أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - فصول المودة القديمة















المزيد.....


فصول المودة القديمة


سعيدي المولودي

الحوار المتمدن-العدد: 2386 - 2008 / 8 / 27 - 05:41
المحور: الادب والفن
    



مساء ذلك العام،كان الأفق داكنا، كالقلوب المفجوعة، تتعب في هواه السحب الراجفة التي تشد الوهاد والعتبات، وتتناثر على سطوح المدينة الخافقة، النائمة كبئر من الحرمان، يغزوها الصمت والحلم الأبيض، الأبيض المسافر في ردهة الأوان. مكسورا كان يتبدى الوجه القادم، القائم، ترقبه الشوارع وتلبس غرابته الدنيا. أطفال من الغابات يسرقون الذكريات، وتاريخ مهجور يسير وئيدا على حافة الدمع، والسماء قريبة من كرة الأرض، والصبابة العمياء تغلف وهم الغبار، حيث ترابط أحزان صغيرة ترسم موانيء العودة، وبثور الساعات الآكلة التي تمر كالحريق تلتهم شتات الطريق.
لا تمضي تلك السحابة.
كأنما ترسو على شفة المدينة، تذيب صدرها، وترمم أوزارها. خيط من الأعلى لحدود الدارة يملأ الحضرة خوفا واتساعا، وبوابات الحر توشوش في هلع، يحنو الصغار على رصيفها، ويتقلب صريرها على ملكوت الأفق الذاهب في الرغبة..
يقترب المساء، صورة لوباء قاتل، يتصدع كالبكاء، يتعالى الصوت أو هكذا يتخيل المارة، وتبدأ ندف من السواد الأسود تهبط الأعماق. ألف شاردة تنتاب الأضلاع، وفتات البرد يواصل دورته، بينما دخان الضايات يتساقط على السواعد المكتوفة يرحل فيها التعب كالنملة، أو كالهيجاء..
على السفوح الجرداء المصطفقة، تتبعثر خطى الضياء المشنوق، وتتعانق موائد الحقول كالأتراب، معطرة بدماء المغمورين، تتراشق في نداها طيور غريبة تحلق في غفوة، كأنما عروش الزمان تمتد لتملأ العمر هوادة وتغري سفن الحنين بالاحتراق.ظلال هاجعة تتوارى خلف المدينة، وصبايا في عمر الحجارات يجارين الغروب، ويتمسحن أركان الأصيل الذي بدأ يمتزج بلظى الهاوية... يقول الحائط للحائط:
ـ كن رفيقي، وازرع مودتك في صلب الذراع.
على الطرف الآخر تتبدى القرى المجهضة حطاما، وبقايا حرب طاحنة، يمضغها الأسى الناصل الذي يرتق مغارات الأنفاس، ويغمر الساحات ودقات الأقدام.
ما الذي يفعله هذا الوقت الواقف؟ الواقف في غرة الباب. لم يسألني. ولما سألته، أرعبني، وبدأت أتحسس دمه في الظلام، وملامحه في هدوء المدينة المغتصب. أقول له:
ـ أين تقع جزيرة المودة؟
ويغلق أزراري كجزار متمرس. يقول:
ـ ها أنت تبتغي تعبك. لا تعد المرة إلى معالمي.
أشعر باهتزاز غريب يخض قوادمي، وأرتدي حالي.
كم هي ميتة هذه الأسوار المرصعة ببول الفقراء. السحب الكسيحة ذاتها تحبو نحو عنق المدينة، وجحيم المدارس المرة يقطر ماء فماء، يلتف الشارع بضيق الكتف، وتتوزع المجاري خطوات مجهولة ترفرف في الساحات الغامضة المجبولة على السراب.تخرج الروح، تيبس النافذة، وذباب المدينة يركب الصبوة. يخرج الطفل. وتبكي المدفأة...
ضاعت الطاعات في سم القبر. ولا أحد يرفع سبابته الآن ليسأل: من أسس قلعة المودة ؟
كان العشاء مبللا كالخريف. يغرق في الطاولة زند محبة عتيقة، وتبادر الباب طلقة الليل. أفصح القلب. عيني على هذا الدفء أسرق نبعه.وأمشي مكللا بالدموع. تقول القادمة: إنما الراسخ عمر الغرباء بين الحد والسيف.. آه، إنك توصد غرفة الملء، وتوشح قلقي بغصة النسيان.
لم يسمع الطفل صليل التاريخ المدمى. خرجت المدينة من المدينة. مات كلام الأوردة. أرخى الشغف عبوره، وانتشت القرى برغوة الصدى. بات ما أصبح. والمدينة شاهدة.
الصخرة واجمة. والمدينة كانت نائمة.
أيقظت الريح سيلها، ورحل البدء دبيبا في الرموس. غنت الطفلة هولها. وترنحت المسالك وأعشاش العائدين. رائحة شيء ما ترتج، وثياب المدينة ترقرق.والصغار من الأسفل يطلون (يا من ترون أسفلها )، مدت الساقية ساقها، لعل الهواء يرأف بها. قال الشخص الواقف:
ـ إنهم يأتون من البر. فأغلقوا كأس الصحراء، عيونهم المدوية تصرخ في رقابنا. وإذا لم يكن من البر بد، فاقطعوا خرير المودة. من أحب الحجر رميناه بالحجارات، ومن تعلق ركض المناجل استحصدناه بالمناجل، ومن تيمته نايات الحقول أتينا حرثه أنى نشاء. النيات بالنيات. وكل امريء نأتيه من جنس ما نوى.

