تطور منظومات المعتقدات الموروثة إلى ثقافة معطوبة


سعيد مضيه
الحوار المتمدن - العدد: 7946 - 2024 / 4 / 13 - 12:48
المحور: العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية     

خارج نطاق السيطرة الفردية او المجتمعية

خبرة راكمها الأكاديمي الأميركي عبر أبحاث نشرت تباعا منذ العام 2010 مع تحليلات، في ضوء القانون الدولي والإنساني، لسياسات الولايات المتحدة الداخلية ، وممارسات دولة إسرائيل الصهيونية وسياساتها . دولتان متماثلتان، حسب استنتاج الأكاديمي الأميركي، لورانس دافيدسون، يبرز تماثلهما في كون:" البلدين يحاولان إنكار خطايا مماثلة بينما يدعيان فضائل مماثلة. ادعاء إسرائيلي أنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" يخفي حقيقة أنها دولة فصل عنصري؛ وفي حالة الولايات المتحدة، ادعاء الاستثنائيبة نظرا لممارسة معايير أخلاقية عالية تتستر على النضال الوطني المستمر ضد العنصرية والسياسة الخارجية المناقضة لمزاعم الولايات المتحدة انها تنشر الديمقراطية؛ غير ان التماثل ينحو باتجاه " تآكل التحالف بين البلدين" كيف؟! بحث اجتماعي – سيكولوجي يجريه البروفيسور الفخري للتاريخ بجامعة ويست تشيستر بولاية بنسيلفانيا تحت عنوان " عطب الثقافة". لكل ثقافة أعطابها وعللها ، [العناوين الفرعية من وضع الكاتب]
لورانس ديفيدسون: بمقدور أي وجهة نظر تسود مجتمعك أن تجتذبك وتدفعك للعمل
من نكون؟
قد يكون السؤال مفاجئًا؛ لكن الإجابة عليه تخضع لمؤثرات، العديد منها خارج سيطرتنا.
على سبيل المثال، يتعرض معظمنا لتغيرات على نطاق واسع بالمواقف من يوم لآخر، وربما حتى من ساعة لأخرى. يتعلق هذا بردود الأفعال الفردية على جميع أنماط الإفرازات الهرمونية وغيرها في الجسم؛ وهذه تتأثر بدورها بعوامل جينية أطلقتها محفزات بيئية، داخلية وخارجية .
والكثير من هذه العوامل وراثي؛ فأنت لم تختر تركيبتك الجينية أو الوالدين اللذين أورثاك إياها، وهذان لم يختارا والديهما، وهكذا. هذا ا الإرث، الذي لم تختره ، يهيئ جسمك لجميع صنوف الاحتمالات.
قد يتبين أن بعضها مفيد لك: جهاز مناعة يعمل بشكل جيد، ونشاط عقلي مستقر وإيجابي نسبيًا، وما إلى ذلك. ولكن ليس من الضروري أن تسير الأمورعلى هذا المنوال؛ إذ ربما تكون قابلية المرض وعدم الاستقرار هو نصيبك من الوراثة .
كما أنك لم تختر نوع البيئة التي ولدت فيها؛ ربما أقول لك تجنب أن تولد في بيئة فقر؛ لكنك عاجز عن أن تفعل ذلك. ومع ذلك، إحصائيا،تنخفض فرصة الحصول على حياة "مزدهرة ومنتجة"، فيما إذا كان مصيرك هو فقر البدايات .
ربما أقترح عليك تجنب الآباء المهملين أو المسيئين جسديًا/عاطفيًا. لا تشب بجوار موقع ملوث نتيجة تطوير حضري. عليك تجنب أن تولد في غمار حرب مستعرة.
على الرغم من أن كل هذه النتائج ستؤثر بالتأكيد على سلوكك، إلا أن أيًا منها لا يتضمن اختيارات يمكنك اتخاذها. إنه لأمر مدهش كم من تاريخنا وظروفنا تقع خارج سيطرتنا.
نؤمن بماذا؟
كما أننا نتموضع عشوائيا في جسد لم نختره؛ عشوائيا نتمركز بالمكان والزمان، أي ضمن ثقافة؛ وهنا أيضا، هناك الكثير يحدث خارج سيطرتنا.
أحد موضوعاتي المتكررة هو ما يطلق عليه "المحلية الطبيعية"؛ حيث ينزع معظم الناس للاستقرار في مجتمع محلي. وضمن هذه المحلة ، يعملون أو يذهبون إلى المدرسة، يعيشون ضمن شبكة عائلية وصداقات ، ويشعرون بهوية مجتمعية.
