أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - دور المعرفة في بناء الإنسان















المزيد.....

دور المعرفة في بناء الإنسان


فؤاد النمري

الحوار المتمدن-العدد: 2132 - 2007 / 12 / 17 - 12:05
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


يذهب المرء للسوق لشراء حاجيات البيت الأسبوعية فيملأ سلته بحوالي ثلاثين صنفاً من السلع. وعندما يفرغ سلته في البيت يتذكر أنه لم يكن يشتري قبل ثلاثين عاماً أكثر من خمسة أصناف وجميعها ليست من بين الأصناف التي اشتراها للتوّ والتي لم يكن صنف منها معروفاً لديه آنذاك. لعلنا جميعاً مررنا بمثل هذه التجربة لكن القليلين منا استخلصوا عبرة من ذلك. ربما بعضنا يكتفي بالقول أن احتياجات الإنسان الحديث المتمدن قد اتسعت وازدادت. هذا صحيح لكن ما علة الاتساع والزيادة؟ لا يفطن معظمنا إلى أن اتساع وزيادة المعرفة هو ما انعكس في اتساع وزيادة احتياجات الإنسان، أو لنقل قبل ذلك أن تصنيع هذه السلع الجديدة ما كان ليتم دون استخدام مخزون من المعارف الجديدة. بل إن معارف هذا المرء المتبضع نفسه قد ازدادت أضعاف أضعاف ما كان يعرف قبل ثلاثين عاماً.

مثل هذا المثال يدلل بصورة قاطعة على أن معارف الإنسان في تزايد على الدوام؛ ولعلها إزدادت في الجيل الأخير ثلاثين ضعفاً أو أقل أو أكثر، ولا بد أنها تضاعفت مئات المرات في الألفية الثانية للميلاد ومثلها أو مثل نصفها في الألفية الأولى. وباقتفاء توالي هذه المتوالية الهندسية رجوعاً إلى الماضي السحيق نصل إلى حقيقة لا مراء فيها تقول أن الإنسان، الذي نعرفه اليوم وقد اقتحم الفضاء بعد أن اكتشف مجاهل كوكب الأرض الذي يعيش عليه، كان قبل ملايين السنين قد بدأ من نقطة الصفر في المعرفة أي أنه لم يكن يعرف شيئاً، إذ كان حيواناً شبيهاً بالإنسان يعيش في غمرة ليل بهيم من الجهل المطبق، وهذا ما يؤكده علماء الجنس البشري (Anthropologists)، وأن الأنسنة التي اكتسبها هذا الحيوان الشبيه بالإنسان إنما هي في حقيقتها ليست أكثر من مخزون من المعارف التي راكمها خلال ملايين السنين طيلة عمره على الأرض التي ولد منها وعاش عليها.

لكن ما هي تلك الشرارة التي أشعلت نور المعرفة أمام الحيوان الإنسان ؟؟ الإجابة على هذا السؤال المفصلي تكشف لنا عن جوهر المعرفة وعن قيمتها ودورها الحاسم كرافعة وحيدة لأنسنة الإنسان(humanization) وتقدمه الحضاري (civilization).

نقطة البداية في البحث عن تلك الشرارة، التي أنارت طريق خمسة أجناس فقط من الحيوانات الشبيهة بالإنسان دون غيرها من سائر الحيوانات الأخرى، وهي أجناس الإنسان الخمسة المعروفة لدينا اليوم، نقطة البداية تلك يمكن تحديدها من خلال تفحّص الإنسان فحصاً فيزيائياً ككائن حي معني بالمعرفة دون غيره من الحيوانات الأخرى. الفحص الشامل لهذا الكائن الحي يخلص إلى نتيجة محددة تقول أن الإنسان في صراعه الدائم والمستمر مع الطبيعة قد حقق نجاحات مشهودة في السيطرة على عوائق طبيعية صعبة وكبيرة من خلال المعرفة واستعمال العقل لاستخدام الآلة حصراً ولولا ذلك لانقرض بسبب ضعفه فيزيائياً. قراءات علماء الجنس البشري للتاريخ تؤكد أن الحيوانات الشبيهة بالإنسان كانت قد حافظت على بقائها في الطبيعة (Survival) ملايين السنين بدون أي استخدام للأدوات وبدون عقلنة أو استعمال للعقل حيث كانت تعتمد في غذائها على التقاط الحبوب وافتراس محدود لبعض الحيوانات الأخرى وكانت تأوي إلى الكهوف وتحتمي فيها من تغيرات الطقس ومن الوحوش الضارية. مثل هذه الشروط الصعبة لم تعد تكفي لتمكين مثل هذه الحيوانات (قبل أن تمتلك الوعي) من البقاء والحفاظ على النوع خاصة وأنها تفتقد فيزيائياً كل وسائل المقاومة ضد الأخطار المحيقة. وفق قانون الإنتخاب الطبيعي (Natural Selection) وصلت الحيوانات الشبيهة بالإنسان حدود النقطة الحرجة التي تحتم انقراضها إن لم تستطع تجاوز هذه الحدود الصعبة عن طريق التأقلم أو التكيّف البيولوجي. يقول لنا علماء الجنس البشري، كما علماء الطبيعة، أن أجناساً عديدة من الحيوانات الشبيهة بالإنسان قد فشلت في التكيف وانقرضت وأن الأجناس البشرية الخمسة التي نعرفها اليوم هي التي نجحت في اختبار الإنتخاب الطبيعي وحافظت على بقائها واستمرارها في الحياة.