التوت أغصان الذاكرة. وقف الماء في خلوته، دلف العشب لغلوائه، واهتدى الطفل لبردة الصغر، يشيد في شقائقه جنة الحال والمآل، والسفر الثقيل يجرجر صواريه، ويروح مثلما يغتدي، يهد بنيان الحضرة، شيمته أن يغرز أطيافه في صروف الطريق، ويفتح قفل الإغراء.( تغريني السماء بزرقتها والزرقة بسمائها).

صعدت الزقاق أبراج هادرة، ونامت السماء، ولم يبق غير نافذة يتساقط ريشها وتفتر عن داخل محشو بصمت المآتم البكماء، تتسلل عبرها أوراق شاطيء يمتد ويستوي في ظل الليلة، تتهاوى كحضارة قديمة ( تقتلني الحضارة كما تقتل البدوية قملها).
كسر الطفل زجاجة السؤال. كم هو بارد دم هذه الأشياء. ولكن لا مفر من أن تضغط على الطريق مرات، مرات، وتخيط الساعات بملح الحضور، وتبدأ من حيث تسري رعشة الموت في خوابي الأعداء.

* * * * * *
كان الرحيل ميتا، يتدلى في خلوة الأدغال الرحبة، ويجلل عمران " القشلة " ببطء المهازل، يندفق فيها الملأ مختوما كصك قديم. متاهات غريبة تتطاول كاليباب، تهدهد المدى، وتنشر أغصانها على الانتشار، تتراقص في امتداد الرعب... مطر خفيف يرش الغابة الصغيرة، وينهال على رواسيها مشبوبا، تتوالد في رهبته زنابق الروح الآهلة بالغضب، الموشحة بجمر النوى، وشؤون البيوتات الكئيبة، تتقاطع أشلاؤها كقوس الله، تتلاشى في قارعة المساء.
تمشي وحدها المدينة، وذاكرة الليل تغلي، تحفر نداها في الساقين، وفي الشارات المتئدة، بينما تتكيء الأصوات على الجدران الصابئة، والأسماء تقرأ جلبتها في وميض الأرض الكاسف. ريح الشمال إذ تدنو، تخلد للعراء، وتتخلل ضفائر الصبايا يرشقن الشارع وشبابيك المدرسة المركزية، وأحواض العنفوان التي تركب ظهور الأمهات. لوحة المراتع القديمة، تتورد في الضفاف، ونجوم مبتلة تتداعى حول " القيسارية"، إذ تتآزر سعف الليالي الرابضة على فوهة القداس.
ما كان يغريني أن أترقب هذا الشبح حتى يداهم أسري. خيمة جامدة في برد " الزاض " تملأني هياجا وتنسيني أعباء الحدود ما للطير لا تغدو هذا المساء لوكناتها، يغطي موجها صدأ الليل والافتراس، ولغات الحذاء العسكري القادم من رعب " إيفران " يتسلق مهاوي الكلام وأسلاك النور...
ما لهذه المدينة تأنف عن البراء ؟
وحدها، أمي في هاتيك الليلة كالعادات نشرت غسيلها على السطح، لتنام على حلم عريق ينثر مداريه على قبة الصباح، قالت لي، قبل أن تغمض دفتي العباب:
ـ ما لهذه المدائن تخبو، ويرتج نداؤها، ثم تنقبض الساعات في يديها.
سألتني الدائرة إذ تدور... وقلت لذلك الواقف:
ـ يا متكأ الأوضاع. ما علمتني إلا أن أدق هذه الأبواب، وأنفخ في وجوههم ريح القلب والمزارع المخبوءة...
أرخت المدينة جدائلها النحاسية ونام الهواء، ما من خفقة إلا تمزق عبر عبير الرايات، ترفرف على الصدور، وتحطني في معبد الذكريات. أصلي لها. تحملني أوابد الغربة، وزوابع الأطلال. الشارع وحده يومي، أعيد فيه ترتيب الأسماء، وسوانح الكلام، وجسور الضحك الجالس في ترائبي يحلق في نشيد غريب يذروني ويقتل مداد الخواء في أنف البعاد.
"عقبة الزبيب" أنسي.
وحدها المدينة كانت الشاهدة، ترتب عناد الأشياء، وتكتب ردة الأسماء، وتسرح في خوف الغابات الآبقة تؤثث الكلل.
هل بدأت الحرب؟
أي غريق يلفه الهواء؟ أي السلاح يضمد الجراح، أو يملأ الثارات وهجا؟ لا يولد في سرها غير السؤال. كذلك طفقت الشوارع تتصدع في صمتها كالخبز اليابس، وتتوغل في دمها كماء المودة...

