أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - حالة شبه خاصة














المزيد.....

حالة شبه خاصة


سعيدي المولودي

الحوار المتمدن-العدد: 2357 - 2008 / 7 / 29 - 05:58
المحور: الادب والفن
    



قالت لك ( ميمونة ):
هذه الأرض ربوة من تعب.
فاقترب قليلا،
قل لعقرب هذه الساعة أن يلدغني.
كي تكون أنت، سأجلس أنا في جب الصحراء.

لما قابلتك آخر مرة على قبة البيدر، والنهر الصغير في متنها، وبراد شاي يحتضنها، وأنت منسغب، غاضب إلا قليلا، تزاحمك الهوة بينك وبين ريح "الغربي" الذي رحل عن جبهتك. اشرأبت، فانتفض شهريار في برزخك، عانقت كتلة الطفل كقلعة " مكونة " وانهال الصيف في رحابك، تكلمت يداه، قدماه، وحدق في شيء غريب أنت لا تدركه..
قالت :
ـ مساء الخير
وغمغمت في خابيتك التحية، طلعت عيناك قامتها، ولم يطل ، انبريت:
ـ ..ما الذي أخرك لبهو هذا الأوان..
صوبت البراد المعدني نحو الأرض، وانتشرت عيناها المكيتان في سحنتك الغبراء التي لفحتها شمس اليوم الخانقة، وأردتك موجة سافلة، ودرديا شاهدا. وضعت البراد في أناة واهتزت، وقفت سيول الحوار في شفتيك، انتقلت أشتاتك في غيبوبة ما، ومرت جنازة الكلام بينكما. أنزلت خبزة الشعير الدافئة من فوق ردفيها الملففة في خرقة طاهرة أو تبدو، كانت جزءا من إزارها القديم، نزعت تلافيفها ثم سألتك في حياء أبدي عن " الغراف"، أشرت بسبابتك للطرف الآخر من البيدر، أشرفت بنفسها على جثة "الغراف"، وجدتها مغموسة بالذر، ونفايات التبن، ثم همهت فتات كلام مخبوء ضاع في أدراج الأعالي... اعتدلت في ارتمائك وتعلقك بالأرض، دلفت إلى عرفات البراد، وضعت أنبوبه في علو على شاطيء شفتيك ثم جرعت جرعات، وقرص الشعير يتآكل بفعل افتراسك، تقضمه، يقضمك، وهو في تدن وانتقاص..بينما كان الطفل يتأمل البراد العاكس لأشعة الشمس في برودة خالدة، وأنت كنت لا تبالي...
" ميمونة" التحقت باهتمام مرفوع تكنس أطراف البيدر، وتردد مقاطع غير واضحة من أغنيات هاربة، طاف طائفها على حبات القمح المتناثرة على محيط البيدر، وانتهى جوع أكلك، وقفت ، والصبي يتابع حركاتك وعيناه تنجحران في قامتك، وأنت كأنك لا تبالي... مسحت زبدة تعبك عن سرير وجهك، وانتفضت ثم خطوت، مشيت.. في مأمن من العين التفت الميمنة والميسرة، لا أحد يراك، فتحت تكة سروالك المغربي، تناثرت حولك سحب من ذرات التبن وبقايا الأعشاب، أطللت على لحية بطنك، نفضت عن شعرها فقاعات التبن ومسحت قضيبك بالمناسبة ثم استويت وجلست القرفصاء تخرج الخبيث.وهي نكشت صدر البراد، رمت بنفايات النعناع بعيدا،لوته في "الخرقة" حملت الصبي تداعبه، ويضحك في طموحها كفتنة قادمة.

يومان وأنت وحل في هذا البيدر، وتنتظر جناح " الغربي " لتذرو هذا العجين.بالأمس بت على هذه الذكرى، واليوم على ما يبدو سيكون لك المصير نفسه، و"ميمونة"وحدها تظل تذكرك، تعودك من حين للحين.

