ:
ـ وجهك في الأرض يا أبن الشرمو.. رأسك في الأرض يا أبن.. أغمضوا أعينكم يا أولاد ال.. قفوا خمسة خمسة يا منايك.. قفوا بجانب الحائط, لا تلتفتوا إلى اليمين أواليسار. قفوا بأستعداد تام. لا تتحركوا يا أولاد الزنى. العشرات من الأحذية اللامعة, السميكة تتقدم بخطوات رشيقة. الشرطة العسكرية دخلت المهجع. أنا لم أستطع أن أحصيهم, لكن روائحهم الكريهة كانت تسبقهم, روائح متنافرة, متنوعة, مختلطة, مع عطور رخيصة. كنت أحس بخيال أحذيتهم القاسية وهي تدب على الأرض بثقة. راحوا يضربوا كل من يقف في حدود طريقهم, على الرأس والوجه, الظهروالبطن, مع شتائم لم ينزل بها سلطان من قبل.
صرنا مثل الأرانب الهاربة, نركض هنا وهناك, متقافزين, تتلقفنا أنياب القطعان الكثيرة من الذئاب الشاردة, تنهشنا. كانوا يصرخوا:
ـ إلى الجدار, قف بجانب الحائط.
رحنا نركض من مكان إلى أخر ضمن المهجع. لكننا لم نكن نعرف أين نقف. كنا نحاول بكل الوسائل أن نتقي, نحمي أنفسنا من اللكم والرفس والصفع, على المؤخرة والرأس والظهروالوجه.
أصبح المكان أشبه بميدان مصارعة الثيران, نتلقى الطعنات الحادة والجارحة, كلما حاولنا الفرارمن التسديدات العبثية القادمة من هنا وهناك. نحاول أن نهرب إلى الزوايا من أجل أن نعرف أين نقف, من أجل حماية أجسادنا من الضرب. أصوات الأقدام, تتمازج مع أصوات الأنفاس العالية, المترافقة مع الصراخ والزعيق, الشتم واللكم. صارت الساحة, ساحة المهجع, ملعب أوميدان تهريج واسع. نبرات الأصوات العالية, أحالت الفراغ الى قرقعة. صرخات عالية وشكوى, أوجاع تتقشربسرعة, وجوه تتورم وألم نافرمن الحناجرالمندهشة, الممتزجة باللوعة.
كان صوت صفوان عكاش أقوى وأعلى الأصوات. صوته يرتطم بالسقف, ثم يرتد ليصطدم بالأرض, تمتصه الجدران السميكة, ثم تعيده إلى أسماعنا, بصوت كصوت البكاء على الأموات أوالأحياء.
لم نعد نعرف إلى أين نذهب, إلى أية زاويا من الزوايا نلجأ. في محاولة الهروب, كانت الجدران تتكفل بردنا إليهم, والبدء من نقطة الصفر. نعود إليهم مثقلين باليأس, فنتلقى ضربة أخرى أقسى وأمر. القلب ينبض بسرعة هائلة, مثل الشرنقة المغلقة في مدارمغلف بميثاق المكان المحاط بالجدران السميكة والعالية. كنت أجنح للهروب.. بشعر نصف محلوق ونصف راعش وكثيف, في كينونة مغلقة ومقفلة. أركض إلى هنا أوإلى هناك مثل الغمام المتعرج الهارب إلى ما وراء حدود الغيم والسماء .
كان عددهم أكثرمن عددنا بكثير. الأسوارتدون كلماتنا على حدود قشرتها في ذلك الأفق والمكان. كان هناك ميثاق ما بيننا وبينهم, أن نلتف في حدود منعطفاتهم الغامضة, في أتجاه الأحزمة المسورة. أنا ورفاقي , أجساد ورؤوس, تتناطح ببعضها دون أرادة منا. كانوا يزمجرون ويرعدون. أصواتهم الخشنة, أيديهم القاسية, حوافرأقدامهم الطويلة لا توفر شيئاً.