* * * * * *
أطرق الصحو في قش تلك الليلة، في المقهى ذاتها، تجلس المدينة. يحطني السيل كالعصا، متدثرا بالعياء، أشق الرقم وسمع المناضد، كأنما هواجسي تسكنها المقبرة. من يصدق هذه الساحات، من يبكيها، والدائرة إذ تدور، ومواقيت الإلجام، ونقاد الحدائق والأوراق...كان صدري الخشبي يهبط كمقعد مدرسي، يلفني الصبار، وأعواد الحنين مرتطما باللغات الهاربة...
المحطات واقفة، وأنا المثقوب تناوئني حمى الأرصفة، أشهر عرقي في مدى العين ( أرأيت كيف كانت برودة الحال، وكنا أبرد من الحال ). غمائم سوداء ترتقي ربوة السماء، تغزو الدروب في حنوها وتتصاعد في وجهي كالغبار. قلت للمقهى: سلاما. كانت الأركان فارغة. كساؤها الخلاء، تعشوشب فيها أوراق حداد يصبغ المدارات وممرات الرصيف. انتظرت قليلا، كيما يغزلني الظل، وأتوكأ على سوق ذكريات منهوبة تفتت على أطرافي كذرات الرماد، تغرقني في لجة المحبة، وتنفلت من إبطي قوافل من الحيرة، ترفع عهودي، ويستطيل المدى بيني وبين الطاولة، وتتسع دورة الانحدار.
ها هنا المقهى تلتقي بالمقهى. تغلي دواخلي بأصوات مرذولة تكسر عبوة الأسماء واللغو، وهتاف من غناء ذي نكهة قارسة يشتمني، وتتناوب على سريري قعقعات الرؤوس وكؤوس الغربة الفارغة.
كان الخيط يشد صاحبي البعيد، أسأله بيني وبيني، وتجيبني حرائق النفايات وأوزار العابرين، يمقتني الغطاء، وأحس بدوي دكاكة تسحق قبيلة العظام، وتدخلني خرائط السهو، ليقتلعني الرجل الجنوبي السائق لتاريخ ضيق، أسأله الأمان، ويسألني، ويصطف الكلام في الشارع العابر، تنثال عبر مهاويه دموع زرقاء لا تصل مدمعا.أكلنا هدير الزوبعة، إذ الطير تيبس في أجنحتها الرفرفة، وتضيق شهوة الأفق وتتهاوى كالشمعة تماما مدارج الصومعة..
أحدق في الخارج ويتشابه في دمي بقر المارة، وعنز الصبايا الطالعات الهابطات في رباطة الضياء، أتوقع " عبقادر " بنفس حقيبته الجلدية هاربا في تيه العقبة، لركب سفائن طارق بن زياد، وتحتلني الرغبة العاصفة لنداء الفراغ، لكن الرجل الجنوبي يوقظ جراري، كأنما راعه الأمر، ليقتل في ذاكرتي طين الأوهام قالك
ـ... لقد أخذوه من هنا..
وأرخى أعواد جبينه المعروق، وضع الكيس الأسطواني في صدري، جرجرت دورة الرأس عساني أكون أجبت وتوغل الصدى في نجوعي. أتذكره. ذلك الجندي السامق، ولهجته الشرقية، وجغرافية "تافوغالت" الحزينة، ويدخلني الرجل الجنوبي، يقرأ سيرة الأيام في وجهي، ويعلن غموض الاحتراق. أقول له:
ـ بابها طقس الغياب، يا أيها الرجل.
يتأملني كالصحراء، ويرتد في ظاهري ليقول كلاما غريبا، ويرثيني. تسكنني المقهى كالفتنة، أتدرع برتابة الأمل، وأغلق نشيد البدايات. في ذات المقهى، مرات، كنا نستلقي كالحروب تماما، يهزنا الشغف الضارب، وحجارات المدينة وسنون من الهوس، تملأنا عنفوانا، فتشتعل قارات الإيمان في أقدامنا.قال الرجل الجنوبي: يعاودني الزمن المراق، كأنما لغات المدينة انهارت، انطفأت أعمارنا، ما بقي غير ضجيج الحارات، يلقينا في الهوى، ويلغي أرجوحات الذكر. تسعنا القرة ولا تسعنا المودة.