* * * * * *

نمت الليلة ثانية على هامش الزرع يلعب بي نسيم الصيف الدافق، افترشت غرارة يفوقها طولي وعرضي، ألقيت على جثتي برذعة أدهمي حماري، واغتربت داخلي، توهمت أني نائم، نام قدري، تضايقت من أشواك البرذعة، ولكن لم يكن بد من أن أخضع وأتجمل. اختطفتني كتائب نوم مرير، يفك أدغال التعب في جسدي،رأسي الملغوم يتوسد حذائي البدوي القائظ، عاريا، قدماي معقوفتان على قد البرذعة كمنجل مغربي، وجثتي كانت تغرف دموع القهر، لا أملك قوة ، هل خادعتني الرهبة، أم أني صائد حلم يتبخر ببطء كبير، ويصدأ على قارعة الليل. أيقظني فجأة دبيب حافر يقترب، يقترب، ويتوغل في أطرافي صوت ليلي يتقدم خفيا، وسرعان ما انفتحت عيناي، وقفت أنفاسي على حافة الخوف، رفعت البرذعة عني في ذعر رهيب، ارتفع النصف الأعلى مني،ولمحت شبح بغل كان يقترب من البيدر، نهضت للتو، أنأيته عن كومة الزرع، وعن خوفي. كان القمر شامخا في بطن السماء لكن مشهده لا يبهرني، أحسست بتعب مولوي يخنق أوتادي،بقليل من الجوع يتفسح في ضاحية بطني. لقد تأخرت "ميمونة"، وأنا مرهق كعلبة كبريت بليلة.

استأنفت قبري الجميل، لكن ريح الجوع كانت تغوص في منابتي بشكل بشع، تقلبت،انقلبت بصعوبة، والبرذعة تثقل حافاتي، طويلا أو قليلا، صعدتني خشخشة تمرق صمت الكون،الحركة تزداد ثقلا واقترابا، وجذوع السنابل تلعلع، تهيجني، داخلني شوب من الفزع مضاعف، وتجلدت حين وقفت الخطوات على ساحل رأسي، وأمهلني صوت "ميمونة":
ـ أ نائم أنت ..؟
واستيقظت أشجاري، ناهضت عيائي، تعشينا أنا و"ميمونة" ذلك المساء على ضوء القمر، حدثتني عن جحيم اليوم وعن قبور القبيلة، وددت لحظتها مداعبة الطفل، لكنه كان نائما على ظهرها تبقره الأحزان من حيث لا يدري، أتينا على الخبزة بالفص والبراد بالنص، مصصت أذيال النعناع في الأخير، تجشأت بعض الشيء تعبي وأرقي، بينما الصبي المقتول في عمري ضربته اليقظة، ومد قدميه الغريرتين، وطلع بكاؤه يملأ صمتنا. استقبلته "ميمونة"، عرت صخر ثديها وهب متعلقا بحلمتها يجتر حليبها، وسرعان ما أكله النوم من جديد. وقتها كانت "ميمونة" تعكس صورة القمر فتبدو حورية مسكونة بالجلال تنزل فيها الملائكة والأنفال، حدقت فيها كشاعر غربته الزهراء، قرأت في دمي ريح الوغى، قرأت فيها باكورة الفتنة والإغراء، فارتدت من مقعدها، تدلت يداها على عنقي كجناحي طائر، ثم تعلقت بحزامها، وانهدمت قامتانا في ثوان.
وافترقنا. هي حملت الصبي في احتذار ولته عرشها، وأنا كنت أرتب مراسيم قبري من جديد. قالت لي بصوتها الحدائقي:
مملكة من الخيط في نبضي،
تمشي.
أنا دودة القز.
ما كانت تنتظر جوابا.
قلت:
في التعب أخفي وجهي.

وفيما أخذت صهوة الطريق نحو الخيمة، كانت جفوني قد انغلقت كدفتي كتاب صغير.

1985.



#سعيدي_المولودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تكوين
- الولدعديشان
- تلخيص جراح قديمة
- العربة
- سبعة ( رجال )
- بلاد
- باب انقلاب الحال
- باب-عبس وتولى-
- باب التلقيح
- ساعة ألم مضافة للزمن المغربي
- ديموقراطية في سبيل الله
- مثل الدجاجتين
- باب الفتنة
- باب القران
- باب العداوة
- ذكر ما جاء في باب التفويت
- باب التدشين
- لماذا تأسيس نقابة بالتعليم العالي
- بصدد الجدل الدائر حول الإطار النقابي للتعليم العالي: -إصابة ...
- في أن تحويل إطار نقابة التعليم العالي إلى -جمعية- أمر مقصود ...


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - حالة شبه خاصة