كنا نهرب ضمن فضاءات أصواتهم المنفرة, لنبقى محشورين في مواسم الليل والجلاد. نهرب داخل أهراءاته المزدهرة الواسعة, الكثيرة والوافرة.
ما زال زمن الجلاد عامراً.
زمن فرش زاده الأسود على كل لون.
الحفلة الطويلة, ضرب ولكم, تدافع ودفع.
حشرونا ببعضنا, إلى أن أخذت الأشياء, الأمور, اصطفافاتها. أستطعنا أن نعرف ماذا كانوا يريدون منا, وإلى أين يريدوننا أن نقف. اللهاث الحاد والمر يعلو ويهبط.. العيون مغمضة, الرؤوس والجدوع منحنية. وقفنا بجانب الجدار.. خمسة, خمسة زائد واحد. التفوا حولنا. كل ثانية, يقترب أحد رجال الشرطة من أحدنا, من أحد السجناء القريب منه. سجين لا على التعيين. ينظر إليه, ليعرف من أين سيضربه. يدوزن وجهه بعينيه, يتأمله برغبة شاذة, يجهزيديه, يفتح كفه على وسع, ثم يلسعه بضربة ماكرة وماهرة. يأتيه الصفع من تحت. صفع تتناول الفم والأنف والعينين والوجه. ثم يعقبها بلكمة أو رفسة ماهرة وسديدة إلى مؤخرته. بعدها يذهب في التلذذ:
ـ تعال إلى هنا يا أبن الشرمو.. أغمض عينيك, أرفع وجهك إلى الأعلى. يمرر يديه على الوجه كما يفعل الحلاق عندما يشحذ شفرة الحلاقة على الجلد, ثم يطلق تنهيدة مفتوحة:
ـ آه.. ما أجمل صفحة وجهك. أبق كما أنت. يضع يده بتحبب على الوجه, ثم يمررها, يقلبها على الوجهين, ثم يرفع يده بكل ما يستطيع من قوة وبطش, ليصفعه صفعة ترتج لها الأبدان. على أثرذلك تطلق الصفعة طنيناً عالياً في الأذن والخلايا.
تتوالى الصفعات على الجهتين, على الخدين, إلى أن يمل الجلاد من الضرب.
الكثيرمنا كان يرتعش من هول المفأجاة وقسوتها.
أين نحن.. في أية غابة من غابات الأسد محجوزين. ما هي درجة التعذيب التي وضعها الأسد الأب والأبن لأتبعاعه بأتباعها. ما هي أسماء الوحوش التي سمح لها أن تتلذذ بتعذيبنا. متى وأين أخذت هذه الأوامر والأجراءات.
في هذا المكان أكتشفت همجية حافظ الأسد وعائلته على حقيقتهم.. دونيتهم, قذارة أخلاقهم.. سلطتهم الوضيعة, الداشرة من كل قيد.
بعد أن هدأت العاصفة قليلاً بعض الشيئ من الضرب واللكم هنا وهناك, مع بعض الرفس والصفع هنا وهناك مع بعض الشتم والسب هنا وهناك.
راح كبيرهم, يتناول أحدنا بطريقة أنتقائية مدوزنة. يمسكه ويضربه أو يرفسه, مترافقة مع البصق والزعيق.
كل ثانية تسمع صوت آهات تخرج من هنا أو هناك من فم مبحوح, مع حركة سقوط الجسد على الأرض. مسك أحدهم عمار رزق وراح يضربه قائلاً:
ـ هل أنت رئيس المهجع!
لم يجب. ضربه مرة أخرى, مرة بعد أخرى. كرر السؤال مرات كثير. إلى أن قال أخيراً.
ـ لا.. لا لست رئيساً للمهجع.
استلموا بكرصدقي, بعده صفوان عكاش, عبد الكريم عيسى, ضربوهم بقسوة. كرروا السؤال وأجابوا مثلما أجاب عمار, بأنهم ليسوا رؤوساء المهجع. بعدها تناولوني. قالوا:
ـ هل أنت رئيس المهجع.