كانت مداشر الصدر تنتفخ، أتحسس رجات القلب من بعيد، فأسمع وجيبه كقطار هائم، أراود الرجل الجنوبي، ويخلو بي في لوثة الذكرى، يوقظ أبراج العنف في جيوبي، وترحل مواقيتي في دروب قديمة. أصمت، فيداهمني غضبه الصامت، ويصمت فتتراءى في عينيه معادن الوغى.
تمر اللحظات كالمسامير الحامية، يطول الانتظار، كأني على حافة الغرق، وتودعني صحراء المقهى، بحثا عن زمن يؤويني، أشرح فيه صدري للحروب، وأعلن طاعتي لهذا الضياع الذي يشد أزري. أخرج كالمغارة، في جوانحي صفارات الهذر والبشرى. أدلف هذه المرة إلى " الصباب"، علني أقف على رأس الخيط، وأحفظ خرائط البيع والشراء، وعناوين الردع. يطرقني الباب أم أطرقه، وفي انتظاري تتملكني قشعريرة طازجة، ويخنقني ضباب هادر. يفتح البدر الصغير قامة الباب، فيفتح خوفي، ونتداعى في الدار القديمة. أتملى صورة أبيه القديمة وبقايا عمره في فناء الدار. يعلقني بالسؤال. أسأله، يحدثني في براءة السنديان، ويبدأ قائمة النسيان، وحواشي الطفولة، وانقلاب المجرات وعقم المسافات. كان يحفر وهج الذكريات في مرجلي.
آه، يا زمن الغدر. تبا لهذه الأزمنة. تبا لهذه الأمكنة. وتبت يدا كل هذه الليالي التي تجعل منا أيتاما قبل الأوان.
كان علينا أن نعيد ترتيب الدار، وحارة الأوراق، وأن ننكش الرحاب ونهرب كل المسودات والمستندات، فهم لا يرحمون، وبين الليلة والليلة تقترب خطواتهم الشائكة من الأسرار، لتزرع الرعب والأهوال. كان البدر الصغير حازما يغريني بغابات الأوراق والوثائق، ويرفع عني شوكة التعب الذي كان يغلفني. يبحر في الأهواء كأنما يسألني، أفتح له نوافذي كالشجرة، وأتأمل ملامحه، وكلماته الصغيرة، وهي تتلكأ في رأرأته العبقة، ويستعرضني حديقة الأسماء، ورتابة الغياب الشهباء، يفضحني لعدة الإياب، ويزرع أحلامي في حقول حالمة تنثر خلاخلها على سماء القلب. أقول له:
ـ اعتصم بهذا الحبل، أيها الجبل الصغير..
وكأنما كان يقول لي: ضاع الحبل منا، يا هذا.
كذلك بدأت أقدام الليلة تضرب أنفاسنا، وتساقط السماوات كقطرات ندى، يكتب عهده في وجهي، وأظل مشدودا إلى صغره كالأبله، يعيد في خيالي سيرة الدروب، فأتظاهر بالحيرة والكساد، ولكنه لا يتردد، يستوقفني في عناد متألق ليمسح ارتباكي. ربما قال لي أشياء صغيرة أو كبيرة، فأخبيء في سري ابتسامة عزلاء، ويهرع في صغره إلي يسألني:( هذا الكتاب خطير )، أقول له: ليس تماما. يكاد لا يصدقني، ويحدق في ريحي كأنما يشاكسني..
أخرج من الدارة مخسوفا. أسند الرأس لفراغ الأزمنة، أتلوى من حر الكلمات، تأكلني كالجرب، ألف صدري على الطريق وأمضي كالشبح، تتهافت في داخلي قوافل المدينة الشاخصة، أعيد شرائط الغمرات، وصقور الهجيرة، كأن ظلا ما كان يراقبني أحس بخطواتي المتآكلة تتراكم في حلقي، وأغرز صبري في نفق اللذة الهاوية، كغابة شاردة. أرهقتني مودات ذابلة تلوح بعيدا، تلقيني في غمرة الصياح، تموج خشخشة الأيام الميتة في قواديسي،وأتهجى سورة الأسماء، الواحد، الواحد. يا أسماء هذه الشجرة الوارفة.