وهذا لا يعني أن الناس لا يسافرون (في الغالب لزيارة الأصدقاء والعائلة) أو ينتقلون للاستقرار في المجال الثقافي، يعملون او يدرسون. على كل حال، فالنزوع الطبيعي لمعظم الناس هو العثور على مكان يستقرون فيه.
حتى أن في ذلك جانبٌ تطوري ؛ تهيئ المحلية الطبيعية الزمان والمكان لتوفير الحد الأقصى من الألفة والقدرة على التوقع . وهذا هو السبب في أنه عادة ما يبعث على الإحساس بالأمان.
طبعا ، يوجد جانب سلبي. تربط المحلية الطبيعية المرء بنظرة المجتمع العالمية التي تخفف من استقلالية التساؤل واختبار الحقائق. مع الزمن ، تقوم المجتمعات والمجموعات المسقرة بدمج أعضائها اجتماعيا في وجهات نظر ترسخها التقاليد، وفي مصالح كل من يعبُر الى الطبقة الحاكمة، وكذلك في الأغلب أيديولوجيا تضفي الطابع المثالي على سبب وجود المجتمع .
معظم الذين يعيشون ضمن نطاق مجتمع كهذا تتولاهم ، في العادة، رؤية العالم من خلال عدسة المجتمع.
وهذا يعني، بالنسبة لمعظمنا، أننا لم نختر باستقلالية منظومة معتقداتنا التي تشمل مفهومنا لما هو صواب وما هو الخطأ، ومن هو الصديق ومن هو غير الصديق . والامثلة لا حصر لها من هذا القبيل.
لنأخذ على سبيل المثال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة والاتحاد السوفييتي ودول حلف وارسو والصين من جهة أخرى.
إذا كنت طاعنا بالسن وتتذكر هذه الحقبة ( 1945 إلى ما يقرب عام 1991)، فلا بد ان تتذكر أن غالبية اليافعين بالولايات المتحدة وأوروبا الغربية حملوا نظرة عدائية تجاه الاتحاد السوفييتي وحلفائه.
لم يكن لدى معظمهم أي اتصال مباشر أو خبرة من شأنها إثارة هذا العداء؛ حصلوا عليها بطريقة تنضحية (أسموزية). تشكلت تصورات الأفراد بتأثير الرسائل الثقافية السلبية في البيئة الخارجية لكل فرد، لدرجة مطابقة التصورات مع وجهة النظر التي تشمل المجتمع بأسره.
بطبيعة الحال، مثلما تتفاعل الأجسام بأشكال مختلفة مع الهرمونات والإفرازات الأخرى، فإن الأفراد يستجيبون بأنماط متباينة لمنظومات المعتقدات الموروثة في ثقافاتهم.
ينجم عن هذا منحنى جرس – معظم الناس ينحصرون ضمن مدى وسطي للتوافق الثقافي؛ سوف يكونون على استعداد لتقبل انهم تلقوا التعليم بالبيت والمدرسة؛ استمعوا لأساتذتهم وقادتهم و لوسائل الإعلام. قد تنشأ فروقات بالتفاصيل، غيرأن الغالبية تلتزم بالرسالة الشاملة .
عند حافتي المنحنى سوف نجد أولئك الذين يتجاهلون الرسالة أو يرفضونها ، نظرا لمختلف عوامل التجربة؛ الأغلبية سوف ترى هذه الأقلية شاذة ، وفي أقصى الحالات، سوف يُنظر إليهم خطرا يهدد الاستقرار الاجتماعي .
الاحتمالات الَمَرَضية لمنظومات المعتقد
المشاعر السلبية التي نشأت خلال الحرب الباردة أحس بها الجمهور المتباعد جغرافيا في معظمه ؛ ماذا يحدث عندما ينتشر هذا الخوف والسلبية الموروثين بين فئات سكانية تشارك نفس المشهد الطوبوغرافي ؟ ما مدى تأثير وجهة نظر بيئتك الاجتماعية حينئذ أعلى مشاعرك وعملك ؟
نطرح مثالين :
المثال الأول : الولايات المتحدة قبل الستينات
اتسمت الثقافة الأمريكية قبل الستينات بالانقسام العنصري المسموح به مؤسسيًا وقانونيًا يفصل الأمريكيين البيض عن السود؛ بقوة الفصل القانوني والتمييز دهورت العنصرية المكانة السياسية والاجتماعية للأمريكيين السود ؛ أسفر ت الحالة عن بيئة إفقار اقتصادي واجتماعي .