ـ قلت: لا. قالوا لقد عينا لكم رئيساً للمهجع من هو؟ قلت:
ـ لا أعرف. لكن, لست أنا.
كنت نصف عاري في ذلك الشتاء البارد.. من الثياب والشعر.
تناولوني بالضرب من كل الجهات. التموا علي, كل واحد يمسك معوله, راح يحفر في كل مكان مني. صفع على الوجه, لكم في البطن, على الظهروالصدر, على الرأس, رفس على المؤخرة, بالكفوف والأيدي والأرجل. كان للضرب صدى, حرارة ولون. رموني على الأرض, جعلوا وجهي موازياً للبلاط, صعدوا على ظهري, راحوا يصعدوا عليه, يرقصوا. ثم قلبوني إلى الصفحة الأخرى, صار وجهي في وجوههم. صرخوا علي:
ـ أغمض عينيك.
راحوا يضربوني بأرجلهم على بطني وخاصرتي وفخذي ورجلي. صارت اللكمات والرفس والصراخ والضرب يأتيني من كل جانب. أكثر مكان تناولوه كان وجهي. كان وجهي مشكلة لهم. لم أعد أعرف من أين تأت الصفعات الكثيرة لي. لقد تدفق الدم من وجهي وفمي. تورم كل مكان مني. الوجه صار أحمر اللون, الأنف نزفت والأذن تخرشت وجرحت, صارت الكدمات في كل مكان من محيط رأسي. رغم أن لوني صارأحمراً, لكنهم لم يشبعوا مني, لم يرتو غليلهم. مسكوا أقدامي, راحوا يسحلوني على أرض المهجع مع الضرب والشتائم, مع صراخ مختلط بضحك رخيص. كنت أصرخ وأصيح. لكنهم كانوا يزدادون شراسة كلما تألمت أكثر, كلما تفجرت بقعة دم مني. صاروا أكثر توحشاً وهمجية من قبل.
أكثرشيئ كان يؤلمني ويخيفني أن يشوهوا وجهي وجسدي. كنت أخاف أن يفقأوا عيني, أن يثقبوا أذني, أن يشلوني بالكامل. استسلمت لمصيري وبقيت بين أيديهم يشكلوا صورتي الجديدة على الصعيد النفسي والروحي والجسدي. صرت تحت رحمة أقدامهم يفعلوا بي من يشاؤوا.
كنت أتساءل مرات كثيرة:
ـ كيف يستمتع الناس, عشرات الرجال, بضرب إنسان في كل مكان من جسده, في وقت لا حول لا له ولا قوة.
لم يتكلموا أي كلمة خارج حدود عملهم الرخيص. كما لم أستطع أن أرى وجوههم. كما لم أعد أسمع لهاثهم الحقودة المختلطة بلهاثي الموجوع. كنت أطوي جدعي وأضع يدي على وجهي ورأسي لحمايتهم من الضرب. لكنهم كانوا يبعدون يدي بقوة من أجل التحكم باللكمة في المكان الذي يرغبوا أن يصلوا إليه. كانوا طوال القامة, ممتلئي اللشة والجثة. صفحة اليد من أحدهم تساوي ثلاثة كفوف لرجل عادي. قالوا:
ـ أنت رئيس المهجع. لم أرد على كلامهم. تناولني أحدهم برفسة أطاحتني أرضاً مترافقة مع البصق. بعدها قالوا قم واقفاً يا أبن الشرمو.. وقفت كما أمروا. قالوا:
ـ قف بأستعداد تام, رأسك منحنياً إلى الأسفل. أنت رئيس المهجع. كررما نقول لك. قلت:
ـ أنا رئيس المهجع. قال أحدهم:
ـ لم تتعلم بعد, تعال إلى عندي يا أبن.. ذهبت إليه مغمض العيني, أمشي إلى مصدر الصوت. قال:
ـ أبقي عينيك مغمضة, أرفعها إلى الأعلى بأستعداد تام. وقفت كما قال وأمر. راح يصفني بكل ما يملك من قوة. مع كل صفعة أقع على الأرض. صدى طنين قوي يضرب أذني وينمل وجهي ورأسي. يمسكني أحدهم ويقربني إلى مصدر الصوت, يثبتني لأتلقى الضرب والصفع المنظم مرة أخرى.