* * * * * *
ذلك الصباح الميت، كانت تتضاعف في جلدي أسنام الانتظار. استفقت على حواشي غريبة تهمز أضلاعي، وتتناثر في مهب الريح الشاحبة التي كانت تملأني..كان علي أن أقطع المدينة طويلا على الأقدام حتى أتكيء على جدران القصر: الأسوار الشائخة، الشامخة، والعيون الشاخصة المنصوبة، وممرات الغي كأنما كانت تهدمني. أصل على الرغم من التعب الصاعق، تمضغني أسئلة قائمة، وبياض من الذكريات يحرث مفاصلي. أسكن باب القصر. هكذا يسكنني، محمولا على سلة الخوف الجاثم على هامات الأشجار، الآخذ بخناق البوابات الصغيرة، النائمة، التي كانت تتراءى حزينة كالنساء الجنوبيات..
جماعات كنا نتواد كالضباب يعرف بعضنا البعض، وقد لا يعرف ذلك البعض بعضنا، لكن القصر كان يجلبنا، يلفنا، ويحشرنا في صراط واحد، حيث يفترض أن تنشب على الأقل أواصر ما تشد البعض للبعض، ولو من بعيد... ولطول الانتظار الشامت ينفتح القصر، ونندفع كالكاسحات في اقتراب من باب الجحيم، لكن السوط كان ينهرنا كالدواب، والقوات العمومية الطليقة تصدنا كالأعداء، وبالمرارة ذاتها التي كانت تكتنف الأعماق، كان علينا أن نتلقى أدوات الخبط، وأن نماليء شرارة الساعات لموسم الحضور..
في ردهة القصر الرهيب، كانت الأشياء تقطر عداوة، الخشب المصطف كامتداد الليالي، والجدران العاتية القائمة، والوجوه الكالحة، القارسة، القاسية التي تحدق في الصفوف كأنما النار لحظها، تغرق القصر في رهبة عنيدة، حتى ليتبدى حطبا تضطرم فيه أفنان الثأر.
من عنق المشقة خرجت، دخلت لأسقط في نير الحظيرة، وكان حظي أن أقعد بالقرب من شخص، قد لا يعرفني، ولكنه مد قامته الفظة ليغلق الرحابة أمام رغبتي في الجلوس، وأطلق شتائمه في وجهي،كأنما يغريني بالتورط، وعرجت ناقما، أتقي شره وأبحث عن مأمن. قال لي رفيقي في ما بعد، إنه من شرطة الخفاء. وأدركت تماما، لماذا كان يخنقني.
النهار،وما طال، تربعنا هذا الكابوس الجاثم، ومن حين للحين تأكلنا الآهات كالجراد، يقترب السقف من رؤوسنا اليانعة كالمطارق، وتتراشق الهمسات في أعماقنا كالغربان.. ويطل المساء. يبدأ السيل. يقف الريق في أعمارنا، ويداخلنا الأمل الهارب في رجة الغيب. يسائلني المدى، وتخترق تابوت القصر شارات النصر، ساطعة كالشساعة تملأ ردهاته انتظارا وانتشاء... شهور وهذه الغيبة تجمعنا، وتقتل فينا دوحة اللقاء، ويدري وحده هذا الواقف في صدر القبة، كم سيمتد عمر هذا الغياب.
بين الحواجز البشرية، كنا نسترق النظر والسمع، تشتعل الوجوه دما، والرؤوس شيبا، واختصارا عاتيا لكل ليالي البرودة التي كانت تحاك في خيوطها قارورة الأسرار. جنون خفي كان يأكلني، ويطلق أفراخه في دمي، يصعدني عرق قديم يغمرني، وأفكر في خروج الروح من عودها ( آه. أيتها المودة القائمة على عجل، كم بيننا وهذا الصراخ البعيد في الأعماق).
خرج القصر من صمته الكبير، واصطف الأعداء الواحد، الواحد، ونودي على الأسماء كأنما أجسادنا تستحم في جحيم غير مرئي، تشربنا الغصة جملة وتفصيلا، أحدق في القافلة وبهرج الأسماء، وترتد عقارب الأسئلة في أكمامي كشلال جارف.. يقول رفيقي:
ـ أحس بألسنة نار سرية تأكل مني الأوردة..
أقول له:
ـ ذلك نصيبنا من حر المودة والهجيرة القادمة..
ويجلس الصمت بيننا.