يبحث علماء الطبيعة(Naturalists) فيما مكّن الأجناس الخمسة من الحيوانات الشبيهة بالإنسان من تجاوز ظروف الإنقراض الصعبة ويتوقفون عند مسألتين هامتين وهما، أولاً وضع أصبع الإبهام في كف الإنسان ووجوده في ناحية أخرى منها تمكنه من الإمساك بالأشياء، والمسألة الثانية هي انتصاب قامة الإنسان على الساقين وتحرير الذراعين لتمكينهما من الإمساك بالأشياء والتعامل معها أيضاً بكل يسر وسهولة. توقف علماء الطبيعة عند هاتين المسألتين البيولوجيتين لأنهما السبب المباشر في تمكين الإنسان من استخدام الأدوات البدائية أولاً ثم مختلفة الأشكال من بعد التي شكلت سلاحه الحدي في صراعه الذي لا يتوقف ضد الطبيعة والتي وفرت له البقاء وعدم الإنقراض. فحالما تناول الإنسان الحجر ليدفع به حيواناً مفترساً يهاجمه أو ليقتل حيواناً آخر يأكله، عرف حسيّاً إذّاك أن الحجر بوزن وحجم معينين يمكنه من السيطرة على حيوانات أقوى منه. ثم ربما بعد آلاف السنين قادته أحاسيسه من خلال التجربة المستمرة إلى أن الحجر ذا الحافة الحادة أكثر فعالية في السيطرة على أعدائه. الأجناس التي تغلبت على شروط الإنقراض هي الأجناس التي استطاعت العقدة العصبية المركزية فيها، أي الدماغ، من تنشيط بعض الخلايا المتخصصة بالذاكرة فتقوم بتخزين الأحاسيس الواردة إلى الدماغ، وما المعرفة إلا حزمة من هذه الأحاسيس المتعلقة بشيءٍ ما. من هنا عرّف بعض علماء الجنس البشري الإنسان بأنه حيوان له ذاكرة. من خلال المعارف المتجمعة في الذاكرة بدأ الإنسان يصنع الفأس الحجرية. الأدوات، وهي الأشياء التي تشكّلها المعارف، هي ما مكنت الإنسان من البقاء، ولنا أن نتصور كيف يمكن للإنسان أن يؤمن بقاءه دون انقراض بلا أية أدوات على الإطلاق! ليس من شك في أنه كان سيهلك وينقرض في تلك الحالة. كيف لامرئٍ مهما كان ميتافيزيقياً أن يتصور الإنسان متعقلناً وذا معرفة ومع ذلك ليس لديه أية أدوات لاستخدامها في مقاومة الطبيعة كما كانت حاله قبل أن يتأنسن؟! لا يمكن تواجد مثل هذه الصورة في تاريخ الإنسان؛ المعرفة والأداة أو الآلة مقترنان اقتراناً طبيعياً لا ينفصلان على الإطلاق. لم يكن الحيوان الشبيه بالإنسان يعرف الفأس قبل تعامله مع الحجارة لآلاف السنين حتى توصل لتصنيع الفأس الحجرية. المعرفة تتحقق فقط في الأداة، في شكل الأداة وفي فعلها. الدالة الوحيدة على المعرفة هي الأداة المتجسدة فيها تلك المعرفة. لذلك كان الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يمتلك الوعي والمعرفة وهو لذلك الحيوان الوحيد الذي يستخدم الآلة، يصنع الآلة ويستخدمها في إنتاج حياته وإعادة إنتاجها.

كارل ماركس أطال الوقوف أمام استخدام الإنسان للأداة أو الآلة ورأى فيه تغريباً (Alienation) أي خروج الإنسان من ذاته ليتناول الأشياء خارج جسمه ويتعامل معها، إنْ من أجل الدفاع عن النفس ضد الأخطار المحيطة أو من أجل إعادة إنتاج الحياة ذاتها من خلال توفير الغذاء والكساء والإيواء. علاقة الإنسان بالأداة هي علاقة عقلانية معرفية. لم يكتسب الإنسان أية معارف من أي جنس خارج هذه العلاقة الديالكتيكية بين العقل البشري من جهة والأداة من جهة أخرى. تشغيل الأداة يعطي معارف جديدة للإنسان والمعارف الجديدة بدورها تنعكس في تطوير الأداة وإبداع أدوات جديدة. ما كان الإنسان ليبقى في الطبيعة ولا أن يشرع في رحلة التغريب من بعد، رحلة الأنسنة والافتراق عن مملكة الحيوان والسيطرة بالتالي على الطبيعة، إلا من خلال علاقته بأدوات الإنتاج. ومن هنا قال كارل ماركس أن الإنسان هو حيوان يستخدم الآلة.