بعد أن شبع حافظ الأسد وعائلته من جلدي, ساد هدوء كامل.
وقفت منحني الرأس والجدع بينهم, معفرالتراب, ممتلئ بأوساخ الأرض وأثار أحذيتهم القذرة. صامتاً, موجوعاً, ألهث بصعوبة, أعمل على أستعادة أنفاسي المتعبة.
التفوا حولي, يراقبوني دون أن يتكلموا أو يشتموا أو يصدروا صوتاً. ربما أحسوا أن هذه الوجبة تكفي هذا اليوم. غادروا بهدوء وكأن شيئاً لم يكن. واجب قاموا به, وظيفة أنجزوها. قالوا بعد أن صاروا خارج المهجع:
ـ تعال شد الباب. رحت بأتجاه الباب, مسكت الحبل المربوط بالحديد وشددت الباب.
يا رب ماذا أقول, لمن أشكي, لمن أصرخ وأقول. لا أستطيع ان أقول إلا كلمة.. آه.
مجتمع ترك شأنه ومصيره للجلاد, يتحكم فيه وبنا.
ان هذا الوحش المتعطش للدم ما زال يحكم سوريا من قبره.. إنه يريدها متفسخة على شاكلته.
دخلت الحمام منطوياً على نفسي, معتمداً على رفاقي وأخوتي في المهجع. غسلت وجهي ورأسي بالماء البارد. نظرت في الوجوه الكسيرة. قرأت المرارة والحزن في أحداق الجميع, إنكسارعميق, مغرق في العمق. كأنهم يقولون:
ـ ستبقى بلادنا بيد الجلاد حافظ الأسد وأولاده مدة طويلة من الزمن. ما زالت شروط اللعبة الدولية تريده, تقبله كولد مدلل في حضنها. تريده من أجل سياساتها في منطقتنا. لأنه أي هذا الولد, الصبي, حافظ الأسد, لن يتورع عن القيام بكل شيئ مقابل ضمان بقاءه في السلطة ولأولاده من بعده. ما زالت عقلية اللعبة الدولية تدار حتى هذه الساعة بنفس الطريقة التي كانت تدار بها السياسة الدولية أيام الحرب الباردة. لم تحن الأوان لتغييرات استراتيجية على هذا الصعيد. يبدو أن هذ الغرب أدمن اللعبة وليس لديه طرائق أخرى في إدارة اللعبة الدولية بغير هذه الآليات.
كنت دائخاً, متعباً مهموماً. قلت للرجال العشرة:
ـ ماذا نفعل, إننا ندخل في نفق مظلم. ليس لدينا شيئ ندافع به عن أنفسنا. هل نبقى تحت رحمتهم, يشكلوا تأريخنا وحاضرنا بالطريقة التي يريدونها أويرغبونها, أم لديكم أقتراحات أخرى. أجاب أغلبنا:
ـ لن نفعل أي شيئ. ليس لدينا خيارأخر سوى تحمل قسوتهم.
ذهبت إلى جانب فراشي, جلست عليه لأخذ قسطاً من الراحة. خبط الشرطي من على السطح:
ـ أبن الشرمو.. يا رئيس المهجع. خبطت بحذائي المهترء, علامة على التحية, قلت:
ـ حاضر حضرة الرقيب أول.