* * * * * *
في ذلك الصباح الموالي، كانت المدينة تلهث، تزحف في صمت غريب، وكان القصر يجذبنا كالعادة، كالنمل في الموعد الأسود. ومرة أخرى تغزونا القوات العمومية، ونغالب خوفنا لنستقر على الرغم في عش الأعداء، في انتظار طلقات النطق بالأحكام. وبالسرعة المقدرة ينطق الحجر، ويطوي أوراقه على عجل مثير. يبهرنا الصدى المتناثر. وتسقط شجرة الأمل في البئر.

تموج فسحات القصر بالضجيج والحجيج، وتلتف سواعد القوات العمومية العمياء من جديد لتطهر بيت الأعداء من براءة الصراخ وعويل الذكريات المرة، ونخرج موتى للخارج الميت، يسند بعضنا البعض كقصب الجنان، والقوات العمومية توالي العصف والمطاردة، تكنس الساحات من ظلالنا الشاحبة، كأنما كنا جيشا غازيا. كانت الأمهات كالربوات يندبن التاريخ والأعوام، يولولن كالمدائن المقهورة، أو يزغردن على سبيل التحدي. وارتدت المرارة منافذ القصر اللدود المسكون بإشعاعات شمس مكسوفة تغرس أضواءها في أرجاء مبهمة، تغور في البعيد البعيد ( آه. يا طلقة الأعداء التي لا تخطيء الأكباد ).
في لحظات مرت، سوداء، زرقاء، خضراء، حمراء، تستطيع القوات العمومية أن تمنع في هوانا البكاء، أن تصول فينا وتجول، وتدحرنا بعيدا في زحام المدينة، لتغلق مداخل القصر حيث يستريح الأعداء، ويتنفسون هواء خوف مريب، ملطخ بدماء الأبرياء، يوخز جلودهم الشائكة..
كانت تغريني الهيجاء، وتبحر في دمائي بخور الدمار، أمشي ولا تمشي الرغبة، والمدينة الصماء... ولا مفر. توزعنا المقام كالأشلاء، من بطء لبطء كنا نحترق، ويسرق لهب الفضاء منا شآبيب اللوعة والوداعة، بعضنا في العلن أو في السر يشتم هذا التاريخ الأجوف الضاحك علينا. كطيور تلقفتنا أيادي الرعب، وافترقنا على حافة الجمر. وحده خيط أمل غارب كان يؤوينا، أن نعود مرة إلى هذا القصر ليرفع عنا غمامة العدوان.
* * * * * *
من قصر إلى قصر، ومن عداوة لعداوة أشد منها افتراسا، كان موعدنا أكثر حرارة في تلك المرة. القصر أقصر، أرحب وأعمق، وأعرق في العداوة، والشؤون أقوى وأعسر.. على مشارفه تتناثر في فوضى توابل هذه الحضارة الزائفة التي تغلق على المدينة بهاءها. مداخل القصر هذه المرة فاخرة، وفي الجوف منها تترامى جدائل خضراء، والقبة الموبوءة أعرق نقاهة، وأوفر لراحة الأعداء، والعادات الدائمة قائمة: القوات العمومية على أهبة الاشتباك في كل لحظة وحين. ومنذ تلابيب الصباح وهي ترقب سفح النهار، والشوارع القريبة من القصر تعمدوا إفراغها من مرارة المارة. وكان علينا كالعادة أن نسرق بأسها، وأن نتكيف مع رهبتهم، ونستأنس بلغوهم وركضهم، وأن نمضغ على مضض تلويحات ودقات الهراوات المتطاولة، المتدلية من تاريخ الخوف ( أول من اهتدى للهراوة جبان ).