رأى العديد من البيض، ان حرمان السود هو بمثابة وضع "طبيعي" تمت المصادقة عليه تاريخيا؛ أي أنه بدا أمرا عاديا مطابقا للنظام في أنظار جمهور البيض، وذلك استنادا الى التقاليد والممارسة الطويلة.
هكذا، تم تشريب الأمريكيين البيض ثقافة نظام اجتماعي دفع الأمريكيين السود بين فترة وأخرى إلى التمرد - "أعمال الشغب العرقية".
أ رعبت هذه الانتفاضات المواطنين البيض الذين دعموا بعد ذلك إجراءات الشرطة القوية ضد السود من أجل الحفاظ على الاستقرار والأمن الاجتماعيين؛ لم يكن لهذا الموقف إلا أنرفع احتمالية الانتفاضات في قادم الأيام .
لم تبدأ هذه الحالة بالتغير إلا بعد صدور قرار المحكمة العليا عام 1954 في قضية براون ضد مجلس التعليم، والذي أعقبته حركة سياسية للسود بقيادة مارتن لوثر كينغ جونيور.
كان الهدف من هذه الحركة هو حظر الفصل العنصري وغيره من أعمال التمييز الفظيعة في المجال العام. وقد حظي هذا الجهد بدعم قطاع ليبرالي من السكان البيض الذين أدركوا الحاجة إلى التغيير على أساس رؤية مثالية ثقافيًا للإمكانات الأميركية، الاجتماعية والاقتصادية.
نجح كينغ وحلفاؤه في إحداث تغيير بالمجال العام؛ حيث أدخلوا بشكل أساسي تعريفا جديدا للوضع المألوف القائم على ولايات متحدة أكثر مساواة. على كل حال تغيير القوانين الفردية أمر سهل نسبيًا مقارنة بتغيير الثقافة.
منذ ثمانينيات القرن الماضي عانت البلاد ما عرف باسم "الحروب الثقافية"؛ وهذا يعني مصداً سياسياً نصبه عدد كبير من "المحافظين" ضد التشريعات التقدمية.
ولا بد من الإشارة هنا إلى عدة أمور:
(1) للثقافة الأمريكية، منذ البدايات، طابع عنصري جرف إنسانية الأقليات؛ بهذا المعنى بالذات انتاب الثقافة الأميركية عارضها المَرَضي.
(2) هذه البيئة السامة كانت ولم تزل عبر معظم تاريخها غير مرئية بالنسبة للبعض؛ ذلك أن معظم البيض نشأوا داخل أسرة و/أو محيط مجتمعي محلي سجّل عارض السمية امرا معتادا.
على الرغم من التغيير الذي حدث أخيرا في عقدي الخمسينيات والستينيات، فقد أدمن البعض اليوم وجهة النظر القديمة لدرجة ان يشن معركة سياسية للعودة إلى "الحالة المألوفة المريضة".
والمثال الثاني إسرائيل المعاصرة
حكاية إسرائيل متداخلة مع حكاية الولايات المتحدة:
(1) إحساس بتفوق قائم على أساس عنصري/ ديني؛ حيث التفوق بالولايات المتحدة مسيحي أبيض، اتخذ في إسرائيل تفوقا يهوديا صهيونيا .
(2) ادعاء بأن أرض البلاد هبة مقدسة أو مباركة.
(3) وجود طبقة من "آخرين"، معزولة ومحرومة إلى حد كبير؛ "الآخرون" داخل إسرائيل هم الفلسطينيون.
هناك يهود إسرائيليون وغير إسرائيليين، والعديد ممن يدعمونهم (مثل الرئيس الأمريكي جو بايدن)، قد تلقوا معلوماتهم عن إسرائيل من خلال رواية متحيزة؛ والنتيجة موقف يدعمه تاريخ غب الطلب موال للصهيونية.
وللحفاظ على السردية داخل إسرائيل ذاتها، أحيلت عملية التعليم أدلجة عقيدية ؛ فما الذي يتم تدريسه ضمن هذه العملية؟
(1) أعطى الله أرض فلسطين للعبرانيين أسلاف اليهود المعاصرين؛
(2) يحتاج اليهود إلى أن تكون دولة إسرائيل آمنة في عالم تنتشر فيه اللاسامية؛
(3) العالم مدين لليهود لتأمين هذه الدولة اليهودية؛
(4) الفلسطينيون متطفلون خطرون يكرهون اليهود ويسعون إلى تدمير الدولة اليهودية.