ـ يا أبن القحب.. لا تقتربوا من الباب الخارجي كثيراً. هل حلقتم شعركم. قلت:
ـ إننا نحلق يا حضرة الرقيب أول. قال:
ـ عندما أخبط عليك, على السقف. تقف بأستعداد تام يا أبن المنيوكة, بينما الآخرين يبقوا في أماكنهم. خذ وضعية التمرين التاسع يا أبن الزنى.. واحد أثنان.. واحد أثنان. رحت أنفذ هذا التمرين الصعب بصعوبة كبيرة. ثم قال:
ـ منبطحاً.. واقفاً, منبطحاً.. وقفاً.
أزحف على بطنك يا أبن الشرمو.. على الأكواع والركب يا أبن القحب. رحت أنفذ ما يقول. ثم طلب من الجميع أن تزحف. على الأيدي والركب. نادى:
ـ أنت الذي لأبس البيجاما الصفراء. أجلب بيدون ماء سعة عشرين ليتر. ثم أضاف بلهجة واثقة:
ـ سبح كل واحد بالماء. ثم سبح نفسك. راح الذي يلبس البيجاما الصفراء يملئ الماء فوقنا, بينما نحن جاثمون على ركبنا.
صار الشتاء وكانونه شتاءان مركبان في شتاء واحد. الهواء البارد يهب من الشراقة المفتوحة, من النوافذ الصغيرة المطلة على الغرب, يلفحنا. ثيابنا مبللة بالماء, أجسادنا مثقلة بالماء والتعب والتعذيب. كنت أقول:
ـ عندما كنت أتنقل في ربوع بلادي, أينما تنقلت, أجد ناس لطفاء, رحماء. أما هؤلاء البشر, الشرطة, من أي كوكب جاؤوا. ألا يحس هذا الشرطي العادي, والأعزل بآلام الآخرين. كيف يتمتع بتعذيب بشر تعرضوا قبل قليل لمختلف أنواع التعذيب, ويكمل ما أنتهوا منه قبل قليل.
يتبع...



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرحيل إلى المجهول تدمر 8
- الرحيل إلى المجهول تدمر7
- الرحيل إلى المجهول تدمر 6
- ملكة دول الشمال مارغريتا الجزء الأخير
- ملكة دول الشمال مارغريتا الجزء الثاني
- ملكة دول الشمال مارغريتا
- الرحيل إلى المجهول تدمر5
- الرحيل إلى المجهول تدمر 4
- الرحيل إلى المجهول تدمر3
- الرحيل إلى المجهول تدمر2
- الرحيل إلى المجهول سجن تدمر1
- الملك السويدي كارل الثاني عشر
- الملكة السويدية كريستينا
- الرحيل إلى المجهول ما بعد النطق بالحكم
- الرحيل إلى المجهول النطق بالحكم
- الرحيل إلى المجهول محكمة أمن الدولة العليا 3
- الرحيل إلى المجهول محكمة أمن الدولة العليا 2
- الرحيل إلى المجهول محكمة أمن الدولة العليا 1
- الرحيل إلى المجهول العفو
- الرحيل إلى المجهول/قبل العفو


المزيد.....




- إسرائيل.. الأسرى وفشل القضاء على حماس
- الحكم على مغني إيراني بالإعدام على خلفية احتجاجات مهسا
- -نقاش سري في تل أبيب-.. تخوف إسرائيلي من صدور أوامر اعتقال ب ...
- العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جرائم حرب في غزة بذخائر أمريكية ...
- إسرائيل: قرار إلمانيا باستئناف تمويل أونروا مؤسف ومخيب للآما ...
- انتشال 14 جثة لمهاجرين غرقى جنوب تونس
- خفر السواحل التونسي ينتشل 19 جثة تعود لمهاجرين حاولوا العبور ...
- العراق.. إعدام 11 مدانا بالإرهاب في -سجن الحوت-
- السعودية ترحب بالتقرير الأممي حول الاتهامات الإسرائيلية بحق ...
- -العفو الدولية-: إسرائيل ترتكب جرائم حرب في غزة بذخائر أمريك ...


المزيد.....

- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان
- نقش على جدران الزنازن / إدريس ولد القابلة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - الرحيل إلى المجهول تدمر 9