لأن تفعيل أدوات الإنتاج هو الرحم الذي تتخلق فيه المعارف بكل ألوانها، وهو بالتالي الأنسنة والتحضّر، قسّم المؤرخون التاريخ إلى عصور منسوبة إلى طبيعة أدوات الإنتاج السائدة في كل منها ومادتها الخام؛ فقالوا .. العصر الحجري، العصر الحديدي، العصر البرونزي، عصر البخار بالنسبة إلى المحرك البخاري وعصر الكهرباء بالنسبة إلى محرك الكهرباء. لقد وجد المؤرخون من خلال تعقبهم لمسار التاريخ أن تاريخ الإنسان، وهو الحيوان الوحيد الذي له تاريخ، إنما هو تحديداً علاقة الإنسان بالآلة وهو ما سماه ماركس ب "التغريب". التغريب هو الأنسنة وهو الخروج من الذات للتعامل مع الأدوات؛ وبمعنى من المعاني فإن الإنسان، المفترق عن الحيوان، هو إبن الآلة. بدأت الإنسانية مع تواجد الآلة وتطورت مع تطورها وستنتهي معها أيضاً.

لعل البعض يتساءل بدهشة واستهجان .. ما علاقة الآداب والفنون بأدوات الإنتاج وبالآلة؟! أليس في مثل هذا المنطق مادية ميكانيكية مغرقة؟ الإجابة على هذا التساؤل الجادّ يجب ألا تقتصر على الأدوات التي يتم بوساطتها إنتاج الآداب والفنون من مثل الورق والقلم أو المطبعة، أو مثل الآلات الموسيقية المختلفة أو الفرشاة واللون، يجب أن تذهب الإجابة إلى ما يمكن تسميته بالمنتوج الجانبي (by-product) لديالكتيك العلاقة بين الإنسان (عقل الإنسان) والآلة أو أداة الإنتاج. يجب أن ننظر إلى كل الفنون والآداب كنشاط إنساني يقوم به الإنسان تعبيراً عن استعداده لمواجهة الطبيعة من أجل البقاء وحفظ النوع الذي لا يتحقق إلا حصراً بوسيلتين متلازمتين إحداهما التزاوج والتكاثر والأخرى استخدام أدوات الإنتاج، الإنتاج الذي هو الضمانة الوحيدة لاستمرار نسل الإنسان على قيد الحياة. لا يمكن فصل الآداب والفنون عن الحضارة في أي عصر من عصور التاريخ، والحضارة هي البناء الذي تشيده أدوات الإنتاج. وعليه يمكن القول أن الآداب والفنون هي أصلاً من صناعة أدوات الإنتاج. المادية الميكانيكية لا يمكنها أن تجيب على مثل هذه المسألة المنسوجة بواسطة مكوك الديالكتيك. بل إن الديالكتيك هو المكوك الذي ينسج الطبيعة، كل الطبيعة بكل تجلياتها.





#فؤاد_النمري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تقادم أحزاب الأممية الثالثة الشيوعية
- - الحوار المتمدن - بين التغيير والإصلاح
- الدولة ما بعد الحديثة
- خطاب إلى أحد منتحلي الشيوعية - رزاق عبود
- أي دولة، في أي فلسطين ؟
- على هامش الفلسفة
- معزل المتثاقفين
- متى تستحق الإشتراكية ؟
- أوجب واجبات الشيوعيين
- ليس من السهل أن تستمر ماركسياً حقيقياً !!
- ماذا لو انهارت الولايات المتحدة الأميركية؟!
- أين هو المشروع الوطني اليوم ؟ (2) الديموقراطية الشعبية
- أين هو المشروع الوطني اليوم ؟
- نداء للكريمين: مروّه وهاشم
- اليسارية مجهولة الهويّة
- بين اللينينية والستالينية
- البورجوازية الوضيعة في الحركة الشيوعية (3)
- العداء الكاذب لأميركا ولإسرائيل
- البورجوازية الوضيعة في الحركة الشيوعية (2)
- في نقد ماركس


المزيد.....




- مناضل من مكناس// إما فسادهم والعبودية وإما فسادهم والطرد.
- بلاغ القطاع الطلابي لحزب للتقدم و الاشتراكية
- الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي (الإتحاد المغربي للشغل) تدعو ...
- الرفيق جمال براجع يهنئ الرفيق فهد سليمان أميناً عاماً للجبهة ...
- الجبهة الديمقراطية: تثمن الثورة الطلابية في الجامعات الاميرك ...
- شاهد.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيم ...
- الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا ...
- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - دور المعرفة في بناء الإنسان