دولة القلعة
الفلسطينيون، في نظر الصهاينة، حلوا محل النازيين، يحضرون لارتكاب محرقة محتملة أخرى؛ والنتيجة هي الحفاظ على إسرائيل قلعة حصينة – تكاد تماثل دولة إسبرطة القديمة ، حيث عاش جمهور النخبة في خوف من الأقنان (الهيلوت) الذين استعبدوهم .
بدافع الخوف استمرت هذه النخب تتدرب على الحرب.
إن البيئة الوطنية والمحلية التي ورثها اليهود الإسرائيليون مشبعة بهذه الذهنية؛ الدفاع ضد "الإرهابيين" الفلسطينيين والعرب موضوع سيكولوجي هام في ثقافتهم، يتعزز في التركيبة الأسرية المألوفة.
ثقافة تقدم بتفاصيلها في المدرسة؛ توفر إحساسًا بالرفاقية فيما بين الأصدقاء وداخل أماكن العمل؛ يتوج ذلك ببرنامج تجنيد شبه عالمي للإسرائيليين اليهود. ومن الصعب للغاية الإفلات من ضغوط مناخ كهذا ثقافي متسلط .
وهنا أيضًا، فالطبيعة السامة لهذه البيئة غير مرئية للعديد من المواطنين اليهود في إسرائيل لأنهم نشأوا في محيط محلي سجل تصوراتهم على أنها عادية .
والتبرير السائد للعدوانية الإسرائيلية الناتجة دائماً كان على الدوام "الدفاع الوطني". ماذا يمكن أن يكون أكثر اعتيادا من ذلك؟
من ثم تأتي حقيقة أن "الإسرائيليين واثقون بأغلبية ساحقة من عدالة الحرب الحالية في غزة"؛ تأييد التدمير الشامل لغزة هو العامل المؤكد الأخير للطابع المَرَضي للثقافة الصهيونية/ الإسرائيلية.

ليست الولايات المتحدة وإسرائيل الثقافتين المعلولتين الوحيدتين على هذا الكوكب؛ ومع ذلك، كما ذكرنا، فهما تقفان معًا نظرا للتماثل التاريخي.
سمحت هذه العلاقة للصهاينة في الولايات المتحدة بناء منظمة قوية ذات مصالح خاصة وبسهولة إقناع معظم السكان الأمريكيين قبول الرواية الإسرائيلية التي تزعم، من بين أمور أخرى، أن البلدين يتبنيان قيمًا مماثلة.
وهذا على الرغم من أن إسرائيل لا تملك حتى الإطار اللازم لمجتمع عادل مثالي. فهي تفتقر إلى الدستور، وتصر على ثقافة التفوق اليهودي، ما يضمن غياب العدالة المتكافئة للجميع.
تنظر العلاقة كذلك كلا البلدين يحاولان إنكار خطايا مماثلة بينما يدعيان فضائل مماثلة. ادعاء إسرائيلي أنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" يخفي حقيقة أنها دولة فصل عنصري.
في حالة الولايات المتحدة، فادعاء الاستثنائيبة نظرا لممارسة معايير أخلاقية عالية يتستر على النضال الوطني المستمر ضد العنصرية والسياسة الخارجية المناقضة لمزاعم الولايات المتحدة انها تنشر الديمقراطية.
من ناحية أخرى، مع الزمن، خلقت الولايات المتحدة لنفسها مُثُلًا تشريعية وقضائية بالاستناد الى سردية تمجيد الذات - الولايات المتحدة كانت دولة ذات إمكانات أخلاقية متفوقة؛ وبالتالي حين تخذل الحكومة المواطنين، يمكن الحصول على حركات حقوق مدنية واحتجاجات مناهضة للحرب على قدر من الأهمية التاريخية .
يجدر بالملاحظة أن هذا الانزعاج الأخلاقي الكامن تجاه نفاق دولتهم، والذي ينتاب الشباب بشكل خاص، هو الذي يؤدي في الوقت الراهن إلى تآكل التحالف الأمريكي مع إسرائيل.
التطهير العرقي والإبادة الجماعية، المقبولتان لدى يهود إسرائيل سلوك لايمكن الدفاع عنه في نظر عدد من الأميركيين ــ خاصة من جانب "حليف" يدعي أنه يحمل تفس القيم .
من ثم فالتغيير ممكن حتى في بيئة لا نملك عليها سوى سيطرة شكلية؛ في هذه الحالة، لكي تتجاوز الولايات المتحدة نفاقها ــ العناصر المعطوبة في ثقافتها ــ يتعين عليها في المقام الأخير أن تترك إسرائيل وتمضي.