ولم يطل المقام...
قال رفيقي:
ـ ثمة بذرة أمل طريد يحدوني، لكن شيئا ما يوقد دموع الخوف في جهة القلب.
قليلا أو كثيرا كان انتظارنا، وتعج مدارج القصر بالأنواء، والعرق والأنفاس المتعانقة، ورائحة الأخفاف والجوارب العطرة، وتمتد الأسئلة داخل القصر كالإخطبوط، وتغمرنا خوالج المودة الهاربة، وأسراب من معادن الظنون، تدخلنا الريح من كل مكان وتغلق الجهات والمنافذ، وعيوننا الحيرى مشدودة إلى عمق القصر، وإلى هامة ذلك الطاووس المتجبر، النابت كالشرار، ملامحه تقطر عداوة حيث من المفترض أن تسود العدالة. كنا نتأكد من ذلك بين الفينة والفينات، وتعرونا مشاعر رهبة دفينة تغلق امتداد الصمت فينا.
ويدور النهار، يبدأ الليل خطوه في الأعماق، وتبدأ الطريق. خمس سنوات نافذة هي عمر هذه المودة. قامت القيامة الصغرى، واندلع الغضب الدافق خارج القصر، بينما كانت شارات النصر تخترق زجاج حاصدات الأمن التي كانت تسرع في الاتجاه المعاكس. تتعثر الأصداء الحزينة في صدأ الحديقة المغلولة، وكأنما الحرب اشتعل أوارها من جديد.. امرأة كانت شبه عارية من فرط الصدمة، تعول كقرية منسية، تسب التاريخ والأوطان، وتلعن القضاء والحاكمين والسياسة والأحزاب ودين الملة والدولة، تلطم أرخبيل جسدها فتنتفض مدامعها كالفتنة، وسرعان ما يلتئم صدع الأمهات، ليكتنف القصر فيض من السباب والبصاق والشتم البذيء..
لا تهدأ العاصفة. يخرج من فيئه نوار العقل، يستدرجني رفيقي أو أستدرجه، ونمضي في هوادة الاحتمال، تملأنا بحار من القيظ، وسهوب من القرف والقلق، تتعاثر خطانا كأنما نسير في بئر مغلقة، ويخنقنا ضباب لا مرئي يحط على ذروة الرقاب. يقول رفيقي:
ـ هكذا هي أسنان العداوة...
أقول له:
ـ إنما لا خوف، فالطريق لعين الشمس ليس أقصر. فخذ بيدي ولتكن المودة أبدا ماءنا.

1988.



#سعيدي_المولودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حالة شبه خاصة
- تكوين
- الولدعديشان
- تلخيص جراح قديمة
- العربة
- سبعة ( رجال )
- بلاد
- باب انقلاب الحال
- باب-عبس وتولى-
- باب التلقيح
- ساعة ألم مضافة للزمن المغربي
- ديموقراطية في سبيل الله
- مثل الدجاجتين
- باب الفتنة
- باب القران
- باب العداوة
- ذكر ما جاء في باب التفويت
- باب التدشين
- لماذا تأسيس نقابة بالتعليم العالي
- بصدد الجدل الدائر حول الإطار النقابي للتعليم العالي: -إصابة ...


المزيد.....




- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - فصول المودة القديمة